تحول السعي إلى الحصول على الولاء إلى فرض للهيمنة
عندما اختُرِعَ مفهوم الحدود التي تُعَلِّم بعلامات حدودية
مادية التفرقة بين البرابرة والمتحضرين. حينئذٍ حدثت ضروب
متزامنة من التبديلات: فحلت الضريبة محل الجزية، وكانت
الجزية قد حلت من قَبل محل النهب؛ وتحاشى التجنيد اللجوء
إلى الحرب، وكانت الحرب قد حلت محل الغزوات أو المنازلات
الفردية؛ وانضمت المعاهدة إلى الاتفاقات الخاصة وإلى حلف
أيمان الولاء، وترابطت مع تعميم لفكرة التحالف بين شعبٍ
وإلهِهِ. حدث هذا كله محققًا ألوانًا محدودة من النجاح،
وألوانًا متعددة من الرجوع إلى الوراء، واستخدامًا متزايدًا
لتفسيرات إلهية لما يطرأ على الهيمنة من ضروب التقدم
والتقهقر. وأصبح البحث النشيط يستهدف منذ ذلك الحين آيات
الرضا عن الهمة التي تنفذ بها رسالة مقدسة، وخاف الناس من
العقوبات السماوية التي تتنزل عند التهاون في تنفيذ الرسالة
المقدسة.
(٢) احترام المواثيق
يعدد حاتوسيلي حججه في خطاب حسن الترتيب موجه من رئيس
دولة قديمة إلى مؤسس سلالة حاكمة كاسية
Kassite١٤ ما زال مطبوعًا بالأعراف القبلية. فالتذكير
الدقيق ببنود الاتفاقات الدولية القائمة يكتسب قيمة
المثل، حتى إذا كان نص المعاهدة السابقة التي يشير إليه
صاحب الخطاب غير معروف لدينا.
فهو يسجل بادئ ذي بدءٍ أن التحالف «يعني أن علينا أن
نقيم علاقات عداء كل منا مع أعداء الآخر وأن نقيم علاقات
صداقة كل منا مع أصدقاء الآخر.»
١٥ وهذه العبارة الموجزة ليست جديدة لأننا نجدها
في أيمان الولاء التقليدية (مثل يمين الولاء الذي حُلف
لآشوربانيبال
Assurbanipal: «عدو
سيدنا لن يكون حليفنا»). والمعاهدات الدولية تختلف عن
الاتفاقات القبائلية (بين القبائل) في نقطة رئيسية: فهي
على الرغم من ألفاظ القرابة المجازية المستخدمة فيها لا
تلزم الموقعين عليها وحدهم، بمعنى أن هذا يقسم على الولاء
لذاك، بل تلزم الدول التي يمثلها في المعاهدة ممثلون
متساوون؛ فالخَلَفُ يلتزمون باحترام الاتفاقات القائمة.
١٦
«عندما نكون، أباك وأنا، قد أقمنا علاقات دبلوماسية
بيننا وأصبحنا كالإخوة المتحابين، فما أصبحنا أخوين ليوم
واحد: أمَا أقمنا علاقات أخوية دائمة على أساس وضع قوامه
الندِّية؟ لقد عقدنا بيننا الاتفاق التالي: ما نحن إلا
بشر؛ فعلى من يبقى منا حيًّا بعد موت صاحبه أن يحمي مصالح
الابن الآخر»
فالاتفاق المبرم بين الملك الحيثي وبابل يخضع لشرط
يتمثل في أن يحكم البلدين الخلفاءُ الشرعيون للموقعين
(«إذا لم تعترف بابن ملكك ملكًا، فأنا يقينًا لن أخف
لمساعدتك إذا ما هاجمك عدو!»، هذا ما كتبه حاتوسيلي
للعاهل البابلي). ويذكِّر العاهل الحيثي هنا بأن قوة
الالتزامات الملتزم بها حيال بابل مرتبطة بدوامها لأن مدة
صلاحية الاتفاقيات الدولية لم تكن دائمًا غير محددة، بل
كانت تخضع أحيانًا لإعادة فحص دوري تقوم به الجهات
الممثلة لكل بلد (مجالس الشيوخ، مجالس الولاة، مجالس
«البلد») التي كان لها أن تمدها من جيل إلى جيل.
١٧ وفي حالات أخرى كان إلغاء التحالف تسهِّله
صياغة الاتفاقات صياغة مفرطة في البعد عن الدقة.
١٨
وخلافًا للقانون القبَلي نجد أطراف المعاهدة يلتزمون
بأن يعاقبوا طبقًا لقوانينهم الخارجين على القانون العام،
ولكن هذا لا يعني بالضرورة المعارضين السياسيين.
ففي قضية يُتهم فيها تاجر بابلي بالقتل، إذا ثبتت
التهمة عليه بالدليل بعد تحقيق ملكي حيثي، فإن القاتل
يُحال إلى والدَي القتيل من أجل دفع الدية. «أما إذا
ارتكب رجل جريمة ضد مَلِكه وهرب إلى بلد آخر حيث قُبض
عليه، فليس من العرف إعدامه»: وينصح حاتوسيلي في هذه
الحالة كاداشمان-إنليل بالتحقيق في طبيعة الجريمة
المرتكبة، ولا يعده بأن يسلمه المذنب إلا إذا كانت
الجريمة في حق القانون العام.
وأخيرًا فمن البديهي أن يمتنع الطرفان الموقعان على
المعاهدة عن أن يحجزا غصبًا المبعوثين وغيرهم من الخبراء
الذين يكون أحد الطرفين أرسلهم إلى الطرف الآخر. وعندما
اتُهِمَ الملك الحيثي بأنه حجز لديه طبيبًا بابليًّا برر
موقفه على النحو التالي: «لا يتفق مع العرف حجز مثل هؤلاء
الأشخاص …» ولو قال: «إنني أريد أن أرحل إلى بلدي الذي
ولدتُ فيه لرحل على الفور؛ فماذا يدفعني إلى أن أحجز
طبيبًا مشهورًا من أطباء مردوك؟» هكذا تضمن الشهرة
والكفاءة الفرديتان حريةَ التنقل بين الدول، خلافًا
للأسفار بين أراضي القبائل التي تعرض المسافر لمغبة أن
يُعتبر مسئولًا غيابيًّا عن كل الأفعال التي ترتكبها
عشيرته. هذه الحصانة الدبلوماسية التي افترضها هذا النص
تحققت منذ ذلك الحين: في القرن الحادي عشر ق.م. تمتع بها
أونامون
Ounamon المبعوث
المصري إلى بيبلوس كاملة (كان «السفير فوق العادة لسلك
آمون») على الرغم من أنه كان يمثل كهنة طيبة لا
البيروقراطية المدنية.
١٩
تحمل هذه الوثيقة الخارقة للمألوف والتي ترجع إلى
الألفية الثانية ق.م. إشارة واضحة إلى اللجوء السياسي،
وحرية التنقل، وتسليم الهارب. والأسلوب الإداري المستخدم
في الرسالة هنا يجعلها أكثر حداثة بكثير من الأسلوب
الطنان الذي صيغت به معاهدة قادش الشهيرة المعقودة في عام
١٢٨٦ق.م. بين نفس الملك الحيثي حاتوسيلي ورمسيس الثاني.
وليس منطوقها على الرغم من ذلك بأكثر وضوحًا إلا في شأن
وضع المنشقين السياسيين الذين تميزهم المعاهدة عن مجرد
الرهائن القبليين. وتبدأ هذه الوثيقة هي أيضًا ببيان
الغرض المستهدف ألا وهو: السلام الكامل بين البلدين.
٢٠ («فرعون والعاهل الحيثي متحالفان بحلف وفاءٍ
وهما أخوان»)
٢١ «بغية توثيق علاقات … مصر
ببلد حثِّي
Hatti والحيلولة دون أن
يفرقهما الأعداء، وليستمر هذا إلى الأبد». وغياب التحديد
الزمني يؤكده ذكرُ الأجيال القادمة الملتزمة التزامًا
يتجاوز شخص الموقعيْن، كما تؤكده الصلاحية الصريحة
للمعاهدات السابقة التي مر تطبيقها بأحوال مختلفة («أما
المعاهدة المعقودة في عصر سوبيليوليوما
Suppiliuliuma، شأنها
شأن المعاهدة المعقودة في عصر مواتاللي
Muwatalli … فعلينا أن
نحترمها») وعلى كل حليف أن يخف إلى مساندة حليفه في
حالتين: الأولى حالة قيام ثالث بغزو أراضيهما (مع بيان
درجتين من خطورة الغزو، بحسب ما إذا كان الغزو استتبع أو
لم يستتبع قيام الملك نفسه بتولي قيادة القوات المساندة)؛
والثانية حالة التمرد التي تتسبب في تدخل عسكري عند الجار
(عندما لا يستطيع الشريك أن يقرر بنفسه ملاءمة مساعدته
حيث يكون عليه أن يساعد حليفه على قمع رئيس المتسببين في
القلاقل «أيًّا كان»).
ولهذا فمن المنطقي أن تستطرد الوثيقة مقررة بندًا
مهمًّا — يبدو أنه مبتكر — عن تسليم الفارين: «إذا فر
الرجال (الآثمون) … (من بلد من البلدين) ولاذوا بالرئيس
الأعلى (للبلد الآخر) فلا يجوز أن يستقبلهم بل عليه أن
يعمل على ردهم» (من حيث أتوا). وكذلك المطالبون باللجوء
السياسي — أولئك «الذين يلوذون (بالآخر) ليكونوا من
رعاياه» — يعاملون على النحو نفسه («فلا يجوز التصريح لهم
بالإقامة … ويجب ردهم من حيث أتوا»)، سواء كانوا من
الرعايا العاديين أو الوجهاء أو الشخصيات السياسية
البارزة (وقد ذكرت كل شريحة على حدة). وعلى الرغم من ذلك
فهناك شرط مشروط لرد المطالِب باللجوء: وهو أنه لا يسلم
إلى سلطات بلاده إلا في مقابل التخلي عن كل لون من ألوان
الملاحقة حياله وحيال أسرته وممتلكاته («عندما يُردُّ
الرجل على هذا النحو … لا يجوز المساس ببيته أو بزوجته أو
بأبنائه … ولا تحميله جريمة أيًّا كانت ضده»).
٢٢ وهذا البند لا يمكن تفسره إلا بمقارنته
بالفقرة المناظرة له من المعاهدة الموقعة بين حاتوسيلي
Hattusili ووالد
كاداشمان-إنليل
Kadashman-Enlil وهي
الفقرة التي تميز بين الجرائم السياسية وجرائم القانون
العام. في كلتا الحالتين لا يجوز لرئيس الدولة التي يكون
المتهم من رعاياها أن يمارس انتقامه الشخصي ضده: عندما
يسلم إليه المعارض السياسي يكون عليه أن يعفو عنه؛ أما
المجرم العادي فعند تسليمه يدفع به مباشرةً إلى أسرة
الضحية لتطبيق الإجراء الذي يقضي به العرف. فالموقعان على
المعاهدة لديهما هكذا مصلحة ظاهرة جلية في احترامها:
والمعاملة الإنسانية للفارين تعطي قدرًا من المرونة في
زمن اتسم بعدم استقرار نظم الحكم. نجد علاجًا للمعارضة
يتم في أرض محايدة أو إبعادًا ضروريًّا لحصول المبعد على
سلطة معنوية، كلاهما من المخارج المشرِّفة لقادة عظام
نُحُّوا من السلطة ولكن من الممكن أن يستردوها في ظل ظروف مختلفة.
