كارثة غير متوقَّعة
إنَّ عادة الكدِّ التي يتعوَّدُ عليها المرءُ من الطفولةِ حتى النضجِ لا يَمحوها وابلٌ غيرُ متوقَّعٍ من الذهب. لقد كانت دورثي ممن يستيقظون مبكرًا، وفي صباح أحد الأيام، وهي تدخل إلى الرَّدهة قادمةً من غرفتها رأَت على المنضدة رسالةً عليها طوابعُ بريدٍ روسية، لكن عنوانها كان مكتوبًا بخطٍّ غيرِ مألوفٍ لها وكانت موجهةً إلى صديقتها كاثرين كِمْت. خمَّنَت دورثي أن هذه كانت أول رسالةٍ من الأمير، وتوقَّعَت أن تعرف كلَّ شيءٍ عنها خلال وقت الغداء على أقصى تقدير. لكن الصباح انقضى وانقضى العصر أيضًا دون أن تُشير كاثرين أيَّ إشارةٍ إلى الموضوع، وقد رأَت دورثي أن هذا كان غريبًا للغاية. ظلَّت كاثرين طَوال ذلك اليوم واليوم الذي تلاه تتجوَّل في صمتٍ وهدوء ورصانة، ولم تقتبس مرةً واحدةً من كتابات السيد جيلبرت الساخر. في صباح اليوم الثالث فُوجِئت دورثي، لدى خروجها من غرفتها، برؤية كاثرين واقفةً إلى جوار المنضدة وفي يدها كتابٌ أسود. كان على المنضدة طردٌ بريديٌّ كبيرٌ قادمٌ من نيويورك، كان قد فُتِحَ قبل وقت قريب، وبرزَت منه مجموعةٌ من الكتب المغلَّفة بتجليد متين من الجلد أو القماش، لكنه لا يتسم بذلك التلوين العالي الجودة الذي يميِّز الإنتاجَ الأدبي الأمريكي.
«صباح الخير يا دورثي. طائرُ الصباح يُطارد دودة العلوم.» ناولتْها المُجلد الذي كانت تحمله في يدها. وقالت: «كتاب «محاضرات في علم الكيمياء في أربعة عشر أسبوعًا» للمؤلف ستيل، كتابٌ قديم، لكنه مكتوبٌ بطريقةٍ ساحرة.» تنهدَت وواصلت كلامها قائلةً: «دورثي، أريد أن أتكلم معكِ كلامًا جادًّا.»
سألتها دورثي: «عن الكيمياء؟»
قالت كاثرين بنبرةٍ حازمة: «عن الرجال، وعن النساء أيضًا لكن بصورةٍ ثانوية.»
«موضوعٌ شائقٌ يا كيت، لكنكِ حصلتِ على الكتاب الخطأ. كان ينبغي أن تحصلي على طردٍ مليءٍ بالروايات بدلًا من هذا.»
اتخذت دورثي لنفسها مقعدًا، وكذلك فعلَت كاثرين، وأسندَت كتاب «محاضرات في علم الكيمياء في أربعة عشر أسبوعًا» على حجرها.
بدأَت كاثرين الكلام قائلةً: «ينبغي أن يكون لكلِّ رجلٍ حارسٌ يحميه.»
«من النساء؟»
«من جميع الأشياء الخادعة، التي تختلف حقيقتُها عن مظهرها.»
«يبدو هذا الكلام موجزًا وعامًّا للغاية يا كيت. ما معناه؟»
«معناه أن الرجل مخلوقٌ مُغفَّل، يسهُل خداعُه. إنه يُسرف جدًّا في الإخلاص للنساء الماكرات، اللاتي يخدعنه بطريقةٍ مخزية.»
«مَن الذي كنتِ تَخدعينه يا كيت؟»
«دورثي، أنا إنسانةٌ جبانةٌ ومُخادعة.»
ضحكت دورثي، وقالت:
«في الحقيقة يا كاثرين، أنتِ أيُّ شيءٍ آخر غير هذا. إنكِ لا تستطيعين أن تفعلي أي فعلٍ دنيءٍ أو حقيرٍ ولو بذلتِ في ذلك غاية وسعك.»
