عالِمٌ زميل
في هذا الوضع الجسماني نامَ جاك نومًا مُتقطعًا، أو بالأحرى، غفا فيما يُشبه الغيبوبة، وكان يُفيق منها مفزوعًا بين الحين والآخر؛ إذ كان يُخيَّل إليه أنه يَسمع من جديدٍ تلك الصرخات المختلطة من الصلوات المَمزوجة واللعنات. وفي نهاية المطاف غاصَ في نومٍ عميقٍ، واستيقظَ نشيطًا، لكن جائعًا. كان رغيفُ الخبز موضوعًا إلى جواره، وبواسطة سكينه قطعَ شريحةً منه، وراحَ يَمضغ الخبز الرديءَ بتلذُّذٍ أكبر مما تصوَّر أنه مُمكنٌ عندما وقعَت عينُه عليه أولَ مرة. بعد ذلك أخرجَ سيجارةً أخرى، وأشعلَ عودَ ثقابٍ، ونظرَ في ساعته، وأشعلَ السيجارة. كانت الساعة الثانية وعشر دقائق. تساءل إن كانت ليلةٌ قد مرَّت، لكنه ظنَّ أن هذا غير مُحتمَل الحدوث. لقد نزلَ من السفينة في وقتٍ مبكرٍ جدًّا من الصباح، وكان في ذلك الحين في فترة العصر. كان عطشانًا بصورةٍ مَخيفة، لكن لمْ يستطِع أن يُقنِع نفسه بالشرب من جدول الموت هذا. من جديدٍ سمع المزاليج وهي تُجذب إلى الوراء.
قال مُغمغمًا: «سوف يُلقون التعساءَ المساكينَ في البحر»، لكن الوميض الأصفر المُنبعث من المصباح جعله يُدرك أن بابَ زنزانته هو الذي فُتِح.
قال السجَّان بصوتٍ أجش: «سوف تُقابل المدير. تعالَ معي.»
وثبَ جاك إلى أرضية زنزانته وهو يكبتُ في نفسه صرخةَ ابتهاج. لم يكن باستطاعة المُدير المتجهِّم أن يَفعل له أيَّ شيءٍ يَجعل وضعه أسوأ ممَّا كان عليه، وربما تُؤدي قدراته في إقناع هذا الموظف إلى بعض التحسُّن في وضعه. على أيِّ حالٍ كان سيَحظى بفترة الراحة القصيرة التي ستُتيحها له المُقابلة، وقد كان مُستعدًّا بكل سرورٍ لمصادقة الشيطان نفسه ليتحرَّر بضعَ دقائق من هذه الحفرة السوداء.
مع أنَّ الباب الخارجي لغرفة المدير كان مفتوحًا لم تكن إضاءةُ الغرفة بالجودةِ نفسِها التي كانت عليها من قبل؛ لأن الشمس كانت قد استدارت في هذا الوقت إلى الجزء الآخَر من الجزيرة، لكنها بدَت في عينَي السجين الأليمتَين غرفةً مُتألِّقة. كان المصباح النفطيُّ نفسه يتوهَّج فوق المنضدة وتنبعث منه رائحةُ نفطٍ رديء، وإضافةً إليه، أُضيئَت شمعتان كمَّلتا بصورةٍ طفيفةٍ، جهودَ المصباح. كان عند طرف المنضدة مجموعةٌ من المستندات تحتَ مُثقِّلةٍ تمنعها من أن تَتطاير، وكانت مُرتَّبةً بدقةٍ وإتقانٍ لا يفعلهما إلا رجلٌ منظَّم. كان المدير يدفئ يديه فوق المجمرة، لكنه توقَّف عن هذا عندما أُحضِر ليرمونتوف للمثول أمامه. رفعَ المدير مثقِّلة الأوراق، وأخرجَ من تحتها الرسالتَين اللتين كان ليرمونتوف قد أعطاهما للخادم على متن السفينة البخارية، وسلَّمهما للسجين، الذي يكون بهذا يتسلَّمهما للمرة الثانية.
قال المدير وقد بدت عليه علاماتُ لا مُبالاةٍ مشوبةٍ بالضجر بدا جليًّا أنها كانت صادقةً للغاية: «أريد أن أقول إنك لو أقدمت على أيِّ محاولةٍ أخرى للاتصال بالسلطات، أو بأصدقائك، فسوف تجر على نفسك عقابًا لن يسرك.»
