الزنزانة رقم واحد
كانت الزنزانة رقم واحد أفضل كثيرًا من الزنزانة رقم تسعة. لم يكن ثمَّة رفٌّ صخري، ولا مقعدٌ صخري، وإنما كان بها سريرٌ نقَّالٌ في أحد الأركان، ومنضدة، وكرسي خشبي. كان جدول الماء يتدفَّق من الصخرة المنحوتة، في أحد أركان الغرفة. بعدما انصرفَ السجانُ ومساعدُه وأقحما المزاليج الخارجية في أماكنها أشعلَ جاك شَمعته ولفافةَ تبغٍ، وشعرَ بسعادةٍ نسبية. عاين المبنى الآن بعنايةٍ أكبر. كان السريرُ مصنوعًا من الحديد ومُثبَّتًا في الأرضية. ومِن فوقه تُوجد مرتبةٌ، ووسادةٌ، وبطانيتان. تُرِكَ عند رأس السرير رفٌّ صخريٌّ صغيرٌ في الركن، وكان فوق هذا الرفِّ حوضٌ من القصدير، بينما حلَّت قطعةٌ خشنةٌ من الخيش محلَّ المنشفة. خلعَ جاك مِعطفه وألقاه فوق السرير، وقصدَ إلى اغتسالٍ مُرضٍ. سمعَ جاك شيئًا ما يُجلجلُ في الجيوب، ولأنه نسيَ في تلك اللحظة ما عساه أن يكون هذا الشيء، أقحمَ يده في الجيوب، وأخرجَ زجاجةً ذاتَ سدادةٍ زجاجيةٍ مليئةً بالأوزاك. أمسكها جاك على امتداد ذراعه، وراحَ يحدِّق فيها بضعَ دقائقَ كالمنوَّمِ مغناطيسيًّا.
وصاحَ قائلًا: «يا للهول! كم هو مُدهشٌ أن أنسى هذه!»
ملأ جاك الحوضَ المصنوع من القصدير بالماء، ووضعه فوق المنضدة. من جديدٍ أذابَ جزءًا صغيرًا من المادة الكيميائية في الماء، ومن جديدٍ ملأ المحقنة.
قال جاك: «يجب ألَّا أترك على الجدار أيَّ علاماتٍ قد تَلفتُ الانتباه»، وأخذَ المحقنة المَملوءة إلى القنطرةِ القائمةِ فوق جدول الماء، ووضَعَ الشَّمعة على الأرض إلى جواره، ثم راحَ يَدفع المكبسَ برفق. اصطدم الرذاذُ بالصخر، وراحَ الصخر يذوبُ بصورةٍ طفيفةٍ لكن ظاهرة. عادَ جاك إلى المنضدةِ ووقفَ بضع دقائق غارقًا في تفكيرٍ عميق. مع أنَّ السريرَ النقَّال كان مُثبتًا في الأرضية، ومع أنه كان من المُمكن أن يكون الرفُّ الموجود في الزنزانة التاليةِ واقعًا في مكانه نفسه، فقد كان خطر الاكتشاف أكبر من فتح مَمرٍّ بين الزنزانتين هناك. كان المكان المناسِب للشروع في العمل هو الجزء الداخلي من النفق الذي يَجري فيه ماء الجدول، لكن لمَّا اختبر جاك درجةَ حرارة الماء بيدِه، شكَّ في قدرةِ جسده على احتمال البقاء في هذا الماء البارد برودةَ الثلج أكثرَ من بضع دقائق كلَّ مرة، ولو عمل في النفق فسيغمره الماءُ تقريبًا. خشيَ جاك من احتمالية أن يهلك من البرد والتقلصات قبل أن يتمكَّن من إحداث أي أثرٍ في الصخرة.
سحبَ جاك المنضدة إلى حافة جدول الماء، وصعدَ عليها، وفحصَ الفتحةَ العليا التي كان الماء يُصرف منها عندما تَمتلئ الزنزانة. وجدَ أن باستطاعته الوقوفَ على المنضدة والعملَ بشكلٍ مُريحٍ إلى أن يتمكَّن من حفرِ ما يكفي من الصخر للسماح له بالتسلُّق داخل النفق العلوي؛ ومن ثمَّ الاستمرار في أداء أعماله. كان الماء الذي استخدمه سيَسيل عبر النفق، ويَنحدِر إلى جدول الماء الأساسي في الزنزانة المُجاوِرة. كان كلُّ ما يتوجَّب فعلُه هو أن يُذيب فتحةً شبهَ دائريةٍ في الصخر بحيث تَنعطِف بعيدًا عن طرَفِ تلك القُضبان الحديدية، وتَنفذ عبرَ النفقِ من جديدٍ إلى الجهةِ الأخرى. من لهفتِه على العمل أخذَ الحوض المملوء وأقحمَه بعيدًا داخل النفق إلى أن أوقفته القضبانُ الحديدية، ثم وضعَ شمعته إلى جواره، ووقفَ على المنضدة وبدأ في التنفيذ.
بدأ حجرُ الجير يذوب تحت تأثير الرذاذ ببطءٍ شديد، وعندما نفدَ حوضُ الماء، كانت محصِّلة النتيجة المرئية تحت ضوء الشمعة مجرَّد بصمةٍ دائريةٍ طفيفةٍ للغايةِ لا تكاد تُرى بالعين المجرَّدة.