سألتها كاثرين وهي تَنحني إلى الأمام حابسةً أنفاسَها: «أتظنِّين يا دورثي أن بإمكاني أن أنصلح؟»
«تنصلحين؟ أنتِ لا تحتاجين للإصلاح. إنكِ رائعة تمامًا كما أنتِ هكذا، ولا أعرف رجلًا واحدًا جديرًا بك. هذا رأيُ امرأة؛ امرأة تعرفكِ جيدًا، ولا يَنطوي رأيي على أيِّ خِداعٍ أيضًا، رغم خطبتكِ المسهبة العنيفة ضد بنات جنسك.»
«دورثي، منذ ثلاثة أيام تقريبًا تلقيتُ رسالةً من جون لامونت.»
«نعم، رأيتُها على المنضدة، وخمَّنتُ أنها منه.»
«حقًّا؟ لقد أصبتِ في تخمينكِ تمامًا. لقد أحدثَت قراءةُ هذه الرسالة تغييرًا جذريًّا في شخصيتي. لقد أصبحتُ امرأةً أخرى يا دورثي، وأنا في غاية الخجل من نفسي. عندما أتذكَّر كيف خدعتُ ذلك الفتى الساذَجَ المسكينَ وجعلتُه يُصدِّق أني فهمتُ حرفًا واحدًا حتى مما كان يتحدَّث عنه، يملؤني هذا بالأسى على خيانتي التي اقترفتُها، لكنني عازمةٌ على إصلاح عاداتي إذا كانت الدراسةُ الجادةُ ستَفعل هذا، وعندما أراه في المرة المقبلة سوف أتحدَّث معه بكفاءةٍ وكأنني نسخةٌ أُنثويةٌ من توماس إيه إديسون.»
ضحكت دورثي من جديد.
قالت كاثرين: «والآن، هذه قسوةٌ منكِ يا دورثي. ألا ترَين أنني جادةٌ للغاية في كلامي؟ أمن المحتَّم عليَّ أن يُطارد طيشي القديمُ خطواتي في الحياة؟ عندما أتذكَّر أنني سخرتُ أمامكِ من هدفه الجاد في الحياة تجعلُني الفكرةُ أتشرنق على نفسي من الذلِّ وأحتقر ذاتي.»
«هذا هراءٌ يا كيت، لا تبالغي إلى هذا الحَد. أنا لا أتذكَّر أيَّ شيءٍ من كلامكِ يستحق أن تتراجعي عنه. إنكِ لم تَنطقي بتعليق خبيث قط طَوال حياتكِ يا كيت. لا تجعليني أدافع عنكِ ضد ما تقولينه عن نفسك. لقد قررتِ، كما فهمتُ، أن تَنغمِسي في دراسة المواضيع التي تثير اهتمامَ الرجلِ الذي ستَتزوجينه. هذا طُمُوحٌ جديرٌ بالثناء إلى أقصى درجة، وأنا واثقةٌ تمامًا أنكِ ستنجحين.»
«أنا أعلم أني لا أستحق كلَّ هذا يا دورثي، لكنني برغم ذلك أريده. إنني أحب أن يؤمن الناسُ بي، حتى وإن فقدتُ أنا إيماني بنفسي أحيانًا. أتسمحين لي أن أقرأ عليكِ جزءًا من رسالته؟»
«لا تفعلي إذا كنتِ تفضِّلين ألَّا تقرئي شيئًا.»
«بل أُفضِّل أن أقرأ يا دورثي، إذا كان هذا لا يزعجكِ، لكنكِ ستفهمين بعدما تنتهين من سماعه بأي طريقةٍ جديدةٍ أصبحتُ أنظر إلى نفسي.»
اتضح أن الرسالةَ كانت داخل صفحات كتاب الكيمياء الذي ألَّفه الراحلُ السيد ستييل، وقد أخرجته كاثرين من هذا المجلَّد، وضمَّته لحظةً إلى صدرها بيدها المبسوطة وهي تحدِّق إلى صديقتها.
«دورثي، أول رسالة غرامية تأتيني!»
