واقعة البنك
في رَدهة البنك الوطني السادس في مدينة بار هاربر بولاية ميين، تنحَّى المُلازمُ آلان دروموند، المُلازم في سفينة «كونسترنيشن» التابعة للبحرية الملَكية البريطانية، ليُقدِّم سيدةً على نفسه. كان مجيء المُلازم إلى البنك بغرض تغيير بضع أوراق مصرفية بيضاء جديدة من عُملة بنك إنجلترا إلى عُملة البلد الذي كان يزوره حينئذٍ. لم يَبدُ أن السيدة لاحظَت مُجاملَته أو وُجُودَه، وكان هذا أكثرَ غرابةً؛ فدروموند شابٌّ جدير بالملاحظة بالقدر الكافي ليَلفتَ إليه الأنظار حتى بين حشدٍ من الناس، ثم إنهما كانا في تلك اللحظة هما العميلين الوحيدين في البنك. كان دروموند طويل القامة، قويَّ البنية، شُجاعًا، أشقر الشعر كأيٍّ من أبناء اسكندينافيا، وله عينان داكنتا الزرقة كان يقول عنهما في بعض الأحيان مازِحًا إن لونهما كلون جامعتِه. كان دروموند يقترب ببطءٍ من نافذة الصَّرَّاف بحركةٍ مُتمهلةٍ لا توحي بأنه مُتعجلٌ ألبتة، حين ظهرَت الفتاةُ عند الباب، وتقدَّمَت بسرعةٍ إلى منضدة البنك وحاجزه الشبكي المصنوع من الأسلاك النحاسية، والذي يُطوِّق الفتحة القوسية التي يجلس خلفها الصرَّاف. رغم أن ثوبها كان بسيطًا جدًّا، فقد كان يتمتَّع بسحرٍ نابعٍ من بساطةٍ كادَت توحي بأنه ثوبٌ من الثياب المعقدةِ التصميم المصنوعةِ في مدينة باريس، وكانت ترتديه وعليها سيماءُ الرِّفعة تلك التي يُعتقَد أن سرَّها لا تَمتلكه حصرًا سوى نساء فرنسا وأمريكا.
لم يرَ الشابُّ أيًّا من هذا، ورغم أنه كان يُقدِّر جمال الفتاة، فإن ما استوقفه في تلك اللحظة هو تعبير القلق المرسوم على وجهِها؛ ذلك الوجه الذي أبرز شُحُوبَه المؤقَّتَ شَعرُها الأسودُ الغزير. بدا له أنها ألزمَت نفسها بمهمةٍ كانت شديدة التردُّد في أدائها. فمنذ اللحظة التي دخلت فيها من الباب كانت عيناها السوداوان الكبيرتان مثبتتَين على الصراف فيما يُشبه التوسُّل، ولم تريا أيَّ شيءٍ آخر. ورغم أنَّ دروموند كان مُتبلدَ العقل في العادة، فقد استنتج سريعًا أن هذه اللحظة مُهمة للغاية في حياتها، وأنه ربما كانت تتوقَّف عليها مسائلُ عظيمة. رأى يدها اليُسرى تُمسك بركن الإفريز الواقع أمام الصراف بقبضةٍ متوتِّرة، وكأنما كان الدعم الذي ستحصل عليه بهذه الطريقة ضروريًّا لها. أما يدها اليُمنى فقد ارتجفت قليلًا وهي تمرِّر قُصاصةَ ورقٍ مُستطيلة الشكل عبر الفتحة إلى المُوظف الهادئ غير المُكترث.
سألَت الفتاة بصوتٍ خفيض: «هلا تَصرف لي هذا الشيك؟»
أخذ الصراف يتفحَّص المُستند في صمتٍ لبعض الوقت. بدا التوقيعُ غيرَ مألوفٍ له.
قال بهدوء: «لحظةً واحدةً يا سيدتي»، وتقهقر إلى مكتبٍ في الجزء الخلفي من البنك، حيث فتح كتابًا ضَخمًا، وراح يُقلِّب بعضَ الصفحات سريعًا، ويُمرِّر إصبعه أسفل إحدى الصفحات. بدا أنَّ حركته البطيئة زادت من ذعر الفتاة. لقد زاد شُحوبها، وترنَّحَت قليلًا، وكأنما كانت مُعرَّضةً لخطر السقوط، لكنها رفعَت يدها اليُمنى وساندت بها اليُسرى، وهكذا ثبَّتَت نفسها على إفريز نضد الصراف.
قال المُلازم لنفسه: «يا إلهي! ثمَّة خطبٌ ما هنا. تُرى ما هو؟ وفتاةٌ جميلةٌ للغاية كذلك!»
لم يرَ الصراف وهو وراء حاجزه شيئًا مما يعتمل من المشاعر هذه. لقد عاد في لا مُبالاةٍ إلى مكانه، وسأل، بأسلوبٍ عاديٍّ:
«كيف ستأخذين المال يا سيدتي؟»
أجابت بصوتٍ كاد يكون همسًا: «أُريده ذهبًا لو سمحت»، وطردَ شُحوبَ وجهها تورُّدٌ مُشرق، بينما تنهَّدَت تنهيدةً عميقةً دلَّت على النجاة من مِحنة.
في هذه اللحظة الحاسمة حدث شيءٌ غيرُ عادي. عَدَّ الصراف بعضَ العملات الذهبية، ومرَّرها من الفتحة إلى مالكتها الجديدة.
قالت الفتاة: «شكرًا لك.» ومن دون أن تمسَّ المال، انصرَفت وكأنها واقعةٌ تحت تأثير تنويمٍ مغناطيسي، وكانت عيناها غيرُ المُبصِرتين لا تزالان غيرَ مُباليتَين بالمُلازم الضخم، وخرجَت سريعًا من البنك. لم يُلاحظ الصراف هذا التخلي عن المال. لقد كان يكتبُ بعضَ الكلام الغامض على الشيك الذي صُرِف.
قال المُلازم لاهثًا بصوتٍ عالٍ: «يا إلهي!» وثَب إلى الأمام بينما كان يتحدَّث، وجرفَ العملات الذهبية في يدِه، واندفَع إلى الباب. كان هذا تصرُّفًا من شأنه أن يُوقِظ الصراف الأكثر تهاوُنًا لو أنه كان في حالة نُعاس. وبسرعة وعفوية، سحب الصراف مُسدَّسًا كان في دُرجٍ مفتوحٍ تحت يده.
