الباب الثامن

صحراء البرابرة

كما تجري الأحداث في سياق روايات من تأليف دينو بوتساتي Dino Buzzati — صحراء التتار Le Désert des Tartares١ أو من تأليف جوليان جراك Julien Gracq — شاطئ الإسكيتيين Le Rivage des Scythes٢ كان منحنى الأفق في الشرق القديم في مطلع الألفية الثالثة هو المشهد المستمر الذي ترتسم عليه خطوط مدن زواياها قائمة وكُوَّاتها مسننة، مدن أخذ سكانها منذ ذلك الحين يثبِّتون الخلاء بمزيج متعادل من القلق وفراغ الصبر. وسكان الصحراء بين خوفٍ من أن يميزوا على بُعد طليعةَ غزاة عتاة وبين رجاءٍ أن يروا رأس قافلة ينتظرونها: هذه الأحاسيس تختلط في نفوسهم في أثناء ليلة ساهرة طويلة ثقيلة تتيح للساهرين الفراغ للتأمل في الاختلافات بين البدو الرحل والسكان المستقرين. من هذه الصحراء التي يتفحصها أبناء المدن٣ آناء الليل وأطراف النهار يأتي البرابرة؛ هؤلاء البرابرة يأكلون اللحم دون طهي، ويلبسون جلود الحيوان، وينامون على الأرض الغبراء، وفي هذه الأرض الغبراء يدفنون موتاهم ويسلمونهم هكذا إلى حيث تتلاشى أسماء الناس. والارتياح الذي أحس به سينوحي العائد من الغربة إلى مصر وعبر عنه، لا يدع مجالًا للشك في ضروب التفرقة بين البربرية والحضارة في ذلك العصر.
«فأزحتُ السنوات عن جوارحي، وحلَقت، ومشَّطت شعري، وتركت الران للبلاد الغريبة … ثم لبست التيل الرقيق، ونمت على سرير، وتركتُ الرمال لمن يعيشون فيها، وزيت الشجر للذين يتدهنون به.»٤

لهذا البوح أصداء نجدها في نصوص رافدينية سابقة عليه، جاء بها أن البدوي:

«يلبس جلود الغنم …
ويسكن في خيمة عرضة للريح والمطر …
ولا يقدم قرابين …
… ويجمع الكمأة٥ من الأرض …
ويأكل اللحم نيئًا …
وعندما يموت لا يدفن طبقًا للشعائر»٦

وكانت شهرة مدينة ما تحملها الرحلات التجارية، وتنقلها إلى خارج ساحة نفوذها، فتثير الآمال أو تستثير الشهية، مما كان يحدو بها إلى الحفاظ على هذه الشهرة برخاء لا يعتوره عوار، وبدفاع يقظ عن خطوط الاتصال، وبخطاب حاسم يحدد الهوية، وينشأ في هذا السياق حرص دائم يتمثل في إغلاق الأرض التي كانت حتى ذلك الحين بلا سيد، لا المساحة المأهولة فقط. ويتم الإغلاق قانونيًّا: بمسح وبحدود؛ وثقافيًّا: بتصنيف طبقي؛ واقتصاديًّا: بالاحتكارات. وكان القابض على السلطة العليا يحثه الملأ من أنداده على أن يغلق آفاق القلق كلها واحدًا بعد الآخر. كان البدوي يعتبر في الواديين — وادي النيل ووادي الرافدين — في آنٍ واحد شريكه وغريمه؛ وكان للبدوي دائمًا أن يتحاشى الطرق النهرية وأن يسير من خلال الصحراء بعيدًا عن كل مركز لتحصيل رسوم المرور، أو ينشئ هو جمركه الخاص، وفي الألفية الأولى ق.م. حرمت القبائلُ الكلدانية منطقةَ آشور من الميزة التي كانت لها على بابل بأن تحكمت في المسار الأوسط للفرات. وكانت الاتحادات التعاقدية العربية تفعل نفس الشيء من الجنوب إلى الغرب، مما كان يبرر الحملات المتكررة ضد غزواتها.

كان على الملوك في مواجهة البرابرة أن ينكروا أصولهم مرتين: فعملوا على نسيان النسب البدوي لشعبهم، وعلى نسيان نزعة المساواة لدى عشيرتهم التي تساوي بينهم وبين البدو. إلا أن بعض الملوك اختاروا اتباع استراتيجية على عكس هذه، فأشادوا بعبارات رفيعة وقوية بأصلهم البدوي: وهذا ما فعله على سبيل المثال الملك الأسطوري نارمر في مصر. وإعادة قراءة أيقونات لوحة نارمر على نحو تأملي يتمثلها كأنها تسجل بالرموز اللغوية أفكارًا تبين لنا أنها ربما صنعت من أجل رجل اسمه تجيبوتي عنخ Tjebaouty-Ankh نراه يحمل صندل الملك وإلى جانبه الملك على وجه اللوح. ويبدو أن هذا الشخص قاد غزوة انطلقت من نِخِن Nekhen لنهب أرض قَبَلية تتبع رئيس قبيلة نوبي يتحكم على مقربة من إلفنتين Éléphantine (فيلة) في جزء من وادي النيل يطمره الفيضان. ونال هذا الشخص مكافأة له على انتصاره نصيبًا من الغنيمة عبارة عن قطيع من حيوانات ذوات قرون — وهذه مِلكية تفرض الاحترام في المجتمع الرعوي كله (وهي عطية تناظر أفراس النهر التي تقتنص في الطريق بالاستعانة بشبكة خاصة لإطعام القوات) وهو ما أدى إلى ذكرها بدقة في هذا اللوح التذكاري.٧
ويصدق هذا الكلام أيضًا في وقت متأخر في الرافدين، على ملوك آشوريين وضعت قائمتهم في زمان تربع شامشي أداد Shamshi-Adad ويبدأ التسلسل الأنسابي الرسمي في عصر آخر ملك من البدو الرحل هو أبياشال Apiashal. ودون أن نتوغل إلى هذا الوقت البعيد، فنحن نعرف ملوكًا اصطنعوا حنينًا إلى المخيم البدوي، مثل نابونيد Nabonide البابلي الذي برح إبان النصف الثاني من القرن السادس ق.م. حدائقه المعلقة، ليقيم في منطقة أشد وعورة هي منطقة تايماء Taima لكي يحسن قيادة الحروب الموجهة ضد الأعراب. ولكن الملك الشرقي لم يحن حقيقةً إلى ألفة الزمان الغابر. ولقد كانت الأبهة التي أحاط نفسه بها صارخة، وبخاصة إذا أخذنا في اعتبارنا أنه كان عليه أن يبدد الأثر الذي أحدثته أصوله الغامضة على غرمائه الذين ظلوا إلى ذلك الحين متشبعين بالقيم البدوية أو الفلاحية. فإن نجح في محاولته الخداعية، اجتاح شركاؤه المنافسون علاماته الحدودية لكي يتمتعوا بطيبات الحضارة (كما فعل الرعاة الهكسوس والنوبيون في مصر، وأبناء الجبل الجوتيس gutis والجاسجاس gasgas في الأناضول وفي الرافدين). وإن بدا عليه طابع مستعار، طابع من يلبس ثيابًا أوسع بكثير من قدِّه، فمواطنوه أنفسهم سيشككون فيه: وأهل المدن الذين يلقون البدو جنبًا إلى جنب حتى في المدن التي يأتي إليها دون انقطاع سكان جدد مطبوعين بقيم الصحراء لا يعدمون مناسبات من شأنها أن تبث حياة فيما اعتنقوه من نزعات مساواة بين البدو والحضر.

والعاهل، وهو يعي انجراحيته وتناقضاته الخاصة بعلوه بين أنداده، يتردد بين سياستين للجوار: هيمنة على طريقة الاقتصاد، ويمكن القول على الطريقة العثمانية لأن هذا الأسلوب من العلاقات بين الشعوب أصبح مميزًا لمقدرة «شرقية» خالصة؛ والسياسة الأخرى الممكنة تتلخص في السعي إلى هيمنة عابرة لن تكون مستتبعاتها بلا خطر بالنسبة إلى خلفائه الأقل حظًّا. في الحالتين كلتيهما، يظل تحديد المكان بعلامات حدودية قائمًا على منظومة ضخمة هائلة من عهود الولاء المتداخلة التي قد تتوارى في بعض الأحيان، ولكنها لا تختفي تمامًا أبدًا. على مر ثلاث ألفيات نجد الأسر الحاكمة في الرافدين وفي مصر تنحدر من أصلاب أقوام من البدو أو تستند عليهم. ونقف عند مثلين: الكاسيين والكلدانيين، الذين حكموا خمسة قرون في بابل، والليبيين الذين هيمنوا طوال ثلاثة قرون على مقادير وادي النيل. والأرجح أن وادي النيل عرف بين الوحدة وفقدان الاستقلال خمس عشرة أسرة من أصل بدوي قَبَلي من بين ست وعشرين أسرة.

(١) حلف اليمين

النية الصادقة والنية القائمة على القسم
كل ولاء سياسي يقاس باحترام يمين ولاء يؤديه فرد حيال آخر، وهذا رباط أكثر فعالية في الحالة العامة من شهادة الإيمان التي يقسم عليها أمام إله، ولكنها من نفس نوعها. وولاء شخص رافديني لرئيسه أو حليفه أو نسيبه adû،٨ دون أن يكون له من تفسير إلا تصادف مزعج، ينعقد طبقًا لنفس إجراء البيعة الذي يتبعه البدو فيما بينهم (بايع baya’a) أو المسلمون حيال قائدهم (مبايعة moubâya’a). وهذا الاتفاق الذي تدل عليه الكلمة الأكادية adû مثله كمثل الحالتين المذكورتين كان من الممكن أن يكون اتفاقًا دنيويًّا أو اتفاقًا معتمدًا من الدين.

(١-١) الولاء والتحالف

لدينا العديد من الأمثلة على أيمان الولاء هذه في العصور الشرقية القديمة. وهناك أساليب تأكيد الاحترام التي لا بد من أن فهمها على حالها، وهي عبارات تحمل معنى التأدب فحسب.٩ وغالبًا ما يجري إعلان الولاء بين أعضاء أسرة واحدة، أو بين شركاء في التجارة يعتبرون بمثابة أقارب: فيتخذ الواحد بسهولة لقب «أب» أو «ابن» أو «عم» (خال) أو «ابن الأخ» (الأخت)، أو «ابن العم» (العمة/الخال/الخالة) في العقود وفي المراسلات التجارية، سواء كانت هناك صلات قرابة ونسب حقيقية أو كان الاستخدام مجازيًّا.١٠ وأيًّا كان الأمر فهناك قسم الولاء والإخلاص يقسمه «الابن» معترفًا بأنه الممتن «الملتزم» حيال «أبيه». كذلك عبارات المراسلات الدبلوماسية لا تقل تعبيرًا عن الأخوة: فرمسيس المصري وحاتوسيلي Hattusili الحيثي بما هما حليفان وثيقان يعلنان أنهما «أخَوان.»١١ وهناك اتفاقات أخرى تنعقد بين قائد رجال وجنوده، أو رئيس دولة وممثليه في الأقاليم، أو بين الملك ورعيته: فهذا هو إيسارحادون Esarhaddon ملك آشور يذكر «مواطني آشور الذين اعترفوا بي ملكًا بالبيعة … في أثناء احتفال أداء اليمين صاحبه الابتهال إلى الآلهة.» عندما يقسم قسم الولاء على هذا النحو فإنه يوحد بين رجل عالي القدر وواحد أو عديدين دونه («عقدت اتفاقًا معه يجعله في وضع الوالي»)،١٢ دون أن نستطيع أن نؤكد أن وضع «العبيد» urdâni الذي كان يعطى في بعض الفترات لمن يقسمون يمين الولاء مجرد عبارة من عبارات فن البلاغة الأسلوبية …١٣ ثم كان الاتفاق المعقود يتحول إلى حِلف أو عهد مع إله (باللغة الأكادية adû) بالاستعانة بطقوس سحرية يرون أنها تمنع الموقعين على الاتفاق من التملص من التزاماتهم. في مصر كانت شعائر التعريف تقوم مقام احتفال الولاء في المنظومة التي يترأسها الفرعون. وعلى الرغم من التكريس الديني فإن هذه الاتفاقات كانت تحتفظ بطابع دينوي انطلاقًا من أنها تتم بين أشخاص. فهي تختلف عن نماذجها المفترضة، ألا وهي الارتباطات التي تعددها الميثات العتيقة بين إله خاص وأرض معينة (قطر أو جزء من العالم). في العهد القديم من الكتاب المقدس يتخذ هذا الارتباط شكل الحلف بين يهوى وإسرائيل (بالعبرية beryt وهي كلمة مسكوكة على جذر يطابق جذر حرف الجر الأكاي birît ومعناه «بين» شخصين يعقدان اتفاقًا أو «بين» مكانين متجاورين أو متعاديين).١٤
وهدف قسم الولاء هو بث السلام في العلاقات الاجتماعية، وهو ما يعبر عنه الاسم «السلام» والفعل يعني «بث السلام» و«أن يتخذ الإنسان موقفًا نفسيًّا مسالمًا ووديًّا» (في اللغة الأكادية salâmu وفي اللغة البابلية sulummû١٥ وأن يسالم الإنسان ولِيَّه، حتى إذا كان إلهًا Is-lim،١٦ وهذه الدلالات تترجم المقصود على نحو أكثر مباشرةً من كلمة adû «عهد». ويضع المتعاقدان أسلحتهما (أو يستخدمان على طريقة الفرسانِ أُولِي الشهامة صحف سيوفهم). وتعانقهما يمثل الالتحام بأيدٍ خالية من السلاح، والمعانقات فرص للتحقق من المشاعر التي تجيش في نفوس المتعاقدين والتوجهات التي يتوجهانها. والرباط الوثيق بين الطرفين المعبرين عن حسن النية والإخلاص السياسي يتولد في احتفال يقدم لنا تاريخ العالم صياغات متعددة له (منها: الضم، والمعانقة، والمصافحة، وربع اليد اليمنى). فالبطلان يتآخيان أمام رجالهما (يصبحان أخوين akhkhu تربطهما الأخوة akhkhûtu والصداقة tâbûtu)، ويتحالفان (يصبحان حليفين salmi) ويربت أحدهما على الآخر بدلًا من أن يتقاتلا في منازلة تعبر نتيجتها عن المعركة التي يتم عن طريقها تحاشي دفع العدد الكبير من القوات إلى الحرب. ومن هنا جاءت المرونة الدلالية لإجراءات الموالاة والمسالمة التي تصلح للتطبيق على العلاقات بين المواطنين فيما بينهم كما تصلح للتطبيق على العلاقات بين الآلهة، على التحالفات التجارية مثلما تصلح للتطبيق على المعاهدات بين الغرماء.
الشرق القديم عالم من العقود الثنائية تمتد آثارها إلى شعوب، وعشائر، وأسر، وإدارات وكتائب الذين يوقعون عليها. والمتحضرون من البشر يتحاشون الاقتتال، فهم لهذا يعقدون العقود. وهم إذ يسلكون هذا المسلك، يتبنون، على نحو يقلب المعنى قلبًا ساخرًا، أسلوب العلاقات الذي يفضله البرابرة، فإذا هم يتسامون بيمين الولاء الذي يتخذ صورة صاخبة في العقود التي يعقدها البرابرة. وهكذا يمكننا أن نميز بسهولة الباطن عن الظاهر، ما ينتمي إلى القرابة وما ينفلت عنها، الزواج، والحلف، والمعاهدة، فكلها تهدف إلى الولاء والسلام، والولاء والسلام يحملان اسمًا واحدًا. في الحالات الثلاث دخول في تحالف سلمي adû أو salâmu بل في الاثنين جميعًا: «ملك عيلام وملك آشور أقاما السلام salâmu بينهما بناءً على أمر من ماردوك، وأصبحا طرفي معاهدة adû». كانت تلك مشاركة بين طرفين akhames يشبهان أن يكونا أخوين akhkhu، يقر كل منهما لنواياه الخالصة بأن يسمي كل منهما صاحبه «سيد الصداقة» bêl-tâbtiya.