قلَّبت كاثرين الصفحات الرقيقة المتغضنةَ، وبدأَت القراءة:
لعلكِ تذكرين تلك الحاشية التي وضعتِ عليها علامةً بالحبر الأحمر في الكتاب الذي تكرمتِ بإعطائي إياه في مجال الحَفْز الكيميائي، والتي لم تكن مُتعلقةً بموضوع الكتاب الذي أتكلم عنه، لكنها كانت مُفيدةً جدًّا لأي دارسٍ لعلم الكيمياء. لقد حقَّقوا الكثير من الإنجازات باستخدام الحفز الكيميائي في ألمانيا وأحرزوا منه ثمارًا تجاريةً مدهشة، لكن الموضوع حديثٌ جدًّا بحيث لم يسبق لي أن بحثتُه بحثًا شاملًا من قبل.
توقفَت كاثرين عن القراءة قليلًا، ونظرَت إلى الفتاة التي تُصغي إليها، ونطقَت عيناها البليغتان بتعبيرٍ هو أقربُ ما يكون إلى اليأس.
وقالت: «دورثي، ما الحفز الكيميائي هذا؟»
«لا تسأليني.» هكذا أجابتها دورثي، وهي تكتُم ضحكةً نبعت من ذلك المنظرِ المُضحكِ لفتاةٍ جميلةٍ تضم مثل هذه الأفكار إلى صدرها.
توسَّلَت إليها كاثرين قائلةً: «هل سمعتِ يومًا عن عملية حفزٍ كيميائيٍّ يا دورثي؟ هذه واحدةٌ من العبارات التي يستخدمها.»
«لم أسمع بها قط؛ واصلي قراءة الرسالة يا كيت.»
«لقد أدركتُ في الحال أنني إذا استطعتُ أن أستخدم عملية حفزٍ كيميائيٍّ يكون لها تأثيرٌ فوريٌّ في تجميد حجر الكلس السائل الخاص بي، بدلًا من انتظار التبخُّر البطيء، فسأتمكَّن من إنتاج حجارة البناء في وقتٍ أسرع من الوقت المستغرَق في صنع القرميد. أنا واثق أنكِ، بفضل عقلكِ الذي يفوق عقلي يقظَةً، قد أدركتِ هذا عندما وضعتِ علامةً باللون الأحمر على تلك الفقرة.»
قالت كاثرين وهي تُسند ظهرها إلى الخلف وتكاد تنشج بالبكاء: «يا للهول يا دورثي، كيف عساي أن أواصل القراءة؟ ألا ترَين كم أنا جبانةٌ ومخادعة؟ لقد كان احتيالي برسم هذه العلامات العشوائية الطائشة في الكتاب سيئًا للغاية، لكن التفكير في أن هذا الخط الذي رسمتُه بالحبر الأحمر كان من الممكن أن يتلطَّخ بدمِه يَكاد يقتلني، فلقد كدتُ أتسبَّب في موت الفتى المسكين.»
«امضي في القراءة يا كاثرين، امضي، امضي!»
«في أثناء بحثي عن عاملٍ حفَّاز تبقى مادتُه دون تغييرٍ بعد التفاعل، فاتني تمامًا أن أنتبه إلى المكوِّنات الكيميائية لواحدةٍ من المواد التي كنتُ أتعامل معها، وكانت النتيجةُ انفجارًا كاد يَقتلع سقفَ الورشة، وأَرعبَ المسكينَ دروموند رعبًا شديدًا أكاد أقول إنه أنقَصَ من عمره سنة. ومع ذلك، لم يقع أذًى حقيقي، بينما تَعلمتُ أنا درسًا قيمًا؛ وهو أن أحسُبَ حسابَ جميعِ العناصر التي أستخدمها. يجب ألَّا يستحوذ عليَّ التركيزُ في الموضوعِ الذي أسعى إلى تحقيقه بحيث يجعلني أُهمل كلَّ ما عداه.» والآن يا دورثي، أريد أن أسألكِ سؤالًا شخصيًّا للغاية، وأرجو أن تجاوبيني عليه بصراحةٍ شديدةٍ مثلما أفضيتُ إليكِ بدخيلة نفسي.
«أعرف سؤالَكِ يا كيت. إن أيَّ فتاةٍ مخطوبةٍ لتتمنَّى أن ترى صديقتَها في الحالة نفسها. سوف تسألينني إن كنتُ واقعةً في حُب آلان دروموند، وها أنا ذا أُجيبكِ بكل صراحةٍ أنني لستُ كذلك.»