صاح قائلًا: «توقَّف أيها الوغد وإلَّا أطلقتُ النار!» لكن المُلازم كان قد اختفى في ذلك الحين. اندفع الصراف إلى الممر بالقدر المتوقَّع من السرعة، ودون أن يَنتظر حتى فتح الباب المُنخفض الذي يفصل بين الحجرات العامة والخاصة في البنك، قفز فوقه، وانطلق حاسرَ الرأس مُطارِدًا المُلازم. إنَّ ضابطًا بالبحرية البريطانية في زيِّه الرسمي يُسرع في اللَّحاق بفتاةٍ غير مُدركةٍ لاقترابه منها، ومن خلفهما رجلٌ مُنفعلٌ حاسرُ الرأس يُمسك مُسدسًا في يده، لهو منظر من شأنه أن يَجمع حشدًا من الناس بسرعةٍ في أي مكانٍ تقريبًا، لكن تصادف أنهم كانوا في وقت الغَداء، وكان سكان ذلك المُنتجع الصيفي الشهير داخل منازلهم؛ لذا فقد كان الشارع لحُسن الحظ خاليًا. كان ضابط البحرية هناك لأن وقت وجبة الظهر على متن السفينة الحربية لم يكن مُتزامنًا مع وقت الغداء على الشاطئ. وكانت الفتاة هناك؛ إذ تصادَفَ أن كان هذا هو الجزء الوحيد من اليوم الذي أمكَنَ أن تَخرُج فيه دون أن يُلاحظها أحدٌ من البيت الذي كانت تعيش فيه، خلال ساعات عمل البنك، لتقوم بتجربتِها المالية الصغيرة المُثيرة. وكان الصراف هناك لأنه لم يكن للبنك وقتُ غداء، ولأنه شهد لتوِّه أكثرَ حدثٍ مُريبٍ رأَته عينُه الدائمةُ اليقَظةِ يومًا. على الرغم من الرزانة والهدوء اللذَين قد يبدو بهما أيُّ صراف، في عيون الجمهور؛ فهو رجلٌ يُعاني توترًا مستمرًّا خلال ساعات عمله. فكل شخصٍ لا يعرفه معرفةً شخصيةً يُقابله في عمله هو سارقٌ مُحتمَلٌ قد يُحاول في أيِّ لحظةٍ، عن طريق العُنف أو الحِيلة، أن يَسرق المالَ الذي يحرسه. إن وقوع أيِّ حدثٍ على خلاف المألوف والمعتاد يُثير ارتيابَ أيِّ صرافٍ في الحال، وما فعله هذا الغريب حين فَرَّ بمالٍ ليس مِلكه قد بَرَّر اضطرابَ الصراف إلى حدٍّ بعيد. بَدءًا من تلك اللحظة، فإن براءةَ التصرُّف أو أيَّ تفسيرٍ واضحٍ للغاية بحيث يُقنع أيَّ رجُلٍ عاديٍّ، يُصبحان، بالنسبة إلى عقل مُوظف البنك، دليلًا على ارتكابِ جُرمٍ أكثر مكرًا. إنَّ المواطن العادي، عندما يرى المُلازم وقد لحقَ أخيرًا بالفتاة المُسرعة ودنا منها وخاطَبَها، ورفَع قُبَّعته، ثُم صبَّ في يدها الممدودة ما أخذه من ذهب، كان سيعلم على الفور أن هذا إنما كان صنيعًا من صنائع الكياسة الفطرية التي يُمارسها الناس كل يوم. لكن الصراف ليس كذلك. كلما ابتعد عن البنك، أدركَ على نحوٍ أشدَّ إيلامًا أن هذَين اللذَين أمامه، وكلاهما غريبٌ بالنسبة إليه، قد استدرجاه، بفعلهما المُشترك، هو ومُسدسه كذلك، بعيدًا عن وظيفته خلال الساعة الأشد كآبة في اليوم. لم يكن الفرار بتلك القطع الذهبية القليلة هو ما يُزعجُه الآن؛ وإنما الخوف مما قد يحدث خلفَه في تلك اللحظة. كان واثقًا أن هذَين الاثنين كانا يعملان بالتعاون معًا. لم يَخدعه الزيُّ الرسمي الذي يَرتديه الرجل. فأيُّ لصٍّ كان يستطيع أن يَحصُل بسهولةٍ على زيٍّ رسميٍّ، ثم إنه حين عاد بذهنه ليراجع عناصر المكيدة سريعًا، أدركَ الفعالية الكبيرة التي كانت عليها الخطةُ؛ أولًا: ما صدرَ عن المرأة من إهمال لا يُصدَّق عندما تركَت ذهبها على النضد؛ وثانيًا: اختفاءُ الرجل بالمال في تهور؛ وثالثًا: اندفاعه الطائشُ هو نفسه إلى الشارع وراءهما. لقد رأى المؤامرة كلها في لحظة خاطفة؛ لقد قفز حرفيًّا إلى الشَّرَك، وفي أثناء هذه الدقائق الخمس أو العشر التي غابها، ربما يكون شُركاء هذين الاثنين قد روَّعوا المُوظَّفين العُزَّل، وسرقوا الأموال. كان دُرج ماله مفتوحًا، وحتى الخزينة الكبيرة كانت مفتوحة. لقد استدرجتْه المفاجأةُ بالفعل وكأنه ريفيٌّ أخرق. أخذ يلعن تهوُّرَه بمرارةٍ وهو يلهث. كان واجبه أن يَحمي البنك، لكنَّ البنك لم يُسرَق، بل ما سُرق، في أحسن الأحوال، هو امرأةٌ مُهمِلةٌ لم تَأخُذ مالها. لقد احتفظ بشيك المال، وكانت الخسارة، إذا كان ثمَّة خسارة، ستُصبح خسارتها هي، لا خسارة البنك، ورغم ذلك فها هو ذا، يَجري في الشارع حاسِرَ الرأس كالمجنون، والآن يَقف ذانك الاثنان معًا في هدوءٍ تامٍّ، بينما يُعطيها المال، وبهذا يَنشُران غطاءً من البراءة فوق الخُدعة الوضيعة. لكن أيًّا كان ما يَحدث في البنك، فسوف يَعتقل اثنين من الجناة على الأقل. كان الاثنان يَقفان غافلَين تمامًا عن الخطر الذي يتهدَّدهما حين أفزعهما إلى حدٍّ ما رجلٌ لاهثٌ، حاسرُ الرأس، يجري مُندفعًا نحوهما، وهو يَرتعش من الغيظ، ويلوِّح بسلاحٍ قاتل.