٢٣
والمواثيق الدولية في أغلب الأحيان تربط دولتين عجزتا
عن تحقيق حل دائم لصراع أوقفهما بعضهما من البعض الآخر
موقف المواجهة. ونجد وصفًا جيدًا لهذا التوازن بين قوتين
في قصة التحام جرى بين جيوش مصرية وجيوش بابلية في زمن نبوخذنصر
٢٤ الثاني جرت بها أقلام الكُتَّاب الذين
اعترفوا بصراحة نادرة بأن هذه الجيوش «توجهت في معركة
مفتوحة وأنزلت بعضها بالبعض الآخر خسائر جسيمة؛ وتقهقر
الملك الأكادي وجيشه ورجعا إلى بابل» وهكذا كشف هؤلاء
الكُتَّاب صراحةً عما اعترف به مؤرخو ملك مثل حاتوسيلي
Hattusili أو رمسيس
صاغرين في الحيثيات ذات الطابع الوطني التي كانوا يحيطون
بها النص الرسمي لكي يعطي كل واحد منهم للقارئ الانطباع
بأن بلده هي التي خرجت الغانمة الحقيقية من المعركة.
٢٥ وهناك وثائق أخرى تتخذ شكل المعاهدات وما هي
في الواقع إلا مشروعات لاتفاقيات تنقصها عمليات المراسم
الطقوسية المتعددة، وترف التنويه المرجعي بالآلهة،
والإفاضة في اللعنات التي تجعل من الصعب القيام بأية
محاولة نقض من جانب واحد.
٢٦ وأكثرها تتلخص في قَسَم الولاء، لأنها بين
أطراف من مستويات مختلفة. فيها ترتبط دولة كبيرة إما بدول
تابعة أو بدول حاجزة أنشئت من أجزاء مختلفة لتكون عازلًا
يحجز دولة منافسة أو بمدن تهيمن عليها هذه الدولة
المنافسة وتعترف هذه المدن للدولة المنافسة بالسيادة. أما
عن الدول التابعة فلدينا مثلًا الاتفاقية — المعروف أنها
أقدم من اتفاقية قادش — بين سوبيليوليوما
Suppiliuliuma، والد جد
حاتوسيلي
Hattusili، وبين
الآرامي أزيراس
Aziras
الذي يقر بأنه تابع «للملك الشمس» وليس (ندًّا له) وأنه
«مضاف إلى إخوته» (وليس أخاه)، وأنه مستعد لأن يسلمه
الفارين الحيثيين (دون المعاملة بالمثل ودون شروط). أما
عن الدول الحاجزة فنحن نعرف حالة مورسيلي
Mursili، جد حاتوسيلي
Hattusili، الذي حجز
بهذه الطريقة منافسه صاحب أناضوليا الغربية أرزاوا
Arzawa، وهي دولة قليلة
الحظ من الشهرة ولكن فرعون نفسه كان يخشاها إلى الحد الذي
جعله ينشئ ما لا يقل عن ثلاث أحصورات
enclaves من النوع الذي
يمكن أن نسميه اليوم «بنتوستانات»
bantoustans.
٢٧ كذلك هناك مجتمعات متحالفة مع الدولة القائمة
في لحظة بعينها، هي مدن يوقع ممثلوها في نفس اليوم (أو
على فترات من بضعة أيام بعضهم بعد البعض الآخر) اتفاقية
متطابقة، ثم يعتمدونها ويسجلونها في المحفوظات منفصلين:
في مطلع القرن السابع ق.م. قام الملك الآشوري إيسارحادون
Esarhaddon بعقد
اتفاقيات من هذا القبيل مع مدنه وأقاليمه أقرت هذه المدن
والأقاليم فيها بسلطته بناءً على إجراءات استمرت العديد
من الأسابيع.
٢٨ وهناك في نهاية المطاف عدة اتفاقيات دولية هي
في حقيقتها مجرد قسم ولاء يؤديه ملك صغير لملك صغير آخر،
وتضمنها دولة وصية. وهناك رسائل عديدة تم العثور عليها في
تل العمارنة (عاصمة أمينوفيس الرابع، المعروف باسم
أخناتون) تذكر تحالفات محلية اتخذت طابعًا رسميًّا بحضور
ممثل فرعون في فلسطين. وكان فسخها من جانب واحد يثير
الذهول («جرى الاستيلاء على المدينة بالقوة على الرغم من
يمين التصالح ومن الحقيقة المتمثلة في قيام رجل رسمي مصري
بأداء اليمين في نفس الوقت الذي أديته فيه» هذا ما كتبه
أمير فلسطيني).
٢٩
فالاتفاقيات بين الدول وأيمان الولاء التي تؤديها
الكيانات المؤسسة لرئيس عشيرةٍ أصبح ملكًا اتفاقياتٌ
وأيمانٌ تحكمها ترتيبات متشابهة. حتى الحلف السياسي من
قبيل ذلك الحلف الذي انعقد بين الملكة الأم زاكوتو
Zakutu وأنصار حفيدها
آشوربانيبال
Assurbanipal
عند خلافة إيسارحادون
Esarhaddon اتخذ نفس
الأسلوب: لا يجوز لأحد من الموقعين أن ينازع في اختيار
آشوربانيبال
Assurbanipal
دون أخيه شمش — شوم — أوكين
Shamash-shum-ukin؛ لا
يجوز له أن يعمل ضد المزكَّى لا بالكلام ولا بالفعل ولا
بالسكوت؛ وعليه أن يكشف الخونة الحانثين باليمين
والمتمردين والمحرِّضين، أو أن يضعهم بنفسه بين يدي
الملكة الأم، «إنك تقسم اليمين على أنك إذا سمعت أو علمت
عن أناس أنهم يثيرون الفتن المسلحة أو يدبرون مؤامرة
أمامك (أيًّا كانت رتبتهم) … فستقبض عيهم وتسوقهم إلى
زاكوتو
Zakutu.»
٣٠ والالتزامات هنا أيضًا لا تفسح مجالًا
لاجتهاد، فلن يحق ﻟ «آثمٍ» خرج على نص الحلف (ويسمون
الحلف
adê وهو اتفاقية
تلزم موقعيها صراحةً، شأنها شأن المعاهدة الدولية من قبيل
تلك التي ربطت إيسارحادون
Esarhaddon وأورتاكو
Urtaku٣١ أن يجد ملجأ لدى آخر. ومجمل القول أن هذا
النص صورة نقلتها أرملة إيسارحادون
Esarhaddon عن منطوق
«المعاهدة» التي كان زوجها قد عقدها مع رؤساء المدن
الواقعة تحت سيطرته الاسمية. ولدينا نسخة من وثيقة مختومة
من «معاهدة خلافة إيسارحادون»، وتتضمن الالتزامات التي
التزم بها المسمى حومباريس
Humbares باسم مدينة
ناحسيمارتي
Nahsimarti،
هو وأولاده وأولاد أولاده («الأولاد وأولاد الأولاد الذين
يولدون بعد إبرام هذه المعاهدة») حيال الملك الآشوري ومن يخلفه.
٣٢ ويعدد إيسارحادون بالتفصيل الالتزامات التي
يفرضها اليمين لصالح ابنه آشوربانيبال
Assurbanipal، وريث
العرش. كل شيء جرى ترتيبه — كما هي الحال في المعاهدات
الدولية — تحسبًا لتغيي المعسكر ولتوَعُّد من يرتدُّون
بقسوة بالغة. هؤلاء لن يعرفوا العفو الذي يوعد به
المنفيون الذين تعنيهم معاهدات حاتوسيلي الحيثي، لأنهم
سيتعرضون للمصير المأساوي الذي يتنزل على «الخونة»
الآشوريين («إذا استطعتم أن تقبضوا عليهم وأن تقتلوهم
فستمحون اسمهم ونسلهم من الدنيا»). فهل هذه علامة على
تصلب استبدادي أم على تزايد صعوبة الحكم بعد انقضاء ستة
قرون على معركة قادش في شرق ممزق؟
(٣) عدم تجاوز الحدود
وتكمن أهمية هذه الوثيقة الطويلة جدًّا التي تتكون من
عشرات من الأعمدة في بيان كيف كان واحد من أقرب المرشحين
للتصنيف تحت لافتة «المستبد الشرقي» يفهم السلطة القائمة
على هذه أو تلك الأراضي: لقد كان يفهمها على أنها رأسمال
ينبغي أن يورثه خليفته الشرعي حريصًا على أن يؤمن نفسه ضد
ارتداد شركاء آخرين. فاستغل إيسارحادون
Esarhaddon سلطته وهو
حيٌّ وتخيل كل السيناريوهات التي يمكن أن تجرد ابنه من
العرش، تخيلها لكي يتقيها: سيناريو الدسيسة: («لا تسقوه
أو تبلعوه عقارًا قاتلًا، ولا تدهنوه به، ولا تمارسوا ضده
السحر»)؛ سيناريو المؤامرة: («لا تجمعوا جمعًا تقسمون فيه
بعضكم للبعض قسَم الإخلاص وتجعلوا المُلك لواحد منكم»)؛
سيناريو التخاذل («لا تتمارضوا وتتعللوا كذبًا بالإصابة
بمرض لا شفاء منه، بل انهضوا بمهمتكم في المعاهدة
كاملة»)، وهذا بند يمكن مقارنته ببند في المعاهدة الدولية
التي وقعها قبل بضع عشرات من السنين الملك الآشوري
آشورنيراري الخامس
Assurnirari
V مع ملك غامض تربع على عرش أرباد
Arpad، اسمه ماتيئيلو
Mati’ilu، نص على أن
راكبي العجلات الحربية «لا ينبغي لهم أن يتركوا المعركة
قبل أن تنتهي»؛
٣٣ سيناريو حجز الأموال: «سواء كنتم في دياركم
أو ذهبتم إلى مركز لتحصيل الضرائب، فلا يخطرن ببالكم خاطر
في غير صالح آشوربانيبال»).
ويشهد النص على تشاؤم يحيط بإخلاص الولاة الذين لم
تكن موافقتهم الروتينية كافية («لا تقسموا اليمين بظاهر
شفاهكم، بل بكامل قلوبكم»). ولقد هُددوا بمصائر لا يطمع
فيها طامع إذا هم حطموا ألواح الوصية أو أغرقوها أو
أحرقوها أو حتى محوا أختامها، تلك الألواح التي يقع عليهم
على العكس من ذلك واجب الحفاظ عليها مختومة قريبًا منهم،
وكذلك حُذروا من أن يغريهم التنصل من التزاماتهم عن طريق
ترتيب شعائري مغرض («لن تفكروا في ذلك مجرد التفكير!»).
ومجمل القول إن الوثيقة تتضمن بقصد الترهيب وصفًا لكل
الأفعال التي يمكن أن يغتر بارتكابها رئيس حزب سياسي أو
رئيس عشيرة أو رئيس مدينة مستقلة حتى ينأى بنفسه عنها.
ويرجع الفضل إلى الريبة المفرطة التي ساورت ملكًا هرمًا
(أو إلى خبرته السياسية الواسعة) في أننا عرفنا أن كبار
الملوك لم يكونوا واثقين من استمرار الخلافة في أسرتهم،
ولم يكونوا قابضين على احتكارات العنف وفرض
الضرائب.