«هل أنتِ واثقةٌ تمامًا من هذا يا دورثي؟»
«تمامَ الثقة. إنه الرجل الوحيد الذي صادَقتُه في حياتي، باستثناء والدي، وأنا أعترف عن طيب خاطرٍ أني مهتمةٌ به اهتمام الأخت بأخيها.»
«حسنٌ، إذا كان هذا كلُّ ما في اﻟ…»
«هذا كلُّ ما في الأمر يا كيت. لماذا تسألين؟»
«لأن ثمة شيئًا بخصوصه في هذه الرسالة، وأنا مُستعدةٌ لقراءته عليكِ إذا علمتُ أنكِ لا تبالين بأمره.»
«حسنٌ، إنه على الأرجح، واقعٌ في غرام أخت جاك. أعتقد أن هذا سيكون ترتيبًا مناسبًا للغاية. إن جاك هو أعزُّ أصدقائه، ومن المُحتمَل أن يتمكَّن عاشقٌ مثل دروموند من إضعاف التأثير الذي تمارسُه كتاباتُ تولستوي على عقلٍ عاطفيٍّ مثل عقلها. من المحتمَل أن ينقذ المُلازمُ دروموند، بحكمته وتعقُّله، بعضَ ما تبقَّى من ممتلكاتها.»
«يا إلهي، حسنٌ، إذا كان بإمكانكِ أن تتكلَّمي بهذا القدر من اللامبالاة فإنكِ على ما يُرام يا دورثي. لا، ليس في المسألة امرأةٌ أخرى. ها هو ذا كلام جاك:
«إن قِلةَ ما يعرفه رجلٌ إنجليزيٌّ عن أبناء الأمم الأخرى ليَبعث على الذهول. ها هو ذا صديقي طويل القامة دروموند يسير غيرَ مُكترثٍ بين أخطارٍ ليست لدَيه أدنى فكرةٍ عنها. إن رجال السلطة الذين يتوهَّم أنهم ذَوُو كِياسةٍ عاليةٍ يخدعونه إلى أقصى مدًى. ليست هناك خطورةٌ بالطبع من إلقاء القبض عليه، لكنَّ عيون الشرطة تُراقبه، ولن تزيد درجةُ تصديقه بهذه الحقيقة عن درجةِ تصديقِه بأن وزيرَ الخارجية يَخدعُه بمظهره الكاذب. إن ما أخشاه هو أنه سوف يُضرب بهراوةٍ وهو في الشارع في إحدى الليالي المُظلمة، أو سيتورط في نزاعٍ غير نزيه. لقد أنقذتُه مرتَين من خطرٍ وشيكٍ لم يرَه حتى. مرةً ونحن في أحد المطاعم افتعلَت مجموعةٌ من الضباط كانوا سكارى فيما يبدو، شِجارًا، واستلُّوا سُيُوفهم عليه. لم أواجه صعوبةً كبيرةً في إخراجه من بينهم لأنه يخشى من وقوع شِجارٍ أو أيِّ شيءٍ آخر من شأنه أن يَلفت إليه انتباه ابن عمه الأبله الذي يعمل في السفارة. مرةً أخرى بينما نحن عائدان إلى المنزل قُرب مُنتصَف الليل، نشبَ فجأةً شِجارٌ زائفٌ تمامًا وطوَّقنا من كل جانب. كان دروموند أعزل، لكنَّ قبضتَيه الضخمتَين أودتا باثنين أو ثلاثةٍ ممَن هاجموه إلى الأرض. أما أنا فقد كان معي مسدس، فأبعدتُ به بقيتهم، وهكذا نجونا. ليته يعود آمنًا إلى لندن مرةً أخرى.» ما رأيُكِ في هذا يا دورثي؟»
«أنا أوافق السيد لامونت في رأيه تمامًا. إن مهمة المُلازم دروموند في روسيا تبدو لي رحلةً حمقاء.»
«رغم كل ذلك، أنا سعيدةٌ أنكِ غير مُهتمةٍ يا دورثي. ينبغي له أن ينتبه لِما يقوله جاك؛ لأن جاك يعرف روسيا، بينما هو لا يعرفها. ومع ذلك، فلنأمُل أن يخرج سالمًا من سانت بطرسبرج. والآن يا دوت، لنتناول الإفطار، فلا بد لي من البدء في العمل.»