صاح الصراف قائلًا: «عودا إلى البنك في الحال أنتما الاثنان!»
سأله المُلازم بصوتٍ هادئ: «لماذا؟»
«لأنني أقول ذلك، وهذا سببٌ واحدٌ من الأسباب.»
«ذاك سببٌ مُفحِم»، هكذا أجاب المُلازمُ بضحكةٍ خفيفةٍ، زادَت خصمه سخطًا. وأضاف: «أعتقد أنك مُنفعلٌ من دون داعٍ. هل تَسمح بوضع ذلك المُسدس في جيبك؟ إننا دائمًا ما نضع المسدسات في أقْرِبتها ونحن على متن السفينة الحربية عندما تُشرِّفنا السيداتُ بحضورهنَّ. أنت تريدني أن أعود لأنني لم أكن مُخوَّلًا بأخذ المال، أليس كذلك؟ حسنٌ؛ هيا بنا.»
عَدَّ الصرافُ هذا خداعًا، ومحاولةً لإعطاء المرأة فرصةً للهرب.
وقال للفتاة: «يجب أن تعُودي أنتِ أيضًا.»
ناشدَته بصوتٍ خفيض: «أُفضل ألَّا أفعل»، وهو تعليق لم يكن من المُمكن أن تأتي بشيءٍ أكثر حُمقًا منه، إذا كانت قد قضَت فترة العصر كلها في الاستعداد.
تجدَّد تصميمُ الصراف على رأيه وبدا ذلك في وجهه.
وردد قوله: «يجب أن تعودي إلى البنك.»
قال المُلازم مُعترضًا: «يا إلهي، أرى أنكَ الآن تتعدَّى حدود سُلطتك. أنا فقط المُجرم. أما الفتاة فهي بريئةٌ تمامًا، ولا حقَّ لك في احتجازها دقيقةً واحدة.»
يبدو أنَّ الفتاة — التي كانت تَبتعد ببطءٍ وتَظهر عليها علاماتُ الرغبة في الفرار؛ مما دفع الرجلُ الحاسرُ الرأس، الذي من الواضح أنه في حالة تأهُّب، إلى الانحناء للأمام استعدادًا لكي يَعترضها — قد قررَت أن تنحني للعاصفة. تجاهلَت الفتاة الصراف، ورفعت بصرها إلى المُلازم الأشقر وقد ارتسمَت على شفتَيها الجميلتَين ابتسامةٌ خفيفة.
وقالت: «لقد كان الخطأ كله حقًّا خطئي أنا من البداية، وكان تصرُّفًا شديد الحماقة منِّي. إنَّ لي شيئًا من المعرفة بمُدير البنك، وأنا واثقةٌ أنه سيَضمنني، إذا كان هناك.»
أنهت جملتها واستدارت باتجاه البنك تحثُّ الخطى، مُشيرةً بذلك إلى رغبتها في ألا يرافقها أحد. وجد المُوظفُ الحاسرُ الرأسِ غضبَه يُفارقه دون تفسير، بينما حلَّ محلَّه خوفٌ كبيرٌ من أن يكون قد ارتكب خطأً مُحرِجًا.
قال المُلازم بلُطفٍ، وهما يسيران معًا بخطًى واسعةٍ: «الحق أنَّ موظَّفًا في موقعك ينبغي له أن يُحسن الحكم على طبيعة الناس. كيف يُمكن لأي عاقلٍ، لا سيَّما إذا كان شابًّا، أن ينظر إلى تلك الفتاة الجميلة ويظنَّ بها شرًّا، هذا شيءٌ يفوق قدرتي على الفهم. هل تعرفها؟»
قال الصراف باقتضاب: «لا، هل تعرفها أنت؟»
ضحك المُلازم بلُطف.
وسأل: «لا تزال مُرتابًا، أليس كذلك؟ لا، لا أعرفها، لكني أقولها لك بِلُغة الصناعة المصرفية إنني أُراهنك على آخر فِلسٍ لديَّ أنني سأفعل. في الواقع، أنا مُمتنٌّ لك إلى حدٍّ ما لعنادك وإصرارك على إرغامنا على العودة. العناد من الصفات التي أحبُّها، وأنتَ تتحلَّى بها على نحوٍ مُدهِش؛ ولذا أنا عازمٌ على الوقوف بجانبك عندما يَحين وقتُ التوبيخ الإداري الرسمي. أنا مُتأكدٌ تمامًا أني قابلتُ مديرك في المأدُبة التي أَعدُّوها لنا في الليلة الماضية. إنه السيد مورتن، أليس كذلك؟»
قال الصراف مُتذمِّرًا، بصوتٍ أجشَّ ينم عن جَزَع: «بلى.»
«رائع، هذا ممتازٌ للغاية. إنه من أفضل الرجال الذين قابلتُهم منذ عشر سنوات. والآن، قالت السيدةُ إنَّ لها علاقةً به، وإن لم أتمكَّن إذن من إقناعه بأن يُعرِّفني بالسيدة، فسيكون هذا دلالةً على أن الرجل الذي تلتقيه في مأدُبة يُصبح مختلفًا تمامًا إن التقيته في محل عمله ببنك. لقد كُنتَ تبحث عن مؤامرات؛ فها هي ذي مؤامرتي جلية لك. إن ما أتآمر عليه هو التعارُف، وليس الذهب.»
لم يكن لدى الصراف مَزيدٌ من الكلام. عندما دخلا البنك معًا رأى الموظفين جميعًا مُنهمكين في العمل، وعلم أنه ما مِن حدَثٍ مُروِّعٍ وقع أثناء غيابه. كانت الفتاة قد ذهبَت مُباشرةً إلى غرفة المُدير، فتبِعها الشابان إلى هناك. كان مُدير البنك واقفًا عند مكتبه، وكان يُحاول أن يُحافظ لوجهِه على تلك الهيئة الصارمة التي تبدو في وجوه العاملين بمجال الأموال، لكنَّ بريق عينيه كان يُكذِّب تلك الهيئة. من الواضح أن الفتاة كانت، وهي واقفة هي الأخرى، تُعطيه صورةً وصفيةً سريعةً لِما حدث، لكنها سكتت الآن عندما ظهر المُتَّهمُ وشريكُها في الجريمة.