ولكن اختلافًا يظل على الرغم من كل ذلك قائمًا بين
الاتفاقيات المحلية والمعاهدات الدولية. فبينما تستبعد
الاتفاقيات المحلية تغييرات الولاء وتخلط بين جرائم
القانون العام وجرائم الرأي فتجعل عقوباتها متطابقةً، نجد
المعاهدات الدولية تقبل حالات الارتداد عن الولاء قبولًا
يعتبر وسيلة كيِّسة للعلم بها والإذعان لها. وليس من شك
في أن هذه القاعدة عرفت من الاستثناءات الهائلة ما عرفت:
فهذا هو آشوربانيبال لا يتردد في تخريب مدينة عيلامية هي
مَداكتو
Madaktu من أجل
أن يحصل على تسليم رئيس بابلي متمرد.
٣٤ كانت الصيغ السياسية والدبلوماسية تعوم هكذا
بين اتفاقيات تنظيم العلاقات الخارجية للاتحادات القبَلية
وبين الخطوط العامة للدول الحقيقية، دون أن يظهر اتجاه من
هذين الاتجاهين على الآخر ظهورًا نهائيًّا.
٣٥
في مرحلة زمنية أولى كانت الدولة تبني نظامها على
أساس «قومي» ولكن على نحو اتحادي
fédérative أو قريب من
نظام المنظمات الحكومية الدولية في أيامنا هذه. كان هذا
الأساس في سومر في الألفية الثالثة قبل الميلاد يضم مدنًا
وشعوبًا تتكلم اللغة نفسها وتعبد الآلهة ذاتها وقد تغذت
على التاريخ نفسه وآمنت بقدر واحدة، ولكن في إطار مرن هو
إطار المجلس الإداري أو اتحاد السلطات. فلم يكن الملك
السومري إلا الأول بين أنداد وكان من شأنه أن يصون وحدة
المدن الدول المستقلة بعضها عن البعض الآخر بأن يقوم
حكمًا بينها فيما ينشب فيها من منازعات. وكان — بما هو
رئيس جامعة مدن تآلفت ضد أعداء أجانب محتملين، تدور
السلطة الاتحادية بينها دورانًا ناجحًا قل هذا النجاح أو
كثر — يترأس المجلس الاتحادي لرؤساء المدن السومرية (في
ائتلاف يسمونه كين إن — جي
kin
en-gi يشبه تعبير كين إمي — جي
kin eme-gi أن يتكلموا
السومرية). وهو لا يتخذ في مدينة مقدسة مقرًّا، فكان هناك
فصل دقيق للسلطة السياسية عن السلطة الدينية.
٣٦ وفيما بعد أصبح ملكُ بابل رئيسَ دولة صاعدًا
فوق رؤساء المدن الآخرين — ولكن رؤساء المدن احتفظوا
بالعديد من المزايا تشهد عليها ضرورة عقد «معاهدات» تحالف
معهم وجعلهم يقسمون أيمان الولاء طبقًا للقواعد المرعية.
٣٧ في مصر جرى فرض الوصاية على سوريا وفلسطين في
وقت لاحق تأخر كثيرًا، في مجال الاقتصاد، في قلب مجلس
حكام المنطقة الوطنيين (وكانوا يسمون رابيسو
rabîsu) وكان هذا
المجلس هيئة القضاء والتحكيم عند نشوب صراعات بين رؤساء
المدن والدول.
٣٨
في الواديين — وادي النيل ووادي الرافدين — كان
للهيمنة حدود تحددها الأعراف والنصوص الدبلوماسية. فقد
كانت الهيمنة ترتبط بالبرنامج السياسي أو الديني أكثر من
ارتباطها بالواقع الإداري أو الثقافي، ولهذا كانت دفاعية
أكثر منها هجومية. وفي وقت الغزوات — التي كانت دائمًا
ممكنة الحدوث وكانت تأتي من الجبل أو من الصحراء — كانت
الحملة العسكرية في حقيقة الأمر شكلًا من اشكال الوقاية،
كانت الوسيلة الكفيلة بتأخير الأحداث أو بانتزاع التوقيع
على معاهدة تعترف بالحقوق وتكرس الأعراف وتبرر الادعاءات
وتحقق الهويات وتجلب المبادلات التجارية والأحلاف
بالمصاهرة. كان الاستعداد للمعركة يعني الدفع إلى
المفاوضات، الضغط لتحقيق التحالف أو على الأقل الحصول على
إعلان الحياد. وكثيرًا ما كان الغازي يفضل أن يغنم أميرة
أجنبية على أن يغنم وطنها: ولهذا احتلت ترتيبات المصاهرات
مكانًا مهمًّا في المراسلات الدبلوماسية. كانوا
المتراسلون يتجادلون في الاختيارات (هل يقع الاختيار على
البنت الكبرى أم الصغرى؟ من يمكن تجاهل دعوته لحفل
الزواج؟)، أو يتجادلون في الأعراف (هل يصح أن يرفض الأب
تزويج ابنته من ملك أجنبي، في الوقت الذي يطلب فيه من
الملك الأجنبي يد ابنته؟ هل يجوز أن يزف الأب ابنة ثانية
إلى صهره الذي لم يبلغه بأخبار الأولى، فهو لا يعرف هل هي
سعيدة، هل هي بصحة جيدة؟) كل التنويعات واردة بين كبار
الملوك. ولكن الملوك الذين حظوا بأكبر احترام لدى خلفائهم
المباشرين هم الذين آثروا الزواج الدبلوماسي على المواجهة
العسكرية: كان الملوك البابليون والآشوريون، وهم في
المنطقة أقل أجنبية بعضهم حيال البعض الآخر، يمارسون
تبادلية التعامل بالمثل المطلقة، لأنهم «كانوا يزفون
بناتهم بعضهم إلى البعض تبادليًّا»، و«كانت شعوبهم تختلط
بعضها بالبعض الآخر.»
٣٩ ولقد تزوج الحيثي سوبيلوليوما
Suppiluliuma ابنة ملك
بابل، وكذلك صاهر المصريان تحتمس الرابع وابنه أمينوفيس
الثالث الواحد بعد الآخر ملك ميتانِّي
Mitanni. وأرسل ملك
ميتانِّي ابنته الصبية كيلوغيبا
Kiloughépa إلى بلاط
فرعون ترافقها ٣١٨ من سيدات المعية بعضهن من مملكته
والبعض الآخر من بابل وأرزاوا —
Arzawa مما كان له أثره
على توسيع المنافع السياسية والتجارية المتوقعة من
الاحتفال. ولم يقنع أمينوفيس الثالث بها، بل طالب
بالتحديد — على ما يبدو دون أن يحقق نجاحًا — بنتي ملك
بابل وأرزاوا
Arzawa.
٤٠ وتحمل الأميرات — اللاتي يزوجهن آباؤهن ممن
يخشون أن يناصبوهم العداء — «قائمة بمؤخر صداق هائل» يزهو
بمثله ملك آشور.
٤١ وكان فتية وفتيات يقيمون أحيانًا في بلاط
الحلفاء ليتعلموا لغتهم وعاداتهم وليكونوا رهائن صاغرين
انتظارًا لأن يصبحوا لدى مواطنيهم مترجمين للأجانب، عندما
يعودون إلى الوطن مزودين بثقافة مدائنية
٤٢ (= كوسموبوليتية).
٤٣
وكانت الجهود التي تبذل لتفادي اللجوء إلى السلاح
كبيرة حتى إذا لم يكن التاريخ يسجل إلا فشلها. ويعتبر
الصراع القديم بين لاجاش
Lagash وأوما
Umma — وهما مدينتان
سومريتان في بلاد الرافدين السفلى في منتصف الألفية
الثالثة ق.م. — مثلًا على إفشال ما يمكن أن نسميه
«التوافق السومري». وكان هدفه يتمثل في عملية تقسيم يتجدد
التفاوض بشأنها، تقسيم مياه الري التي تُغترف من دجلة
والفرات أو من آبار إرتوازية. ولما كانت لاجاش تقع سافلة
النهر في الإفريز الشرقي من السهل الغريني، فقد كانت
تمارس على أوما ضغطًا يهدف إلى الاحتفاظ بنصيب عادل من
تصريف النهر (بأن تستحلف ملكها «ألا يحول مجرى ترعه
وقنوات ريه») والحصول على مال مقابل النصيب الذي تتركه
عالية النهر («سأستغل حقل نينجيرسو
Ningirsu كما لو كان
الأمر أمر قرض بفائدة»). واستندت العملية استنادًا قويًّا
إلى إجراءات هندسية من سدود وحواجز وقنوات وقرى، كلها
معرَّفة بأسمائها. وقد ذُكرت المسافات الفاصلة بينها بدقة
— على سبيل المثال المحيط جرى تقسيمه إلى ١١ شريحة إحداها
طولها ٦٣٦ نيدان
nidan
(٣٫٨١٦كم) والثانية طولها ٢١٦٣٠ نيدان
(١٢٩٫٧٨كم) وهكذا. وضمنت لاجاش في الوقت نفسه مساندة
أوروك التي هي مفتاح منظومة القنوات المشتقة من الفرات،
حيث عقدت اتفاقًا موقعًا بين إنميتينا
Enmetena
ولوجالكيجينيدودو
Lugalkiginedudu سبق
بأكثر من ألف عام اتفاقات حاتوسيلي التي ذكرناها في مطلع
هذا الباب.
٤٤ هذه أيمان حُلفت ومقاييس مساحية سجلت في
وثيقة يعتبر تبديدها بمثابة إعلان حرب. كانت الدولة
الصغيرة في ذلك العصر — التي تحد من توسعها السهب
والمستنقعات التي تمتد من ورائها أراض معادية تطل على
البحر أو تشكلها الجبال — تتصارع فيما بينها على الحقول
الخصبة (التي يحمل أحدها الاسم الجميل «جو — إيدينا»
Gu-Edenna أي «تخوم
السهل» ويعتبر البعض هذه البقعة أحد المواضع الممكنة لجنة
عدن
Eden). هذه الحقول
تحددها مبانٍ صغيرة أنشأ فيها الملاك مقصورات قدسية
sanctuaires لعبادة
الآلهة الوسيطة بين البشر والطبيعة (آلهة السماء والجبل
والمطر والريح).
٤٥ ولقد بيَّن إنميتينا سيد لاجاش بالدليل أنه
يأخذ بتوفيقية دينية أريبة رافضًا الإصرار على تحقيق
مصلحته: «ولقد رمَّم نصب ميساليم
Mesalim ولكنه لم
يتغلغل في سهل أوما
Umma»
مفضلًا «أن يقيم منطقةً حرامًا» على شريط مساحته ١٢٩٠
مترًا مربعًا. واكتفى بأن أرغم سيد أوما
Umma «على تجديدٍ مهينٍ
للأيمان» التي سارع هذا إلى أدائها خيرًا له من الزحف إلى القتال.
٤٦ وعلى الرغم من أن الصراعات على الأرض والماء
كان من الممكن أن تؤدي إلى معارك حقيقية إلا أن هذه
المعارك لم تكن تجري بعيدًا بعدًا كبيرًا عن أسوار كل
مدينة. وكانت تتخذ شكل المناوشات، أو الاعتداءات الرمزية،
أو التحذيرات بغيةَ الوصول إلى تجديد المفاوضات لعقد
اتفاقات توزيع الموارد، وتجديد أيمان التحالف، وتجديد
الاعتراف بالحدود المعتبرة «تقليدية».
