في الشَّرك
بدأ الأميرُ إيفان ليرمونتوف يَعُد الانفجارَ واحدًا من أكثر الأشياء الميمونة التي وقعَت في ورشته على الإطلاق. لقد رأى أن وقوع الانفجار في وقتٍ مُبكرٍ جدًّا بعد وصوله إلى سانت بطرسبرج كان حَدَثًا سعيدًا بشكلٍ بارِز؛ إذ منَحَه ذلك الوقتَ لاتباع النزعة الجديدة في التفكير والتي كان عقلُه من قبل منحرفًا بعيدًا عنها، وذلك بتأثير معلومةٍ كتلك التي كشفَت له عنها النتيجةُ غيرُ المتوقَّعة لتجربته العِلمية. كانت المادةُ التي استخدمها لتحفيز التفاعل الكيميائي مادةً جديدةً كان قد قرأ عنها من قبل في مجلةٍ عِلمية، واشترى كميةً قليلةً منها من لندن. إذا كان مقدارٌ صغيرٌ جدًّا قد تسبَّبَ في نتائجَ بهذا القدر من الضخامة، فقد بدأ يرى أن أي رجلٍ يحمل في جيب صدريته مادةً تبدو في ظاهرها بريئةً ربما يكون قادرًا على تدمير مرفأٍ بَحريٍّ كامل، وذلك إذا اقترن الماء والحجر أحدهما بالآخر. كان ثمة احتمالٌ أيضًا بأنَّ دَمْجَ كميةٍ صغيرةٍ من تلك المادة المسماة بالأُوزاك مع الماء الصافي، ربما يُكوِّن عاملَ اختزالٍ لحجرِ الجير، وربما لمعادن أخرى أيضًا، وهو ما سيعمل بطريقةٍ أسرع للغاية مما لو كان السائلُ مشبَّعًا بغاز حمض الكربونيك فحسب. لقد سعى لشراء بعض الأوزاك من السيد كروجر، الكيميائي الموجود عند رصيف الميناء الإنجليزي، لكن ذلك الرجل الطيب لم يَسمع عن هذه المادة قَط، واقتنعَ بعد يومٍ من البحث أنه لن يَجدها في سانت بطرسبرج؛ لذلكَ حثَّ الأميرُ السيدَ كروجر على طلبِ نصفِ رطلٍ منها من لندن أو باريس، وقد وجدها في تلك المدينة الثانية. انتظر الأميرُ وصولَ هذه الطلبية بأقصى ما كان يستطيع من الصبر وظلَّ يزور السيدَ كروجر المسكينَ كل يومٍ على أمل أن يَحصُل عليها.
وفي عصر أحد الأيام سعِد الأميرُ بسماعه خبرَ وصول الصندوق، رغم أن محتوياته لم تُفرغ بعد.
قال الكيميائي: «سوف أرسله إلى منزلك الليلة. يُوجد عددٌ من الأدوية في الصندوق تخص صديقك القديم البروفيسور الجامعي بوتكين، وهو أكثر تلهفًا على تسلُّم إرساليته منك إلى تسلُّم إرساليتك. عجبًا، ها هو ذا.» وما إنْ نطق بكلمته حتى دخلَ السيد الموقَّر بوتكين نفسه إلى المحل.
صافحَ البروفيسور بحرارة ليرمونتوف الذي كان من طلابه المفضَّلين دومًا، وقد علم البروفيسور أنه كان يزور إنجلترا وأمريكا منذ عهدٍ قريب.
سأله الرجلُ العجوزُ: «ألا يُمكنك أن تتناول العشاء معي هذا المساء في الساعة الخامسة والنصف؟ سوف يأتي ثلاثة أصدقاء أو أربعة، وسيُسعدني أن أعرِّفهم عليك.»
قال الأمير بتردُّد: «في الحقيقة سيدي البروفيسور، ثمة صديقٌ مُقيمٌ معي، ولا أُحب فقط أن أتركه بمفردِه.»