كان مجيءُ الرجل الإنجليزي هِبةً سماويةً للمُدير. ذلك أنه كان على درجةٍ عاليةٍ من التهذيب تمنعُه من الضحك في وجه سيدةٍ كانت تقصُّ عليه بجديةٍ تامةٍ أحداثًا أثارت فيه روح الدعابة؛ ولذا فقد مكَّنه قُدومُ المُلازم من قَمع مرحِه بموضوعٍ آخر، وعندما حيَّاه الضابطُ في وُدٍّ قائلًا: «صباحُ الخير يا سيد مورتن»، أجابه:
«يا إلهي، حضرة المُلازم، سعدتُ برؤيتك. لقد كانت أُغنيةً رائعةً للغاية تلك التي غنيتَها لنا ليلةَ أمس، لن أنساها أبدًا. ما اسمُها؟ «ويتينجتون فير»؟» وضحك من فوره، كمن تذكَّر شيئًا لطيفًا.
احمرَّ وجه المُلازم حياءً وكأنه فتاة، وقال مُتلعثمًا:
«في الواقع يا سيد مورتن، إن هذا ليس متوافقًا مع قانون الإثبات. فحين تُعقَد محاكمة لشخصٍ ما، لا يُسمح بذكر الإدانات السابقة مُطلقًا إلا بعد الحُكم بعقوبة. ينبغي ألَّا تُؤخذ عليَّ أُغنيةُ «وديكوم فير» في الأزمة الحالية.»
ضحك المُدير ضحكةً خافتةً مرحة. أما الصراف، فعندما رأى كيفية سير الأمور، انسحبَ بهدوءٍ، وأغلقَ الباب خلفه.
قال مورتن: «حسنٌ يا حضرة المُلازم، أعتقد أن عليَّ أن أُرسل برقيةً إلى أوروبا بما حدث هنا، عسى أن تعلم دول قارتك الواهنة أنَّ صرافًا عاديًّا في أحد البنوك لا يَخشى مواجهة الأسطول البريطاني. والحق يا سيد دروموند أنك إذا قرأتَ التاريخ، فستعلم أن هذا شاطئٌ خطيرٌ على سُفُنِكم الحربية. إنه ليبدو منافيًا بعض الشيء لواجبِ الضيافة ألَّا يتمكن أحد ضيوف مدينتنا من أخذ كل الذهب الذي يُريده من أحد البنوك، لكنَّ صرافًا في بنكٍ ينظر إلى الموضوع بشيءٍ من ضيق الأفق بالتأكيد. لقد كنتُ على وشك أن أعتذر إلى الآنسة إمهيرست، وهي عميلةٌ محترمةٌ من عملائنا، عندما جئتَ أنت»، والتفتَ إلى الفتاة، وواصل كلامه برزانةٍ قائلًا: «وأرجو يا آنسة إمهيرست أن تسامحينا على الموقف المُزعِج الذي تعرَّضتِ له.»
جاء رد الفتاة: «يا إلهي، لا بأس على الإطلاق»، غير أنَّ هذا الرد لم يخلُ من تنهيدة ارتياح. وأضافت: «لقد كان الخطأ كله خطئي أنا حين تركتُ المال بهذه اللامُبالاة الشديدة. في وقتٍ ما، حين أكون أقل استعجالًا منِّي الآن، سوف أُخبرك كيف تصادف أن أخطأتُ هذا الخطأ الفادح.»
في غُضون ذلك لمح المُدير نظرةً متوسِّلةً في عيَن المُلازم وفسَّرها على النحو الصحيح.
«قبل أن تُغادري يا آنسة إمهيرست، اسمحي لي أن أُعرفكِ بصديقي، المُلازم دروموند؛ المُلازم في سفينة صاحبة الجلالة «كونسترنيشن».»
بعدما تمَّ التعارف بينهما على هذا النحو، أفصحَ التعبير الذي ارتسم على وجه الفتاة عن تجدُّد تَوقها إلى المُغادَرة، وعندما التفتَت إلى الباب، وثَبَ الضابط إلى الأمام وفتحه لها. وإن كان المُدير يتوقَّع عودة الشاب، فها هو ذا قد خاب أملُه؛ إذ قال دروموند سريعًا وهو يُغادر:
«سوف أراك في النادي هذه الليلة»، وعندئذٍ، لمَّا وجد مورتن اللطيفُ نفسَه وحيدًا، جلس على كرسيه الدَّوَّار وأخذ يضحك بهدوءٍ بينه وبين نفسه.
اكتسى وجه الفتاة بظلٍّ طفيف للغاية من الانزعاج عندما سار البحَّارُ إلى جوارها بعدما خرجا من باب غرفة المدير، وسارا عبْر الجُزء العمومي من البنك وصولًا إلى المَخرج، وعندما لاحظ الشابُّ عُقِد لسانه لحظةً، لكنه مع ذلك واصل سيرَه في عنادٍ واضح لم يكن لتلميحها الطفيف للغاية بأنها لا تَرغب في مُرافقته لها أكثر من ذلك أن يُثنيه. لم يتكلَّم الشاب حتى نزلا على الدَّرج الحجريِّ وتجاوزاه إلى الرصيف، وعندئذٍ بدأ كلامَه بتلعثُمٍ فيه شيءٌ من الحرج، وكأنما كان يطلب تفسيرًا لما بدا على وجهها من الانزعاج.
«أنتِ … أنتِ ترَين يا آنسة إمهيرست، أنَّ كلًّا منا تَعرَّف بالآخر على النحو الملائم.»
كانت هذه أول مرةٍ يَسمع الفتاة تضحك فيها، وإن كانت ضحكةً قصيرة فحسب، وكان صوت الضحكة موسيقيًّا للغاية في أُذنيه.
قالت الفتاة: «لقد كان تعريفًا مُختصرًا للغاية.» وتابعت: «إنني لا أستطيع حتى أن أدَّعي لنفسي معرفةً بالسيد مورتن، رغم أني فعلتُ ذلك في وجود مرءوسه اللجوج. إنني لم أَلتقِ بمدير البنك إلا مرةً واحدةً فقط من قبل، ولم تستمرَّ إلا دقائق معدودة، وذلك عندما أراني أين أُوقِّع باسمي في سِجِلٍّ كبير.»
قال دروموند في إلحاح: «ومع ذلك، فسأدافع عن صلاحية هذا التعريف في مواجهة المُنافسين. إن شخصية مدير البنك في أي بلد تحظى بأهمية كبيرة للغاية، وإن ثناءه لشيءٌ مرغوبٌ جدًّا.»