وظل تثبيت حدود هذه المنطقة — التي أصبحت في هذه
الأثناء «بابل» — موضوع مواثيق. فقد عقد ملك كاسي (هو
بورنا — بورياس الأول
Burna-Burias
I) وملك آشوري (هو بوزور — آشور الثالث
Puzur-Assur III)
«اتفاقًا متبادلًا» وأقسما متبادلين قسمًا ينصب بالتحديد
على موضوع هذه الحدود «شرق نهر دجلة». وتكررت الموافقة
فيما بعد حيث جددها اثنان من خلفهما (هما كارا — إنداش
Kara-Indash
وآشوربيلنيسيسو
Assurbelnisesu) ثم طعن
فيها الكاسيون بعد حين: وفي كل مرة كانت حملة سريعة تسمح
«بتقسيم الأرض قسمين متساويين»، ثم رسمت حدودهما أخيرًا
حول عام ١٣٠٠ق.م. …
٤٧ وفي سياق آخر، بعد بضع عشرات من السنين،
يتساءل نشيد الفرعون ميرنبتاح
Merenptah — الذي يحمل
اسمًا جميلًا هو «نشيد السلام» — في أعقاب الانتصارات
المصرية على الليبيين: «من هذا الذي سيعرف كيف يحارب،
عالمًا علم اليقين بزحف لا يعوقه عائق؟ مجنون تجرد من
العقل ذلك الرجل الذي يمكن أن يقرر البدء من جديد
بالاقتتال. إن من يتعدى حدوده لا يعرف كيف سيكون غده.»
٤٨
الحدود
la frontière،
وهي الشكل الأسمى لتطبيع الدنيا، ابتكرت منذ الألفية
الثالثة قبل الميلاد في سومر ومصر على هيئة مجموعة من
الترتيبات القانونية الفارقة للتخوم
les
limites الطبيعية لبلد ما.
٤٩ وإذا كانت التخوم الطبيعية غير قابلة
للمناقشة نظرًا لأنها جاءت بإرادة ربانية، فإن الحدود
المرسومة تأتي نتيجة تفسيرات متنافسة يمكن التفاوض بشأنها
قبل أن تختم المفاوضات النشيطة بوضع لوحة حجرية.
٥٠ وترى العين الحدود الأولى دون أن تكون هناك
حاجة إلى تعليمها: فهي توشي بلد «الرءوس السوداء» (ما بين
النهرين) أو بلد «الأرض السوداء» (وادي النيل). فاللوحة
الحجرية الحدودية وهي علامة حدودية لا يجوز تعديها بين
الأجانب، ليست إلا الشكل الدولي للعلامة الحدودية
الموضوعة بين الحقول المزروعة، وهي مثلها عرضة لنفس
الصراعات مع الجار. ولا مجال لدينا للشك في أن القنوات
والنهيرات والأنهار هي التي تحيط وتغذي البلاد التي «يجري
فيها اللبن والعسل» أعطاهما الرب لشعب كي ينعم بالطيبات
في وسط أرض عقيمة تلونت بكل ظلال اللون الأصفر. ومن هذا
المكان الغريب الذي يجب كذلك امتلاكه تأتي الخامات
الثمينة أو الإستراتيجية (أي الأسلحة والمعدات المعدنية)
والأحجار الكريمة أو الضخمة (أي المواد اللازمة للمباني
المنيفة)؛ الذهب والفضة والقصدير والنحاس والحديد؛
والفيروز واليشب واليشم واللازورد؛ والمرمر والرخام
والجرانيت والكوارتس والاستياتيت والديوريت والبازلت؛
ولكن هناك أيضًا الملح والأصداف والبخور والمر والقمح
والقطران والخشب.
ولما لم يكن من المفيد أو من الممكن وضع تبرير ديني
لغزو المناطق القاحلة الفقيرة في الزراعة
la culture (الزراعة
بالمعنى المزدوج: الحضارة والفلاحة) والغنية بالمواد
الأولية، فقد كان الأفضل اعتبارها من الناحية القانونية
أراضي بلا أصحاب (يسكنها برابرة لا اسم لهم ولا عاصمة،
فهم: «رجال الرمال» و«رجال البحار» و«رجال الجبال»)
وبعبارة أخرى بلاد حدود. أما الأراضي الأخرى فكان من
الضروري — باستخدام القوة عند اللزوم — إيجاد تبرير شرعي
للتواجد في بلد محدد جغرافيًّا، وتبرير للحق الرباني في
السيطرة على شبكة المياه التي تعتمد عليها من حولها
الزراعة المنتجة بالأرض الموعودة. وهكذا أقيمت في كل
العصور أسوار على هذا الجانب أو ذاك من الطريق (في مصر
العليا)، وقلاع متفرقة في وسط الرمال (في النوبة وفي
صحراء ليبيا وفي سينا) أو على خط تقسيم المياه (في فيلة
Éléphantine).
٥١
وفي نفس الوقت الذي تحول فيه كل شعب إلى دولة لم يعد
يكفيه أن يحتج بولائه وأن يجاهر بأنه لا يمس سيادة
الآخرين لكي ينعم بالسلام والرخاء مع جيرانه الجديرين
بالاحترام، بل كان لا يزال بحاجة إلى الهيمنة عليهم
والسيطرة عليهم دينيًّا، وهو شيء جديد، ولكن باستخدام
مناهج كانت قاصرة فيما مضى على البرابرة؛ مناهج الانتشار
والاسترسال في الدعاية.
(٤) يقاتل من أجل ربه؟
حروب ودعايات
لم تكن المفاوضات على الرغم من الجهود المشتركة
المبذولة تضمن دائمًا استمرار التجارة بوسائل أخرى. وهذه
هي قوى العصر الكبيرة تتعسكر وتمنح نفسها أيديولوجية
رسمية تعود بفائدة جمة على توسعها في غياب نزعة قومية
حقيقية. كانت آشور تحت حكم آشورناسيربال
Assurnasirpal
باحتفالاتها وعقوباتها المثيرة المروعة تنشر في المشرق
جلود البشر وخرائط رئاسة الأركان بعد انقضاء وقت طويل على
نشرها منسوجاتها المزركشة في أسواق الأناضول. لم تعد
المدينة التجارية التي كانت قبل ألف عام تفتح حوانيتها
للأجانب. في ذلك الوقت البعيد «لم يكن للحاميات الآشورية
وجود في أي مكان بآسيا الصغرى»، ثم تغيرت الحال بعد عشرة
قرون وتحولت الوكالات التجارية إلى معسكرات محصنة انطلقت
منها غارات فتكت بالوطنيين — السكان الأصليين — وأرهقت
النازحين من وطنهم. في هذا المكان الشاسع الذي كانت فيه
الجيوش الآشورية المحدثة تتحرك بسرعة منذ القرن الثامن
ق.م. نرى في القرن الثامن عشر ق.م. أن «القطاعات ذات
الهيمنة الأكادية كانت تبدو كأنما كانت هي وحدها التابعة
مباشرةً لسلطة مركزية.»
٥٢ حتى سالمانازار
Salmanazar في معاركه
إبان القرن الثالث عشر ق.م. حرص كل الحرص على ألا ينهب
مدن الفرات الغربي الغنية حتى يحفظ لنفسه منافذ اقتصادية
في عمقه ويضمن حلفاء متفاهمين عندما يخوض غمار حروبه في
بلاد الرافدين.
٥٣
ولم تكن القوة التجارية لآشور القديمة قبل إيسارحادون
وابنه آشوربانيبال
Assurbanipal قد تحولت
بعد إلى قوة غزوة عسكرية. كانت الصراعات التي تنشب مع
الأطراف البعيدين يتم تسويتها طبقًا للقواعد التجارية،
بفرض الحراسة على التجار العابثين أو باحتجاز مخزونهم من
السلع على سبيل الرهن.
٥٤ وانتهت منذ ذلك الحين بترحيل المعبودات
٥٥ أو بترحيل شعوب كاملة. وإذا كان الاهتمام
المادي قد ظل يتركز في هذه الفترة كما كان قبلها على
حماية طرق التموين، فقد زاد عليه الطموح الروحي المتمثل
في وضع شيء من النظام في العالم بأَشْوَرَتِهِ
assyrianiser، أي بصبغه
بالصبغة الآشورية.
(لوحة نارام سين
Narâm-Sîn، حول عام
٢٢٧٠ق.م.): ارتفاعها متران، وهي تلخص متاهة السلطة حتى
التي بلغت أبعد حد من الهمة والإقدام. هذا الملك
السارجوني الذي كثيرًا ما تعرض للنقد بسبب طموحه المفرط
يصور في اللوحة وهو يرقى قمة سفح (من فوقه على هوة قمع
محفور، هي طبيعة اللوحة). وصورته التخطيطية عسكرية وهادئة
في آنٍ واحد تقع في الوسط بين الأرض والسماء، بين الحرب
والسلام، بين الإنسانية والإلهية، (يرمز إليه قرص الشمس
وقرص القمر) بين القبائل (تشير إليها الألوية والقرنان في
الخوذة الملكية) وبين ا لدولة. وهو يمسك قوسه مقلوبًا،
لأنه لم يعد بحاجة إلى استخدامه، والأعداء الذين لم
يصيروا بعد جثثًا يقذف بها من فوق الصخرة، أما أولئك
الذين لم ينهاروا ولم يكفوا عن الاحتضار، فيتوسلون إليه
أن يعفيهم أو يسارعون بأداء قسم الولاء. ونلاحظ أن أنصار
نارام سين وأعداءه تفصل بينهم أشجار (هل هي غابة في صياغة
أسلوبية أم أشجار حياة؟)
ولقد عرفت بابل
تطورًا في الاتجاه العكسي في أثناء الفترة المرحلة
الزمنية الشبيهة الفاصلة بين القرن الثامن عشر ق.م.
والقرن السادس ق.م. فأظهرت هي أيضًا تباين النزعات
الإمبريالية في هذا العصر الذي شهد ما شهد من توسع خارجي.
لم تعد مملكة نبوخذنصر
Nabuchodonosor٥٦ هي مملكة حامُّورابي التي كانت تضم المدن
المجاورة في نسيج من التحالفات وتقنن كل شيء بالتمام
والكمال حتى وإن كان قيامه بتخريب مدينة ماري لا يفتقر
إلى شبهٍ بقيام مملكة نبوخذنصر
Nabuchodonosor بتخريب
أورشليم. على مر الزمن انطبقت الأراضي المحددة كل التحديد
بعضها على البعض الآخر في تجمع متحرك الحدود وحلت الجيوش
النظامية محل التحالفات المتباينة المختلفة التي تهيمن
عليها زُمَرٌ من البدو من أجل التحكم في القبائل
الساميَّة والعيلامية الجامحة. لم تعد الحرب تنشب نتيجة
عبور قناة مستقيمة أو قلب علامة حدودية قائمة في ركن حقل
رباعي زرع قمحًا، ولكن نتيجة مناوشات في المستنقعات
والكثبان الرملية والجبال الصخرية الساندة. وأيًّا كان
الأمر فقد اتخذت آشور وبابل مفهومًا مشتركًا عن الحرب. لم
تعد الحرب بناءً على هذا المفهوم شجارًا عائليًّا بين
أقارب متجاورين، ولا مجرد عملية بوليسية في مناطق مضطربة،
٥٧ بل أصبحت حملة تسير إلى مناطق بعيدة.
(٤-١) شن الحرب
أصبح تحويل الجيوش إلى جيوش محترفة ممكنًا عندما
عرف الناس كيف يزرعون الأرض القابلة للزراعة لكي تطعم
القوات الزاحفة في كل مراحل تقدمها. وجاء تمييز أوضاع
المحاربين (الجنود العاملون، المدنيون المجندون، حاميات
أو مستعمرات، المحاربون القدامى) في مواقع مختلفة في
قيمتها الاستراتيجية (المركز، المحيط المباشر، الهوامش)
فأدى بالضرورة إلى تعقيد متزايد شمل التنظيم العسكري.