قال البروفيسور: «أحضِره معك، أحضِره معك، لكن احرص في جميع الأحوال على أن تأتي أنت. سوف أنتظرك. اعتذِر لصديقِك إذا كان لا يرغب في أن يتحمَّل ما قد يراه مناقشةً جافة؛ لأننا لن نتحدث في شيءٍ سوى الكيمياء والسياسة.»
وعده الأميرُ بأن يحضر سواءٌ جاءَ صديقُه أم لا. وهنا قاطعهما الكيميائي، وقال للبروفيسور إنه سيرسل له لوازمَه في غضون ساعتَين.
وقال للأمير: «وبخصوص طردك، فسأرسله لك في الوقت نفسه تقريبًا. لقد كنتُ مشغولًا جدًّا، ولا يُمكنني الوثوق في أي أحدٍ غيري ليفرِّغ محتويات هذا الصندوق.»
«لستَ مضطرًّا لتجشُّمِ عناء إرساله، وعلى أيِّ حالٍ فإنني لا أرغب في المخاطرة بأن يسلِّمه رسولُك إلى عنوانٍ خطأ. أنا لا أُطيق الانتظارَ طويلًا بحيث أضطرُّ لتكرار الطلبية من جديد. سوف أتعشَّى مع البروفيسور الليلة؛ ولذا سوف أمرُّ بك وآخذ الطرد بنفسي.»
قال الكيميائي: «ربما يكون من الأنسب أن أُرسل طردك إلى منزل البروفيسور بوتكين، أليس كذلك؟»
قال الأمير بحسم: «نعم. سوف أمر لأخذه في الخامسة تقريبًا.»
ضحكَ البروفيسور.
وقال: «نحن، أصحابَ التجاربِ العلمية، لا يثق بعضنا في بعض أبدًا.» وهكذا تصافَحا وانصرَفا.
عند عودة ليرمونتوف إلى ورشته، صعدَ الدَّرَج وثبًا، وحيَّا صديقَه المُلازم.
وقال: «اسمع يا دروموند، سوف أتعشى الليلةَ مع البروفيسور الجامعي بوتكين، الذي كان يُدرِّس لي الكيمياء قديمًا. إنَّ موعده في الخامسة والنصف، ومعي دعوةٌ لك. سوف يحضر العديدُ من العلماء، ولن يكون بينهم نساء. هل ستأتي؟»
قال الرجل الإنجليزي: «أُفضِّل كثيرًا ألَّا آتي. إنني أعمل بعجَلةٍ وهِمَّةٍ في هذه الكتب، وأدرُس خطةً استراتيجيةً؛ أضعُ خُططًا لهجومٍ على مدينة كراونستات الساحلية.»
«حسنٌ، استمع إلى نصيحتي يا آلان ولا تترك أيًّا من تلك الخطط حيث يمكن لشرطة سانت بطرسبرج أن تجدها. إنَّ ممارسةَ مثلِ هذا النوعِ من الدراسةِ في لندن أكثرُ أمنًا من ممارستِه هنا. سوف يسرُّهم حضورُك جدًّا يا دروموند، وسيسعد الرجلُ العجوز بمقابلتك. لست مُضطرًّا للقلق بشأن ملابس السهرة؛ بساطةُ العَيش وسُمُو الفِكر، أتفهَّم قصدي؟! لن أرتدي سوى ياقةٍ نظيفةٍ ورابطة عنق جديدة، بقدرِ ما يَكفي للمناسبة.»
«أُفضِّل ألَّا أذهب يا جاك، إذا لم يكن عندك مانع. لو ذهبتُ إلى هناك فستُحاولون جميعًا أن تتحدَّثوا بالإنجليزية أو الفرنسية، وعندئذٍ سأشعر أنني أعكِّر صفو الصحبة. علاوة على هذا، فأنا لا أعرف أيَّ شيءٍ عن العلوم الطبيعية، وأحاول أن أتعلَّم شيئًا ما عن فن التخطيط. متى تتوقَّع أن تعود؟»
«سأعودُ مبكرًا نوعًا ما؛ في العاشرة أو بعدها بنصف ساعة.»
