الزنزانة رقم تسعة
عندما حُلَّ حبلُ القارب الشراعي، وأُبعِدَ بعيدًا عن جانب الباخرة، كان على متنه ثمانيةُ رجال. ستةٌ منهم كانوا يُمسكون بالمجاديف، بينما تولَّى الدفة ذلك الكاتِب الشاب الذي وقَّع في الدفتر بالحصول على الوثائق التي أعطاه القبطان إياها، وقد أشار إلى ليرمونتوف بالجلوس على مقعدٍ إلى جواره. كانت الصناديقُ والحقائبُ مُكدَّسةً في الجزء الأمامي كله من القارب، وفي المنطقة الواقعة جهةَ مؤخِّرة القارب أيضًا.
سأل الأمير: «ما اسمُ هذا المكان؟» لكنَّ الشابَّ المُمسكَ بالدفةِ لمْ يُجب.
ربطَ ثلاثةٌ من الرجال القاربَ في حلقاتٍ حديديةٍ مُثبتةٍ في رصيف المرفأ الصغيرِ الواقعِ عند بداية الدَّرَج، ثم أخرجُوا مَجاديفهم من الماء وأدخلوها إلى القارب. ألقى كلٌّ منهم حقيبةً على كتفه، ورَقِيَ سِتَّ درجاتٍ على الدَّرَجِ ثم وقفَ يَنتظِر. أشار الكاتِبُ إلى ليرمونتوف بأن يَتبعه، فخطا ليرمونتوف على الرصيف الصخري ورفعَ عينَيه إلى الدَّرَجِ الوعر المحفور بين الجزيرةِ الرئيسية وإفريزٍ صخريٍّ ناتئٍ شديدِ الانحدار. كانت درجاتُ الدَّرَج ضيقةً جدًّا، ومن ثمَّ تَعيَّن على المَوكبِ أن يصعدوا واحدًا تلو الآخر؛ ثلاثةُ رجالٍ يَحملُون الحقائب، ثم الأمير والكاتِب، وجاء خلفهم ثلاثةُ رجال آخرين يَحملُون الصناديق. أحصى ليرمونتوف مائتَين وسبعًا وثلاثين درجة، أدَّت به إلى مُنبسَطٍ مرتفِع، كان هذا المنبسطُ ناتئًا مِن مَدخَلٍ منحوتٍ في الصخر الحي، لكنه كان محجوبًا عن مرأى البحر كله. كانت شمسُ الشروق تسطع في هذا المَدخل، لكنها لم تكن تتخلَّل بالقدر الكافي إلى الحجرةِ الكبيرة التي كانت جدرانها وسقفها وأرضيتها من الصخر الأصم. كان في طرف الغرفة البَعيد رجلٌ مُرتدٍ بذلةً نظاميةً يجلس خلف منضدةٍ طويلةٍ يتوهَّج فوقها مصباحٌ نفطيٌّ ذو كُمَّةٍ خضراء. كان على يمينه مجمرةٌ مستديرةٌ واسعةٌ بها جمرٌ مُتوهِّج، على الطراز المشرقي، وكان الضابط يضع كلتا يديه فوقها ويفرك إحداهما بالأخرى. بالرغم من ذلك، كانت الغُرفة تبثُّ في جسم مَن يدخلُها قشعريرة البرد وكأنها قبو، وسمعَ ليرمونتوف خريرَ ماءٍ مُتواصِلًا مكتومًا.
تقدَّم الكاتِبُ إلى الأمام وأدَّى التحية العسكرية، ثم قدَّم للمدير الجالس هناك الأوراقَ والأظرفَ التي أعطاه القبطان إياها. اختار الضابطُ فَرْخَ ورقٍ أزرقَ، وراحَ يتفحَّصه قليلًا تحت ضوء المصباح.
وقال: «أين الآخرون؟»
«لقد أنزلنا المُؤنَ أولًا يا حضرة المدير؛ وسيعود القاربُ بعد ذلك من أجلِ الآخَرين.»
أومأ المديرُ برأسِه، ودقَّ جرسًا براحة يده المفتوحة. عندئذٍ دخل رجلٌ ضخمُ البنية يحمل مجموعةً من المفاتيح في حزامه، وتبعه رجلٌ آخرُ يحمل مِصباحًا مُضاءً.
قال المديرُ للسجانَين: «رقم تسعة.»