(١-٢) قبائل وإتاوات

لما كان بقاء المدن عبر المحن يرتهن بعلاقاتها «بالبرابرة» الذين يحيطون بها أو يكتنفون الطرق التجارية، فإن ثقافاتها تفسح مكانًا للولاء بقدر الأقوام التي تتميز عنها وتحذر منها. ونحن عندما نخدش القشرة الحضرية اللامعة نتبين تحتها دون مشقة المادة القبلية التي صنعت منها مجتمعات الشرق القديم. هذه هي الحال في آشور وفي بابل، بل وفي مصر إبان العديد من عصور تاريخها.

هذه الحقيقة الواقعة كان الكلدانيون في أسفل الفرات يعرفونها تمامًا إبان الفترة المتأخرة من النصف الأول من الألفية الأولى ق.م.

«في نهاية القرن الثامن ق.م. نجد الكلدانيين — وهم يبقون على بنيتهم القبائلية الأساسية — قد اصطبغوا بالصبغة البابلية؛ وأصبح عدد منهم يحملون أسماء بابلية، ويسكنون في مدن وقرى محصنة، ويعكفون على زراعة نخيل البلح، وعلى تربية الحيوان. فإذا أشار الأفراد الذين انحدروا من أصل كلداني إلى نسبهم قالوا، في أغلب الأحوال، وبكل بساطة إنهم «أبناء» رب القبيلة الأول»١٧
وهذه هي القبائل الكلدانية تحت قيادة رئيسها ra’is،١٨ وقد انخرطت انخراطًا لا فكاك منه في الصراعات الداخلية التي أذكاها الأمراء البابليون أو الطامحون إلى عرش فرعون، ينتهي أمرها إلى الاستيلاء في عام ٧٢١ق.م. على السلطة المركزية في شخص ميروداخ — بالادان Merodach-baladan رئيس قبيلة بيت ياكين Bît-Yakin العظيمة التي كانت تتحكم في الفرات جنوب شرق بابل.١٩
وإذا كان صعود جماعة قبلية تدريجيًّا على درب القوة قد اتخاذ صورة خلابة في حالة الكلدانيين الذين خرج منهم ملكان بابليان شرعيان كبيران (هما نبوخذنصُّر Nabuchodonosor٢٠ ونابونيد Nabonide)، فإنه لم يكن شيئًا جديدًا بالنسبة إلى بلاد الرافدين. فالكاشيون Kassites الذين حكموا بلاد الرافدين ابتداءً من عام ١٥٧٠ق.م. كانوا هم أيضًا من أصل قَبَلي. وكانت هويتهم لا تزال ظاهرة في الفترة الممتدة من القرن الرابع عشر إلى القرن التاسع ق.م.
«في ذلك العصر كانت المجموعات الكاشية kassite تعرف عادةً بين الناس ﺑ «بيت فلان …» … وكان الأفراد الذين ينتمون إلى هذه البيوت يسمون «أبناء» رب القبيلة الأول على الرغم من عدد الأجيال التي تفصلهم عن مؤسس بيتهم.»٢١
وكان رب العائلة الكاشية Kassite الواسعة يسمى في بابل bêl bîti (حرفيًّا سيد البيت)، على رأس تسلسل آبائي، والتسمية ربما لم تكن بلا علاقة بكلمة باسيليوس basileus الإغريقية.٢٢ و«البيت» الكاشي يحكمه تسلسل أنسابي مشهور بين قبيلة من القبائل: والبيت الكاشي bît شبه «البيت» العربي bayt فيما بعد في أنه يدل على عائلة واسعة (يتولى رجالها الأرض مشاعًا تحت سلطة أكبرهم سنًّا، وتنتقل سلطته بعد وفاته إلى أكبر إخوته الذي يليه) كما يدل على شريحة قبلية أكثر سعة. وفي القرن السادس عشر ق.م. — عندما كان التنظيم القبلي للرؤساء الكاشيين يختلف عن أشكال القرابة الشائعة في الثقافة البابلية القحة — تلقى بعض سادة البيوت في حياتهم رتبة المتولي (وهو المعنى الذي سيتخذه مصطلح فيما بعد: أشبه ما يكون بعمدة القصر أو الكاشف) واعترفت بهم الحكومة المركزية أطرافًا إقليميين في حديثها. ويغطي اللقب هكذا وظيفة رسمية أنشئت انطلاقًا من أصل قبلي، بحسب شكل من أشكال التطور لدينا عليه شواهد تنطبق أيضًا على اللقب المعاصر لملك الآراميين (كان في البداية يسمى أدا adda أي «أب» أبو بلاد أمورُّو Amurru، ثم تم تثبيته في كلمة لوجال Lugal، «ملك» المنطقة ذاتها، وهي منطقة بين دجلة ووادي ديالا).٢٣
ونجد تراثًا شبيهًا في عصر ملوك «ماري» الآشوريين، ومدينة «ماري» تقع على منعطف من منعطفات الفرات حاليًّا في سوريا. والقبائل الحانية les tribus hanéennes التي كانت هي كذلك تنقسم إلى «بيتو» bîtu (واللفظة تدل على مجموعة اجتماعية كما تدل على أسلوب الحياة في مخيم، تحت الخيام، بين الأغنام) كانت تعين — بواسطة شيوخها — ممثليها لدى السلطة المركزية، وهم السوجاجو sugâgu.
«وهؤلاء هم أعيان المنطقة الذين يأتون للقاء ممثلي «ياسماح — أدُّو» Iasmah-Addu لكي يوصوه بمرشحٍ وَعَدَ بمنح القصر منجم فضة. والموظف — الذي لم يتقاعس المرشح المذكور عن أن يكسبه كذلك لقضيته بنفحة سافرة — يرسل الشخص إلى سيده ناصحًا إيَّاه بأن يعتمده وبأن يقبل المنحة الموعودة. ومعنى هذا أننا حيال «سوجاجوم» sugâgum اقترحه السكان ونصبه العاهل لتولي مهامه؛ وبالمصطلحات الحديثة نقول إنه أقرب إلى «المختار» mokhtar منه إلى «الشيخ» cheich.٢٤
والحانيون Hanéens، عندما ينخرطون في الجيوش الملكية التي يقسمون على الولاء لها (لأنهم جميعًا يخدمونها، لا يخدمونها فرادى مرتزقة) لا يقومون بأعمال النهب (على عكس حبَّاتو habbâtu الأجلاف المأجورين).٢٥ وهم يتجمعون على هيئة عشائر وقبال («جايوم» gâyûm وهي كلمة أوحت إلى جان روبير كوبر Jean-Robert Kupper بأنها بينها وبين كلمة «قوم» qauwm بالعربية قرابة، ومنها جاءت الكلمة الفرنسية goum التي تدل على مجموعة من العائلات تخضع بين البدو لسلطة رئيس واحد»).٢٦
بين بابل (وكان موقعها إلى الجنوب من العاصمة العراقية الحالية) وعيلام (وكان موقعها في الجزء الجنوبي من إيران الحالية) عاشت قبائل آرامية وكلدانية بل وعربية عديدة مستقلة ذاتيًّا في تفاهم طيب مع جيرانهم الأقوياء. وقامت هذه القبائل في الفترة من القرن الثامن عشر ق.م. إلى القرن السادس ق.م. بتوزيع عادل فيما بينها لما كان عليها أن تدفعه من دعم (كانت بعض العشائر تعلن ولاءها لبابل والبعض الآخر لعيلام) أو من جزية، بل وصلت القبائل التي كانت تسددها إلى حد دفعها محسوبة على هيئة نسب مئوية سنوية ثابتة مقدرة على النمو الطبيعي لحيواناتها، بدلًا من نسب متغيرة من القطعان كاملة.٢٧
وعلى الرغم من أصولها البدوية فإن الاتحادات التعاقدية confédérations الآرامية لم تكن لهذا السبب أقل تنظيمًا في المدن والقرى، وكثيرًا ما نجدها تحمل أسماء ساميَّة: ومنذ نهاية القرن الثامن ق.م. توزع ثمانية عشر ألف عضو أكبر اتحاد آرامي على ست تقسيمات إقليمية كان الاتحاد يتولى فيها ٤٤ مركزًا حصينًا والعديد من القرى (يقوم عليها رؤساء يسمون راب خالصي râb khalsê). وكان لزعيمهم (وهو nasîku «ناسيكو» أي شخصية مهمة في سلم الرتب الرافديني) القدرة على أن يدفع جزءًا من المفروض عليه فضةً، وتلك علامة على الرخاء وعلى العلاقات مع الخارج البعيد، وهي أمور كان وضعه على رأس قبيلته يرتهن بها (مثل الناسيكو nasîku الآراميين السبعة الآخرين بالنسبة إلى الأربعين قبيلة).٢٨ ولكن إنشاء دولته الخاصة الموحدة المستقلة ظل شيئًا بعيد المنال.٢٩
وكانت هناك قبائل أخرى تجمعت في اتحادات كبيرة تجتاز السَّهب السوري الحالي، وهي منطقة بين حوض نهر العاصي والجزء الشمالي الغربي من الفرات، وهي تضم علاوة على واحة بامير —٣٠ تَدمُر — أرض حران التي كانت محطة حط فيها إبراهيم. وجبل بشرى الذي ألمت به القبائل المنشقة. ونجد في المبدأ الرئيسي لتصنيفها إلى جنوبية (بني يمينية Benjaminites) وشمالية (بني شمال Benê-Shimaâl) وهو مبدأ التصنيف الثنائي الذي عرف فيما بعد في تقسيم الشعوب العربية إلى «يماني» و«شمالي». والتعارض له من التحديد ما يجعل أبرز الشيوخ من الفرعين يوصفون ﺑ «الملوك» sharrânu في النصوص المارية على الرغم من سمة المبالغة في عظمتهم. إلا أن أولئك الذين كانوا يحظون آنذاك بالاحترام كانوا يسوقون أتباعهم إلى الحرب أو إلى السلام، ويتفاوضون لمبادلة الأسرى أو القطعان المستولى عليها، ويتعاملون معاملة الند للند مع ملك «ماري» Mari زمري ليم Zimri-Lim. وهم شركاء كانت لهم هيبتهم وكانت لهم حمية لا يستهان بها، ولهذا كان من الضروري إقناعهم واحدًا واحدًا بأن يتحالفوا مع المملكة بدلًا من أن يدفعوا الجزية إلى «البيت» الذي تكون له القوة الكبرى في تلك اللحظة.٣١ ولقد ظل هذا الوضع قائمًا بعد ألف سنة عندما بدا «الربط» بين «المنظومة القبلية» وبين «المنظومة البيروقراطية» كأنه تحقق بالفعل. وإذا صدقنا محفوظات «الشانداباكو» shandabakku القائم على إدارة مدينة نيبور (وهي مدينة بابلية في الجنوب) وجدنا أن هذا «الشانداباكو» كان «يقيم مع شيوخ بيت أنونكاني Bit-Anunkani وبيت داكوري Bit-Dakuri علاقات أكثر حميمية من علاقاته بملك بابل» الذي كان تابعًا له. ونقرأ أنه «صنع تحالفًا دفاعيًّا مع العرب الذين كانوا يترددون على عمق منطقته»، ويذكر على نحو خاص الرئيس «رانو» Raanu وأصله من واحة تيماء Taima في الصحراء العربية، وقد اقترح عليه رانو بحماس أن يقوم بدلًا منه بحملة بوليسية.٣٢
والحق أن العرب قد عرفوا كيف يندمجون هم أيضًا في شبكة عهود الولاء والمراكز الإدارية الرافدينية. في حوليات عام ٧٠٣ق.م. التي خص بها كتَّاب سيناشيريب sennacherib وآشوربانيبال Assurbanipal حربهما ضد بابل نجد «العرب» A-ri-bi يجيء ذكرهم ضمن حلفاء بابل. وما جاء عام ٨٥٣ق.م. حتى دخل العرب التاريخ؛ ففي سياق نقش، يشيد فيه سالمانازار الثالث Salmanazar III بانتصاره على تحالف شرقي في قرقر Qarqar على البدو العرب، ذكر النص قبيلة «جينديبو» Gindibu ورجاله الذين يعدون بالمئات وهم من راكبي الجمال «يروحون ويجيئون» وحركتهم يثْبتها الجِذر e-ru-bu. ولعلهم كانوا مبعثرين حول وادي سِرحان، أي بعيدًا عن دمشق، ولذلك لم يكن لديهم سبب يدعوهم. لمحاربة جيش لم يؤت بعد قدرة على تهديدهم تهديدًا مباشرًا، إلا أن يكون قصدهم الحفاظ على طرق اتصالهم تجاه سوريا وفلسطين، وعدم دفع رسوم عبور قوافلهم.٣٣