«يبدو أنك حُزت ثناءه. فقد أثنى على غِنائك مثلما رأيت»، والتمعت عين الفتاة ببريق خبيث وهي ترمقه بطرْف عينها، بينما افترَّت شفتاها عن ابتسامةٍ عندما رأت التورُّدَ يصعد من جديدٍ إلى وجنتَيه. لم تُقابل من قبلُ رجلًا يتورَّد وجهه من الخجل قط، ولم يكن بوسعها سوى أن تعدَّه صبيًّا كبيرًا لا شخصًا ناضجًا ليُؤخَذ على محمل الجِد. أصبح تلعثُمُه أكثر وُضوحًا.
وقال: «أظنكِ … أظنكِ تسخرين منِّي يا آنسة إمهيرست، وأنا في الواقع لستُ متفاجئًا من هذا، ويُؤسفني … يؤسفني أنكِ تعتبرينَني أكثر لجاجةً حتى من الصراف. لكنني في الحقيقة كنتُ أريد أن أُخبركِ بمدى أسفي لأنني تسببتُ في إزعاجك.»
ردَّت الفتاة على الفور: «يا إلهي، إنك لم تَفعل هذا. لقد كان الأمر كلُّه بسبب خطئي أنا من البداية، كما قلتُ من قبل.»
«لا، ما كان ينبغي لي أن آخذ الذهب. كان يَجدر بي أن ألحق بكِ، وأن أُخبركِ أنه لا يزال ينتظركِ في البنك، وأنا الآن أرجو منك أن تأذَني لي في السير معكِ في الشارع، حتى إذا كان ثمة مَن نظر مِن هذه النوافذ، ورأى رجلًا حاسرَ الرأس وفي يده مسدَّس يُطاردنا، فسيعلم الآن عندما ينظر من النافذة مرةً أخرى أن الأمور على ما يُرام، وربما حتى يَعُدَّ المُسدس والرجل الحاسر الرأس وهمًا بصريًّا.»
ضحكَت الفتاةُ من جديد.
وقالت: «لا أحدَ ألبتَّة يَعرفني في مدينة بار هاربر، حيث إن معارفي هنا أقل حتى من معارف زائرٍ مثلك؛ ولهذا لا يُهمُّني ألبتَّة إن كان أيُّ أحدٍ قد رآنا أم لا. سوف نسير معًا إذن، إلى المكان الذي باغتَنا فيه الصرافُ، وهذا سيمنحني فرصةً لتفسير تَركي للمال على النضد، حتى وإن لم أتمكَّن من الاعتذار عنه. أنا واثقةٌ أنَّ تصرفي بدا متعذر التفسير لكليكما بالتأكيد، لكنَّ أدبك الجم سوف يمنعُك بالطبع من أن تقول هذا.»
«أؤكِّد لكِ يا آنسة إمهيرست …»
قاطعَته الفتاة، بمرحٍ لم تُظهِره في السابق، قائلةً: «أعرف ما ستقوله، لكنَّ المسافة إلى ناصية الشارع قصيرة، ولأنني في عجلةٍ من أمري كما ترى، يمكنني إذا كنتَ لا تمانع أن أستكملَ قصتي عندما نَتَقاﺑل مجددًا …»
«رائع، إذا كنا سنَتقاﺑل مجددًا …» همس الشاب بهذه الكلمات بحماسةٍ شديدةٍ حتى إنه آن لحمرة الخجل في تلك اللحظة أن تعلو وجنَتي الفتاة.
وأسرعت تقول: «إنني أتكلَّم بطيش. ما أريد أن أقوله هو أنني لم أملِك قبل ذلك كثيرًا من المال قط. وحديثًا جدًّا ورثتُ ما جمعه قريبٌ لي لمْ أعرفه مطلقًا. لقد بدا الأمر بعيدًا جدًّا على التصديق، وغريبًا للغاية، بل إنه لا يزال يبدو غريبًا ويصعب تصديقه، ولا أزال أتوقَّع أن أستيقظ وأجد أن الأمر برمَّته حُلم. في الواقع، عندما لحقتَ بي في هذا المكان الذي نقف فيه الآن، خشيتُ أن تكون قد جئتَ لتخبرني أن الأمر كان خطأً؛ وأن ترمي بي من السحاب إلى الأرض القاسية من جديد.»
صاح دروموند بتلهُّف: «لكنَّ الأمر كان على عكس ذلك تمامًا. على عكس ذلك تمامًا، تذكَّري. لقد جئتُ كي أؤكِّد حلمكِ، وقد تَسلمتِ من يدِي أول جزءٍ من ثروتك.»
اعترفَت الفتاةُ قائلةً: «نعم»، بينما كانت عيناها مُثبتتان على رصيف المشاة.
واصل الشاب كلامَه في حماسة: «إنني أفهم الآن ما جرى. أعتقد أنكِ لم تَصرفي أيَّ شيك مُطلقًا.»
اعترفَت الفتاة قائلةً: «مُطلقًا.»
«وكانت هذه مجرَّد تَجربة. لقد وضعتِ حلمكِ في مواجَهةٍ مع الواقع العمَلي الصارم للبنك، والبنوك لا تعرف الأحلام. كنتِ على وشك أن تُحوِّلي رؤياكِ إلى حقيقة واقعة، أو تكتشفي أنها اختفَت. عندما مرَّر إليكِ الصراف العاديُّ القطعَ النقدية، قالت لكِ صلصلتُها: «لقد صار الخيالُ المتوهَّم حقيقة»، لكنَّ القطع الذهبية نفسَها لم تَعنِ لكِ في تلك اللحظة الشديدة الأهمية أكثرَ مما يعنيه الكثير من القطع النقدية العديمة القيمة؛ ولذا أعرضتِ عنها.»
رفعت الفتاةُ بصرَها إليه، ورغم أن عينَيها كانتا دامعتَين، فقد أضاءتا ببهجةٍ بثَّها فيهما التعاطفُ البادي في نبرة صوته لا فحوى كلماته. كانت حياة الفتاة قبل هذه اللحظة قليلة الحظ من الطيبة مثلما كانت قليلة الحظ من المال، وكان صوته يَنطق بصدق عميق أنعشَ قلبها الشاعر بالوحشة؛ إذ كانت تلك الخبرة جديدة عليها. لم يكن هذا الرجل شديد الحماقة كما تظاهر بذلك من قبل. لقد حدس بالمعنى الباطنيِّ لِما حدث على نحوٍ دقيقٍ. نسيَت الفتاةُ ضرورة الإسراع بالرحيل التي كانت مُلِحَّةً للغاية منذ دقائق معدودة.
قالت الفتاة: «لا بُد أنكَ تُجيد قراءة الأفكار.»