في صباح اليوم التالي رأَت دورثي رسالةً على المنضدة، كانت مُرسلةً لها ومكتوبةً بالخط المألوف لديها هذه المرة، وكان شعورها بالارتياح أكبرَ ربما مما كانت ستَعترف به حتى لأقرب صديقاتها إليها؛ وذلك عندما رأَت طابع البريد الإنجليزي بقيمة بنسَين ونصف البِنس على المظروف. مع ذلك، كانت محتوياته مروعةً للغاية، لم تقرأ دورثي على كاثرين كِمْت تلك الرسالةَ بالذات، وتحمَّلت وحدها ما سبَّبته من القلق.
عزيزتي الآنسة إمهيرست
أُرسل لكِ هذه الرسالةَ وأنا واقعٌ في كربٍ شديد، لم أأتمن مكتب البريد الروسي على هذه الرسالة، بل أرسلتُها مع قبطانٍ إنجليزيٍّ ليُرسلها بالبريد من لندن. منذ يومَين اختفى جاك لامونت؛ اختفى تمامًا وكأنه لم يكن موجودًا قبل ذلك قط. في حوالي الساعة العاشرة أوَّلَ أمس، خُيِّلَ إليَّ أني سمعتُه يدخل ورشتَه الموجودة تحت غرفتي. فهو يعمل فيها أحيانًا حتى بزوغ الفجر، ولأنه عندما يكون مُنهمكًا في تجاربه العلمية، لا يستسيغ أن يُقاطعه أحدٌ، حتى أنا، فإنني أواصل قراءتي حتى يصعد إلى الطابق العلوي. في حوالي الساعة الحادية عشرة ظننتُ أني سمعتُ أصواتًا خافتةً لِمُشاجرة، وصرخةً مخنوقة؛ فناديتُ عليه، لكنه لم يُجِبني. تناولتُ شمعةً ونزلتُ إلى الطابق السُّفلي، لكنِّي وجدت كل شيءٍ على حاله المُعتادة تمامًا؛ فالأبواب مغلقةً، ولم تُقلب منضدةٌ واحدةٌ حتى. ناديتُ بصوتٍ عالٍ، ولم يُجبْني سوى صدى صوت هذه الغرفة الشبيهة بالحظيرة. أوقدتُ مصباحَ الغاز وبحثتُ بدقةٍ أكبر، لكن دون طائل. فتحتُ البابَ، وخرجتُ إلى الشارع، لكنه كان هادئًا وخاليًا تمامًا. وهنا بدأتُ أشك في أني سمعتُ أيَّ شيءٍ على الإطلاق؛ لأن أعصابي، كما أخبرتُكِ من قبل، صارت مؤخرًا شديدة التقلُّبات. سهرتُ طوال الليل في انتظاره، لكنه لم يأتِ. في اليوم التالي ذهبتُ إلى مبنى وزارة الخارجية، حيث تلك الزيارة التي سبق ترتيبُها، لكنني تُركتُ في إحدى غرف الانتظار ساعتَين كاملتَين، ثم قِيل لي إنَّ الوزير لن يتمكَّن من مقابلتي. ومُنيت بخيبة أملٍ مشابهةٍ في الأميرالية. تناولتُ طعامَ الغداء وحدي في المطعم الذي أتردَّد عليه أنا وجاك، لكن لم أعثر له على أثر. لم يَعُد جاك هذا الصباح، وأنا الآن في حيرةٍ من أمري، وليست لديَّ أدنى فكرةٍ عما يجب عليَّ فعله. لن يجديني نفعًا أن ألجأ إلى سفارة بلدي؛ لأن جاك روسي، ولن يكون لها سلطةٌ على قضيته. لقد عَبَثَ شخصٌ ما بآخِر رسالةٍ تلقيتُها منكِ. فالجزء المقتبَس من الجريدة الذي تحدثتِ عنه لم يكن موجودًا، وكذلك كانت إحدى أوراق الرسالة مفقودة. إني أرى هذا التدخُّل في المراسلات الخاصة لضَربٌ من العبث.
كانت هذه آخِر رسالة بعث بها آلان دروموند إلى دورثي إمهيرست.