ولقد كان المسئولون السياسيون البدو في علاقاتهم مع الآشوريين يقصدون دائمًا هذا المقصد. و«زبيبة» Zabibe، أول ملكة عربية sharrat Aribi معروفة، آثرت أن تدفع جزية إلى الملك الآشوري تيجلاث فالازار الثالث Teglath-Phalazar III في عام ٧٣٨ق.م. دون أن تكون مضطرة لدفعها (كانت إمارات الأردن وجنوب فلسطين المستقلة حتى ذلك الحين تؤدي دور المناطق الحاجزة) وإنما فعلت ذلك لأن حلفاءها على طريق دمشق وصور انضووا تحت النفوذ الآشوري. وهذه هي «سمسي» Samsi، الملكة العربية الثانية، أقسمت للملك الكبير يمين الولاء الذي أخلَّ به على ما يبدو في عام ٧٣٣ق.م. بعد مَلِكَي عسقلان ودمشق، مينتيتي Mintiti وريزين Rezin. وكلفها هجومها هذا على الآشوريين ١٠٠٠٠ من القتلى وخسرت ٣٠٠٠٠ من الجمال و٢٠٠٠٠ من الغنم، مما يدل على أن قوتها لم تكن تكفي لقهر الآشوريين، ولكنها كانت كافية معتبرة للحفاظ على السلطة تحت رقابة رقيب أو «قيبو» qêpu بعثه إليها تيجلاث فالازار Teglath-Phalazar.٣٤
والملكة العربية الثالثة التي ورد ذكرها هي «ياتِية» Iatiée أخت رئيس عربي (باللهجة المحلية ar-ba-a-a) أسرته جيوش سيناشيريب Sennacherib في أثناء تقدمها نحو بابل. في هذه المنطقة كانت هناك قبائل عربية (مثل دور أبي-ياتا Dur Abi-iataa) استقرت في بلاد الرافدين في كفور محصنة مثل تلك التي سكنها الآراميون والكلدانيون، ولكنها كانت من ناحية البادية أكثر مما كانت ناحية الخليج (وهناك رسالة تذكر هجمة من هجماتهم على إقليم سيبار Sippar). ونجد بعد اثنتي عشرة سنة أو نحوها ملكة عربية رابعة هي «تيلحونو» Teelhunu نقرأ أن الآشوريين هاجموها في مضرب خيامها وهي منطقة قريبة من وادي سِرحان (ومن ملتقى القوافل الكبير في دومة الجندل Dumat al-Djandal) ثم أسروها وأخذوها إلى نينوى. وكانت لها أخت تربَّت في مدينة نينوى هي «تابوا» Tabua ردها سيناشيريب إلى وطنها، وقد اختارها لتكون ملكة، فكانت خامسة الملكات العربيات المذكورات في السجلات الرسمية.
التطور الذي حدث على مدى قرنين من الزمان تطور ملموس. فهناك رئيسة عربية تشتري تعاطف الآشوريين، وأخرى تتصدى لهم بلا جدوى؛ والآشوريون يأسرون أخا الملكة الثالثة، ثم يأسرون الرابعة، قبل أن يختاروا هم الخامسة. ولكن القبائل العربية احتفظت على الرغم من ذلك باستقلالها. فالملك «هازايل» Hazzael ثم ابنه «ياوتآ» Yautaa من بعده ذهبا إلى آشور بحريتهما ليفاوضا آشور على استرداد أصنامهما التي كان سيناشيريب قد حملها إلى عاصمته. فكلما ابنه إيساروحادون Esarhaddon،٣٥ ثم كلما حفيده آشوربانيبال Assurbanipal، اللذين أعادا إليهما الأصنام واحدًا واحدًا سالكيْن سلوك مصالحةٍ غير مسبوق.٣٦ بل إن إيسارحادون سيقلد سابقه فيغفر لرئيس عربي آخر اسمه «ليالي» Layâlê ثورته عليه، وسيعيد إليه آلهته في مقابل ثنائه على آشور. ويسمح الاتفاق بفرض جزية على اتحاد شبه بدوي يعيش في موضع ما في أرض تكسوها الرمال، كان بعيدًا عن نينوى بعدًا شديدًا يحول دون أن تكون سلطة الملك هناك حقيقية، ولكنه كان صحراويًّا إلى درجة تتيح تدبير عدد كافٍ من الجمال في عام ٦٧١ق.م. يكفي للقيام بحملة في سيناء.٣٧ ولقد اتبع آشوربانيبال نفس السياسة مع نوحورو ابن ناتنو Nuhuru ibn Natnu من قبيلة نيبايوث Nebaioth الذي نصب ملكًا بعد أبيه المهزوم.٣٨
في أثناء الحقبة الآشورية المحدثة كان عدد من الرؤساء العرب يلعبون دورًا في النظام الإداري الآشوري ويحملون فيه لقب ملك sharru أو ملكة sharratu، أو حتى لقب ناسيكو nasîku مثل هذا الشيخ البدوي في سيناء — الذي تذكره حوليات سرجون الثاني — الذي كان يعمل انطلاقًا من مدينة لابان Laban (قرب العريش الحالية، أي على مشارف مصر).٣٩ ويبدو أن الناسيكو nasîku القبليين كانت لهم وظيفة رسمية أنيطت بهم هي مراقبة العلاقات بالقوى المجاورة.٤٠ فهم مكلفون بشئون محطات القوافل kâru، وحواجز الطرق المتقاطعة، والحصون الصغيرة، بل إن بعضهم أنيطت بهم قيادة صغيرة râb kisir.٤١ حرص الآشوريون والبابليون حرصًا كبيرًا على رعاية علاقاتهم بشيوخ القبائل المحنكين والجفولين، وصنفوا بعناية مفرطة توشك أن تكون مَرَضية القبائل الصديقة والقبائل العدائية،٤٢ مسجلين في نصوصهم الخاصة أنهم يخصون أنفسهم بخيرات «الإتاوات» التي كان شركاؤهم هم أنفسهم يعتبرونها «هدايا» أو «عطايا» (tâmartu أو nâmurtu، وكان منهم من يأتون من بلاد بعيدة بُعد مملكة سبأ العربية الجنوبية).٤٣ ولم تكن هذه العطايا تُحدث إخلاصًا دائمًا، فقد كان الشيوخ العرب يتحللون على الفور من التزاماتهم حيال هؤلاء كلما غشت قوتهم غمامة، وربما بلغت بهم الصلافة أن ينهبوا القوافل المتجهة إلى آشور أو بابل ليبيعوا ما غنموه في الأسواق الملكية دون حساب لعقاب أو ردع٤٤ أو ليرفضوا بعناد أي عناد أن يؤدوا الأشياء إلى أصحابها «ردوا إليَّ ناسي وحيواني!» هذه رسالة وجهها ملك بابل إلى قبيلة إتيرو Eteru.٤٥ وتسجل الحوليات أن نبوخذنصر٤٦ كان عليه أن يقهر تحالفًا عربيًّا عبرانيًّا بأن قاد بنفسه حملة إلى واحة تيماء التي سيتخذها نابونيد Nabonide فيما بعد قاعدة لعمليات ضد قبائل عربية تقيم في يثرب (يثرب Ia-at-ri-bu التي أصبحت فيما بعد «المدينة = المدينة المنورة»).٤٧
في مصر عُرفت القبائل الليبية منذ بداية الألفية الثالثة ق.م. (هناك وثيقة من عصر سنيفرو Snefrou٤٨ تذكر «رؤساء الليبيين الحدوديين.»٤٩ وأصبح ضغطهم يمثل تهديدًا بالغًا في زمن الدولة الحديثة مما حدا بابن رمسيس الثاني إلى التصدي لهم وردهم على أعقابهم. وبنى خَلَفُه قلعة في «الحبة» El-Hibeh (في مواجهة «قلعة مشويش Mechouech الكبيرة») ليحتوي اندفاعهم نحو الجنوب. فلما تمصرت القبائل الليبية محتفظةً ببنيتها القبلية واستقرت في «إقطاعات» منحها إياهم رئيسهم الأكبر الذي أصبح في هذه الأثناء فرعونًا، سارعت بإلصاق أسماء مصرية بأسمائها، ورفع كبيرهم ريشة نعام فوق البرُّوكة الفرعونية. وتنافست هذه القبائل فيما بينها، وفيما بينها وبين الأسرات الكبيرة في الجنوب للاستيلاء على العرش، فلم تستطع الإبقاء عليه مدة طويلة نظرًا لآليات نشوء الشرائح ونشوء التشرذمات الاجتماعية التي ظلت مستمرة عشرات من السنين بعد الاندماج: نتيجة لأنماط التوريث التراثية (فقد كان الابن الأكبر لشيخ القبيلة يحصل على إقطاعية يخصه بها أبوه)،٥٠ ولذلك كانت الصراعات الداخلية شرسة، ويعد المؤرخون نحو خمسة «فراعنة» في مصر حول عام ٧٢٥ق.م. في الوقت الذي كان الغزاة الآشوريون فيه ينصبون أسرة أخرى من أصل بدوي هي أسرة السايسيين.٥١ ولقد ظلت الأسرات الليبية (من الثانية والعشرين إلى الرابعة والعشرين) نحو ثلاثة قرون من ٩٤٥ق.م. إلى ٦٦٤ق.م. ولا نغفلنَّ عن ذكر رجلين من رجال الدولة من ذوي علاقات النسب القبلية كان لهما وجودهما في موقع السلطة هما: حريحور Herihor، كاهن آمنون الأعظم بين عامي ١٠٨٠ق.م. و١٠٧٤ق.م.، وكانت زوجته «نجمت» Nedjmet وأولاده يحملون أسماء ليبية، والفرعون أوسركون القديم Osorkon l’Ancien الذي حكم من عام ٩٨٤ق.م. إلى عام ٩٧٨ق.م. وكان من أصل مشويشي. ولقد كان «الرؤساء الكبار» القائمون على المدن المصرية الرئيسية ورثة مباشرين ﻟ «كبار رؤساء مشويش» وكانوا يسمون على سبيل الاختصار والتبسيط «رؤساء (ما) Ma» كما تبين لائحة الألقاب والمناصب في عصر شيشونق الأول٥٢ (في مصر السفلى)؛ أو نذكر «كبار رؤساء الليبيين» (في غرب الدلتا وبخاصة في سايسن — صان الحجر) الذين تأخر تمصيرهم، وأقدمهم ظهروا في عصر شيشونق الثالث، ولسوف يصبح أحدهم بدوره فرعونًا حمل اسم تيفناخت Tefnakht، وهو مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين.٥٣ ولقد كانوا مخلصين في تعلقهم بأنسابهم فكانوا أحيانًا في تتبع ماضيهم يرجعون إلى خمسة أجيال خلت حتى يقيموا الدليل الشرعي على انتمائهم، على مثال باسينحور Pasenhor، وهو رجل «من الطبقة المتوسطة» تعدد لوحة قربانه في السيرابيوم من كان في عائلته من محافظي أقاليم عظماء.٥٤ ولنا أن نفهم أنهم ظلوا يحملون بالفخار ألقابهم القبلية إلى أن أصبح ذكرها مزعجًا.٥٥

وقدَّمت القبائل الليبية في وادي النيل على هذا النحو إلى الفراعنة، مثلما فعلت نظيراتها الرافدينية والعربية، مندوبين مفاوضين انتهى أمرهم إلى حيث شغلوا مكانًا رفيعًا في سلم الوظائف الإدارية. ولقد ظل الرؤساء الليبيون، بعد أن خسر المشويش عرش مصر، حينًا في إمارات مستقلة، زاد استقلالها أو قَلَّ، أو تابعة للأسرات التالية (وبخاصة الأسرة الرابعة والعشرين التي كانت هي الأخرى سايسية الأصل، أي ذات أصل ليبي بعيد). وأصبحت مهمة «رئيس (ما)» عندئذٍ وظيفة رسمية، مثل مهمة «رئيس الكلدانيين» التي تحولت تدريجيًّا إلى وظيفة في المنطقة السفلى من الرافدين.