قال الشاب ضاحكًا: «لا، أنا لستُ بارعًا على الإطلاق. الحق أنَّ قدمي دائمًا ما تزلُّ في المشاكل مثلما أخبرتُكِ، ودائمًا ما أفعل أشياءَ تُزعج أصدقائي. يُؤسفني القول إنني في الوقت الراهن محلُّ ريبة إلى حدٍّ ما في العمل، وقد استُدعيت كي أتحمَّل عُبُوس رؤسائي في الخدمة.»
سألَته قائلةً: «يا إلهي، ماذا حدث؟» بعد وقوفهما المؤقت عند ناصية الشارع التي باغتهما الصراف عندها، أخذا يتمشَّيان الآن معًا مثل صديقَين يَعرف أحدهما الآخر منذ زمنٍ بعيد، وقد تجاهَلَت شرطَها السابق بألا يتجاوزا ناصية الشارع.
«حسنٌ، لقد كنتُ أتولَّى مؤقتًا قيادة السفينة الحربية المُبحِرة في بحر البلطيق، وبعدما تجاوزتُ صخرةً كبيرةً تُشبه الجزيرة ببضعة أميال، رأيتُ أنها ستكون فرصةً جيدةً لأُجرِّب مِدفعًا جديدًا وضعناه على متن السفينة عندما غادَرنا إنجلترا. كان البحرُ هادئًا جدًّا، وكانت الصخرة مُغريةً للغاية. كنتُ أعرف بالطبع أنها منطقةٌ روسية، لكنَّ أحدًا لم يكن ليتصوَّر أنًّ مكانًا كهذا كان يسكنه أيُّ شيءٍ آخر سوى النوارس.»
صاحت الفتاةُ وهي تَرفع بصرها إليه وعلى وجهها علاماتُ فضولٍ جديد: «ماذا! أتقصد أنك أنت الضابط الذي طلبَته روسيا من إنجلترا، ورفضَت إنجلترا تسليمه؟»
«يا إلهي، لم يكن بإمكان إنجلترا أن تُسلِّمني، بالطبع، لكنها اعتذرَت، وأكدَت لروسيا أنها لم تنوِ شرًّا. ومع ذلك، فإنَّ أي شيءٍ يستدعي عمل الدبلوماسيِّين محلَّ استهجان، ومَن يعمل عملًا تُضطر حكومتُه للتنصُّل منه يُصبح غير محبوبٍ لدى رؤسائه.»
«لقد قرأتُ عن الموضوع في الصحف وقت حدوثه. ألم تُبادلك الصخرةُ إطلاق القذائف؟»
«بلى، لقد فعلَت، وما من أحدٍ كان من المُمكن أن يكون أكثر ذهولًا منِّي عندما رأيتُ سحابة الدخان التي ترد عليَّ إطلاق النار.»
«كيف أَمكن لمدفعٍ أن يُوجَد هناك؟»
«لا أحدَ يدري. أظن أن صخرة البلطيق تلك هي حصنٌ مَخفيٌّ، وأن بها ممراتٍ ذات كُوَّاتٍ لإطلاق القذائف وحجراتٍ لصغار الضباط منحوتة في الصخر على طريقةِ حصوننا في منطقة جبل طارق. لقد قلتُ للمحكمة العسكرية إنني أضفتُ إلى معلومات أسطولنا معلومةً قيِّمة، لكنني لا أظن أنه كان لهذا الزَّعمِ أيُّ تأثيرٍ على آراءِ القُضاة الذين حاكَمُوني. وقد استرعيتُ انتباههم أيضًا إلى الحقيقة المتمثِّلة في أن قذيفتي أصابَت هدفها، بينما انحرفت القذيفةُ الروسية مسافةَ نصف ميلٍ عن إصابة سفينتي. كاد هذا التعليقُ أن يُفقدني مَنصبي في البحرية. إنَّ المحكمة العسكرية لا تتمتَّع بحس الفكاهة.»
«أظن أن الأمور كلَّها قد سُوِّيَت على نحوٍ مُرضٍ الآن، أليس كذلك؟»
«حسنٌ، بالكاد حدث هذا. كما تعرفين، الدول الأوروبية مُتشكِّكةٌ جدًّا في حُسن نوايا بريطانيا، مثلما أن بعضها متشكِّك بالطبع في حسن نوايا بعضها الآخر. وما من حكومةٍ تُحب وقوعَ ما نستطيع أن … حَسنٌ، ما نَستطيع أن نُسمِّيه «حَدثًا حُدوديًّا»، وحتى إذا كانت إحدى الدول على صوابٍ تمامًا، فإنها برغم هذا تنظُر شزرًا إلى أيِّ موظفٍ من موظفيها يُسبِّب — بحماقته — مُشكلةً دولية. أما بخصوصي أنا، فأنا محل ريبة، كما أخبرتُكِ من قبل. لقد برَّأَت المحكمةُ العسكرية ساحتي، لكنها فعلَت ذلك على مَضضٍ ومع تحذيرٍ وجَّهَته لي. سيتوجب عليَّ أن أتحلى باستقامةٍ شديدةٍ خلال السنة أو السنتَين القادمتَين، وأن أحذَر الوقوعَ في أيِّ خطأ؛ لأن أعين الأميرالية مسلَّطة عليَّ. مع ذلك، أعتقد أني أستطيع تسوية هذا الأمر. لديَّ إجازةٌ ستستمرُّ ستةَ أشهرٍ ستبدأ قريبًا، وأنوي أن أقضيَها في مدينة سانت بطرسبرج. سوف أحرص على زيارة بعض الموظفين في الأميرالية هناك سرًّا، وعندما يَعرفون بأنفسهم أنني أحمقُ حَسَنُ النية، سيتلاشى الارتياب كله.»
«لو كنتُ مكانكَ فلن أفعل أيَّ شيءٍ من هذا القبيل.» هكذا أجابت الفتاةُ بنبرةٍ جادةٍ، وقد نسيت تمامًا قُربَ عهد أحدهما بصاحبه، مثلما نسيَت مرور الوقت، بينما لم يُلاحظ هو أيَّ تعارُضٍ في الموقف. وأضافَت: «وسأُحجم عن التدخُّل في أي شيء؛ خشيةَ أن أَزيد الأمر سوءًا.»
سألها: «لِمَ تعتقدين هذا؟»
«لقد حققَت دولتُك في الأمر، وخاطرَت عن عمدٍ بوقوع نزاع عندما رفضَت تسليمك. فكيف يمكنك إذن أن تَذهب إلى هناك طواعيةً؟ سوف يكون ذلك التصرف الشخصي من جانبك مُعارِضًا معارَضةً مباشرةً للقرار الذي اتخذَته حكومتُك.»