سأله ليرمونتوف: «معذرةً يا سيدي، هل أنا سجين؟»
أطلقَ المديرُ صوتًا أقربَ إلى قُباع الخنزير منه إلى كلام البشر. لمْ يُجِب، لكنه رفعَ عينيه إلى السائل، ورأى الأخيرُ أنَّ وجهه الهزيلَ الذي يكاد يُشبه وجهَ هيكلٍ عظميٍّ على قيد الحياة كان باهتًا شديدَ الشحوب.
أعاد المديرُ كلامه: «رقم تسعة.» وعندئذٍ وضعَ السجَّان إحدى يديه على إحدى كتفَي ليرمونتوف ووضعَ الرجل الذي يحمل المصباحَ كذلك إحدى يدَيه على كتفه الأخرى، وأخذاه بعيدًا. سار الثلاثةُ معًا في ممرٍّ طويل، وراحَ المصباحُ المتمايلُ يُلقي بأشعته الصفراء على المزاليج الحديدية للأبواب المتعاقبة واحدًا تلو الآخر، إلى أن توقَّف السجَّانُ أخيرًا، وفتحَ ستةَ مزاليج، وأدخلَ مفتاحًا، وفتحَ قُفلَ الباب، ثم فتحَ الباب ببطء. أظهرَ ضوءُ المصباح أنه كان مصنوعًا على هيئة أبواب الخزنات، لكنه كان يفتح إلى الداخل على عكس باب الخزنة. ما إن وُورِبَ البابُ حتى سمعَ ليرمونتوف صوَت ماءٍ يتدفَّق، وعندما دخلَ الثلاثةُ رأى جدولَ ماءٍ صغيرًا سريعَ التدفُّق يتلألأُ في أشعةِ المصباح عند الطرَف البعيد من الزنزانة. ورأى كذلك رفًّا صخريًّا ناتئًا ومقعدًا حجريًّا في مواجهة الرف. وضعَ السجَّانُ يديه على رغيفٍ أسود، بينما رفعَ الآخرُ المصباح.
قال السجَّان: «سوف يكفيك هذا أربعةَ أيام.»
«حسنٌ يا بني، أعتقد من خلال مظهره الذي يسدُّ الشهية، أنه سيكفيني أكثر من ذلك بكثير.»
لمْ يردَّ السجَّانُ بشيء، وإنما انصرفَ هو والرجل الذي يحمل المصباح، وجرَّا الباب وراءهما ببطء. سمعَ ليرمونتوف المزاليج وهي تُقحَم في أماكنها، والمفتاح وهو يُدار؛ ثم خيَّم الصمتُ على كل شيءٍ باستثناء خرير الماء. وقفَ ليرمونتوف دون حراكٍ في وسط الزنزانة، ودفعَ بيديه عميقًا في جيوب معطفه، ورغم ثخانة ذاك الثوب سرَت في بدنه رِعدةٌ صغيرة.
وقال مغمغمًا: «حسنًا يا جاك، إنَّ هذا نوعٌ جديدٌ من المعاملة، كما يقولون في الغرب. يمكنني أن أتخيَّل أن يفقد الرجلُ صوابه هنا، لولا وجود جدول الماء هذا. لمْ أعرف مُطلقًا معنى الظُّلمة قبل هذا. حسنٌ، لنَكتشِف حجمَ مملكتنا.»
تلمَّس ليرمونتوف طريقَه إلى الجدار، لكنه تعثَّر في المقعد الصخري، الذي نسيَ أنه موجود، وانطلق مترنحًا باتجاه المنضدة، وسقطَ منه رغيفُ الأربعة أيام متدحرجًا على الأرض. مدَّ يده في إثر الرغيف ليمسكه لكن من دون جدوى، كان يخشى من احتمال أن يسقط في جدول الماء ويضيع منه، لكنه لم يستطِع العثور عليه، وفي تلك اللحظة أفسحَت نيتُه السابقةُ في معرفة مقاييس الزنزانة الطريقَ أمام رغبته في العثور على ذلك الرغيف. نزلَ ليرمونتوف على الأرض وأخذَ يسير على يديه وركبتيه، وراحَ يتحسَّس الأرضيةَ الحجريةَ بوصةً بوصةً على مدى نصف ساعة، بحسب تقديره، لكنه لمْ يَلمس الخبزَ ولا مرة واحدة.
قال في نفسه مُغمغمًا: «يا لقلَّة حيلة الإنسان في الظلام، رغم كل ذلك، يَجب أن أفعل هذا بطريقةٍ منظَّمة، ولأبدأ من عند حافة جدول الماء.»