قال الأمير: «بوصفي أحد رعايا القيصر، يحقُّ لي أن ألجأ إليه.»
ردَّ المدير: «كان سيثبت لك أنَّ هذه المناشَدة التي كتبتَها في هذه الرسالة عديمةُ الجدوى، حتى ولو كانت وصلَت إلى وجهتها. إنَّ القيصر لا يعرف شيئًا عن تروجزموندوف، إنها قلعةٌ خاضعةٌ بالكامل لسلطان كبار الدوقات والأسطول. إنَّ تروجزموندوف لا تتخلَّى عن أيِّ سجينٍ ألبتَّة.»
«سوف أبقى هنا للأبد إذن؟»
أجابَ المدير بهدوءٍ لا مبالٍ: «نعم. وإذا لم تُسبِّب لي مشكلةً فستوفِّر على نفسك بعضَ الإزعاج.»
سأله الأمير: «هل تتحدَّث الفرنسية؟»
أجابه المدير بالروسية: «نِيَت (لا).»
«الإنجليزية؟»
«نِيَت.»
«الإيطالية؟»
«نِيَت.»
«الألمانية؟»
«نعم.»
أكمل ليرمونتوف بالألمانية: «إذن، لديَّ بعض كلماتٍ أودُّ أن أقولها لك ولا أريد هذا السجَّان أن يفهمها. أنا الأمير إيفان ليرمونتوف، وأنا صديقٌ شخصيٌّ للقيصر الذي هو، بالرغم من كل شيء، رئيس كبار الدوقات والأسطول كذلك. إذا ساعَدتني في التواصُل معه، فسأضمن ألَّا يمسَّك أذًى، وعلاوةً على ذلك سأَجعلُك رجلًا غنيًّا.»
هزَّ المدير رأسه ببطءٍ، وقال:
«ما تطلبه مُستحيل. إنَّ الثروة لا تعني لي شيئًا. ربما تفعل الرشوةُ الكثيرَ في أجزاءٍ أخرى من الإمبراطورية، لكنها عاجزةٌ في قلعة تروجزموندوف. سوف أموتُ في الغرفة المُجاورة لهذه، مثلما مات سَلفي. إنني سجينٌ في قلعة تروجزموندوف كما هي حال سموِّك تمامًا. ما مِن رجلٍ وطئ بقدمه هذه الغرفةَ يومًا، سواءٌ أكان مديرًا، أو مُوظَّفًا، أو سجينًا، ثُم سُمِحَ له برؤية البر الرئيسي مجددًا، وبهذا ظلَّ السر محفوظًا جيدًا. لقد كان لدينا العديدُ من السجناء في مثل رتبةِ سموِّك، وأصدقاء للقيصر كذلك على ما أعتقد، لكنهم ماتوا جميعًا على أرض الصخرة، ودُفِنوا في بحر البلطيق.»
«ألا يُسمَح لي بالحصول على بعض المؤن إذا دفعتُ ثمنَها؟ هذا مسموحٌ به في سجون أخرى.»
هزَّ المدير رأسه.
وقال: «يُمكنني أن أسمح لك ببطانية، ووسادة، أو ثوبٍ مصنوعٍ من جلد الغنم إذا كنتَ أحسستَ بالبردِ في البداية، لكن سُلطتي هنا محدودةٌ للغاية، وصدِّقني، إنَّ ما يحصل عليه الضباط من وسائل الراحة لا يفوقُ كثيرًا ما يحصل عليه السجناء منها.»
قال ليرمونتوف: «يا إلهي، أنا لا أهتم مُطلقًا بوسائل الراحة. إنَّ ما أريده هو بعض الأدوات العِلمية. أنا دارسٌ للعلوم الطبيعية؛ ولا علاقة لي بالسياسة، كما لمْ أتورَّط قطُّ في أيِّ مؤامرة. لقد ارتكبَ أحدُ المسئولين خطأً أحمقَ، وهذا هو سبب وجودي هنا. أنا واثقٌ تمامًا أن هذا الخطأ سوف يُكتشَف ويُصحَّح. إنني لا أحملُ أيَّ ضغينة، ولن أتفوَّه بكلمةٍ عن المكان عندما يُطلق سراحي. إنه أمرٌ لا يخصُّني. لكنَّني لا أريد أن أهدر الوقتَ الذي سيمر قبل أن يتحقق هذا. ولهذا أرغب في شراء بعض الآلات والأدوات الكهربائية، وأنا مستعدٌّ لدفع أيِّ ثمن تطلبونه في مقابلها.»