وحدث نفس الشيء بالنسبة إلى الأدا adda والناسيكو nasîku والبيلبيتي bêlbîti أو الرابخالسي râb khalsê البابليين، والشارانو sharranû الماريين، والرابكيسير râb kisir أو الشاراتو sharratu الآشوريين، وقد تحدثنا عنهم في هذه الدراسة آنفًا. نصب كل واحد منهم على رأس إقليم أو على رأس جيش في «محيط» المملكة التي كان يعيش فيها، حيث أصبحت تسميته القبلية تدريجيًّا لقبًا بيروقراطيًّا.٥٦
كانت عملية تطويع القبائل الأجنبية بدمجها في مؤسسات الدولة عملية تطابق الآلية المنطقية لتحويل القبائل القومية إلى دوائر إدارية وإلى فرق عمل أو مقصورات دينية. وفي مصر نجد أقدم مصورات تمثل مواكب عسكرية أو بحرية تغص بالرموز emblèmes القبلية (ريش نعام أو ريش صقور، رأس بعض الكواسر أو الوحوش، تمساح، إلخ) ونجد أحدث المصورات تظهر حملات عسكرية كبيرة يتوزع المحاربون فيها على فيالق يتسيد كل فيلق منها إله من الآلهة الرئيسية في مصر. وعندما رسمت الأقاليم (المديريات) — الأنومات nomes — بغية تحديث الإدارة تسمَّت بنفس التسميات الطوطمية التي كانت سائدة من قبل في أراضيها. ولدينا ثلاث لوحات حجرية يرجع زمانها إلى العصر الجرزي gerzéenne أو العصر السابق على الأسرات تبين أصل المنظومة العسكرية والإدارية المصرية. في لوحة الملك الجنوبي الملقب ﺑ «اسكوربيون» العقرب Scorpion نرى الطيور الطوطمية لقبائل الشمال معلقة في رموز emblèmes قبائل الجنوب. وفي لوحة نارمر نرى على مقرعته قوات فرعون في مسيرة استعراض بعد النصر خلف أربعة من حملة الألوية: ونتبين طائرين (أبو قردان وصقر)، ابن آوى، ومشيمة بحبلها السري.
وفي اللوحة الحجرية المسماة «الليبية» نجد تجمعات ما زال النقاش يدور حولها: هل هي معسكرات لفيالق حَمْلةٍ في أرض معادية أم مدائن جرى الاستيلاء عليها في سياق توحيد البلاد؟ وفيها نمطان من الرموز جُمعا معًا. في داخل حيطان السور حيث عُلِّمَ عدد الشاغلين بمربعات مجموعة، نجد رسمًا هيروغليفيًّا سحيق القِدمِ (جعران، أبو قردان، قردوح، بردي، وبصفة خاصة: «كا») يمكن أن يكون مستهل اسم مصري أطلق على كل تقسيم. وهناك تحت التحصينات طوطم يبدو أكثر قدمًا يمكن أن يكون شارة الفيلق (طوقان٥٧ أو صقر أو صيَّاد أو ببغاء تسلية فوق مرتكزه أو عقرب أو أسد). وفي رسوم زخرفية ومصورات أخرى وجد الباحثون: ثعبانًا، وقناعًا أفريقيًّا، وريش نعام، وغريفون griffon برأس صقر، وجبالًا معلَّمة في الأفق، والعاصفة والبروق، إلخ.٥٨
ومن الممكن أن تكون التقسيمات المؤسسية في جزء منها منقولة نقلًا مطابقًا عن تقسيمات قَبَلِيَّة سابقة. ومن المحتمل أيضًا أن يكون إصلاحٌ على طريقة كليئسثينيس Kleisthenês٥٩ قد أحدث تغييرًا عميقًا في خريطة التقسيمات الأنسابية والطوطمية وفي معناها.٦٠ هكذا انخفض عدد الرموز القَبَلِيَّة لفرق العمال في ساحات العمل إبان حكم الأسرة الثانية عشرة من ١٢ إلى ٤، كما حلت أرقام محل الكتابة التبيينية — الإديوجرامات idéogrammes — لكي تواري الأصول القبلية.٦١ أيًّا كان الأمر فقد أقام المصريون القدماء على استخدام مستمر لكلمة (تقابلها بالفرنسية clan، ننقلها إلى العربية عشيرة أو عصبية)، وهي كلمة من حقبة امتدت من الأسرة الثانية عشرة إلى العصر القبطي. وكانوا يعبرون بذلك عن التسلسل الأنسابي الآبائي التراتبي للقبائل الليبية أو الفلسطينية أو قبائلهم الخاصة.٦٢ ويعتبر الإبقاء على منظومة قَبَلِية أصيلة موازية لمنظومة مؤسسية أكثر حداثة فرضية أقرب إلى التصديق. أيًّا كان الأمر فقد بقيت التقسيمات القَبَلِية جزئيًّا حتى بعد تلاشى المنظومة التي شهدت نشأتها، وتلك علامة دالة على أن الشعب الذي شهد هذا التطورات شعب لم يكن يفكر — هو وينظم العالَم، مؤمنًا بأنه أكثر الشعوب تحضرًا — في أنه قد تخلص من أصوله البربرية.

(٢) فن تطويع الآخرين

ولائم وقرابين

كان الملوك الآشوريون والبابليون والماريون (أبناء مدينة ماري) والمصريون على صلة وثيقة برؤساء القبائل الذين ظلوا مرتبطين ببنيتهم الاجتماعية الخاصة. ومنهم من كانوا من ذوي القربى. ولما لم يكونوا يستطيعون إخضاعهم، فقد كانوا يتفاوضون معهم في حدود تستعير ما تستعيره من أسلوب عمل دولةٍ ما (تجنيد، مكوس، فرض التزامات، تعداد الخدمات المقدمة) كما تستعير من العالم القبَلي (أخذ الرهائن — رءوس حيوان أو شخصيات أو أصنام إلهية — دفع جزية؛ ولاء جماعي). وحيث إنهم لا يصلون أبدًا إلى دمج الغزاة المحتملين جميعًا في نسيجهم، فإنهم يحاولون أن يجعلوهم يعتنقون مبادئهم السياسية. والدول إذ تواجه الخطر الدائم المتمثل في البدو تحاول أن تستخدم كل أساليب التطويع الممكنة لوضع نهاية للمنازعات، والأعمال الانتقامية، والحروب الداخلية، والغزوات، باختصار وضع نهاية لتغلغل البربرية من لدن عالم في طريقه إلى التحضر.

فالخط الفاصل بين المكان البربري والمكان المتحضر أقل وضوحًا مما يتوقع الإنسان؛ فالحدود «نفَّادة» لأنها تعتمد على اتفاقات الولاء المؤقتة التي تعلنها جماعات قبَلية تعبر خطوط الترسيم الفاصلة بين القوى القائمة. فلا يزال مفهوم «أراضي الدولة» عائمًا. والملوك يتكيفون مع هذا الوضع بأن يعلنوا سيادتهم على منطقة ما تحدها الجهات الأصلية الأربع، ويكون عليهم فرض احترام سيادتهم على خير ما يقدرون، ناهيك عن أن يكون شخصهم هو الثمن. ولهذا نجد الملك يتنقل شخصيًّا ليجمع دلائل الاعتراف الواقعي بسيادته الاسمية. وهو، بغية جعل اتفاقات الولاء المعلنة دائمة، يحاول أن يكرسها دينيًّا بأن يعبر الأراضي التي تفترض أنها تحت سيادته عبورًا باسم دين مهيمن يؤكد أنه خادمه.

(٢-١) الأضاحي والمواكب

تؤكد المواكب والحج بالأسلوب الرمزي سيادةً على التراب لا تكفي الاستعراضات لإقامتها بأسلوب أكثر رجولية. ونحن نعرف في بلاد الإغريق عندما كانت مقسمة في أزمانها السحيقة إلى مدن متنافسة، مدى الأهمية السياسية التي اكتسبتها المواكب المتجهة إلى مقدسات ريفية. وهذه المسيرات تنطلق من أعلى المدينة في اتجاه معبد أقيم على تخوم الأراضي، معبد يؤتمن على قرابين تقدم إلى رب أو أرباب تجمع شخوصها أو تضم الهمجية والحضارة، الخصب الطبيعي للأرض والخصوبة الثقافية للنساء، محققةً بهذا المرور بين عالم اللامواطنين (عذارى أو بنات لم يبلغن المراهقة، أغراب أتوا للإقامة منذ قليل، شعوب الجوار) وبين عالم المواطنة.٦٣ وكما حدث في مكة قبل الإسلام كانت كل مجموعة دينية تمارس هنا شعائرها الخاصة بها: وهذه هي حال إفسوس Ephesos في القرن الثامن قبل الميلاد، وكانت مستعمرة متصلة بشعوب آسيا الصغرى؛ ففي مزار أرتيميس Artémis قرب المدينة، المتجه نحو الغرب، كانت تجري شعائر المرور محولةً المراهقين إلى مواطنين، كما كانت تجري شعائر تقديم الأضاحي يقدمها زوار شرقيون (كيميريون cimmériens٦٤ أو حتى ساميون) على هياكل مُلحقةٍ بالمزار المقدس موجهةٍ نحو جهات أصلية مختلفة.٦٥ ولم يكن بد من انتصار حملة كريسوس Crésus (قارون)٦٦ لكي يتحول كل هذا في مجموعه إلى مزار «أرتيميسيون» Artémision المنيف، المسور، الموحد.٦٧ ولنا أن نفهم أن الوحدة الشعائرية للأراضي في العالم الإغريقي العتيق سبقت الوحدة الثقافية، وأن إقامة الوحدة السياسية كان لها في البداية المعنى الواسع جدًّا لرابطة أفقية تضم تجمعات بشرية مبعثرة جغرافيًّا وتكتل رأسي يضم مجموعات مرتبة هرميًّا. أما صورة مدينة تكون منذ ذلك الحين في أيدي مجموعة متجانسة من رجال بالغين يُتَصَوَّر أنهم السكان الأصليون يدبرون أمرها وحدهم دون تقاسم انطلاقًا من مجلسهم الذي ينعقد في مركز المدينة بمعنى اﻟ polis فهي صورة جاءت في وقت متأخر.
والحج الرافديني يشبه الحج الإغريقي، وإن اختلف عنه في أنه لا يربط معبدًا مركزيًّا بمزار مقدس ريفي أو العكس، بل يربط مزارين مقدسين حضريين متباينين في الأقدمية معًا. وكانت كل مدينة سومرية تمنح نفسها إلهًا تدخله في مجمع الآلهة البانثيون القائم. في عصر الأسرة الثالثة بمدينة أور Ur، عندما غدت هذه المدينة هي المدينة الأكثر حداثة بل والأكثر قوةً أيضًا، أصبحت المواكب هي وسيلة التوحيد الرمزي لأراضٍ كان فيها كل إله يعقد مجلسه على تراب وطنه بأن يسيِّر على صفحة منطقته كلها صنمًا ربانيًّا. وهناك ميثة تحكي أن نانَّا — سوئين Nanna-Su’en إله أور Ur (التي هي أكبر المدن) قام بزيارة إنليل Enlil (أكبر آلهة مدينة نيبور Nippur). وامتد موكب نانَّا — سوئين الطويل على صفحة النهر («كان رأس الموكب يصل إلى أوروك Uruk في الوقت الذي كانت مؤخرته لا تزال في «لارسا» Larsa) وتوقف في الخمسة مزارات في طريقه، فنزل على التوالي موانئ أنيجي Énegi، ثم لارسا Larsa (التي كانت تبرر التحول) ثم أوروك Uruk وسوروباك Surrupak وتومال Tummal. وفي كل محطة كانت الربة المحلية («تلك التي لم تكن تبرح معبدها قط») تستقبله أحسن استقبال («مرحبًا يا مركب أبي!») وتحاول أن تأخذ لنفسها القرابين الموجهة إلى نيبور (فقد اتجهت فوق سطح المركب نحو احتياطي الدقيق … واقتربت من دن البيرة فشدت بيدها السدادة المصنوعة من الشمشاد») دون أن تنال شيئًا («فلم تنزل لها المركب عن حمولتها») وأخيرًا تصل المركب الأميرية إلى نيبور Nippur حيث يأمر نانَّا — سوئين Nanna-Su’en بالأبواب أن تفتح معلنًا جزيته التي حصل عليها بعد أن يعطي البواب نصيبه:
«افتح المعبد يا بواب …
وسأعطيك هدية
كلَّ ما على مقدمة المركب
وسأعطيك نفحة الوداع كلَّ ما على مؤخرة المركب
فسعد البواب كل السعادة وفتح المعبد!»
وقُبلت القرابين بقبول حَسَنٍ، ولدينا من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن صنم إله أور Ur كان في الواقع — سواءً رافقه ملك هذه الأسرة الشابة أو لم يرافقه — ينقل على أرض المملكة صاعدًا مسار الفرات القديم نحو مدينة نيبور Nippur المقدسة.٦٨
أما أن ملك أور Ur لا يتلقى جزية بل يسيِّر فقط رمز شرعيته صاعدًا مع مسار النهر إلى منابعه فهو ما يؤكده اتجاه الموكب، وغياب المبادلات بين المدن المراحل والمحطة النهائية للموكب، والمحاولات المحلية للاستيلاء على المواد الغذائية بدلًا من الإضافة إليها.
وهناك ميثة سومرية أخرى تشدد على أهمية الحج في تعليم الأراضي (الخاضعة للسيادة). وهنا أيضًا يذهب «الابن» إلى «أبيه» (إنكي Enki يذهب إلى إنليل Enlil): وحتى في غياب رباط مولد فعلي فإن ألفاظ القرابة المستخدمة مجازًا تبين أن الرحلة والقرابين تمثل حركات ولاء لا يمكن أن يتخلى الملوك عنها حيال من هم أعظم منهم. يرحل إنكي من مدينة إريدو Eridu ميممًا شطر مدينة نيبور Nippur وهي مدينة أقل قِدَمًا ولكنها أصبحت أكثر قوة. ومزار إريدو، مثله مثل مزارات المدن الإغريقية، يحقق المرور بين العالم المتحضر والعالم الهمجي. هذا المزار الذي يقوم بين شواطئ غريبة مالحة وجدباء من ناحية، وبين طبقة مياه عذبة جوفية وأنهار ومستنقعات غنية بالأسماك من ناحية ثانية، يرمز إلى الأصول البعيدة أو الخيالية للمدينة، إلى العصر الذي كانت فيه مدينة إريدو أهم من مدينة نيبور (وهي مدينة جديدة أصبح من الضروري الآن تأدية قسم الولاء لها). ولهذا الغرض يحمل إنكي معه كل ما يلزم لإقامة وليمة لإنليل (تمامًا مثل نانا — سوئين Nanna-Su’en في القصة السابقة). ولكن مقامه الرفيع لا يسمح بمزاحمة: فلم يكن هناك منافس طماع يجرؤ على أن يدس نفسه بينه وبين إنليل (لا الربات المحليات ولا البواب العنيد) ويتصرف إنكي على اعتبار أنه رب البيت في قصر «أبيه»، فيُجلس الضيوف إلى المائدة طبقًا لخطة دقيقة صارمة. («فأجلس آن An في الصف الأول، وأجلس إيت Et مع إنليل Enlil قريبًا منه، ثم أمر بإجلاء نينتو Nintu في مكان الشرف. واتخذ الأنونا Anunna مكانهم بدورهم …»). ورفع إنليل الطاس لشرب نخب على شرفه، علامةً على أنه يقبل التكريم ويجعل التحالف رسميًّا.
والميثتان فيهما معلومات مفيدة جدًّا، فهما تصفان العلاقات بين مركز سياسي وبين مركز ديني، وكذلك بين مركز حضري وبين هوامشه. والأراضي السومرية تمتد من إريدو (قرب مصب الرافدين) إلى نيبور Nippur (قرب اتصالهما). وتعلِّم معابد هاتين المدينتين حدود دولة أصبحت تتمحور حول أور. وستلعب المزارات العديدة بالمستعمرات الإغريقية في صقلية في القرن السابع ق.م. (وهي أيضًا تقع على عيون٦٩ وأنهار وسواحل)٧٠ فيما بعد نفس دور تعليم حدود أراض آخذة في الامتداد وأماكن تثاقف للسكان الأصليين الذين دمجوا تدريجيًّا في المدن الهيلِّينستية. وسنجد الأمراء الإغريق في صقلية، مثلهم مثل السومريين نانَّا — سوئين وإنكي، يتنافسون في الكرم والسخاء ويقدمون قرابين من البرونز.٧١
ولم يستطع أكثر حكام المدن همة وحميَّة، أو لم يريدوا، أن يسيغوا أو يقهروا أو يبيدوا الثقافات السابقة كليةً. فالتمسوا السبل لدمجها في مجتمع يأخذ بالنزعة التوفيقية. وتحول العنف الناشئ عن التقاء شعبين إلى مواجهات رمزية بين رؤسائهما، حيث اتخذ الدين موقعًا بين الحرب والسياسة. وعلينا أن نضيف إلى الفكرة المتواترة عن التحكم العسكري سمة تحكم ثقافي أدى في أكثر الأحيان إلى اعتبار استعراضات القوة عديمة الفائدة. هكذا نجد في منظومة مُعَمَّمة من ضروب الولاء المتعددة أن التصديق المتقاسَم والمعايشة يحلان محل الغزو، وأن الهيمنة الرمزية لا تستتبع الهيمنة على الأراضي، وأن النَّخب المهذب أو القربان الشعائري يقومان مقام المراسيم والأحلاف. وليس هناك ما يمنع من أن نتخيل أن المباني الدائرية التي عثر عليها الأثريون في بلاد الرافدين أو في بلاد الإغريق ولم يعرفوا وظيفتها كان دورها يتمثل في تركيز كل هذه الأبعاد جميعًا: نقط مراقبة البرابرة (قلعة، برج مراقبة)، مواقع شعائر توفيقية (مزار ديني صرحي غير حضري)، أسواق (سراي القوافل)، أماكن الاستقبال (دور الضيافة)، معالم حدود الأراضي الحضرية. هذه الأبعاد كان من الممكن أن تكون منتشرة على مساحة تبدأ من المركز وتخرج إلى مسيراته. ومبنى الثولوث Tholos في غاورة Gawra كمبنى الثولوث في أثينا مثل المبنى المركزي. ومركز تشارو Tcharou الحدودي على الحدود الغربية لدلتا النيل هو في الوقت نفسه «حصن» و«غرفة مصفحة» أو «مخزن مختوم»،٧٢ ومبنى تل رزوك الدائري في شرق بلاد الرافدين تشهد على أهمية المباني الحدودية. ومبنى تل رزوك الدائري مخروطي القطاع تم الكشف عنه في شمال شرق العراق. والمبنى شكله ظاهريًّا مثل المقبة التي توضع فوق صحن لتحفظ حرارة الطعام في المطاعم التي يخدم الإنسان نفسه فيها اليوم، وقد بني من الطوب اللبن المشكل باليد في قوالب خشبية والمجفف في الشمس (والطوبة لها أربعة أوجه مسطحة، ووجه محدب)، والمبنى في تصميمه أكثر تعقيدًا بكثير مما توحي المواد التي استخدمت في تشييده، بل هو على درجة مفرطة من التعقيد،٧٣ ولذلك لا يمكن دون شك أن يكون من إنجاز رئيس قَبَلي ولا من رئيس حربي مفترض تحقق له ثراء، فما كانت لأي منهما القدرة على أن يجد في بيئة قاحلة إلى هذه الدرجة مهندسًا معماريًّا له هذه العبقرية. وتصميم المبنى يوحي بانتسابه إلى مدينة نائية لديها مركز مراقبة٧٤ أغلب الظن أنه نقل نقلًا متطابقًا في بقاع أخرى داخلةٍ في دائرة تأثيره على يد فرق من الفنيين المتنقلين بين ساحات التشييد النائية.
في هذا المبنى الغريب الذي يرجع تاريخه إلى الألفية الثالثة ق.م. وجد الباحثون بقايا حيوانات من فصيلة الخيليات، لا من الماعز أو الغنم التي كان المتوقع أن تكتشف هنا لو كان المبنى من قبيل دور الضيافة القبلية التي كان يمكن أن تقدم فيه أشهى قطع من لحوم الماعز والضأن إلى الضيوف العابرين الذين يولم لهم على حساب تضحيات ثقال يتحملها السكان الدائمون.٧٥ وتدل المؤشرات كلها على أن المكان كانت تسكنه عصبة من الرجال، ليسوا من الكهنة (فلم يكتشف الأثريون هيكلًا شعائريًّا) وليسوا من المحاربين (فلم يعثر المكتشفون على مخلفات عسكرية) على الرغم من أنهم كان لهم دور إداري.٧٦ ولعلهم كانوا يتولون أمر جمرك (ربما كانت تحفظ فيه منتجات على سبيل التأمين)، أو وكالة (نموذج مبكر لسراي القوافل)، وإن كان الموقع بعيدًا عن الطرق الرئيسية، أو ربما محطة مرحلة بريد مثل تلك التي ستبنيها فيما بعد مدينة لاجاش Lagash (حيث يتلقى سعاة البريد وجبة الطعام التي يحتاجون إليها لقطع مرحلة تالية).٧٧