في سومر كانت أسرة أور الثالثة تميز في نهاية الألفية
الثالثة ق.م. عدة درجات للقيادة في ثلاثة مستويات من
المناطق: مستوى العميد (الذي كان من الممكن أن يمارس في
نفس الوقت وظيفة الحاكم في منطقة أطرافية)؛ مستويان من
رتب العقداء (بحسب ما يوردون إلى الخزينة)؛ مستوى
الضابط المسئول عن ستين رجلًا. في المنطقة الحاجزة بين
الشمال والجنوب الرافديني جرى تخطيط تسكينهم بحيث
يكونون خاضعين لضريبة على الدخل تتناسب مع مردودات
أنشطة تربية الحيوان، وهذا دليل على اكتفائهم الذاتي.
ويشهد تحصيل هذه الضريبة، الذي كان يتم من أعلى إلى
أسفل سلم الدرجات العسكري، على أن هؤلاء كانوا يمارسون
وظائف تقع عادةً على كاهل الإدارة المدنية عندما تعمل
هذه الإدارة المدنية في قلب المكان السومري لا على حدوده.
٥٨ وكانت الحال على نفس المنوال في مصر التي
كانت تعرف «رئيسًا للقوات منذ الأسرات الأولى». وكان
رئيس القوات — بعد إصلاح أوني
Ouni الطموح — يسانده
(رجل مدني يلقبونه بالعميد) و«قواد» و«قواد ثوان»
و«ملازمون» و«قواد القوات المعاونة» (الليبية، ثم بعد
ذلك بقليل النوبية الميدجايو
Medjayous) وهؤلاء
ضباط يسهرون على نظام يشمل بضع مئات أو آلاف من الرجال
أصبح عليهم من ذلك الحين استعراض هذه القوات. وفي عصر
الدولة الحديثة ظهر جيش محترف أكثر عددًا، ينقسم إلى
فرق كل واحدة منها تَعُدُّ مائتي جندي، وتنقسم كل فرقة
إلى كتائب، كل كتيبة قوامها خمسون جنديًّا. وكان على
رأس الجيش حامل لواء عظيم يساعده العديد من العمداء أو
اللواءات رؤساء القوات. وكان تحت أوامرهم قوادٌ تزايدت
تخصصاتهم بمرور الوقت (قواد حصون، قواد فرق معاونة،
قواد سرايا، قواد دوريات، قواد كتائب حضرية، قواد حرس،
قواد قوات خاصة)، كذلك كان الأسطول متمايزًا عن المشاة
وعن المركبات.
٥٩ وتطورت دور الصناعة — الترسانات — وضبطت
مصنوعاتها على النماذج الآسيوية الأكثر فعالية. وكانت
تكنولوجيا المصريين العسكرية بالفعل متخلفة جدًّا عن
التكنولوجيا لدى المنافسين الذين استورد منهم المصريون
المعدات المعدنية والعربات والخيول. ولكن المصريين كانت
لديهم استراتيجية شبيهة تعتمد على «ترتيب متشابك وذكي
ومنسق» يضم مواقع مراقبة وحاميات، جرى تدعيمها بين عصر
سيزوستريس الثالث وعصر سيتي الأول، ثم جرى تخفيفها بعد
ذلك في عصر الرعامسة دون تقليل من قدرتها الدفاعية بفضل
الترسيخ المتزامن لمستعمرات المحاربين القدماء.
٦٠
كان قوام الحرب حول الألفية الثانية ق.م. تنظيمًا
متشابكًا. وحول الألفية الأولى ق.م. أصبح التسليح
مخيفًا. حينئذٍ أصبح الجيش أكثر قدرة على الحركة منه في
زمن الفرق التي كانت تستنفر بحسب الظروف وكانت تتحرك
حافية (هكذا كانت حال الآشوريين في نهاية القرن السابع
ق.م.!) لا ينتظمهم أي هيكل رتب هرمي حقيقي، يحاربون دون
حماية، بضربات يسددونها بكميات من الأسلحة المصنوعة من
حجر السليكس (ظلت مستخدمة في عصر الأسرة الثالثة عشرة
المصرية!). وكان هؤلاء المحاربون الهواة يعودون إلى
ديارهم بعد كل انتصار (أو حتى قبله عندما تفرغ
جراياتهم). أما القوات الحديثة فكانت تتيح لمن أوتيها
مضاعفة المغامرات الحربية التي اعتبرت مناسبة لازدهار
أو لصحوة القيم الرجولية. ولقد صدق هذا الاعتبار إلى حد
أننا نستطيع أن نجعل من درجة تخصص الجيش دلالة على نزعة
إمبريالية ممكنة الحدوث. ولما كانت الوسائل التقنية قد
أصبحت متاحة، فلم يبقَ إلا إيجاد مبررات تَدَخُّل تبدو
مشروعة في عيون مواطني طالب الحرب أنفسهم.
وقدمت أيديولوجيا الرواد، هي والدِّيانة، المبررات
المناسبة في الوقت المناسب. فقد دبجا ما دبجا على تلك
التيمة الكلاسيكية التي تصور المواطن الذي لان ورَقَّ
في الدعة وأضافا إليها التدخل الرباني رابطيْن أسبابهما
هكذا بتراث قديم (ولنا أن نفكر في ملك لاجاش
Lagash الذي أخذه
النعاس وهو ينعم بما أوتي من رخاء وظل هكذا إلى أن فتح
رب مدينته عينيه على ما يفعله سكان مدينة أوما
Umma المجاورة: «كان
إياناتوم
Eanatum
ممددًا، راقدًا غافيًا، فاقترب ربه الحبيب نينجرسو
Ningirsu من رأسه»).
فلم تكن فضيلة الحرب بما هي أمر قطعي إلهي اختراعًا
اخترعه الأكاديون
٦١ متأخرين ثم رفعه إلى منتهاه ساميُّون
وبابليون وآشوريون آخرون. إلا أن هؤلاء كانوا أول الذين
استطاعوا ماديًّا أن ينطلقوا إلى حروب ادَّعوا أنها
تتسم بالنضارة والبهجة، كانوا يخوضون غمارها من أجل
قضية حق (هي بداهة قضية آلهتهم البولياديين)،
ويعتبرونها في بعض الأحيان، على نحو لا يخلو من
المبالغة، عمليات حربية تقوم بها «شعوب مختارة» أو
يعتبرونها من قبيل الجهاد
djihad وجدت قبل أن
يوجد الاسم.
٦٢ وخير لنا أن نقول قضية
cause عن أن نقول
حربًا مقدسة
guerre
sainte حقيقية،
٦٣ فالحرب المقدسة يفترض فيها أن تفي بشرطين:
أن يكون العمل على الإدخال في الديانة هدفًا له
الأولوية؛ وأن يعطي شعورٌ بالهوية جيوشَ الربِّ القوةَ
للانتصار على أعداء أفضل عدة وأكثر عددًا. إلا أن
الشرقيين القدامى قنعوا بضم الآلهة المغلوبة إلى مجمع
آلهتهم وقاموا بحروب أهلية أكثر مما قاموا بحروب خارجية
(وهكذا نجد تفسيرًا لما يتكرر من تصوير شعب «الرءوس
السوداء» الرافديني أو «شعب الوادي» المصري ممثلًا بين
ضحايا الملك أو الفرعون المنتصر في وسط أعدائه التقليديين).
٦٤ وكان الملوك الشرقيون عندما يدعون ربهم أن
يعينهم — ولقد حصل ربهم من قبل في ملكوت السماء عن طريق
الاقتراع بين الآلهة على تراث دنيوي — يفعلون ذلك من
أجل أن يسبغوا الشرعية بخاصة على توسعهم الذي يندفعون
إليه بدوافع اقتصادية (هكذا وضع سارجون الأكادي لقبه —
وهو ملك سومر — بين لقبين أحدهما: «وكيل» رَبَّةٍ
mashkim والآخر:
«ممثل» ربٍّ
ensi).
٦٥
والمقارنةُ برب إسرائيل مقارنةٌ كاشفة.
٦٦ فهذا هو «يهوه» يختار أولًا شعبًا يعطيه
أرضًا، ما هي بأرضٍ يعيش فيها من قبل شعبٌ.
٦٧ هكذا تكشف التوراة صراحةً ما يواريه
التقنين الديني للغة الميثية: فيمين الولاء بين الأفراد
يعكس مفهومًا للسياسة لا يتمحور حول غزو الأراضي بقدر
ما يتمحور حول تجميع الأمم، أي هو مفهوم يتسم
بالإقطاعية أكثر مما يتسم بالإمبريالية. و«يهوه» يمسك
بشريعة كونية فوق كل الأمم (هو «ملك الأركان الأربعة»
أو ملك الشُّطْآن الأربعة الذي كان ملوك الرافدين
يطمحون إلى أن يصبحوه) حتى وإن كان عقد عهدًا مع أمة
خاصة من بين هذه الأمم. وهو مرتبط بشعب، حتى وإن لاحت
أرض كنعان كأنها مكان مقره، أو إقطاعيته — مثل إقطاعيات
آلهة الرافدين — أعطاها للإسرائيليين لإدارتها.
والإسرائيليون، وإن اختلفوا عن أبناء الرافدين الذي
يواجهون آلهة تحوطها الألغاز، يرتكبون على الرغم من ذلك
غير قليل من الذنوب في حق ربهم. وربهم يعاقبهم بإخراجهم
وبتشتيتهم وهي عقوبات كان الملوك الأكاديون يقصرونها
على سكان المدن التي يستولون عليها.
والعهد بين رب وشعب يمنح هذا الشعب السيادة على أرض
يستهدف الاستيلاء عليها، كما يتدخل في منح المُلْك على
المدن المجاورة. وهو يقيم علاقة رئاسة بين أعضاء البلاط
الإلهي الذي يتكون أصلًا عند الإسرائيليين من «يهوه»
الذي يترأسه ومن سبعين ابنًا، هم «أبناء الرب»، هم
أمراء أو ملائكة، يناظرون السبعين أمة أرضية، وقد وضعت
كل أمة منها تحت وصاية راعٍ سماوي.
٦٨ و«يهوه» مع ذلك يحاسب كل الأمم، لا أمته هو
وحدها. وإذا قَهر ربُّ أمةٍ أخرى شعبَه فإن ذلك لا يعني
أن هذا الرب الآخر قد قَهَرَه.
٦٩ وشعبه لا يتنازل عن أرضه بعد أن يُنفى منها
لأنه يعتبر هذا النفي انفصالًا مؤقتًا، وكانت هناك
جاليات في الشرق الأوسط في العصر العتيق تذعن بشكل دائم
للنفي إيمانًا منها بأن ربها تخلى عنها. وعلى الرغم من
أن القوة الإمبريالية لإسرائيل استخدمت (هذا التصور)
استخدامًا محدودًا في محيطها المباشر، فإن القوة
الإمبريالية لإسرائيل كانت من الناحية اللاهوتية أعلى
من القوة الإمبريالية لغرمائها الذين «كانوا يعتبرون
المناطق المجاورة أرضًا عُرضة للاستيلاء والضم أكثر مما
كانوا يعتبرونها شعوبًا عُرضة للدمج في إمبراطورية.»
٧٠ والصيغة الرافدينية الأكثر قربًا من صيغة
إسرائيل تعود بلا شك إلى عصر أور الثالث
Ur III (أي قبلها
بألف عام) عندما كان الملوك السومريون يحكمون باسم «إله
البلد» (مدينة نيبُّور
Nippur المقدسة) لا
باسم إله عاصمتهم (مدينة نانَّا
Nanna). ولا شك في
أنهم تعلموا من خبرة سابقيهم الأكاديين النكراء الذين
كانوا يطمحون إلى غزو العالم باسم عشتار
Ishtar أو — ما هو
أشد نكرًا — باسمهم هم (باعتبارهم ملوكًا مؤلَّهين، من
مثل نارام سين
Narâm-Sîn «إله أجاده
Agadé»).