بلغَ ليرمونتوف حافة غدير الماء حبوًا على أطرافه الأربعة، وراحَ يتحسَّس طريقه على امتداد الحافة إلى أن اصطدم رأسه بالجدار المقابل. استدار، وتَموضَع في مكانٍ خمَّنَ أنه أقربُ إلى الباب بمقدار ثلاث أقدام، وراحَ من جديدٍ يجوز خلال الغرفة، واشتدَّت حماستُه للغاية في البحثِ لدرجة أنه نسيَ في تلك اللحظة مدى شناعة وضعه، كحاله تمامًا عندما كان يَنخرِط في تجربةٍ علميةٍ كيميائيةٍ فيختفي من ذهنه كلُّ ما عَداها، وهكذا بعد عدةِ مراتٍ من الذَّهاب والإياب في الغرفة تذكَّر من جديدٍ وجودَ المقعد الصخري عندما نطحه برأسه في اللحظة التي عَلِمَ فيها أنه لا يزال بعيدًا عن الجدار بمِقدار عدةِ أقدام. أخذَ ليرمونتوف يحك رأسه ويُغمغمُ بعباراتِ ذَمٍّ للمقعد الذي لا يُمكن تحريكُه، ثم زحفَ حوله مرتَين، واستأنفَ رحلاته القصيرة في عرض الغرفة. في النهاية وصل إلى الجدار الذي كان يضمُّ الباب، وراحَ في تلك اللحظة، وبحماسةٍ مُرهقةٍ إلى حدِّ اللُّهاث، يحكُّ كتفَه في الجدار إلى أن وصَل إلى الركن المقابل. أدركَ ليرمونتوف أنه لمَسَ فعليًّا بركبتَيه ويدَيه كلَّ بوصةٍ مربَّعةٍ من مساحة الأرضية، ورغم ذلك ما مِن خبز.
صاحَ ليرمونتوف وهو يَنهضُ على قدميه ويتمطَّى: «والآن، هذه كارثة. ومع ذلك، فإنَّ الإنسان لا يموتُ من الجوع في أربعة أيام. لقد ألقيتُ خبزي في الماء. من الواضح أنَّ جدول الماء قد ازدرده. فماذا يمنع المرءَ من الهروب عن طريق جدول الماء هذا؟ ومع ذلك، فما جدوى الهرب إن تمكَّن منه؟ سوف يَخرج للعوم في بحر البلطيق، ولو تمكَّن من السباحة حول الصخرة، فلن يكون ثمة خيار لديه سوى الطَّرق على الباب الأمامي والتوسُّلِ لهم كي يسمحوا له بالدخول مرةً أخرى. كلا، يا إلهي، إنَّ القارب موجود، لكن يُحتمَل أنهم يحرسونه ليلًا ونهارًا، ولن يكون لرجلٍ في الماء أملٌ في التغلبِ على رجلٍ داخلَ القارب. ربما تُوجد حواجز شبكية بين الزنازين. لا بد أنها موجودة بالطبع. لن يترك أحدٌ قاع جدول الماء سالكًا أمام أيِّ أحدٍ يُريد اجتيازه؛ إذن لتمكَّن السجناء من زيارة بعضهم بعضًا في زنازينهم، وهذا غير مَسموحٍ به في أيِّ سجنٍ مُحترَم. ليت شعري هل يُوجد أيُّ أحدٍ بجواري في أيٍّ من الجانبَين. إنَّ وجود شبكة حديدية لن يَمنع الصوت. سوف أجرِّب.» وذهبَ مرةً أخرى إلى حافة جدول الماء، وراح يَصرخ عدةَ مراتٍ بأعلى صوتٍ لديه، لكن لم يُجِب على صراخه سوى صدى صوتٍ كئيبٍ، كأنه قادمٌ من جوف قبو.
«أظن أنَّ الزنازين المُجاورة لي فارغة. لا أملَ في وجود صحبةٍ أَستمتِع بها هنا. تُرى هل أتَوا بالمساكين الآخرين من الباخرة أم لم يَفعلُوا بعد! سوف أجلس على المقعد وأُنصت.»
كان بإمكانه أن يجد المقعد والرفَّ على الفور تقريبًا إذا تلمَّس طريقه حول الحائط، لكنه قرَّر أن يستخدم حاسة تحديد الاتجاه لديه؛ وذلك كي يَضع نفسه في مُواجهةٍ مباشرةٍ مع الظلام الذي حوله.