ويمكننا أن نتخيل أن مثل هذه الأماكن التي تضم وظائف سياسية واقتصادية ودينية معًا كانت أشبه شيء بالملاجئ في أراض همجية، بمناطق محايدة بلا زاوية قائمة، حيث كان رؤساء الحرب يلقون أسلحتهم ليمدوا أيديهم إلى أدوات وليمة مشتركة مع من يمكن أن يكونوا غرماءهم.

وفي مصر كان اللقاء بين السلطة المركزية وبين المحكومين في البقاع النائية، سواء كانوا من المستقرين أو من البدو، يتم أيضًا في أثناء مواكب أو على موائد. والاختلافان الوحيدان بين مصر وبين بلاد الرافدين في هذا الشأن يتمثلان في أن البروتوكول يتخذ طابعًا أكثر رسمية وفي أن استيعاب تباين الأصول أو المقدسات يبدو أكبر. كانت أفضل منتجات تربية الحيوان والزراعة وصيد البر وصيد البحر، من التقاسيم المحلية ومما تجلبه فرق الاستكشافات النائية، يجري استعراضها في جنبات الأراضي، تتولى السير بها كتائب من الحمالين والخدم وأصحاب الحرف (وبخاصة الجزارين)، إلى أن تنتهي بها إلى الأماكن المقدسة (المعابد والمقابر). والنقوش والكتابات الهائلة في الأقصر والكرنك تبين المراكب المقدسة والتماثيل الإلهية والفراعنة وهي تبرح بانتظام أسوار المقصورات والمقار.

ولا يكفي للحكم أن يجري اختيار العارفين بحسب حقهم في ولوج الأماكن الخفية التي هي مقار السلطة الدينية والسياسية، بل لا بد من إخراج أصحاب هذه السلطة من مقارهم حتى يتنقلوا من مَعْلَم مقدس إلى آخر. وربما تكمن الأصالة الفرعونية في الترميز المفرط للشعائر؛ فالمسار الذي يقطعه الموكب يحاكي مسار إله الشمس الذي يقوم هكذا على نحو سحري بامتلاك كل ما يوجد على الأراضي الجغرافية والكونية لمصر، بدلًا من أن يتم ذلك ماديًّا شاملًا مجموع الأراضي كما كان يحدث في بلاد الرافدين وبلاد الإغريق. نجد هنا أن الحرص على الجدوى الرمزية للأعمال التي تجري بغية الاقتصاد في استعراضات القوة حرصٌ وصلوا به إلى أقصى الحدود.

يقدم لنا الموكب المصري حلًّا لمشكلة كبيرة، هذه المشكلة هي كيف يتمايز حكام مدينة شرقية عن البدو في المنطقة المحيطة بهم أو عن البدو في أصولهم وأنسابهم، في الوقت الذي كان فيه تبريرهم يمر من خلال التذكرة بأصولهم القبلية؟ كان على كل مطالب بالعرش في الدولة الحديثة، لكي يكون مقبولًا، أن يقدم الدليل على أنه يملك السلطة منقولة إليه من سلفه في التسلسل الأسَري، أي من جدِّه الملكي. لم يكن يكفي أن يقوم بتجسيد إله الشمس رع، بل كان عليه أن يثبت صلة قرابته بسليل مفترض لحورس (ولهذا السبب كان الفرعون يحمل في وقت واحد اسمًا من حورس واسمًا من رع في سجل ألقابه).٧٨ وكان تأليه رمز الاستمرارية القبلية على هيئة «كا» المَلَكية وإظهار الآثار السياسية لإشعاعه في الدنيا أمرًا يفترض إقامة عرضٍ شعبي موسمي هو: الموكب. والمحطات الست التي يمر بها الموكب في مهرجان أوبيت Opet على المسار بين الكرنك والأقصر تكشف عن رسالتها العميقة، ألا وهي: أن الخالق متصل بمخلوقاته عن طريق وسيط هو الملك، وهو في الوقت نفسه وسيط بين المكان الكوني وبين أراضي مصر. وكان الموكب يقف في محطته الأولى أمام مقصورة كاموتيف Kamoutef وهو والد الأرباب وهو بالتالي والد «كا» النظير الخالد، وتقع هذه المقصورة بعد بوابة قدس أقداس موت Mout يمثل الطرف الجنوبي محراب الكرنك. وقبل ولوج حرم معبد الأقصر كانت تقف مرة أخيرة في نهاية الطريق العظيم في استراحة مثلثة حيث يبين تمثيل الشعب والوجهاء العاكفين على العبادة أن البشر مخلوقات الرب كافة يتاح لهم في هذا المكان المكشوف فرصة المشاركة في العيد «وسط جو من النشوة». والفِناء — حتى وقد سُوِّر بعد ثلاثة قرون واكتنفته البوابة وقامت فيه أعمدة رمسيس الثاني، واتخذ هذا الشكل — ظل إلى نصفه يتقبل العابدين الذين يصوِّرون على صورة طيور ترفرف بجناحيها: وكانت السلطة الواثقة من نفسها إذ تصل إلى معبد الأقصر عبر النهر، لا عبر الطريق العظيم، تعْرِض نفسها على أية حال أمام نظرات شعبها الذي أقبل من الباب المقابل، ناحية المدينة. وعلاوة على هذا لم يكن تمثال الإله على صورة «آمون مين» Amon-Min (كاموتيف Kamoutef) يوضع في ناووس من الخشب المذهب، بل كان على العكس من ذلك ظاهرًا مرئيًّا تمامًا.٧٩ في اتجاه الذهاب نجد الملك «يصابح الإله في تحركاته» من استراحة إلى استراحة على أكتاف اثني عشر كاهنًا، و«يبخِّره» في كل محطة، إلى أن جاء عصر أمينوفيس الثالث. فقد قام أمينوفيس الثالث بالرحلة عبر النهر، مضيفًا مركبه هو إلى مراكب آمون الثلاثة المقدسة، ومركب موت (زوجته)، ومركب خونسو (ابنه، الإله الشافي). كان هذا الأسطول يستعيد برحلته المسار الظاهر لكوكب الشمس، مجتهدًا في صعود التيار دون نشرع شراع. وكان الوجهاء يشدون المراكب بالحبال ويعتبرون هذا العمل الشاق شرفًا.٨٠ «كان الحشد المبتهج يتدافع مغنيًا، وراقصًا على طول مسار يبلغ نحو ثلاثة كيلومترات»، سالكًا طريق النصر بين المعبدين أو على ضفتي النيل، محاولًا — إن أمكن — أن يلمس المركب المقدس مُلِحًّا في طلب نبوءة.٨١ وعند العودة من الأقصر نحو الكرنك يقوم قارب مسطح بحمل هذا المركب المقدس، وكأنما كان القارب المسطح صفحة عليها تمثال مستور لآمون، وكان القارب المسطح يُقطَر إلى السفينة المَلَكية تجره من مرسى إلى مرسى في اتجاه التيار.٨٢ وكان الموكب كله عندما ابتُدع يستمر أحد عشر يومًا، ثم زادت أيامه حتى بلغت الأربعة والعشرين في عصر رمسيس الثالث، وكان يقام عند كل تتويج أو يوبيلن ثم أصبح يقام في كل سنة قمرية.
وعلى الرغم من اختفاء الجسور العائمة وأربع مقصورات من تلك التي كانت منثورة بين مقصورة كاموتيف والاستراحة التي بنتها حتشبسوت، فقد أتاح الفحص الدقيق لهذه الاستراحة (التي اغتصبها رمسيس الثاني وأعاد بناءها) اكتشاف زخارف الملكة التي قام عمال رمسيس الفنيون بإخفائها. وأدى هذا الفحص الدقيق إلى الكشف عن أول قائمة معروفة «للتسعة أقواس» أي التسعة أقاليم في الدنيا التي كان الملوك المصريون يؤكدون أنهم يحكمونها. عندما سيطر عليها أشدُّ الفراعنةِ إمبرياليةً لم تعد به حاجة إلى وصفها في محرابه، ولكن تصويرها في زمن حتشبسوت كان بلا شك دعاءً سحريًّا من أجل تحقيق غزوٍ لم يكن قد اكتمل بعد.٨٣ في هذه الأثناء، في عصر أمينوفيس الثالث، اتخذ معبد الأقصر المظهر الضخم المهيب الذي ألفناه اليوم. وأقرب الظن أن البهو الذي يحمل اسم أمينوفيس كان بهو الاستقبال (مارو maru) الذي تتحدث عنه النصوص، والذي كان فرعون — رع الأقواس السبعة — يتلقى فيه بحسب كلامه ما تحققه له كل البلاد من دخل، وكان كل سفير يتنافس مع نظرائه في تقديم أغنى جزية «ذهبًا وفضةً وأحجارًا نصف كريمة وحيوانات وزهورًا وخمورًا» في نفس الموضع وفي نفس الوقت الذي كان يجري فيه تأليه مَلك مصر.٨٤ ولم تكن آيات الإجلال تُرفع إلى صاحب السلطة الإمبريالية، وإنما إلى الوكيل الرباني الذي كانوا يتنظرون منه في المقابل معاملة عادلة (أحيانًا في الحال متمثلة في استهلاك الأطعمة المعروضة). ألم يوصف فرعون في أقدم وألغز نصوص نعرفها، ألا وهي متون أهرامات الأسر الأولى، تحديدًا بأنه «سيد الجزيات والقائم بتوزيع القرابين؟»٨٥ كان للمسيرات والمواكب والحج والقرابين والولائم إذن وظائف قريبة بعضها من البعض الآخر في المجتمعات الأنتيكية: كانت وسائل لتأكيد سيادةٍ على أراض صعبة التحديد، حدودها متحركة، بما تقوم به من رحلة رمزية أقل تكلفة من الرحلة الفعلية؛ كذلك كانت أداة تبريرٍ شرعي للمطالبين، وإشهارًا لمساندة الأجانب، وإعلانًا عن الانتماء إلى عالم متحضر في مواجهة المنافسين والأعداء والبرابرة.