٧١ والحق إن «إمبراطوريتهم» التي لم تدم إلا
أقل من قرن من الزمان ولم يبقَ منها شيء بعد أن بادت،
تعتبر — مثل إسرائيل — دولة «قومية» عرفت كيف تضم إليها
شعوبًا أخرى لتصبح «متعددة القوميات.»
٧٢
كان نارمر قديمًا الأوَّل بين أنداده، فقد كان رئيس
عشيرة وقاد اثنتي عشرة قبيلة وهزم أعداءه البدو، فصعد
من ذلك الحين إلى منصب ملك الشمال المقيم (على نحوِ ما
يبين تاجُه الأبيض) وكذلك ملك الجنوب (يشهد على ذلك
العقرب). ويظهر نارمر وخدمه يروِّحون عليه بالمراوح بما
هو إله (فالمروحة في الوقت نفسه هالة) بينما يضرب
الضربة الأولى بالمعول لشق قناة، ويفلح حقلًا جديدًا،
ويزرع الشجرة الأولى في أرض بائرة يعاد تشجيرها. وشعبه
آمن يتسلى، وهناك مسئول محمول في هودج يقوم بأعماله
الإدارية، مما يشهد على دوام السلام، وأنه يؤسس نظامًا
جديدًا.
(٥) امتلاك العالم رمزيًّا
في الربع الأخير
من الألفية الثانية ق.م. تغير وضع الأجانب وبلدهم الأصلي.
فلم تعد للغات وثقافات الشعوب القبلية أو البدوية — في
الصحاري والسهوب والسفوح الجبلية الواقعة بين أراضي قوى
مستقلة معترف بأنها جديرة باحترام متساوٍ — تُقبل على نحو
متسامح إلا لتكون في المتحف. لم يعد للشعوب والمروج
والنباتات والحيوانات والزروع من وجود مبرر شرعًا إلا على
الحيطان، وفي الحدائق العامة، أو في أقفاص بالقصر الملكي
في نينوى أو طيبة، من حيث هي مجرد تنويعات لخليقة اكتملت
عندما اكتشفت وجرى استئناسها. ويشهد تأثيث قصور الدولة
الحديثة في مصر والقصور الآشورية المحدثة على الاهتمام
الذي كانت تثيره هذه العينات. في بابل كان هناك متحف يضم
معروضات من بلاد مختلفة (من بينها ماري
Mari وفارس).
٧٣ وكانت حدائق النباتات
٧٤ واللوحات الجدارية الزخرفية التي صممت لترضي
فضول الضيوف
٧٥ الشديد تلعب دورًا تربويًّا: وفي مصر كانت
النباتات الغريبة التي تقوم بجمعها «فرق غازية مجهزة
متمكنة عاملة في خدمة الدولة»
rezzous
d’État تعرض كاملة بجذورها، وكانت
الخضراوات والحيوانات المجلوبة تُصَفُّ في ترتيب كأنه
ترتيب المجموعات المتحفية. وهذه على سبيل المثال «مقصورة
الطُّرَف» التي وضعت في أكثر المواضع عزلة بمعبد الكرنك؛
ذلك الموضع الذي لا يصل إليه الإنسان إلا بعد أن يكون قد
قرأ نقشًا فريدًا يعد الزائر المحظوظ لمشهد لا يشرحه نص
من تحته، فينبئه بأنه سينال حظوة مشاهدة «كل أنواع
الخضراوات الخارقة للمألوف» و«كل أنواع الزهور المنتقاة»
من «أرض الرب» أي من: مصر وملحقاتها مثل سوريا وفلسطين.
والرب الذي يقدم إليه هذا الرصيد «من أفضل ما هو موجود»،
ما هو «غير مألوف، بل ما هو فظيع»، ولكنه موجود «حقًّا»،
على اعتبار أنه دليل على تحضر العالم على يد فرعون ينفذ
بكل الورع «ما أمر به» آمون،
٧٦ في محاولة مثيرة لتوحيد العالم المألوف
والعالم الخارجي في كيان جامع منسجم.
٧٧ ومثل هذا الجهد هو علامة على «امتلاك العالم
الغريب والعجيب على نحو سحري»،
٧٨ «المقابل الثقافي لامتلاك العالم.»
٧٩ وهكذا يجد كل نوع، وتجد كل أمة مكانها في
تجميع ضخم.
وليست مشاهد امتلاك الدنيا بقوة السلاح مشاهد
متمايزة. فحيث عُرضت لم يعد جمهورها صاحب الأولوية العدو
الصريح الموعود بالعقاب ولا الغريم المحتمل الواجب ردعه
وصرفه عن القيام بأي مبادرة نكراء، بل كان جمهورها زائرين
أخلصوا لفكرة التفوق الملكي واعتنقوا دين إله أعلى. في
آشور على سبيل المثال لم يكن يُسمح إلا للوطنيين أن
يدلفوا إلى تلك الأجزاء من قصرهم الملكي التي رسمت فيها
فصول مجيدة أسهم بعضهم فيها شخصيًّا، فكان في مقدورهم أن
يتذكروها. وهناك علاوة على المشاهد العسكرية موضوعات تبرز
محاسن السلام الآشوري
pax
assyrianica. وعندما عُرضت لوحات
بانورامية للمعارك أمام أعين الناظرين فقد كان السبب في
ذلك بلا شك أن الإبداع التقني الذي تحقق في وقت متأخر جعل
من الممكن نحت لوحات ضخمة تصور فصولًا رائعة في سهولة
أكبر مما لو صورت حكاية عن أشياء من الحياة. والحق إن
تضاعف عدد الحملات العسكرية البعيدة أتاح لقاءات اتسمت
بسمات الغرابة حلا للفنانين ترجمة غرابتها وطرافتها أو
أحزانها على كل الصفحات الممكنة. ولقد فعلوا ذلك من أجل
جمهور، وفعلوه أيضًا من أجل ربهم، حيث ظلت بعض الصور
التذكارية بعيدة عن أن تعيها أبصار العابرين لأنها نحتت
في صخور وعرة منحدرة دمغت فيها حدود العالم المعروف، لا
حدود العالم الذي جرى غزوه.
٨٠
وأصبح العالم الآشوري الجديد يشبه الكون المصري، ولم
تكن المؤثرات المتبادلة بين نهجين من الفكر، النهج
الرافديني والنهج الفرعوني، من الأمور التي يمكن إغفالها
في ذلك العصر.
٨١ وهو كذلك ليس مقطوع الصلة عن الرؤيا
التوراتية عن الغزو المعاصر لكنعان على يد يشوع، فقد جاء
في التوراة «كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته»
(يشوع ١، ٣)، هكذا كلم الرب يشوع الذي استعرض أمامه «نحو
أربعين ألفًا مُتَحَرِّدين للجند عبروا أمام الرب للحرب
إلى عَرَبَات
٨٢ أريحا» (يشوع ٤، ١٣) قبل أن يقتلوا على نحو
مروع كل سكان المدن الكنعانية الذين قاوموهم.
٨٣ ولو قمنا بمجرد تغيير للأسماء لظننا النص
وثيقة آشورية، وهو ما يعني أنه من المحتمل أن يكون قد
استلهم الأسلوب الآشوري. كانت آشور، من حيث هي نقطة
الاتصال الوحيدة بين الدنيا والآخرة، تعتبر بمثابة مركز
العالم عندما يقيم فيها الملوك، منشئين في بطء
«أيديولوجية كونية النزعة» تعتبر الحرب «صراعًا ضد الشر»،
و«اختبارًا يثبت الخير» ووسيلة «لإقامة النظام الكوني.»
٨٤ في القرن الثامن ق.م. تغير مكان العاصمة في
كل حكم وكأنما كان هذا التغيير يسعى إلى إيجاد قناة اتصال
أفضل بين الدائرة السماوية والدائرة الأرضية في منطقة
تعتبر بمثابة مكان ميلاد عالم متمدد، وعده رب آشور
بالحضارة شريطة أن يكون الكهنة في الأرض قادرين على تحويل الخاءوس
٨٥ والبربرية إلى نظام وتحضر. ويدخل كل شعب بعد
الغزو في الدائرة المؤَنْسَنَة، في «المكان الداخلي»،
المنظم، المنيف، الدائم، الذي هو ضد الهوامش الخالية من
الزوايا القائمة، بما هي قطع ضيقة، فانية، مجهضة من الكون
الحقيقي الذي يقع على الآشوريين وحدهم أمر تحقيقه. عملٌ
صعبٌ شاق هو الذي يستهدف ولوج عالَمٍ خطير لم يكتشف بعد،
عمل تقوده فرق استكشافية (يمثلها، كما هي الحال في مصر،
رجال من قبيل قادة العجلات أولي الصلابة ورباطة الجأش
«يواجهون حيل حيوان الصيد وألاعيب الأعداء الملتوية»
فيتصدون لهم ويطاردونهم).
٨٦ ولكن هناك أيضًا المعرفة السلمية والبحث عن
الوقائع والأشياء التي تظل تراوغ الفهم إلى أن يمكن
«قياسها» و«عدَّها» و«تسميتها»، في عملية تطبيع واسعة
تجعل من العجيب (والغريب) معروفًا، وتهيئه لهيمنة الملوك
الفضلاء، ناهيك عن إقامة أبراج بابل حقيقية بمواد
ومنقولات مستوردة، وعمال ومهندسين مدائنيين كوسموبوليتيين
يشهد عملهم المتزامن على أن الخطة الإلهية يجري تنفيذها.
٨٧
والملك الآشوري يُصور في أغلب الأحيان في أثناء أدائه
لطقس شعائري، لا في وظيفته العسكرية.
٨٨ وهو بهذا يجعل من نفسه بنَّاءً أكثر منه
غازيًا، مسَّاحًا أكثر منه إمبراطورًا: وهو يضع كتاباته
المنقوشة في الأطراف الأربعة للعالم الذي يهيمن عليه،
يضعها في الميادين العامة أو على سفوح منحدرة وعرة بعيدة
تمامًا فيما وراء مدينة الرب آشور. وهو يشد قصورًا في اﻟ
«مثلث» الذي يتكون من نينوى
Ninive وكاله
Calah وخورساباد
khorsabad.
٨٩ وهناك ملوك آخرون يفعلون مثله: فهذا هو
سوبيليوليوما
Suppiliuliuma يضفي على
حاتوسا
Hattusa روعة غير
مسبوقة، وأمينوفيس الثالث يشيد بهو الأعمدة في الأقصر،
وتحتمس الرابع يرمم أبا الهول بعد حلم راوده أسفل التمثال
المنيف، تمثال الفرعون الخيبري
Khepri (وهو تصرف شهير
في حد ذاته ضمن له احترام شعوب «الأقواس التسعة») ورمسيس
الثاني يقيم في أبي سمبل تماثيل على صورته هي علامات
«تشهد إلى الأبد على اندماج الأراضي النوبية في القياس
الكوني الذي يجسده شخص فرعون.»