قال: «لا داعيَ للعجلة. ربما أبقى مدةً طويلةً هنا.»
كان يَحتفظ في ذهنه بصورةٍ للزنزانة، لكنه لمَّا استمع إلى المياه في تلك اللحظةِ بدا أنها قد غيَّرَت اتجاهها، ووجدَ أنه يتعيَّن عليه أن يُعيد ترتيب هذه الصورة الذهنية، وأن يُجري مجموعةً مُختلفةً من الحسابات كي تُلائم الوضع الجديد. عندئذٍ راح يمشي إلى الأمام جارًّا قدميه ببطءٍ ومادًّا يديه أمامَه، لكنه وصَل إلى الجدار، وليس إلى المقعد. من جديدٍ راحَ يُنظِّم طريقه، ومن جديدٍ حاوَلَ، ومن جديدٍ أخفق.
قال مُغمغمًا: «هذا مُربِك. كم يُحيرُ الظلامُ المرءَ! لأولِ مرةٍ في حياتي أُقدِّرُ الرحمةَ الكامنة في أمر الرب حقَّ قدْرها، وذلك حين قال: «ليكُن نورًا».»
وقفَ ليرمونتوف متحيرًا بضع دقائق، ولمَّا غاصَ عميقًا في التفكير، نفَّذَت يداه عمليةً بصورةٍ آليةٍ بصفتهما خادمتَي عاداته. لقد أخرجتا مِن جيبِه عُلبة سجائرِه، واختارتا لُفافةَ تبغٍ، ووضعتاها بين شفتَيه، وبحثَتا في جيبٍ آخر، وأخرجتا عُلبة ثقاب، وأشعلتا نارًا. أفزع إشعالُ عود الثقاب ليرمونتوف وكأنما كان انفجارًا؛ فضحكَ من ذلك، وعندما رفعَ عود الثقاب فوق رأسه رأى عند قدمَيه رغيفَ الخبز الأسود. لقد بدا الأمر وكأنَّما لوى أحدٌ ما الغرفةَ فجعل أحدَ طرفيها مكانَ الآخر. كان الباب في المكان الذي ظنَّ أن جدول الماء فيه، وهكذا علمَ أن الصوت لا يُرشِد رجلًا معصوبَ العينين إلى الاتجاهات الصحيحة. بدأ عود الثقاب يتضاءل، فأشعَل سيجارتَه في توتُّر.
«لماذا لمْ أفكِّر في أعواد الثقاب، وكم هو مُؤسِفٌ أنني لمْ أملأ جيوبي بها في ليلة حفل عشاء البروفيسور تلك! إنه لأمرٌ مدهشٌ أن أعواد الثقاب تُباع في تلك اللحظة في السويد بسِعر نصف بنسٍ لكل مائتَين وخمسين عودًا!»
على هُدى الوميض الصادر من طرَف سيجارته ذهبَ إلى المقعد وجلسَ عليه. لقد اندهشَ إذ لم يجد نفسه مُكتئبًا بقدرٍ يَتلاءم مع الوضع. إنه لمْ يُشعر بأدنى قدْرٍ من القنوط. ثمَّة شيءٌ كان سيحدث لصالحه؛ كان واثقًا من هذا كلَّ الثقةِ. لقد كان أمرًا في غاية السخافة أنه في روسيا حتى المواطن المُوالي للدولة، والذي لمْ يَرتكِب أيَّ عملٍ مُخالفٍ للقانون في حياته، والذي هو أحدُ نبلاء الإمبراطورية، وأحدُ أصدقاء القيصر، من المُمكن أن يُسجَنَ طويلًا من دون محاكمة، وحتى من دون أن تُوجَّه له تُهمة. لم يكن ليرمونتوف يَعرف له أعداءً، وكان له العديد من الأصدقاء، ورغم ذلك فقد استشعرَ قلقًا غامِضًا عندما تذكَّر أن تاريخ حياته كان يسيرُ على وتيرةٍ معيَّنةٍ تجعل أصدقاءه لا يَفتقدُونه. لقد ظلَّ على مدى أكثر من عامٍ يتنقَّل بين إنجلترا والبحر وأمريكا، وكان مُنهمكًا جدًّا في أبحاثه لدرجةِ أنه لمْ يُرسِل أيَّ رسائل شخصية تستحق الذكر، ولو سُئل أيُّ صديقٍ من أصدقائه عن مكانه فلربما أجابَ قائلًا:
«يا إلهي، ليرمونتوف في مدينة ألمانيةٍ ما حيث إحدى الجامعات، أو في إنجلترا، أو مسافرٌ في مكانٍ آخر. إنني لمْ أرَه ولمْ أعرف عنه شيئًا منذ شهور. ربما يكون هائمًا في إحدى البراري أو مُستغرقًا في إحدى التجارب العِلمية.»