(٢-٢) مذابح ونهم

وعندما لا يكفي الموكب الهادئ لبيان العظمة الفائقة فلا مفر من التحول إلى وسائل أكثر وحشية، يؤكد بها من يستخدمها أنه يستطيع أن يكون أشد شراسةً من البرابرة، ناهيك عن المبالغة من أجل إحداث مزيدٍ من الرعب. ونحن نعرف في الشرق القديم من أمر المذابح الحربية أكثر مما نعرف عن مذابح الأضاحي. ومع ذلك فالحملات المنتصرة التي يحكي لنا الشعراء عن أحداثها الجسام فما هي دلائل على انتصارات جديرة بأن تظهر على لوحات التاريخ بقدر ما هي أدلة على هزائم دبلوماسية تدلنا أسطورة الإشادة بها على مدى ما كان لها من وقع أليم. كان المثل الأعلى السياسي للعصر يتمثل فعلًا في العمل الصبور على جمع دلائل ولاء حكام المدن وشيوخ القبائل. وكان الحكام المحنكون هم الذين يصرفون شركاءهم عن التخلي عنهم وأعداءهم عن التعدي عليهم. وكانت مناورات التخويف لا تختلف قط عن تلك التي اتبعها الخيباروس Jivarous:٨٦ الذين كانوا في عصر مضى مشهورين بشراستهم في القتال وبأساليبهم التي اشتهرت بالوحشية، وأصبحوا اليوم يضغطون بأصابعهم على زناد السلاح الناري أو على سهام يطلقونها بالنفخ في أنبوبة السربكانة، ولكنهم على الرغم من ذلك كانوا يمضون وقتًا أطول بكثير في أحاديث طويلة من أجل أن يكوِّنوا لأنفسهم عملاء ونسايب موثوقًا بهم تُمتحن صلابة تحالفاتهم في أثناء عمليات الأخذ بالثأر. في هذه المساحات الشاسعة الضنينة التي تمثلها صحاري الشرق أو الأدغال الاستوائية، يتخذ صرف الغريم عن قرار القتال أهمية أكبر من العمل على القضاء عليه. هكذا نجد الملك الرافديني والزعيم الخيباري يرسل كل منهما مبعوثيه في كل الأنحاء، ويكثر من استقبال أقاربه ويجهز نفسه دائمًا لتناحر لا يجري إنجازه إلى نهايته حيث إن فصوله الحاسمة تؤجَّل في أغلب الأحيان إلى مواعيد لاحقة. والملك الرافديني والزعيم الخيباري يستخدمان مع محدثيهما نفس البلاغة المعهودة في تهدئة الخاطر والتعزيم والتعويذ والاقتناع، يقولها الخيباري شفاهةً ويدونها الآشوري كتابةً. وتؤدي عنتريات الزعيم الخيباري والملك السامي نفس الوظائف. وطريقة كل منهما في التمثيل بالرءوس والجثث تتشابه في بشاعة اللغة الموجهة إلى اختزال هوية الغرماء من أجل احتوائهم، وتشويههم من أجل ضمهم إلى أتباعه.٨٧
وأعداء الآشوريين، وقد جرى إحصاؤهم عددًا، يطلق عليهم في النصوص الآشورية اسم «زيم باني» zîm pânî، أي «سمات الوجوه». ويرى جانماري دوران Jean-Marie Durand أن تلك «العبارة لا يمكن إلا أن تعني سلخ جلد الوجه عن الجمجمة.»٨٨ كان السومريون يكدسون الجثث (أو ربما العظام فقط؟) على هيئة تلال جنائزية.٨٩ أما المصريون فكانوا يعدون الأعداء القتلى بجمع الأيدي مقطوعة. وكان من الضروري القيام بهذا العمل لتقدير حجم النصر في وقت كان فيه جمع المادة العضوية هو الطريقة الوحيدة التي يثبت بها المنتصر حيال الشكاكين الذين أمَّروا أو الرعية المرتابة صحة كلامه. أما الأسرى فقد كانوا يعاملونهم بما يمكن أن نسميه «فظاعة محسوبة»: فظاعة أشوناسيربال Assurnasirpal المحسوبة الذي ثبَّت المهزومين بعد سلخهم أحياء بالمسامير على حيطان مدينتهم التي غزاها أو أعاد غزوها،٩٠ أو فظاعة سيناشيريب Sennacherib المحسوبة الذي قضى على وجهاء مدينة لاشيش Lachich بأن يموتوا ضحية التعذيب أمام أعين سفراء أورارتو Ourartou٩١ المرعوبة، أو فظاعة الفرعون أمينوفيس الثاني المحسوبة الذي حرق أسراه في قلب خندق جماعي حُفر بطول نهر العاصي Oronte. حتى في تلك الأزمنة البعيدة لا بد من أن ارتعادة تملكت شهود هذا المنظر، ثم تملكت من بعد قراء أو مستمعي قصته وقد أفزعتهم الفظاعة المفرطة. فما كانت هذه الفظاعة المفرطة شيئًا عاديًّا، وربما كانت مزايدة العنف إشارة إلى ثغرة، إلى ضعف همجية البدايات الأولى التي كانت تدعو بالضرورة إلى إفزاع النفوس لإعطاء انطباع بأن مرتكب هذه الفظاعات لا يزال قادرًا على القتال القذر. ومن الممكن أن ارتكاب هذه الفظاعات كان يتوالى إبان العام الأول لجلوس ملك غرير على العرش يسرف في العنترية على الرغم من أنه لم يزل مستهدفًا. يدعم هذه الفرضية قيام ميرنبتاح بقتل الليبيين الذين أسرهم قرب ممفيس وبتكديس جثثهم تلالًا فلم يكن قد مضى على اعتلائه العرش إلا خمس سنوات.
وهنا نقيس الفرق بين هذه الأساليب والأساليب التي اتبعها شعب من أصل قبلي أقام في مكان وزمان مختلفين، هو الشعب الأزتيكي، من أجل احتواء جيرانه، أو إخضاعهم. كان كل الأرستقراطيين المكسيكيين يأكلون لحم البشر، يأخذونه من أجسام الأسرى الذين أهلكتهم الجراح الشعائرية، حيث تتم التضحية بهم بانتزاع قلوبهم، ثم تقطع رءوسهم في الحال لكي تعرض جماجمهم على بوابات ظاهرة للعيان ظهور درج الأهرامات المخضب بالدماء، تلك الأهرامات التي كان الكهنة يباشرون مهامهم من فوق قممها بكل ما أوتوا من قوة (والتي كانت أكثر استعراضية من طرقات القصور الآشورية التي كانت حيطانها تعرض وحدها فيلم فظاعة الدولة البازلتي الصامت). لم يكونوا هم أيضًا يتورعون عن دعوة الزعماء من وسط أمريكا الذين يقيمون معهم علاقات دبلوماسية إلى ممارساتهم الشعائرية المرعبة. وكانوا خلافًا للمعهود في الشرق القديم لا يعتبرون هذه الممارسات مسرفة في خرقها للمألوف أو مسرفة في إغراقها في اتباع القديم السحيق، بل كانوا على العكس من ذلك يعتبرونها أعمالًا متواترة ضرورية لإنتاج الطاقة الكونية ولتغذية شعب كان أكلة لحم البشر فيه يتضاعفون كانوا يعتبرونه أمرًا منطقيًّا، بل شديد المنطقية.٩٢
وتحضُّرُ الإنسان يتطلب أكثر من مجرد ألا يأكل النيئ، الذي لم يطبخ، أو ما لا يتبع شعائر مناسبة. إنه يتطلب علاوة على ذلك «أن يأكل الإنسان من النباتات المألوفة التي يزرعها، والحيوانات الداجنة المذبوحة التي يضحي بها … يتطلب نظامًا غذائيًّا يضع الجنس البشري في منتصف الطريق بين الحيوانات والآلهة ويرسخه بذلك في هذا الوضع الوسيط الذي يحدد شروط وجوده الخاصة.»٩٣ كذلك يتفق معه ألا يرتكن الإنسان على الحرص على أن يكون النصيب الذي يستهلكه كل واحد من صيد البر متناسبًا مع أهمية الموقع الذي يشغله في تسلسل النَّسَب القبلي، وهو ما كان يلزم الإنسان بأن يتناول خارج داره في جماعة من الشخصيات العامة لا تقوم بينهم قرابة وجبة يفرضها واجب المواطنة يتناول كل واحد منها نصيبه بالعدل والقسطاس بناءً على توزيع تحكمه الطقوس. وفي هذا السياق نجد أن الحصر المسبق للمنتفعين يهدف إلى نقلهم من طائفة اللامواطنين إلى طائفة أعضاء ينتمون إلى مدينة، جديرين بأن ينالوا مؤنتهم. وفي ماري كان الحصر يسمى «تيبيبتوم» têbibtum أي تطهير وتسجيل في وقت معًا، حسب مصطلحات تكشف الصورة التي اتخذها البدو الرحل في نظر المستقرين.٩٤ وكان الذين يحصلون على شريط عندما ينخرطون في سلك الجيش يجتازون بعد ذلك نوعًا رفيعًا ساميًا من التطهير والتوزيع: فقد كان من حقهم أن يحصلوا على دهان وأن يقدموا الثياب أو الهدايا في حضرة ملك ماري نفسه في أثناء نابتام شاريم naptam sharrim. وكان هذا هو الاسم الذي يطلق على وليمة عشاء تجلس لها معية الملك إلى مائدته أو على مقربة منها، حسب مراسم دقيقة تسمح للمقربين من حرسه ومستشاريه وكذلك للشخصيات البارزة بالجلوس إلى جانبه، بينما كان الآخرون يأكلون راكعين ساجدين. وكانت هذه الطقوس الخاصة بالمائدة تتبع في كل مكان يكون فيه الجيش تحت قيادة رئيسه. ولم يكن هناك من تغيير إلا في أسماء ضيوف الشرف بحسب المكان (كان السكان المستقرون أو الأجانب الحاضرون باعتبار الجوار ينضمون إلى النواة المكونة من العسكريين وضباط القصر) لتكوين هذا «السابوم» sabum.٩٥
كان التنافس على الحصول على الرواتب العامة والتباري في تقديم القرابين وتوزيع الهدايا يلوحان كأنهما بديلان لفجور العنف، لأنهما يتحاشيان خزي دفع جزية هما بديلان عنها.٩٦ كذلك الأمر بالنسبة إلى صيد الحيوانات المفترسة؛ فالصيد الناجح يعادل الحرب المظفرة التي تستهدف بشرًا يعتبرهم القائم بالحرب أقل تحضرًا منه. ونرى في مصر مثلما نرى في بلاد الرافدين أن النقش والنحت يعظمان الفضائل المدنية في الصراع من أجل إخضاع البرابرة: وهناك خاتم من أختام أمينوفيس الثالث يشهد على ذلك، فعلى وجهه نراه يصيد الأسد وعلى الوجه الآخر نراه يقاتل أعداءه.٩٧ والنص المدون على الجعران التذكاري لأمينوفيس الثالث٩٨ يصيد الثيران الوحشية يشدد كتابةً على القرابة بين الصيد والحرب: «في عربته، مع الجيش كله من ورائه … أمر صاحب الجلالة … بأن تحاط هذه الثيران الوحشية بسياج وخندق، وهبَّ صاحب الجلالة فحمل على هذه الثيران الوحشية …»، وقتل منها في ستة أيام ٩٦ ثورًا. وعلى الرغم من أن قيام أمينوفيس الثالث بالإحاطة بالثيران يطابق قيام أمينوفيس الثاني بالإحاطة بالسوريين (ضرب سياج، وحفر خندق، ثم طقوس الإجهاز التي تولاها فرعون أو أشرف عليها)، وعرف الملك كيف «يفرق بوضوح بين ممارساته صيد الأسد … وبين الاهتمامات العسكرية التي يبدو أنها قليلًا ما شغلته، على عكس الصيد.»٩٩ وليس من شك في أنه ربط بين الاثنين في مناورة تهدف إلى تخويف القوى العدائية، على نحو ما توحي به آثار صيد محروس، حافل بالأسود، على الحدود النوبية.١٠٠ ومن الممكن أن نفسر هذا العمل على أنه عرض لتزاوج ضديني دائم بين سلسلتين من القيم: من ناحية؛ القيم البدوية التي تحفزها قوة المعارك الوحشية وحق الحياة والموت الموروث عن شيوخ القبائل الآسيويين١٠١ أو زعماء الصيد الأفارقة؛١٠٢ ومن الناحية الأخرى: القيم المدنية التي يرفعها التسامح والمقدرة على المعاملة والعفو والحصانة وضبط النفس وإبدال القوة بالتنفير (أو التأثير السحري).