سأله المدير: «هل تفهم في الكهرباء؟» ولأول مرةٍ أظهر وجهُه الجامدُ الشعورِ مِسحةَ اهتمام.
«هل أفهم في الكهرباء؟! يا إلهي، لقد ظللتُ أكثر من عامٍ رئيسَ فنيِّي الكهرباء على متن سفينةٍ حربية.»
قال المدير، وقد عاد إلى الروسيةِ مرةً أخرى: «ربما تستطيع إذن أن تُخبرني بمشكلةِ مُولِّد الكهرباء الموجود لدينا هنا في الصخرة. فبعد طلبٍ مُتكرِّرٍ، أرسلوا آلاتٍ لإضاءة مكاتبنا وممراتنا بالكهرباء. من الواضح أنهم لم يرغبوا في إرسال كهربائيٍّ إلى قلعة تروجزموندوف، وأرسلوا بدلًا منه بعضَ كتيباتٍ للتعليمات. وأنا أُحاول معها منذ سنتَين ونصف، لكنني لا أزال أستخدم المصابيح النفطية والشموع. لم نجد صعوبةً في تزويد المكان بالأسلاك.» رفعَ الشمعة وعرضَ بها ثُريا مليئةً بالمصابيح الكهربائية تتدلى من السقف لمْ يلاحظ ليرمونتوف وجودها قبل تلك اللحظة، وكذلك العديدَ من حوامل المصابيح المنبثقة من الجدران، ومصباحًا أو اثنين من المصابيح القائمة في أحد أركان الغرفة، ويتصل بها سلكٌ كهربائي ذو كسوة حريرية خضراء اللون.
سأله ليرمونتوف: «أيُمكنني أن أرى المُولِّد؟»
دفَّأ المديرُ يديه مرةً أخيرةً فوق المجمرة، وتناول شمعةً، وأمرَ السجَّان أن يُزيل كُمَّة المصباح من عليه وأن يُحضرَه معه، وتقدَّم أمامهما في أحد الممرات، ثم دخلَ إلى غرفةٍ كان أول ما سمعه السجين فيها عند دخوله صوت خرير المياه.
«ما هذا الذي لدَيكم، مُحرِّكٌ توربيني؟ هل يزودكم بأيِّ طاقة؟»
قال المدير: «يا إلهي، إنه يُنتج الكثير من الطاقة.»
«أرني كيف تُديرون التيار.»
شغَّل المديرُ المحركَ التوربيني، فبدأ المُولِّد يُصدر طنينًا، وهو صوتٌ أدركَت من خلاله أذنُ ليرمونتوف المدرَّبةُ العديدَ من الأشياء.
«حسنٌ أيها المدير، أطفِئه. إنه مُولِّدٌ عتيق الطراز نوعًا ما، لكن من المفترض أن يزوِّدكم بكلِّ ما تحتاجونه من الإضاءة. لا بد أنك كهربائيٌّ بالفطرة، وإلَّا لَمَا تمكَّنتَ إطلاقًا من تشغيل الآلة بحيث تعمل بهذا القدر من الكفاءة.»
لمَعَت عينا المدير الباهتتان لحظةً، ثم عادتا إلى هيئتهما المتعَبةِ الحزينةِ مرةً أخرى.
قال جاك وهو يتخلَّص من معطفه: «والآن، أريدُ مفتاح ربطٍ، ومفكَّ براغي، ومطرقة، وكمَّاشةً إذا كانت موجودةً لديكم.»
قال المدير: «ها هو ذا صندوق الأدوات»، ووجدَ فيه جاك كلَّ ما أراد. بدأ جاك في العمل بنشاط، وكان يأمر المديرَ بإمساك الشمعة هنا وهناك وهنالك، وراحَ يوجِّه الأوامر إلى السجَّان وكأنه غلامٌ متدرِّب، وعلى مدار نصف ساعةٍ لمْ يَنطق أحدٌ بكلمة.