قاطعَ هذه التأملاتِ الحزينةَ صوتُ رنينِ المزاليج. حسبَ ليرمونتوف في البداية أن باب زنزانته هو الذي كان يُفتَح، لكنه أدركَ بعد دقيقةٍ أنه كان باب الزنزانة التالية الواقعة في الاتجاه المعاكس لتيار جدول الماء. لم يكن الصوتُ، بالتأكيد، ليَنفذَ عبرَ الجدار الشديد السماكة، لكنه أتى من الفتحة التي كانت قمتُها تتخذ شكلَ قوسٍ يمر ماءُ الجدول من تحته. من خلال الأصوات استنتجَ أن عِدةَ سجناء كانوا يُودَعون زنزانةً واحدة، وتساءل إن كان يَرغب في وجود مرافقٍ أم لا. إنَّ الأمر كله مرهونٌ بالظروف. لو أنَّ زملاء الحبس كرهوا بعضَهم بعضًا، فربما يتَّضح أن قُربهم القسريَّ هذا كان أمرًا بغيضًا.
سمعَ ليرمونتوف أحدَهم يقول: «نحن جائعون. أحضِروا لنا طعامًا.»
ضحكَ السجَّان، وقال:
«سوف أعطيكم شيئًا تشربونَه أولًا.»
صاحت ثلاثةُ أصواتٍ قائلةً: «هذا صحيح. فودكا، فودكا!»
عندئذٍ صدرَ عن الباب رنينُ الإغلاق مرةً أخرى، وسمعَ ليرمونتوف أصواتَ تهامُس السجناء باللغة الروسية، لكنه لمْ يَستطِع تمييزَ ما كانوا يقولون. بدا أن أحد السجناء الجُدد كان يتلمَّس طريقه في الزنزانة وارتطم بالمقعد الحجري، كما فعل ليرمونتوف من قبل. أخذ الرجل في الزنزانة المجاورة يتفوَّه بشتائم بذيئة، وأدركَ ليرمونتوف من خلالِ ما استطاع أن يسمعه من نُتف حديثهم أنهم كانوا أُناسًا من طبقةٍ وضيعة، فلم يجد لديه رغبة في التقرب إليهم، فلم يُنادِ عليهم كما كان ينوي أن يفعل. وفي تلك اللحظة أحسَّ أنه افتقدَ شيئًا كان قد ألِفه؛ فظنَّ أن ما كان يُريده هو لفافة تبغ؛ لأن اللفافة التي كان قد أشعلها استُهلِكت حتى وصلت إلى شفتيه، لكنه أدركَ أن خرير جدول الماء هو الذي توقَّف.
قال: «يا إلهي، إنهم يستطيعون أن يُوقفوا جريانه. هذا مثيرٌ للاهتمام. يجب أن أبحث وأعلم إن كانت الزنازين متصلةً أم لا. رغم أن هذا غير مُتوقَّع.»
زحفَ ليرمونتوف على يدَيه وركبتَيه إلى أن وصل إلى قاع الجدول، الذي كان في تلك اللحظة رطبًا، لكن فارغًا. جثا ليرمونتوف في مجرى الجدول، وشقَّ طريقه إلى الزنزانة الجنوبية، وكما توقَّع، وصل إلى قضبان حديدية متينة. بعد انحنائه بهذه الطريقة كان قد ضحَّى بعودِ ثقابٍ ثانٍ، وقدَّر المسافةَ التي بين الزنزانتَين بما يقارب عشر أقدامٍ من الصخر الأصم، ورأى كذلك أنه يوجد وراء القضبان الحديدية العمودية مجموعةٌ أخرى أفقية، ثم أخرى عمودية، ثم رابعةٌ أُفقية.