وها نحن نواجه شكلًا جديدًا من التعارض المركب في المواطنة بين «الشباب» و«الشيب»؛ فالبدوي والبالغ الذي لم يسمح له بحضور الوليمة العامة لم يصبحا بعد من المواطنين الكاملين. فالمواطن هو الذي يتناول غداءه أو يتناول عشاءه في المدينة.١٠٣ وهو لا يؤسس نظامًا ينقض على نحو مقابل للعالَم القَبَلي، بل يكتفي بأن ينظم صحراء البرابرة بقدر ما تسمح له قدراته.١٠٤
١  كاتب إيطالي (١٩٠٦–١٩٧٢م) والرواية اسمها بالإيطالية Il Deserto dei Tartari. (المترجم)
٢  كاتب فرنسي من مواليد عام ١٩١٠م، والرواية اسمها بالفرنسية Le Rivage des Scytles. (المترجم)
٣  «وظللت أراقب الصحراء»؛ «مراقبة الصحراء صارمة»، هذا هو ما كان الولاة الآشوريون في الألفية الأولى ق.م. يكتبونه إلى ملكهم (Parpola, SAA, I, p. 178, 181)، وكان سكان قرية العمال في تل العمارنة يؤدون عملين من أعمال الحضارة: كانوا يبنون الصروح والمقابر، وكانوا يحرسونها فيقومون بدوريات في الصحراء (Kemp, 1987, p. 43).
٤  انظر Maspero, Contes, p. 981؛ وهناك ترجمة بقلم كلير لالويت Claire Lalouette، وهي بلا شك أكثر حَرفية، ولكنها لهذا أقل رومانتيكية: «عندئذٍ محوا من جسمي أثر السنين؛ وأزالوا الشعر الزائد، ومشطوا شعري، ونبذوا الوسخ الذي ران عليَّ إلى الصحراء … وألبسوني ثيابًا من أرق تيل ملكي. وتركت الرمل لمن يعيشون فيه، وزيت الشجر لمن يتدهنون به» (Lalouette, 1987, p. 237-238).
٥  الكمأة (بالفرنسية truffes) فطريات درنية تتكون قرب سطح التربة، وتتكاثر تحت الأرض، ومن يعرفونها يحفرون في أماكنها ويستخرجونها ويأكلونها. (المترجم)
٦  انظر Bottéro, Kramer, 1989, p. 434 (Martu) وانظر كذلك ص٥١٢ في نفس الكتاب.
٧  انظر Fairservis Jr., 1991, p. 10 , 12, 18, 19.
٨  = عهد. (المترجم)
٩  انظر Garelli, 1963, p. 337 ويذكر جاريلِّي أن «عبارة» بيلي أتَّا bêli-atta «التي تعني حرفيًّا «أنت سيدي»، لا تعني عادةً إلا «عفوًا» … «لا مؤاخذة».
١٠  ما بين الأقواس المعقوفة إضافة من المترجم.
١١  العبارة نصها Sunu salmu ina sa-la-mi banî u sunu ahhu انظر: CAD مادة salâmu.
١٢  انظر CAD مادة adû (المعنى A الاستخدامين c وb).
١٣  انظر جاريلِّي Garelli, (1980, p. 39) الذي يرى في كلمة urdâni مكافئًا لكلمة “sujets” «رعية».
١٤  انظر في CAD بعض الأمثلة على استخدامات كلمة بيريت birît وتعني «بين»: «هناك الآن اتفاق بين + هم»؛ «سنقيم علاقات صداقة بين + ﻪ وبيني»؛ «هذه نسخة من اتفاق … بين مصر وحَتَّي». وحرف الجر بيريت bir يعني «بين اثنين» أو «بين أكثر من اثنين»، مثل الأنداد الذين يأتي العاهل منهم، أو بمعنى «ما يكون مشتركًا بين الجميع» من قبيل الجدار المشترك.
١٥  انظر النص رقم ٣٩ والسطور ١٤–١٩ في كتاب Cole, 1996.
١٦  انظر CAD مادة salâmu المعنى الوارد تحت b1 وهو ilu zenû li-is-lim «عسى ربي الغاضب أن يغفر ويرضى».
١٧  انظر Brinkman, 1984, p. 15.
١٨  انظر Cole, 1990, p. 114 رئيس Ra’is يعني تحديدًا «رئيسًا كلديًّا».
١٩  انظر Brinkman, 1984, p. 46.
٢٠  اقرأ: نبوخوذونوصور (المترجم)
٢١  انظر Brinkman, 1967, p. 2, 3, 7.
٢٢  كان الباسيليئي basilei (جمع باسيليوس basileus) في الإغريقية «أرباب بيوت أو زمامات» أو أوئكوئي oikoi (جمع أوئكوس oikos) وهي فئة أرستقراطورية حربية تتجمع حول مسكن وضريح رئيس لهم (انظر de Polignac, 1995, p. 23-24, 105). ويرى دي بولينياك أن «فئة الأوئكوس الشريفة تتكون من أسرة الباسيليوس ذاتها، ورفاقه وعملائه وخدمه … وقطعانه وخزينته، وما اكتنزه من البرونزيات الثمينة المشغولة التي تسمح له عن طريق تبادل الهبات بالحفاظ على علاقات الضيافة وشبكة الأقارب والأهل والتحالفات التي تدعم السلطة والعزة كما تدعم الشجاعة الشخصية والثروة المتمثلة في الأنعام». والمؤلف يصوغ في موضع آخر من الكتاب فرضية «مجالس الباسيليئي» «التي ربما كانت أول ديموس» demos«بما فيه من كافة المحاربين الذين يقودهم» (ص٩٥). أيًّا كان الأمر فإن الباسيليئي الإغريقيين لا يبدو عليهم أنهم رؤساء عشائر (génè).
٢٣  انظر Brinkman, 1968, p. 7–9, 140 تسرب الآراميين إلى شواطئ دجلة حول القرن الثامن ق.م.؛ وقد جاء ذكرهم في نص يرجع تاريخه إلى عصر توكولتي — نينورتا الثاني Tukulti-Ninurta II (انظر في الكتاب نفسه ص١٧٤ وما بعدها).
٢٤  انظر Kupper, 1957, p. 17. و«المختار» mokhtar العربي هو أقرب ما يكون إلى رئيس الحي الذي تعينه السلطة المركزية ولكنه يفترض فيه أن يكون ممثلًا — مختارًا — élu من قبل الأهالي، كما تبين تسميته.
٢٥  انظر المرجع السابق، ص٢٥٠.
٢٦  انظر المرجع السابق، ص٢٠. في القرن السابع الميلادي أدخلت القبائل العربية بلاد الرافدين في دعوة الإسلام العالمية، وظلت مع ذلك محتفظة بنظامها القبلي. ثم إنها كانت تقيم منفصلة بعضها عن البعض الآخر في النويات الحضرية لعراق المستقبل (وبخاصة الكوفة)
٢٧  انظر Pfeiffer, 1935–1967، والرسالة رقم ٣٧ تذكر جزية «إيلكو» ilku مفروضة على رعاة تترك لهم الجلود ليدبغوها ويحولوها إلى أحزمة جلدية.
٢٨  انظر بيرنكمان Brinkman, 1984, p. 13.
٢٩  انظر Brinkman, 1986. وبخاصة الصفحات ٢٠٠–٢٠٤: «كانت هذه القبائل متنوعة تبدأ من تجمعات كلها بدوية توصف عادةً بأنها Sûti sâbî sêri «أقوام سوتيون من السهل»، وقد وصفوا في نص آخر بأنهم يعيشون تحت الخيمة asîbute kultârî، وتصل هذه القبائل في تنوعها إلى أن تكون وحدات شبه مستقرة»؛ «من الناحية العيلامية من الحدود كانت غالبية المدن الحصينة حتى في المناطق الآرامية توصف صراحةً بأنها مدن ملكية âl shârrûtî، وهو ما يبدو أنه يدل على علاقة خاصة بالتاج العيلامي».
٣٠  وتكتب كذلك بالميرا وبلميرا. (المترجم)
٣١  انظر Kupper, 1957, p. 54–59.
٣٢  انظر Cole, 1990, p. 16, 40, 49.
٣٣  انظر Eph’al, 1982, p. 6, 76, 96, 113. أصل الإطلاقة على نحو أكثر دقة يرجع إلى «تركيب يجمع الفعلين asû وerêbu ويستخدم في المراسلات الآشورية لوصف تحركات البدو العرب إلى مراعيهم الصيفية أو انطلاقًا منها، أو قرب لبنان».
٣٤  نفس المرجع السابق، ص٨٢–٩١.
٣٥  ويكتب الاسم كذلك أسرحدون وإسارحادون، وربما كتب البعض هاءً بدلًا من الحاء. (المترجم)
٣٦  نفس المرجع السابق، ص١١٨–١٢٤. والحق أن إيسارحادون انتهز الفرصة وزاد الجزية المفروضة على الرئيس العربي هازايل حليف تيلهونو بمقدار ٦٥ جملًا، كما زاد آشوربانيبال الجزية المفروضة على ياوتا بمقدار ٥٠ جملًا.
٣٧  نفس المرجع السابق، ص١٣١–١٣٢: وهذه منطقة عربية أخرى هي «بلاد بازو» Bâzu (وكان الرمل يسمى باسو Bâsu).
٣٨  نفس المرجع السابق، ص١٦٤، ولا يصح أن نظن أن هؤلاء النيبايوث Nebaioth نبطيون Nabatéens، بل هم أعضاء قبيلة من أرض الحجاز الحالية.
٣٩  نفس المرجع السابق، ص٩٣ (يطلق عليه لقب ناسيكو شا لابا آن nasîku sha La-ba-an) وفي الملحوظة رقم ٣٠٠ (عن الاستخدام السامي الغربي للفظة، تطبيقًا على الآراميين وكذلك على العرب، كما في تركيب ناسيكو أربا آ آ nasîku Ar-ab-a-a).
٤٠  نفس المرجع السابق، ص٩٤.
٤١  نفس المرجع السابق، ص٩٨-٩٩.
٤٢  انظر Cole, 1990, p. 121. في خطاب محفوظ في أرشيف محافظ نيبور تحديد دقيق لمساندي ملك بابل: قبيلة هيندارو Hindaru تم ضمها كلها، من الممكن كذلك الاعتماد على قبيلة الوساهانو Wasahanu أما النورو Nuru فما زالوا مرتابين، يليهم: الحالابي Halapi، وربما النقاري Naqari والتاني Tane، ولا يزال الحاكم يبحث الأمر. («عندما أعرف سأكتب لمولاي»).
٤٣  انظر Eph’al, 1984, p. 110, 133 وانظر: Brinkman, 1984, p. 29 كانت اﻟ «تعطو» ta’tu التي يقدمها الكلدانيون إلى العيلاميين تعتبر بمثابة هدايا أو عطايا لا إتاوات.
٤٤  انظر Cole, 1990, p. 121: «اليوم يقوم باعة صغار في أوروك بتصريف الغنيمة التي سرقوها منك»، هذا ما كتبه إلى ملك بابل محافظ نيبور في شأن أبناء قبيلة بيت ياكين Bît-Yakin الآرامية.
٤٥  نفس المرجع السابق، ص١٢٢.
٤٦  ينطق الاسم: نبوخوذونوصور. (المترجم)
٤٧  ولم تمنعهم هذه المناورات من أن يقوموا في كل وقت بضرب «بلاد أكاد»، على الرغم من الاعتراف بوسطاء تجار أو مفاوضين سياسيين مثل تيمودا Temuda الذي تلقى مكافأة عبارة عن مبلغ كبير جدًّا من الفضة على خدماته التي أداها للبيت الحاكم في بابل (Eph’al, 1984, p. 171–190).
٤٨  يكتب كذلك سنفرو). (المترجم)
٤٩  انظر Valbelle, 1990, p. 42.
٥٠  انظر Tanis, 1987, p. 154-155 القطعة رقم ٣٦ في الكاتالوج، لوحة بادياسيت Padiaset: «على الرغم من أن هذا الشخص يحمل اسمًا مصريًّا … فإنه ليبي ينتمي عرقيًّا إلى عشيرة المشويش Mechouech ويصفونه على أنه واحد من رؤساء المشويش، فيلقبونه باللقب الذي كان في النصف الثاني من العصر الشيشونقي يُمنح لأمراء من أمثاله يجري في عروقهم الدم الأميري ممن يترأسون مناطق في الدلتا حيث تهيمن هذه الجماعة العرقية»، وهو قد ورث إقطاع ممفيس الذي حصل عليه جده من الجد الأكبر أوسوركون الثاني Osorkon II، ثم انتقل إليه عن طريق أبيه تاكيلوت Takelot. ونجده على لوحة التقرب إلى العجل أبيس (يرجع تاريخها إلى عام ٧٧٢ تقريبًا) وقد صوروه لابسًا باروكة تعلوها ريشة نعام راقدة فوقها.
٥١  انظر يويوت Yoyotte في المرجع السابق ص٧٢.
٥٢  انظر صفحة ١٠٦ في Tanis, 1987: «رئيس «ما» Ma الكبير، رئيس رؤساء نيملوت Nimlot».
٥٣  انظر Valbelle, 1990, p. 205-206.
٥٤  انظر Tanis, 1987, p. 152-153 القطعة رقم ٣٥ في الكاتالوج، لوحة حجرية ترجع إلى عام ٧٣١ تقريبًا، وعليها نص يذكر «على التوالي خمسة رؤساء كبار من المشويش Mechouech هم: ماوسن Mawsen ونيبنيشي Nebneshi وبايحوتي Paihouty وشيسونق Chechonq ثم نيملوت Nimlot وأسماؤهم غريبة وسوقية وجدهم القديم الليبي بويوواوا Bouyouwawa».