«جيد، سوف أنتظرك.»
في الساعة الخامسة ذهبَ جاك إلى محل الكيميائي وتسلَّم طردَه. عندما فتحه وجدَ مادة الأوزاك في قِنِّينتَين بسِداداتٍ زجاجيةٍ، سِعةُ كل زجاجة منهما أربع أونصات، فأخذهما ووضعهما في جيبه.
«هَلا تُعطيني ثلاثَ محاقن رشَّاشة، وليكن حجمها أكبر حجمٍ لديك، واحدة مطاطية، وأخرى زجاجية، وواحدة معدنية. لستُ متأكدًا لكن هذه المادة ستُفسد إحداها بالتأكيد، وأنا لا أريد أن أقضي بقية حياتي في الركض إلى متجَرك.»
بعدما حصلَ الأميرُ على المحاقن قفزَ إلى عربة الأجرة، وانطلقَ به السائقُ إلى منزل البروفيسور.
قال الأمير للسائق: «تستطيع أن تمرَّ عليَّ في الساعة العاشرة.»
كان هناك ثلاثةٌ آخرون بالإضافة إليه هو والبروفيسور، وكانوا جميعًا مُهتمِّين بمعرفة آخِر أخبار العلوم الطبيعية في نيويورك ولندن.
افترق الأصحابُ في العاشرة والربع. استقلَّ ليرمونتوف عربة الأجرة، وانطلق السائقُ مُحدثًا جلبةً في الشارع. لم يَقُل الأميرُ أي شيءٍ عن اكتشافه طوال مدة المناقشة، وعندما خلا إلى نفسه في تلك اللحظة عادَ عقلُه إلى المادة الموجودة في جيبه، وأسعده أن السائق كان يعدو سريعًا بجواده؛ إذ ربما يُمكِّنه هذا من الوصول إلى ورشته سريعًا. فجأةً لاحظ أنهما كانا يندفعان بسرعةٍ في شارعٍ يؤدي إلى النهر.
صاحَ الأمير مُخاطبًا السائق: «لو سمحت، لقد أخذتَ منعطفًا خاطئًا. هذا شارعٌ مُغلق. لا يوجد رصيفُ ميناء ولا جسرٌ هنا. فلتعُد بِنا.»
قال السائقُ دون أن يَلتفت: «أدركتُ هذا الآن. سوف أستديرُ بالعربة عند نهاية الشارع حيث المكان أوسع هناك.»
استدارَ السائقُ بالفعل، لكنه لم يَعُد إلى الشارع مرةً أخرى، بل اندفعَ بسرعةٍ عَبْرَ مدخلٍ مقوَّس مفتوحٍ أوصلهما إلى فِناءِ مبنًى ضخمٍ يقع في مواجهة نهر نيفا. ما إن أصبحَت العربةُ في الداخل حتى صدر عن البوابة رنين الانغلاق.
سأله الأميرُ بغضب: «والآن، ما الذي تَعنيه بفِعلك هذا بحق السماء؟»
لم يُجِب السائقُ بشيء، ثم خرجَ من أحد الأبواب الواقعة في جهة اليمين ضابطٌ طويلُ القامةِ يرتدي بِزةً نظاميةً، وقال:
«إنها الأوامر، يا سمو الأمير، الأوامر. لا ذنبَ للحُوذِيِّ في هذا. هل تتفضَّل سموك بمرافقتي إلى الداخل؟»
سأله النبيلُ الغاضِبُ قائلًا: «ومَن تكون أنتَ أصلًا؟»
«أنا شخصٌ مطلوبٌ منه أن يؤدِّي مهمة بَغيضة، لكن تستطيع سموك أن تجعلها أيسر كثيرًا إذا أعرتَ طلباتي اهتمامك.»