بينما هو في هذا الوضع أفزعه صراخٌ مُدَوٍّ قادمٌ من الخلف. رجعَ القهقرى وخرجَ من النفق واعتدلَ واقفًا من جديد. لقد سمعَ أصواتَ أُناسٍ يخُوضون في الماء. بدأ الصارخُ يُهذرِ كالممسوس، ويقطع هذيانَه بالصراخ. كان رجلٌ آخر يُطلق الشتائم بعنف، وثالثٌ يَستغيث بالقديسِين. جثا ليرمونتوف سريعًا في جدول الماء، لكن في اتجاه الزنزانة الشمالية هذه المرة، وأشعل عودَ ثقابٍ ثالث. لقد رأى أن دِرعًا فولاذية، ذكَّره شكلُها بالمصراع الرقيقِ الموجود بين عدسات الكاميرا، كانت قد أُقحمت عَبْرَ النفق وراءَ المجموعة الثانية من القضبان الممتدة بالعرض، وكحالِ أيِّ مهندسٍ لمْ يستطِع إلا أن يُعجَب بمهارة الخبير التنفيذي الذي صنعَ هذه الأداة الشيطانية؛ لأنه برغم ضغط الماء من الجانب الآخر، لمْ تكد نقطةُ ماءٍ واحدةٌ تنزُّ من خلال الدرع. حاول ليرمونتوف أن يصل إلى هذه الدرع، لكن لم يستطِع. كانت أبعدَ مِن متناول أصابعه، حتى مع مدِّ ذراعِه عبْرَ مجموعتي القُضبان الحديدية، غير أنه إذا كان قد تمكَّن مِن مدِّ يده لهذه المسافة، ومجموعةُ القضبان الأولى تعوق كتفَه، فقد كان يعلم أنَّ يده كانت ستَعجز عن خَرقِ الدرع الفولاذية، حتى ولو كان معه سلاحٌ ما. كان الرجالُ سيغرقون قبل أن يتمكَّن من تحقيق أي شيءٍ ما لمْ يصل إلى الرافعة الموجودة في الممر بالخارج.
بعدما زحفَ إلى زنزانته مرةً أخرى لمْ يعد يسمع هذيانَ الممسوس وصرخاته، وخمَّنَ أن الرجلين الآخرَين كانا يتشاجران من أجل الاستحواذ على مكانٍ فوق المقعد أو الرف، وقد كانا واسعَين جدًّا بحيث يتَّسعان لكليهما، لولا أنْ أفقدهما الخوفُ عقلَيهما وصرفهما عن إدراك هذه الحقيقة. انتصر الرجلُ الذي كان يتفوَّه بالشتائم، ووقفَ في تلك اللحظة وحده فوق الرف، وراحَ يجأر باللعنات. ثم دوَّى صوتُ غَطسةٍ، وسمعَ ليرمونتوف، وهو واقفٌ في مكانه عاجزًا مُرتجِفًا، ذلكَ السجينَ يدور ويدور سابِحًا في زنزانته كحيوانٍ مُهتاجٍ، يُغمغم ويشتم.
صاحَ ليرمونتوف: «لا تُجهد نفسكَ هكذا. إذا أردتَ أن تعيش فتشبَّث بالحفرة الموجودة في أيٍّ من الركنَين العلويين. لن تَرتفِع المياه فوقك عندئذٍ، وستَستطيع أن تتنفَّس حتى تَنحسِر.»
لكن الآخر إما أنه لم يسمع أو لم يُبالِ، وإنما ظلَّ يدور ويدور باهتياجٍ وغضبٍ في حوضِه الضيِّق، وراحَ يَضرِب الماء كحُوتٍ يُحتضَر.
قال جاك بتأوُّه: «يا لَلمسكين. ما الفائدة من إخباره بما عليه أن يَفعله. إنه هالكٌ على أيِّ حال. الرجلان الآخران أحسنُ حالًا الآن.»
بعد دقيقةٍ بدأت المياه تَقطر من الفتحة العليا داخلَ زنزانة جاك، وراحت تزداد وتزداد إلى أن صار صوت تدفُّقها كهدير شلال، وأحسَّ جاك بقطرات الماء الباردة المُتناثِرة تتدفَّق نحوه. وفيما عدا ذلك، ساد الصمتُ. ربما بعد عشر دقائق تقريبًا شُدَّت الرافعة، وراحَت المياه تتدفَّق بقوةٍ من النفق السفلي كتيارِ المياه الذي يُدير دولاب الطاحون عندما يُطلق لاندفاعه العَنان، لقد غمرَ الأرض مؤقتًا لذلك اضطُرَّ جاك إلى الوقوف على المقعد الصخري.
غاصَ جاك في المياه وراحَ يَرتجِف فوق الرف الصخري، ووضعَ يديه على الوسادة الصخرية، ودفنَ وجهه داخلهما.
وأخذَ يقول مُتأوِّهًا: «ربَّاه، ربَّاه!»