«إنَّ الأمر مثلما وصفتُه فيما يتعلق بالقواعد، غير أنه لم يكن لإنجلترا أن تحتل المكانة التي تحتلها في العالم اليوم لو أن رجالها لم يتصرَّفُوا في كثير من الأحيان بصفتهم الشخصية، وهو ما كانت الحكومة لتُوافق عليه ألبتَّة. أما عن الوضع القائم الآن، فإن روسيا لم تُصرَّ على طلبها، بل قبِلَت قرارَ إنجلترا بامتعاضٍ، رغم أنها لا تزال مقتنعةً تمامًا بأن تصرُّفي لم يكن انتهاكًا لمنطقةٍ خاضعة لنفوذ روسيا فحسب، وإنما كان إهانةً مُتعمَّدةً كذلك؛ ومن ثمَّ فإن العواقب الأسوأ لتصرُّفٍ طائشٍ أقوم به لا تزال قائمة. لو أنني فقط أستطيع مُقابلةَ وزير الخارجية، أو رئيس الأميرالية في مدينة سانت بطرسبرج وجهًا لوجهٍ لمدةِ عشر دقائق، لتولَّيتُ إزالة هذا الانطباع.»
قالت الفتاةُ بتواضُعٍ مُتكلَّف: «إن إيمانك بقدرتك على الإقناع عظيم.»
بدأ المُلازم يتلعثم من جديد.
وقال: «لا، لا، ليس الأمر هكذا بدرجة كبيرة، لكنَّ إيماني كبيرٌ في قدرة الرُّوس على الحكم على الأشخاص. أظنُّ أنهم يتصوَّرُونني حقودًا مُتنمِّرًا من كارهي روسيا الشَّرِسين، قد انتهكَ منطقتهم بمكرٍ، وألقى قذيفةً في أرضهم وإهانةً في وجههم. إنهم صادقون تمامًا في هذا الاعتقاد. وأنا أريدُ أن أمحوَ ذلك الانطباع، ولا شيء يُضاهي دليلًا عيْنيًّا. إنني أُحب الروس. واحدٌ من أعز أصدقائي روسيُّ الجنسية.»
هزَّت الفتاةُ رأسها.
وقالت في إصرار: «لو كنتُ مكانك لما حاولتُ فعْل هذا. ماذا لو قبضت روسيا عليك، وقالت لإنجلترا: «لقد أخذنا هذا الرجل رغمًا عنكم»؟»
ضحك المُلازمُ بشدة، وقال:
«هذا غير وارد؛ لن تفعل روسيا شيئًا كهذا. بالرغم من كل ما يُقال عن الحكومة الروسية، فإن أعضاءها رجالٌ فُضلاء. إذا حدث شيءٌ كهذا، فسيتسبَّب ذلك في مشكلة بالطبع. تلك لحظةٌ نُصبح فيها سريعي الانفعال. فاعتقال مواطن إنجليزي تافه جدًّا بغير حق، ربما يتسبَّب في شَن حملةٍ عسكريةٍ مُكلِّفةٍ للغاية. قد يتصرَّف مبعوثونا الدبلوماسيون بطريقةٍ لائقةٍ تمامًا، ورغم ذلك يُخلِّفون وراءهم شعورًا بالاستياء. انظري إلى هذه القضية نفسها مثلًا. لقد قالت بريطانيا لروسيا بنبرةٍ تدل على عدم الاكتراث:
«إننا نُنكر هذا العمل، ونعتذر عنه.»
والآن، كان يمكن لكلامها أن يُصبح في محلِّه بدرجة أكبر من هذا بكثير لو أنها قالت بلُطف:
«إن من بين موظفينا شابًّا أحمقَ طائشًا مُتعطِّشًا للمعلومات. لقد أراد أن يختبر مِدفعًا جديدًا، ومن ثمَّ أطلق منه قذيفةً، ولو قلنا إنه نوى حينها أن يُصيب بها القمر لكان ذلك أقرب من قولنا إنه نوى بها الهجوم على روسيا. إنَّ ما يعلمه عن الرقص أكثر بكثيرٍ مما يعلمه عن الشئون الخارجية. لقد أعطيناه إجازةً لمدة شهر، وسوف يتسلَّل سرًّا إلى مدينة سانت بطرسبرج ليَعتذِر ويُوضِّح الأمر. ستُدركون فور أن تروه أنه لا يُشكِّل تهديدًا على السلام بين الدول. وفي غضون ذلك، إذا أمكنكم أن تغرسوا في ذهنِه شيئًا من التَّعقُّلِ الهادئ الرزين قبل أن يعود، فسنكون في غاية الامتنان.»
«إذن أنتَ عازمٌ على فعل ما تعتقد أنه كان على الحكومة أن تفعله.»
«أجل بالفعل. لن تتَّسم مُهمتي غير المرخَّص لي بها بأي رسمية صارمة. إن لي قريبًا في السفارةِ في مدينة سانت بطرسبرج، لكنني لن أقترب منه، ولن أنزل أيضًا في أيِّ فندق؛ بل سأَستأجر غرفةً هادئةً في مكانٍ ما بحيث لا أُخاطر بمقابلة أيِّ معارف غير مُتوقَّعِين.»
«يبدو لي أنك مُوشكٌ على تزويد الحكومة الروسية بفرصةٍ مُمتازةٍ لاختطافكَ إلى سيبيريا، ولن يفطن أحدٌ إلى الأمر.»
أطلق دروموند لنفسه العِنان في الضحك السخيِّ الذي لا يصدر إلا عن شابٍّ لا يزال يرى الحياة أشبه بمزحة جيدة.
وقال: «لن أُمانع في دراسة النظام السيبيري من الداخل إذا كانوا سيَسمحُون لي بالعودة قبل انتهاء مدة إجازتي. أعتقد أن مثل ذلك الشيء لم يكن إلا مُبالَغةً من بعض الكُتاب الذين يتَّسمون في أسلوبهم بالإثارة. إن الحكومة الروسية لن تُقر أيَّ شيءٍ من هذا النوع، وإذا حاول الموظفون الصِّغار القيام بأعمال طائشة، يمكنني الاستعانة بقريبي على الدوام، وسيكون من سوء الحظ ألا أتمكَّن من إرسال رسالةٍ قصيرةٍ إليه. يا إلهي، ليس ثمة خطرٌ في خُطتي!»