«هل أنا رهنُ الاعتقال؟»
«لمْ أقل هذا أيها الأمير إيفان.»
«إذن أطلبُ منك أن تفتح البوابة حتى أتمكَّن من العودة إلى بيتي، حيث ينتظرني عملٌ أهم من الحديث مع شخصٍ غريبٍ يرفض الإفصاحَ عن هويته.»
«أرجو أن تُسامحني يا سمو الأمير ليرمونتوف. إنني أتصرَّف، مثلما تصرَّفَ الحُوذيُّ، تحت الإكراه. لسنا بصدد الحديث عن هويتي. إنني أطلبُ منك للمرةِ الثانية أن تأتي معي.»
«إذن، للمرةِ الثانية أسألك، هل أنا رهنُ الاعتقال؟ إذا كان الأمر كذلك، فأرني مذكرة الاعتقال، وعندها سآتي معك دون اعتراضٍ على شيء، ولكن أيًّا كان مَن أصدر مذكرة الاعتقال هذه فقد تجاوز حدود سلطته.»
«لم أرَ أيَّ مذكرة اعتقالٍ يا سمو الأمير، وأظن أنك تخلط بين حقوقك وحقوق مواطنين مقيمين في بلادٍ معينة كنتَ تزورُها مؤخرًا.»
«ليس لديك مذكرة اعتقالٍ إذن، أليس كذلك؟»
«ليس معي مذكرة اعتقال. إنني أتصرف تبعًا لأوامر رئيسي، ولا أجرؤ على مناقشتها. أرجو أن تتبعني دون مزيد تفاوضٍ هو في الحقيقةِ مُحرِجٌ لي ولا يُجديك نفعًا. لقد أُمرتُ بمعاملتك بكل احترام، لكني برغم ذلك مُنحتُ صلاحيةَ استخدام القوة. حتى إنني مأمورٌ بالاكتفاء بتأكيدٍ لفظيٍّ منك على أنك لستَ مُسلَّحًا، وتَعلم سموك تمام المعرفة أنَّ مثل هذا التساهُل نادرًا ما يُنفَّذ في سانت بطرسبرج.»
«حسنٌ يا سيدي، حتى لو فشلَ تأكيدي الشفويُّ في تجريدي من سلاحي، فإن لُطفكَ سينجح في هذا. أنا أحمل مُسدسًا. هل تُريد الحصول عليه؟»
«إذا تعطَّفتَ سموك بإعطائي إياه.»
أمسكَ الأميرُ السلاحَ، وجعل عقِبَه للأمام، وناول الضابطَ إياه، فتناوله بتحيةٍ مهذَّبة.
قال الأمير: «ألا تعرف شيئًا عن السبب وراء هذا التصرُّف؟»
«لا شيءَ مطلقًا يا سمو الأمير.»
«إلى أين ستأخُذُني؟»
«إذا تمشيتَ معي سموك أقل من ثلاث دقائق فستعرف المكان.»
ضحكَ الأميرُ، وقال:
«يا إلهي، حسنٌ إذن. هل لي أن أكتب رسالةً قصيرةً إلى صديقٍ ساهرٍ ينتظرني؟»
«يُؤسفني أن أُبلغ سموَّك أن التواصُل بجميع أنواعه غير مصرَّحٍ به.»
ترجَّل الأميرُ من العربة، وسار مع مُرشدِه في خطٍّ مائلٍ عبْرَ فِناءٍ خافت الإضاءة للغاية، ودخلَ ذلك الجُزءَ من المبنى المستطيل الشكل الواقع في مواجهة نهر نيفا، ومرَّ بمحاذاة قاعةٍ بداخلها مِنْفَثَةُ غازٍ مُشتعلة، ثم سارَ خارجًا مرةً أخرى، وخطا مباشرةً على مِعْبَرٍ خشبيٍّ نقله إلى متن سفينةٍ بخارية. كان على الطابَق السُّفلي من السفينة ممرٌّ ممتدٌّ إلى وسطها، وعبْرَ ذاك الممرِّ اصطحبَ المرشدُ سجينَه، وفتحَ بابَ حجرةٍ خاصةٍ تتوهجُ بداخلها أضواءُ الشموع، ويشغل جزءًا منها سريرٌ مُريحٌ رُتِّبَ وأُعِدَّ من أجل الإقامة.