٩٠
والملك بما هو معماري — بالمعنى المزدوج: مهندس
معماري ومسئول عن معمار العالم — يسعى إلى أن يتحرك بصفته
إمبراطورًا أو هو على الأقل يسعى إلى أن يشبه الصورة التي
لدينا عن الإمبراطور. إلا أن تكرار وتناثر الفصول
الإمبراطورية المتباينة كل التباين في مكان وزمان الشرق
القديم يجعلاننا نشك في صلاحية مفهوم الإمبراطورية في هذه
المنطقة. وهذا المفهوم له بلا شك فائدة عملية بالنسبة إلى
المؤرخين الذين طبقوه على أنظمة مختلفة كل الاختلاف بعضها
عن البعض الآخر (على سبيل المثال «إمبراطورية» سارجون
كانت شديدة اللامركزية، بينما كانت «مملكة» حامُّورابي
مركزية). وليست هناك كلمة تعني «إمبراطور» في بلاد
الرافدين. لم تكن هذه اللغات تعرف إلا «كبير» (بالسومرية
lugal) و«ملك»
(بالأكادي
sharru)
و«الملك الكبير أو السيد الملك» (
sharru
rabû).
٩١ كذلك لا وجود لهذا المصطلح في اللغة المصرية؛
فالمصريون لا يقولون إلا «القائد الكبير»
hakaz ’az أو «ساكن
البيت الكبير» (أي «برعا» = فرعون)
per’â أو سيد النَّحلة
bity أو سيد السَّمَار
neswt.
٩٢ وفي سومر تلجأ اللغة إلى الإثبات بالنفي،
فتحمل هذه أو تلك المملكة بكل بساطة اسم عاصمتها، أو تحمل
اسمًا معناه الحرفي «وجود رجل عظيم»، وأحيانًا «وجود
ذَكَر قوي.»
٩٣ والعظام بين قادة البشر هؤلاء يفعلون كل شيء
من أجل أن ينسى الناس طموحاتهم الخارجية (قام سارجون
الأكادي بعد انتصاراته بالحج في تواضع إلى نيبور؛ واكتفى
ملوك أور الثالثة بأن يعرِّفوا أنفسهم بأنهم رؤساء مجلس
شيوخ «المدن الدول» السومرية).
٩٤
فمفهوم الإمبراطورية ليس إذن مفهومًا نشأ على تراب
هذه المنطقة. وإنما جاءت كلمة إمبراطورية إلى هنا من
اختراع الأثريين البروسيين العاملين في الشرق الذين كانوا
يحملون في مخيلتهم نموذج «الإمبراطورية الرومانية
الجرمانية المقدسة»، بينما لم تكن مصر ولم تكن بلاد
الرافدين التي قاموا فيها بحفرياتهم تجد أن عليها مهمة
جمع الشعوب الأجنبية بعضها إلى البعض الآخر فوق مساحات
مترامية الأطراف.
٩٥ بل إن فكرة المجتمع المتعدد الثقافات لم تكن
معروفة في هذه البلاد. فما كانت هذه الفكرة توافق الفكرة
الدينية التي تَنْسِب إلى شعب، أو بعبارة أفضل، تَنْسِب
إلى عشيرة من أسرات رسالةً حضاريةً تتضمن تغلغلها في
الشرائح الأرستقراطية وفي الشعوب المجاورة إلى حد
الانصهار فيها عدديًّا.
٩٦ وسيكون من الضروري انتظار داريوس
Darius، وتماثيل
بيرسيبوليس
Persépolis
لكي يجري التشديد على التماسك الداخلي لإمبراطورية متعددة
القوميات، وإيثاره على التشديد على قوتها الخارجية.
٩٧ ولما لم يكن أشد المغامرين جرأةً يضطرون إلى
توسيع ممتلكاتهم عن حاجة إلى أراض قابلة للزراعة، فقد كان
ينقصهم أقوى دافِعَيْن عرفهما خلفاؤهم الفرس والإغريق
وبخاصة الرومان.
٩٨ والحقيقة أنهم كانوا في الغالب يستجيبون
لدافع ثالث، لم يكن أبناء العصور الكلاسيكية يعرفونه، ألا
وهو: القتال من أجل وضع نظام للكون والتوافق هكذا مع
رسالة سماوية.
في غرب آسيا، في عالم مشخَّص
personnalisé ومرن يصعب
تطبيق معيار رابع لتعريف «إمبراطورية». فإعادة الهيكلة
المؤسساتية المتزامنة لدى الغالب والمغلوب في أعقاب غزو
لم يكن من فعل المصريين ولا من فعل الرافدينيين. اما
«تحولات المنظومة الدولية، الناجمة عن توسع دولة أو عدد
من الدول» والتي تُذكر على اعتبار أنها سمة فارقة تستخدم
لتمييز «إمبراطوريةٍ ما» عن مجرد دول توسعية،
٩٩ فإنها لم تنته قط إلى احتكارٍ لدورات تجارية
مختلفة موجودة بالفعل. والقوة الآسيوية الوحيدة التي
اقتربت من هذا هي آشور بين القرن الثامن والقرن السابع
ق.م. وإضافة معيار إضافي يهدم نهائيًّا عملية التمييز
القطعي التي قام بها عدد من العلماء الغربيين: قليلٌ من
«الإمبراطوريات» الشرقية قد تستحق هذا الاسم لو تمسكنا
بشرط بقائها مدة طويلة حية بعد مؤسسيها أو بعد أوائل مُرَسِّخيها.
١٠٠
في عالم تخضع فيه القوات العسكرية لمفاهيم متباينة جد
التباين، فإن البديهة المجردة وحدها تجعل من الصعب أن نصف
بالإمبريالية الدول الأكثر قوة. فهذه الدول على الرغم من
قوتها النسبية تعرضت لغزوات عديدة وخربت عواصمها ومدنها
الحدودية بين الحين والحين (نذكر بصفة خاصة حاتوسا
Hattusa الحيثية في
زمنِ سَلَفِ حاتوسيلي
hattusili الكبير،
ونذكر كذلك بابل وممفيس) مجد شعبها آلهة مستوردة (مثل بعل
Baal وعشتروت
Astarté في مصر).
١٠١ والفجور المخرِّب الذي يمارسه الغازي، والذي
يهلل به الأسلوب الأدبي أحيانًا
١٠٢ أو تشوهه التفسيرات الأثرية الخاطئة،
١٠٣ يشهد بكل بساطة على عجزه عن أن يحتفظ على
الدوام بأرض يانعة مزدهرة في وقت ليست لديه فيه أية مصلحة
في أن يحرم نفسه من تجييش قوات إضافية ملائمة ومن محاصيل
زراعية واعدة تكميلية، وذلك خطأ لم يرتكبه تحتمس الثالث
قبالة مدينة مِجِدُو
Meggido الفلسطينية
١٠٤ التي تمنى أن يدمجها في مملكته: من المدينة
المحاصرة كان من الممكن على أية حال أن يخرج رجال «للحصاد
عند باب مكانهم الحصين.»
١٠٥ وسياسة الأرض المحروقة ونقل المغلوبين
وأصنامهم أوضح علامة على أن امتلاكهم مستحيل. وهذا
الامتلاك يرغم الغالب — الذي لا يدوم انتصاره إلا ليومٍ —
على أن ينكر عليهم وجودهم، على أن يمحو لوقت طويل من
أذهانهم أي فكرة عن الانتقام. ناهيك عن المبالغة في
انتهاك المقدسات والتجريف في ذاكرة أبناء الوطن التي تسجل
بحصر مدقق اعتداءات لا يتصورها العقل: التغلغل العارم إلى
داخل مكان للتعبد والتهجد، ونبش قبور الملوك ونقل رفاتهم
حتى لا تصبح موضع تقديس، وتجريف التربة وتسويتها بإلقاء
ترابها في النهر، وجمع عينات من التربة ونقلها إلى عاصمة
الغالب وعرضها في زهو وفخار دليلًا على التخريب.
١٠٦ والغازي عندما يتصرف على هذا النحو لا يمتلك
شيئًا ولكنه يحرم قوةً ثالثةً من مرحلة مفيدة في حملة
ممكنة تزحف إليه: فلن تجد علفًا ولا حبًّا ولا لحمًا
طازجًا ولا يدًا عاملة ولا جنودًا للتجييش، بل قد لا تجد
ماءً، وهكذا فلن يستطيع منافس أن يقترب على نحو يكفي للتهديد.
١٠٧ وما النهب إلا الضد المباشر للجزية: فأخذ
غنيمة يعني لزوم استخدامها مرة واحدة بحسب تقديره، بدلًا
من الحصول على قرابين على فترات برضاء مانحيها.
والملك الغازي عندما يحاول أن يرتب الاقتصاد والحياة
السياسية لقوةٍ قَهَرَها وأضعفها دون أن يصل إلى فرض
احترام إرادته فإنه يكشف بذلك عن حدود إمبرياليته
الاقتصادية والعسكرية. والغازي في محاولته توسيع سيادته
لتصل إلى الجهات لأصلية، إلى «شواطئ أراضيه الأربعة»،
يتحقق على الأرض من حقيقة سلطته الواقعة. وظلت آشور زمنًا
طويلًا في هذا الوضع حيال بابل الحافلة بالقلاقل، على
الرغم من شبكات السياسة والتجسس ذات النفوذ التي كانت
تتيح لها أن توفر على نفسها وضع حاميات مكلفة.
١٠٨ فقد ظل المتآمرون على آشورنادين شومي
Ashurnadin-Shumi، الذي
تعرض للخيانة لصالح العيلاميين في عام ٦٩٢ق.م. «طلقاء حول
عام ٦٧٠ق.م. بعد انقضاء نحو عقدين من الزمان على قيام
سلطة آشورية»
١٠٩ كذلك مصر — التي لم توفر علينا قصصها الفريدة
الفذة عن الهزائم والتي غلب عليها طابع قصص القديسين
وصْفَ بعثات استرداد رفات الجنود الذين لقوا حتفهم في المعارك
١١٠ ليدفنوا في الوطن — لم تكن أكثر حظًّا في
القضايا السورية الفلسطينية. كان الحكام المصريون يُقضى
عليهم بعضهم تلو البعض الآخر على يد العصابات المتمردة في
أبيرو
Apirou (وكانت هذه
العصابات تتكون جزئيًّا من عبيد قدامى فارين كما يبين
خطاب للأمير أبدوحيبا
Abdu-Heba) وكانوا في
أحيان أخرى يُعلنون أشخاصًا غيرَ مرغوبٍ فيهم
persona non grata
(هناك خطاب من أحد أمراء بيللا
Pella يطلب فيه من
الفرعون أخناتون أن يعاقب مُقِيمَه العام يانحامو
Yanhamu لأنه تجرأ وطلب
منه، من ميلكيلو
Milkilu،
أن يسلمه «امرأته وأولاده»، ونجد ميلكيلو
Milkilu هذا وقد أصبح
على ما يبدو حاكمًا بدلًا من المذنب، موضع شكوى حيث كتب
أبدوحيبا
Abdu-Heba إلى
فرعون شاكيًا «لماذا لا يطالبه مولاي الملك بأن يقدم
حسابات؟»). وهناك قصة لابعايو
Labaayu من أبناء شكيم
Sechem يؤكد إخلاصه
لأمينوفيس الثالث، إخلاصًا شكك فيه أمراء بعض المدن
الفلسطينية، وهي قصة نموذجية فيما يتصل بالصعوبات التي
تلقاها قوةٌ كبيرةٌ في السيطرة على قُوًى أصغر منها. هل
كان الصراع الذي تَوَاجَه فيه هذا الحاكم ومنافسوه من
مجدو وجيزر
Gezer وبيللا
Pella وعشتارته
Ashtarte و(وأمير دمشق)
متعارضًا مع بنود المعاهدات التي أقامت السيطرة الفرعونية
أم هل كان لابعايو وأبناؤه يمارسون حقوقهم المحددة كل
التحديد عندما دافعوا عن أنفسهم ضد أعدائهم، دون عواقب
بالنسبة للسلام المصري
pax
aegyptica؟ ولكي لا يُتَّهم الأمراءُ
السوريون الفلسطينيون بالتآمر على مصر عندما تضافروا من
أجل تسوية مسألة لابعايو
Labaayu، قدم كل واحد
منهم إلى أمينوفيس تصويره الخاص للوقاع. وتحدثوا إليه
بأدب («أرتمي إلى قدمَي الملك، مولاي، ساجدًا سبع سجدات»)
ولكن دون أن يعبروا له عن آيات التوقير المتعارف عليها في
المراسلات الديوانية «فأنا خادمكم، أموت راضيًا من أجل مولاي!»