توقفَت الفتاةُ فجأةً، وأوحى وجهُها بأنها ستصرخ صرخةَ فزعٍ صغيرة.
سألها المُلازم: «ما الأمر؟»
«يا إلهي، لقد سِرنا بعيدًا داخل الريف!»
«يا إلهي، هل هذا كل شيء؟ لم أنتبه لهذا.»
«وثمَّة مَن ينتظرونني. لا بدَّ أن أُسرع.»
«هُراء، دعيهم ينتظرون.»
«كان ينبغي لي أن أعود منذ وقتٍ طويل.»
استدار الاثنان، وأخذَت هي تُسرع في السير.
«فكِّري يا آنسة إمهيرست في ثروتكِ الجديدة وهي مُودعةٌ بأمانٍ في بنك صديقنا مورتن، ولا تتعجلي من أجل أي أحد.»
«لم أقُل إنها ثروة؛ ليس في البنك سوى عشرة آلاف دولار.»
«يبدو هذا هائلًا، لكن إذا لم يكن لدى كلِّ واحدٍ ممَّن ينتظرونكِ أكثر من عشرة آلاف، فلا أعتقد أنَّ عليكِ الإسراع من أجلهم.»
«الأمر على عكس ذلك يا سيد دروموند. فكلُّ واحد فيهم أفقرُ مني؛ ولذا كان عليَّ أن أعود منذ وقتٍ طويل. إنني أخشى الآن أنهم سيكونون في حالة انفعال.»
«حسنٌ، إذا ترك لي أيُّ أحدٍ ألفَي جنيهٍ، فسآخذُ إجازةً بعد الظهر كي أحتفل. ها قد عُدنا إلى ضواحي المدينة مرة أخرى. ألن تُغيِّري رأيكِ ووجهتكِ؟ فلنَعُد إلى الريف، ونجلس إلى جانب التلِّ، وننظر إلى الخليج، ونتأمَّل في ثروتكِ في رضًا وحبور.»
هزَّت دورثي إمهيرست رأسها ومدَّت يدها.
وقالت: «يجبُ أن أُودِّعكَ الآن يا حضرة المُلازم دروموند. هذا أقصر طريقٍ يوصلني إلى البيت.»
«ألا يُمكنني أن أواصل السير معكِ بضعَ خطواتٍ أخرى فقط؟»
«كلا، أرجوك، أريد أن أُكمل ما تبقَّى من الطريق وحدي.»
أمسك دروموند يدها، التي حاولَت أن تسحبها، وبحماس قال:
«لديَّ كلامٌ كثيرٌ جدًّا كنتُ أريد أن أقوله، لكن ربما الأهم هو هذا: هل سأراكِ في مساء اليوم الرابع عشر من هذا الشهر، في الحفل الراقص الذي سنُقيمه على متن السفينة «كونسترنيشن»؟»
ضحكَت الفتاة وقالت: «محتمَل جدًّا، إلا إذا حجبني عنك الزحام. سيكون هناك حشدٌ كبيرٌ من الناس. سمعتُ أنكم وزَّعتم الكثير من الدعوات.»
«نرجو أن يأتي كلُّ أصدقائنا. سيكون حفلًا رائعًا. لقد وعد وزيرُ بَحريتكم بزيارتنا، وسيحضُر سفيرنا في واشنطن. أُؤكِّد لكِ أننا نبذل غاية وُسعنا في الأكاليل المُضاءة، والسُّجُوف المُعلَّقة، وكل هذه الأشياء؛ لأننا نُريد أن نجعل الاحتفال مُكافئًا بالحد الأدنى على الأقل لحُسن الضيافة الذي تلقيناه. لقد حصلتِ على بطاقة دعوةٍ بالتأكيد، لكنْ ليتكِ لم تَحصُلي عليها، كي أنال شرف إرسال دعوةٍ أو أكثر إليك.»
قالت الفتاة، وقد ضحكَت ضحكةً خفيفةً وازداد تورُّد وجهها من جديد: «لا داعي لهذا بالمرة.»
«إذا احتاجَت أيُّ واحدةٍ من صديقاتِك بطاقات دعوة، أيُمكن أن تُعلميني كي أُرسلها لكِ؟»
«أنا متأكدةٌ أنني لن أحتاج إلى أيِّ بطاقة دعوة، لكن إذا احتجتُ، فأعدُكَ أن أتذكَّر عرضكَ الكريم، وأطلبها منك.»
«سيكون من دواعي سروري أن أخدمك. مع مَن ستأتين؟ أودُّ أن أعرف الاسم، تحسُّبًا لأن أُخفق في الوصول إليكِ بين الحشد.»
«أتوقَّع أن أكون مع القُبطان كِمْت من البحرية الأمريكية.»
«آه»، هكذا قال المُلازم، بنَبرةٍ تشي بخيبةِ أملٍ لم يتمتَّع بالكياسة الكافية لإخفائها. تراخَت قبضته على يدِها، وانتهزَت هي الفرصةَ لسحبها.
«كيف هو القبطان كِمْت؟ سوف أترقَّب وصوله كما تعرفين.»
«أعتقد أنه أوسم رجلٍ رأيتُه في حياتي، وأعلم أنه أطيب الرجال وأكثرهم دماثة.»
«حقًّا؟ أظن أنه شاب، أليس كذلك؟»
قالت دورثي مُبتسمةً: «ها هو ذا غرور الشباب. القبطان كِمْت من البحرية الأمريكية مُتقاعِد. ابنته الصغرى تَكبُرني بسنتَين فقط.»
صاح المُلازم بحماسةٍ صادقة: «يا إلهي، نعم، القبطان كِمْت. لقد … لقد تذكرتُه الآن. لقد كان موجودًا في المأدبة ليلة أمس، وكان جالسًا إلى جوار قبطاننا. يا له من راويةٍ ممتاز!»
«سوف أُخبره بهذا، وأسأله عن رأيه في أُغنيتك. وداعًا!» وقبل أن يتمكَّن الشاب من التفكير في أي ردٍّ، كانت الفتاة قد رحلت.
مرَّت فوق الأرض بسرعةٍ ورشاقةٍ في البداية، ثم أخذت تُخفِّف سرعتها شيئًا فشيئًا، ثم أبطأَت حتى أصبح سيرُها وقورًا للغايةِ إلى أن وصلَت إلى بيتٍ ذي ثلاثة طوابق يُسمونه «الدار الصيفي» يُطل على الخليج، ثم تنهدَت تنهيدةً وفتحَت البوابة، ودخلَت المنزل من مدخل الخدم.