قال جاك آمِرًا: «افتح هذه المياه مجدَّدًا.»
فعلَ المدير ذلك، وراحَت الآلةُ تُحدِث طنينًا ذا نغمةٍ مختلفةٍ. كان في الغرفة ستةُ مصابيح كهربائية فغمرَت المكان بضوءٍ أبيض باهر.
«هاكم ما طلبتُم.» صاحَ جاك بهذه الكلمات وهو يُزيل النفط عن يديه بقطعةِ خيشٍ خشنة. وقال للسجَّان: «والآن يا تومي، أعِد هذه الأشياءَ إلى صندوق الأدوات.» ثم قال للمدير:
«هيا لنرى كيف تبدو الأمور في الغرفة الكبيرة.»
كان المَمر مُضاءً، واتَّضحت بذلك كلُّ علامةٍ كانت على جدران غرفة المُدير أو سقفها أو أرضيتها.
قال جاك ضاحكًا: «كنتُ قد قلتُ لكَ يا حضرة المُدير إنني لا أعرف السبب في إحضاري إلى هنا، لكنَّني عرفتُ الآن. لقد رأفَ الربُّ بحالكَ، وأمَرَني بإضاءة النور.»
في تلك اللحظة دخل السجَّانُ بمَفاتيحه التي تُصلصل في حزامه، وتلاشَت النظرةُ المتحمِّسةُ من وجه المدير، تاركةً إياه جامِدَ الشعور عديمَ العاطفة من جديد، لكنه تكلَّم بالألمانية بدلًا من الروسية.
«أنا في غاية الامتنان لسموك، وإنه ليُحزنني أنَّ علاقتَنا ستَبقى دون تغيير.»
صاحَ ليرمونتوف بابتهاج: «يا إلهي، لا بأس. إذا كان في نطاق سُلطتك أن تَسمح لي بالمجيء لإعطائك بعضَ الدروس في الكهرباء وصيانة المولِّدات الكهربائية، فسيُسعدني للغاية أن أفعل هذا.»
لم يردَّ المديرُ على هذا العرض، لكنه ظلَّ يتكلَّم بالألمانية.
«سوف أنقلُك إلى الزنزانة رقم واحد، وهي ليسَت فقط أكثر راحةً، بل الماء فيها نقيٌّ أيضًا. هل قلتَ إنك تُجيد الإنجليزية؟»
«نعم، بالطلاقة نفسها التي أتكلَّم بها الروسية.»
أكمل المديرُ كلامه، ولكن بشيءٍ من التردُّد: «عند عودة السفينة البخارية سيكون هناك سجينٌ إنجليزي. سوف أُعطيه الزنزانة رقم اثنين، وإذا لم تتحدَّثا بصوتٍ عالٍ يجعل السجَّانَ يسمعكما، فربما يجعل هذا اليومَ أقل إملالًا.»
«هذا كرمٌ بالغٌ منك»، هكذا قال جاك، كابتًا أيَّ أثرٍ لعاطفةٍ أو اهتمامٍ عندما سمعَ الخبر، غير أنه قفزَ في الحال إلى استنتاجاتٍ مُحدَّدة. تابعَ قائلًا: «لن أطلب أكثر من هذا، لكنَّني أود أن أشير إلى الشموع وأعواد الثقاب والتبغ.»
«من المُحتمَل أن تجدَ الثلاثةَ جميعًا في الزنزانة رقم واحد قبل هذا الوقت غدًا»، ثم قال المدير بالرُّوسية للسجَّان:
«انظر إن كانت الزنزانة رقم واحد جاهزة.»
انصرفَ السجَّان، وفتحَ المديرُ دُرجًا في منضدتِه، وأخرجَ منه شمعتَين، وعلبة أعواد ثقاب، وعلبة سجائر.
وقال: «ضَعْ هذه الأشياء في جيبك. إنَّ باب الزنزانة يفتح ببطءٍ شديد؛ ولذا سوف تعرف دائمًا متى يجيء السجَّان. في هذه الحالة أطفِئ نورك وخبِّئ شمعتك. هكذا ستدُوم معك أطول.»
عاد السجَّان.
وقال: «الزنزانة جاهزةٌ يا حضرة المدير.»
أمره المديرُ بفظاظة: «خُذ السجين.»