«أعتقد يا سمو الأمير أنك ستجد هنا كلَّ ما تحتاج إليه. إذا احتجتَ إلى أي شيءٍ آخر، فإن ضغطةً على الجرس الكهربائي سوف تستدعي لك أحد الخدم، وسوف يُحضِر لك ما تريد.»
«ألن أقابل ذلك الشخص المسئول عن اعتقالي؟»
«لا أعلم شيئًا عن هذا يا سمو الأمير. إن مهمَّتي تنتهي بإحضارك إلى هنا. لا بد لي أن أسألك إن كان بحوزتك أي سلاحٍ آخر؟»
«لا، ليس معي أي سلاح.»
«هل ستُعاهدني على ألَّا تُحاول الهرب؟»
«سوف أهرب إذا استطعتُ بالتأكيد.»
«شكرًا لسموك.» هكذا أجاب الضابطُ في تهذيبٍ شديدٍ وكأن ليرمونتوف قد عاهده على ألا يهرب. استدعى الضابطُ وهو واقفٌ في الظلام جنديًّا طويل القامة خشنَ الملامح يحمل في يده بندقيةً من طراز مَسْكِيت في طرفها حَربة. وقفَ الجنديُّ بجوار باب الحجرة.
سأل الأميرُ: «هل ثمة أيُّ شيءٍ آخر؟»
«لا يوجد شيءٌ آخر يا سمو الأمير، لا شيءَ سوى تُصبِح على خير.»
«يا للهول! بالمناسبة، لقد نسيتُ أن أدفعَ للحوذي. ليس ذنبه بالطبع أنه أحضرني إلى هنا.»
«يُسعدني أن أُرسله إليك، ومرةً أخرى، تُصبح على خير.»
قال الأمير: «تُصبح على خير.»
أغلقَ الأمير بابَ حجرته، وأخرجَ مذكِّرته، وكتبَ رسالتَين سريعًا؛ واحدةً لدروموند والأخرى للقيصر. عندما جاء الحوذي أدخله إلى الحجرة وأغلقَ الباب.
قال الأمير بصوتٍ عالٍ يستطيع الحارس أن يسمعه لو أراد: «تفضَّل، بكم أنا مَدينٌ لك؟»
أخبره الحوذي بأجرته.
صاحَ الأمير بصوتٍ عالٍ: «هذا كثيرٌ جدًّا، أيها النذل»، لكنه في أثناء صياحه بهذا وضع ثلاث قطعٍ ذهبيةٍ مع الرسالتَين في يدِ السائقِ، وهمسَ قائلًا:
«أوصِل هاتَين بأمان، وسوف أعطيكَ عشرة أضعاف المال الذي معك إذا مررتَ على منزل الأمير ليرمونتوف في العنوان المكتوب على هذه الرسالة.»
حيَّاه الرجلُ وشكره وانصرف؛ وبعد قليلٍ سمعَ جلجلةَ جرسٍ، تلاها ارتجاجٌ مُتواصلٌ لمُحرِّكٍ ما. لم يكن ثمة نافذةٌ في الحجرة الخاصة، ولم يستطِع أن يُميِّز إن كانت السفينة البخارية تبحر باتجاه شمال النهر أم جنوبه. خمَّن الأميرُ أنها تبحر باتجاه الشمال، وتوهَّم أن تكون وجهته هي سليسلبيرج؛ السجن المحصَّن الواقع على جزيرةٍ عند منبع نهر نيفا. قرَّر الأمير أن يتوجَّه إلى سطح السفينة ويحلَّ مشكلة الوجهة هذه، لكن الجندي الواقف عند الباب أنزلَ بندقيته وسدَّ الممر.