٥٥  في عام ٦٣٣ق.م. وهو العام ٣١ من حكم بساميتيك الساييسي، نجد كاهنًا من هراقليوبوليس، اسمه حورويجا يستعين برئيس كتيبة ميشويش اسمه «رئيس «ما»». انظر Ritner, 1999.
٥٦  انظر المرجع السابق. كان هدف الساييتيين هو تقليص النفوذ السياسي ﻟ «رؤساء «ما»»، وهذا ما حدث بالفعل حيث فقدوا شيئًا فشيئًا ما فقدوا من أهمية ولكنهم ظلوا مقبولين واستمروا يقومون بخدمة فرعون فكانوا مرتزقة في حكم البطالة.
٥٧  طائر له منقار وردي غليظ، اسمه بالفرنسية toucan. (المترجم)
٥٨  انظر Emery, 1961, p. 43, 45, 117.
٥٩  هو كليئسثينيس Kleisthenes وينطقونه بالفرنسية كليستين ويكتبونها Clisthène، رجل دولة وسياسي أثيني من النصف الثاني للقرن السادس قبل الميلاد، يعتبرونه مؤسس الديمقراطية في أثينا، فقد خلع الطاغية هيبياس في عام ٥١٠ق.م. وسعى إلى تطبيق قوانين سولون، فثار عليه الحزب الأرستقراطي ومن والاه، وتمكن من عزله، إلا أن ثورة شعبية ردته إلى السلطة، فنفذ إصلاحاته الديمقراطية، وشملت هذه الإصلاحات تصحيح أوضاع الأجانب والعتقاء والقبائل، وأصبح مجلس المواطنين صاحب السلطة العليا، إلخ. (المترجم)
٦٠  انظر هوفمان Hoffman, 1980. p. 30-31.
٦١  انظر Ann M. Roth, 1985, p. 168–176 et 264–284.
٦٢  انظر Franke, 1983, p. 181–203.
٦٣  انظر De Polignac, 1995.
٦٤  شعب خرافي ذكره هوميروس. (المترجم)
٦٥  ديميتر Dêmêter وأرتيميس Artémis الربتان الخاصتان بالوساطة بين الطبيعة والثقافة، بين الطفولة والبلوغ لهما صفات نجدها مختلطة لدى الربة السومرية إنانَّا Innann والأكادية عشتار Ishtar (ومنها أتت الربة الفينيقية Ashtart أستارتي Astarté).
٦٦  كريسوس هو آخر ملوك ليديا، وكان مشهورًا بالثراء، ويُعَرَّب الاسم إلى قارون، وليس البحث عن شخصية قارون الحقيقية شأننا هنا. (المترجم)
٦٧  انظر De Polignac, 1995, p. 92-93.
٦٨  انظر Bottéro, Kramer, 1989, p. 128–142 (زيارة نانَّا — سوئين لمدينة نيبور) وينطبق الكلام كذلك على العصر الآشوري. على سبيل المثال توكولتي — نينورتا الثاني Tukulti-Ninurta II شارك شخصيًّا في الشعيرة المهمة للملكية البابلية ورافق صنم الإله ماردوك في أثناء موكب العام الجديد بمدينة بابل» عندما أعيد بناؤها على يد إيسارحادون بعد أن كان أبوه سيناشيريب قد خربها؛ وطالب إيسارحادون بنصيبه في الأعمال (انظر Brinkman, 1984, p. 43, 67).
٦٩  انظر De Polignac, 1995, p. 120: «الربط العام لهذه الأماكن الشعائرية الصغيرة بينابيع مائية يبين أن السيادة على الماء هي المكمل للسيادة على الأرض من أجل تكوين المكان الذي ستمارس فيها معايير الحضارة الثقافية والإغريقية».
٧٠  نفس المرجع السابق، ص١٢٥: «العالم الخارجي الذي يحظى أيضًا هكذا بالاحترام هو في كل الحالات المكان الذي لا يخضع للوائح الحضارة الزراعية، هو مكان لا تقوم فيه علامات للاستدلال، أي قد يكون هو البحر». وسواء كانت المنطقة التي نعنيها هي خليج تارنتو (جنوب إيطاليا Taranto) أو خليج البصرة (ونحن نشير إليهما بأسمائهما الحالية)، فإن النهر هنا يتصورونه على أنه انبثاق متجدد لينابيع الأصول، لا على أنه مجرى من فرع البحر (انظر ص١٢١، مثل نافورة أريثوسا Arethousa ونهر ألفيوس Alpheios).
٧١  انظر المرجع السابق، ص١٣٠.
٧٢  انظر Valbelle, 1990, p. 153. قبل أن يصبحا فرعونين كان أول الرعامسة وسيتي الأول على الأرجح «قائدي المكان الحصين في تشارو».
٧٣  كانت قبابُه مصممة لتقاوم ضغوطًا أكثر بكثير من تلك التي يحدثها عدد قليل من الحراس (انظر Baer, 1990, p. 96, 98).
٧٤  انظر ماكجير جيبسون McGuire Gibson, 1990, p. 103–119. كان ماكجير جيبسون يترأس فريق جامعة شيكاغو في الموقع.
٧٥  انظر المرجع السابق، ص١١٣. ولحوم الحمر الوحشية والخنازير وهي أكثر ندرة تشير إلى أن التموين كان له مصدر خارجي، أضف إلى ذلك أن رعاية الحيوان كانت في هذه الحالة من شأن الرجال لا النساء وأن التقسيم كان يتخذ شكل عدد قليل من الأنصبة المتطابقة. ولا يقابل هذا النظام الغذائي «الغالي»، قياسًا على المقاييس المحلية، تأثيث داخلي فاخر يمكن أن يوحي بحضور شاعلين من مستوى اجتماعي أرفع من مستويات الدورة المجاورة. ويدفع هذا مؤلف الكتاب — ماكجير جيبسون — إلى القول بأنه ليس من المتصور أن يغامر أي رئيس قبلي بالاستهلاك الباذخ الاستعراضي بين ظهراني قبيلته.
٧٦  انظر McGuire Gibson, 1981, p. 25, 157.
٧٧  انظر Sigrist, 1986, p. 61: «كان في سراي القوافل سكن لسعاة البريد … وكان فيه جنود يقومون على حراسة سكن «السوكَّال» sukkal المدير، ومسئولون عن التخزين، وحمَّارة، ومسئولون عن الكلاب وبعض النسوة الأموريات».
٧٨  انظر Bell, Luxor Temple, 1985, p. 258-259.
٧٩  انظر نفس المرجع السابق، ص٢٧٥؛ وانظر كذلك: Bell, Les parcours processionnels, 1986.
٨٠  انظر Murnane, 1986, p. 23.
٨١  انظر Gabolde, 1986, p. 27؛ وانظر Bell, Luxor Temple, 1985, p. 273، والمؤلف Bell يتصور الاستقبال الحار الذي يقوم به الحشد وهو ينتظر على مخرج المعبد طلَّة الملك الأولى، وقد أصبح الملك مرة أخرى إلهًا؛ ويذكر المؤلف في ص٢٧٠-٢٧١ مهام الوساطة التي تقع على المراكب، والتماثيل الضخام، والمقصورات التي تجعل لها النقوش «دور الأماكن التي ترفع فيها التوسلات وتسمع الالتماسات».
٨٢  انظر Gabolde, 1986, p. 28.
٨٣  انظر Bell, La reine Hatchepsut, 1986, p. 26 هذه الإشارة إلى شوسو Shosu وهي واحدة من أقدم إشارتين مرجعيتين معروفتين إلى هذا الشعب المشرقي «يبدو أنها تعزز الافتراض الذي سبق تقديمه عن وجود حملة عسكرية قامت بها حتشبسوت نحو سوريا/فلسطين».
٨٤  انظر Bell, Luxor Tempe, 1985, p. 275.
٨٥  انظر Lalouette, 1984, p. 151.
٨٦  هنود حمر من أمريكا الجنوبية من السفح الشرقي لجبال الإنديز الاستوائية كانوا يقطعون رقاب أعدائهم ويجففون جلدها ويتحلون به علامةً على الشراسة في القتال. (المترجم)
٨٧  انظر Philippe Descola, Les Iances du crépuscule, Paris, Plon, 1994.
٨٨  انظر Durand, Vainqueurs et vaincus, 1991, p. 6.
٨٩  انظر Cooper, 1983, p. 55 وهذا هو ملك أوما Umma في فراره أمام جيش لاجاش يخلف على أرض المعركة «ستة أعراش حمير» وعظام حمَّاريها الذين كان عددهم الضخم يكفي لإقامة خمسة تلال جنائزية لدفنهم. وفي معركة مواجهة سابقة بين قوات المدينتين كان من الضروري إقامة عشرين تلًّا جنائزيًّا (ص٣٥).
٩٠  انظر Olmstead, 1918.
٩١  انظر صفحة ٣٣٤ من كتاب Reade, 1979 وفيها يفسر نقشًا محفوظًا في المتحف البريطاني (BM 124 802).
٩٢  انظر Christian Duverger, La Fleur létale, Paris, Seuil, 1979, p. 256.
٩٣  انظر Vernant, 1979, p. 63.
٩٤  انظر Kupper, 1957, p. 6, 27: «كانت التيبيبتوم têbibtum عبارة عن احتفال ديني يهدف إلى تطهير الحاضرين قبل تسجيلهم في سجلات الجيش».
٩٥  انظر Lafont, 1985, p. 161-162, 166–168: ونجد — عرَضًا — التمييز «البرلماني» السومري أو الأكادي بين «الجالس» wâshib kussîm والراكع للسجود muppalsikhum.
٩٦  يشهد على ذلك تعدد القرابين من أدوات الطهي وتناول الطعام والشراب (قُدور، ثم بطايات الخمر عند قدماء الإغريق) في القبور، وكانت القرابين من قبل عبارة عن دروع أو سيوف (انظر Schmitt Pantel, 1992, p. 42–45, 57–59). ويرى فرنان Vernant (1979, p. 48) أن الخديعة التي دبرها التيتان بروميتيوس ليخدع الإله الأوليمبي زيوس حيث أخفى بعد تقديم القربان قطع اللحم بغلاف قليل الجاذبية ووضع العظم في غشاء من الدسم الشهي المغري (مما يتيح للبشر أن ينعموا باللحم بعد أن يتعجل ملك الآلهة فيختار الأسوأ وهو العظم المغلف بغلاف خدَّاع) تعتبر بديلًا للحرب بين التيتان وبين آلهة الأوليمب … ثم يفسر بعد ذلك (ص٥٠ وما بعدها) نص هيسيودوس مبينًا أن التنافس يحل محل المواجهة الصريحة، وكان الناس في زمانه يتنافسون في بذل الجهود بينما كان زيوس وبروميتيوس من قبل يتنافسان في الذكاء.
٩٧  انظر Bonhême, Forgeau, 1988, p. 213.
٩٨  انظر Aménophis III, 1993, p. 55.
٩٩  انظر Valbelle, 1990, p. 178.
١٠٠  انظر Bonhême, Forgeau, 1988, p. 216-217 ويرى المؤلفان أن «الملك يتصرف في سياق شعائري له تأثير سحري بهدف استنفار قوى الضراوة التي تمثل هذه الحيوانات دعامتها». انظر في الكتاب نفسه أيضًا ص٢٢٣ حيث يفسر المؤلفان منظر حرق الأعداء في الكرنك على أنه بديل للحرق الحقيقي.
١٠١  انظر Gibson, 1985–1987, p. 10-11: عندما يصبح رئيس قبيلة قادرًا على أن يطبق عقوبة القتل على أفراد من خط أنساب آخر دون أن يفجر ثأرًا فإنه لم يعد «رجلًا كبيرًا» بل أصبح ملكًا (أو على الأقل سيدًا).
١٠٢  انظر Bonhême, Forgeau, 1988, p. 200: يرى المؤلفان هنا أثرًا من «المرحلة الأفريقية السحيقة للحضارة المصرية».
١٠٣  انظر في شأن هذه السمات دراسة بقلمي أسهمت بها في عدد من مجلة Revue française de science politique خصصته لموضوع «المطبخ ومراسم المائدة والسياسة» (ص٣٤٩–٣٧٥، يونيو — أغسطس ١٩٩٨م بعنوان Déjeuner en paix. Banquets et citoyenneté en Méditerranée Orientale أي: تناول الغداء بسلام. الولائم والمواطنة شرقي البحر المتوسط).
١٠٤  انظر Brinkman, 1984 وهذه هي الكلمات التي استخدمها المؤلف ص١٢ في وصف الوضع الأخير جدًّا من كل الفترة التي ندرسها هنا: «التشعب الثنائي بين مختلف شعوب بابل لم يكن يرتكن إلى المكان أو إلى نمط الإقامة (الحضري ضد الريفي، المستقر ضد غير المستقر) بل إلى النظام السياسي الاجتماعي (القبلي ضد اللاقبلي)».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