١١١ ودون أن يمر من تحت عباءة مُقيمِهِ العام في
غزة. ورد لابعايو بفجاجة: نظرًا لأن ما فعله ليس أكثر ولا
أقل من استرداد ماله، فإن القضية لا تخص فرعون («حتى إذا
طلبت مني أن أتركهم يضربونني، فسأرد أعدائي على أعقابهم،
أولئك الذين استولوا على مدينتي، وفتكوا بأبي، نعم سأردهم
على أعقابهم»). وتسارعت أحداث القصة، وانقلبت المبررات
إلى إسراف في التواضع بل في الدونية («أنا التراب الذي
تمشي عليه»؛ «إذا كتبت إليَّ: «دس في قلبك خنجرًا» فأنَّى
لي أن أعصي أمر مولاي الملك؟») أو إلى عبارات بلاغية
صارخة («إذا طلبت مني امرأتي، فأنَّى لي أن أمسكها
لنفسي؟»). كل هذا يدافع على نحو تناقضي عن أطروحة استقلال
روتيني للإمارات السورية الفلسطينية إبان أكثر العصور
مواتاة للإمبريالية الفرعونية. وفي نهاية المطاف: ألم يتم
تسليم لابعايو العنيد للمصريين في مقابل إتاوة مما يدل
على أنهم لم يستطيعوا أن يحصلوا عليه قسرًا بلأمر السلطوي
أو أنهم لم يشعروا بأنهم ضالعين في هذه الصراعات بين
المدن بعضها البعض؟
١١٢
فهل يجوز لنا والحال على هذا المنوال أن نتكلم عن
«دوائر نفوذ»
Sphères
d’influence، وهذا مصطلح أقل توريطًا
(من مصطلح الإمبراطورية) ولكنه أيضًا أقل دقةً هو الآخر؟
أم نتكلم عن ممارسة غير مباشرة للحكم في أراضٍ لا يكون
فيها لرعايا القوة الوصية
puissance
tutélaire (القابضة على مقاليد الحكومة
غير المباشرة) حقوق الملكية العقارية؟ وفي أحوال كثيرة لا
نجد أثرًا أي أثر لحكام معينين
gouverneur
en titre (بل من المحتمل أن أول
«الأباطرة» الرافدينيين، سارجون الأكادي، لم يعيِّن
حاكمًا ملقَّبًا) يجمعون الضرائب ويجردون الأهالي
الأصليين
indigènes من
أملاكهم. ومن الناحية الأخرى لا نعدم أمثلة على مناورات
سراي يقوم مقام القلب فيها شخصياتٌ مبعوثون من قِبَل
الدولة الأقوى بمراقبة أعمال الحلفاء المهزوزين.
١١٣
على مسار التاريخ كله نجد أن «عرض قوات» للقضاء على
مصدر خطر يهدد التجارة البعيدة، أو لإعادة إقامة لوحة
حجرية حدودية، أو للتدخل من أجل إجراءات تحكيم بين قبائل
متنازعة أو لاحتواء بدو ناشطين (ناهيك عن إعادة المحاولة
ست مرات) يتكرر أكثر من احتلال أرض من أجل استغلال منجم
بها، أو إقامة وكالة أو مستعمرة تجارية، أو اتخاذ مقر
إداري فيها. وفلسطين التي عبرها منذ الألفية الرابعة ق.م.
التجارة والجنود المصريون، لم نجد فيها بصفة جوهرية إلا
آثارًا عسكرية رعمسيسية، أي متأخرة.
١١٤ والحق أن الطغاة الموضوعين تحت وصاية قوة
كبيرة كانت لديهم سلطة كاملة على شئونهم الداخلية، ولكنهم
لم يكن لهم أن يقيموا علاقات دبلوماسية مباشرة مع دول
أخرى. فتوقيع معاهدة كان يعني أيضًا إعلان الاستقلال في
داخل حدود معترف بها، والدخول في شبكة الشئون الخارجية
التي تجري فيها تسوية المسائل المستعرة برقة ودقة من خلال
جهاز متعدد القوميات يتكون من دبلوماسيين محترفين.
١١٥
ويمكننا دون تردد أن نخلص إلى أن مفهوم الإمبراطورية
أو مفهوم الإمبريالية يجافي المسار التاريخي — مغالطة
تاريخية — إذا حاولنا تطبيقه على الشرق القديم. ويكون هذا
المفهوم خاطئًا كل الخطأ عندما يدور الأمر حول تدخل من
المترجم يعتبره من امتيازاته ويتخذ شكل المبالغات التي
تستر السمة المتقطعة لفترات التوسع والتقلص (التي في
أثنائها ترتد مناطق بأكملها إلى البداوة) والطبيعة
المختلطة لمنظومة دولية تتكون من أنماط متباينة من
الفاعلين (الدول الحقيقية، المدن الدول، الاتحادات
الفدرالية القبلية، ائتلافات وليدة الظروف … إلخ) تكيفت
العلاقات القائمة بينهم طبقًا لكل حالة ولم تُستنتج من
مبدأ عام، علاقات مرتبطة بتجارة الطيبات
١١٦ أكثر مما ترتبط بتجارة البشر.
١١٧ ويظهر سعي البلاد ذات الطابع الوطني المحلي
إلى «مَلَكية عالمية» في الألقاب الملكية التي تُرَكِّب
حول نفس المحور الأراضي الزراعية والأراضي المحصورة بين
الجهات الأصلية الكونية بعضها فوق البعض الآخر. الألقاب
الأكادية «ملك كافة» الأراضي المتحضرة
(
shar kishati) ملك
المناطق الأربع والشواطئ الأربعة (
shar
kibrat erbet)، تقابل الألقاب المصرية
«رب الأرضيْن» (الشمال والجنوب
nab
tawy) أو «الأقواس التسعة» (جمع الجمع
وهو يرمز إلى العالم الذي لا يعد ولا يحصى، ويشير رقم
تسعة إلى إجابات الآلهة التسعة الأولانيين).
١١٨ وهي كلها لها معنى شعائري ليست له علاقة
كبيرة بالواقع التاريخي.
١١٩ والسعي إلى الحصول على رضى، بل على تحويل
المعتنق الديني لجيران معتبرين بمثابة أقارب، أو معتبرين
على أية حال بمثابة كائنات من أصل بشري مشترك،
١٢٠ يفصح صراحةً عن نزعة عالمية. ومهمة امتلاك
العالم ليست في أصلها قاصرةً على مجرد إخضاع أجانب، بل
ترمي على نحو خاص إلى وضعهم على قدم المساواة مع الوطنيين
الأهالي الأصليين في نظام واحد. ونحن ندرك هذا بشكل أفضل
عندما يعلو قدر الأجانب أكثر مما ندركه عندما ينخفض
قدرهم. في بلاد ما بين النهرين أصبح إيحليبي
Ehlipi الحوري
١٢١ عمدة آشور في العصر الذي كانت فيه لا تزال
عاصمة المملكة.
١٢٢ في مصر في عصر الرعامسة بلغت نسبة الموظفين
الكبار الأجانب ما يقرب من نصف الياورية الملكيين وضباط
القصر الآخرين.
١٢٣ بل إن المؤامرة التي دبرت لرمسيس الثالث كان
يتزعمها ياور سوري، وهناك سوري آخر هو إيعارسو
Iarsou كان يعرِّض
برمسيس الرابع عندما تفاخر في خطابه — «خطاب إلى البشر» —
بأنه أعاد النظام الشرعي إلى نصابه في مصر («بلد كيميت»
kemet) ضد «رؤساء
المدن» (ربما ليبيين) وأمراء (آسيويين).
١٢٤ ولم يمنع هذا الكتَّاب من أن يصوروا على صورة
«فرعون النموذجي» العاهل الليبي تيفناخت
Tefnakht «هذا الغازي
الأجنبي المشبع بالثقافة المصرية»، هذا «الرجل العسكري»
القادم من الشمال الذي استسلمت له أقاليم الجنوب ذاتها
دون ضربة سيف واحدة حول عام ٧٣٠ق.م. والذي وصف نفسه بأنه
مجرد «قائد»
wr من حسن
طالعه أنه «استولى على الغرب بتمامه وكماله.»
١٢٥ وقد عبَّر منتوحوتيب الثالث
Montouhotep III عن هذه
العقائدية بوضوح خارق للمألوف في نقش وعد فيه ﺑ: «إخضاع
رؤساء البلدين كليهما، وتأسيس بلاد الشمال، وبلاد الجنوب،
والبلاد الأجنبية والشاطئين والأقواس التسعة والمدينتين.»
١٢٦
وإنما علينا أن ننتظر قدوم تحتمس الثالث، بعد انقضاء
خمسة قرون أخرى (وقبل بداية تقويمنا الميلادي بألف
وخمسمائة سنة) لكي تتخذ الأقواس التسعة زمنيًّا ارتباطات
أكثر إمبريالية في عرض رقمي غاب فيه المواطنون المصريون.
١٢٧ في أحد هذه النصوص ورد حصر لتسع لمجموعات
جغرافية أحيطت بكتلة عاشرة هي المحيط. ونحن نذكرهم هنا مع
التنبيه إلى هامش خطأ ممكن في تحديد هوية الشعوب المسماة.
وردت بالترتيب التالي:
ثم إن تحتمس الثالث لم يكن ملكًا عاديًّا يمكن اتخاذه
مثلًا. أضف غلى ذلك أن قائمته تبين القوى الآسيوية
الكبيرة (جمع الحيثيين والآشوريين في إشارة مبهمة) كانت
بعيدة عن مناله.
ومن الممكن مقارنة الألقاب الغرورة
١٣٠ لنواب الملك-الإله على الأرض بألقاب خلفاء
النبي الذين سيسميهم الإسلام فيما بعد «الخلفاء
الملهمين». ولقد أصبحت هذه الألقاب عند ارتباطها بتحورات
متفيهقة لبعض الشخصيات العجيبة مرادفة في أعيينا
للاستبداد الحقيقي. وبدلًا من أن نسلك هذا السبيل المختصر
الغريب ربما كان الأنسب أن نرى فيه تخطيطًا أوليًّا لمن
سيكون فيما بعد السلطان الخلفية المتأمر سلطان
الإمبراطورية العثمانية.
١٣١ إنه رجل دين مهمته — فيما وراء غلال الحماية
— أن يرد عالم الكفر على أعقابه (منبع «طاقة مخلة
بالنظام» في عصر الفراعنة)؛
١٣٢ ورجل دولة حريص على أن يضفي الشرعية دون معقب
على أعماله وعلى حياته السياسية، ويدبر شئون
«إمبراطوريته» على اعتبار أنه أب أسرة يحمي أهله الذين
يعيد توزيع موارده عليهم كصاحب محل على عملائه؛ وبنَّاءٌ
صبور يشيِّد إدارة متينة ومنظومة حقوق توازن ادعاءاته بأن
يحكم باسم الرب، أو من حيث هو رب، في حين أنه لم يصل إلى
السلطة إلا بإرادة البشر وفي إطار قانونهم.