«لا شك أنه مسموحٌ لي بالسير على سطح السفينة، أليس كذلك؟»
«لا يُمكنك المرور دون أمرٍ من القبطان.»
«حسنٌ، أرسِل لي القبطان إذن.»
قال الجندي: «لا أجرؤ على ترك الباب.»
ضغطَ ليرمونتوف على الجرس، وجاءَ أحد الخدم في الحال ليعرف ما المطلوب.
«من فضلك اطلب من القبطان أن يأتيَ إلى هنا.»
انصرفَ الخادم، وبعد قليلٍ عاد مع رجلٍ مُلتحٍ له بشرةٌ برونزية اللون بدت الغرفةُ في حضوره صغيرة.
«لقد أرسلتَ في طلب القبطان، وها أنا ذا هنا.»
قال الأميرُ بمرح: «وأنا أيضًا هنا. اسمي ليرمونتوف. لعلك سمعتَ عني، أليس كذلك؟»
هزَّ القبطانُ رأسَه الأهلَب.
«أنا أحدُ أمراء روسيا، ونتيجةً لخطأٍ ما وجدتُ نفسي راكبًا في سفينتك بدلًا من قضاء الليلة في منزلي. إلى أين تأخذني أيها القبطان؟»
«أنا ممنوعٌ من إجابة أسئلتك.»
«وهل أنا مَمنوعٌ أيضًا من الذهاب إلى سطح السفينة؟»
«لقد قال الجنرال إنه غير مسموحٍ لكَ بمُغادَرة الحجرة؛ لأنكَ رفضتَ التعهُّد بعدم الهرب.»
«كيف لي أن أهرب من باخرةٍ تمخَر النهر أيها القبطان؟»
«من السهل أن تقفز إلى النهر، وربما تسبح إلى الشاطئ.»
«إنه جنرالٌ إذن، أليس كذلك؟ حسنٌ أيها القبطان، سوف أتعهَّد لك بألَّا أحاول السباحة في نهر نيفا في ليلةٍ قارسة البرودةِ كهذه.»
قال القبطان: «لا يُمكنني أن أسمح لك بالوجود على سطح السفينة الآن، لكن عندما نصل إلى خليج فنلندا تستطيع أن تسير على سطح السفينة برُفقة الحارس.»
صاحَ ليرمونتوف: «خليج فنلندا! أنت تُبحر باتجاه جنوب النهر إذن، أليس كذلك؟»
نظرَ إليه القبطان الضخمُ باستياءٍ شديدٍ مُغيِّمٍ على وجهه، حيث أحسَّ أنه استُدرِجَ للإفصاح عن معلوماتٍ كان ينبغي له أن يحتفظ بها لنفسه.
«لست ذاهبًا باتجاه الشمال إلى سليسلبيرج إذن، أليس كذلك؟»
«لقد أخبرتُ سموك أنني غير مسموحٍ لي بالإجابة عن أسئلتك. لكنَّ الجنرال أعطاني رسالةً أُوصلها إليك، وربما تحتوي على كلِّ ما تريد أن تعرفه.»
«الجنرال أعطاك رسالة، فعلًا؟ إذن لماذا لا تُعطيها لي؟»
«لقد أمرني ألَّا أُزعجك الليلة، وأن أقدِّمها لك مع الإفطار في الغد.»
«يا إلهي، هل سنظل نبحر طوال الليل؟»
«نعم يا سمو الأمير.»
«هل منعك الجنرال من إعطائي الرسالة الليلة؟»
«لا يا سمو الأمير؛ لقد قال فقط: «لا تُزعج سموه الليلة، لكن أعطِه هذه في الصباح».»
«في هذه الحالة أعطني الرسالة الآن.»
أخرجَ القبطانُ مظروفًا من جيبه وقدَّمه للأمير. لم يكن فيه سوى الرسالتَين القصيرتَين اللتين كتبهما ليرمونتوف لدروموند والقيصر.