قال ليرمونتوف وقد اعترته خيبةُ أملٍ مُوجِعةٍ من نتيجةِ جهوده: «يَجب أن أجعل المحلول أقوى من هذا، على ما أظن.» وبينَما هو ينظر إليها سمعَ جلجلة انفتاح المزاليج. أطفأ ليرمونتوف الشمعةَ ووثبَ إلى أرضية الزنزانة، ورفعَ المنضدةَ ووضعها في مُنتصَف الغرفة، وتلمَّس طريقه إلى الكرسي وجلسَ عليه وقلبُه ينبضُ بسرعةٍ جنونيةٍ مَخافةَ أن يُكشف أمرُه.
كالمعتاد دخلَ الرجلُ الذي يَحمل المصباح في إثر السجَّان، الذي جاءَ هذه المرَّة وفي يدِه سُلطانيةُ حساءٍ ساخنٍ يَتصاعَد منه البخار، ووضعَها على المنضدة، ثم أخرجَ من جيبه ملعقةً، وكتلةً صغيرةً من الخبز الأسود، وقطعة جبن. على ضوء المصباح نظر ليرمونتوف في ساعته، ووجد أنها الساعة السادسة. أخذ السجَّانُ المصباحَ من مُساعدِه، ورفعه عاليًا، وراحَ ينظر في الغرفة، بينما حدَّق إليه ليرمونتوف في قلقٍ، مُتسائلًا إن كان هذا المُوظَّف ذو الهيئة المتوحِّشة قد اشتبه في أيِّ شيء. من الواضح أنه لم يشتبه في شيء، لكنه كان يُريد فقط أن يُطمئن نفسه أنَّ كل شيءٍ كان في مكانه المضبوط، لأنَّه قال بنبرةٍ أكثر لُطفًا ممَّا كان مُعتادًا عليه قبل ذلك:
«لقد مضى زمنٌ طويلٌ على حبس أيِّ أحدٍ في هذه الزنزانة.»
بعد ذلك استقرت عينُه على الرفِّ الخالي الواقع في ركن الغرفة.
وواصل كلامه قائلًا: «يا إلهي، مَعذرةً يا سمو الأمير، لقد نسيت. يجب أن أُحضر لك حوضًا.»
قال ليرمونتوف من غير اكتراثٍ، رغم أن شفتَيه كانتا جافتَين، وراحَ يُرطِّبهما بلسانه وهو يتكلم: «أُفضِّل أن تُحضر لي شمعة»، ومن أجل أن يَعلم إن كان المال عديمَ القيمة في الصخرة بالفعل كما صرَّحَ بذلك المدير، أخرجَ من جيبه إحدى العملات الذهبية المُتبقية معه، شاعرًا بالسعادةِ؛ إذ تصادفَ أنه كان يَحمل العديدَ منها، ووضعه في راحةِ كفِّ السجَّان، فأطبقَ عليه بأصابعه بتلهفٍ وكأنه كان في سانت بطرسبرج.
«أظن أنه يُمكن تدبُّر أمر الشمعة يا سموَّ الأمير. هل أُحضِر لك كوبًا؟»
«أرجو ذلك.»
أُغلِقَ البابُ مرةً أخرى وأُدخلت المزاليج في أماكنها، وقبل أن يُنهيَ ليرمونتوف حساءَه وخبزه وجُبنه، فُتِحَ من جديد. وضع السجَّانُ حوضًا من القصدير، شبيهًا بالحوض السابق، فوق الرف، ووضعَ شمعةً وشمعدانًا على المنضدة، ووضعَ بجوارهما كوبًا مصنوعًا من القصدير.
قال الأمير في نفسه بعدما أُغلِقَ الباب مرةً أخرى وأخيرة سيظلُّ عليها طوال الليل: «لقد اعتقدتُ أنه ما من مكانٍ في روسيا انقرضَت فيه الرشوة.»
بعد العشاء لمَّع ليرمونتوف منضدته من جديد، ووقفَ عليها، وأضاءَ شمعته، واستأنفَ عمله في شق النفق، وظلَّ يعمل باجتهادٍ إلى ما بعد مُنتصَف الليل. كان تقدُّمه بطيئًا بصورةٍ يُرثى لها، وثبَت أنَّ رش الصخر بالرذاذ كان مُهمةً من أكثر المهام التي باشَرَها إرهاقًا في حياته. لقد جعل المحلولَ الذي ملأ به الحوض في المرةِ الثانية أقوى قليلًا في تأثيره من سابقِه، لكن من دون تحسُّنٍ ملحوظ. عند الانتهاء من عمله لتلك الليلة وجدَ نفسه في وضعٍ غيرِ شائعٍ إلا بين القليل من السجناء، وهو الارتباك من الثروة الموجودة لديه. لقد كان يَملك حوضَيْن، وكان يجب إخفاءُ أحدهما. كان يستطيع بالطبع أن يترك حوضَ العمل في النفق العُلوي الذي كان موضوعًا فيه عندما أحضر السجَّانُ عشاءه، لكنه أدركَ احتمالية أن تسقط أشعة المصباح في أيِّ لحظةٍ على سطحه اللامع، وتتسبَّب بذلك في تحقيقٍ في أمر النَّفق العلوي، مما كان من شأنه أن يُدمِّر خطته كلها نهائيًّا. وبعد بضع دقائق من التفكير توصَّل إلى حلٍّ بارع للمُشكلة؛ لقد وضعَ وجه الحوض بالأسفل في جدول الماء السريع الجريان والذي حمله معه إلى القضبان الحديدية بين الزنزانتَين، فقبع هناك مخفيًّا تمامًا وتيارُ الماء السريعُ يَترقرقُ فوقَه. بعدما انتهى من هذا خلعَ ملابسه، وخَلَدَ للنوم، ولم يستيقظ إلا عندما أحضر السجَّانُ ومساعدُه خبزًا وجُبنًا وقهوةً من أجل الإفطار.
في اليوم التالي بدأ يشعر بالإزعاج الذي تُسبِّبه صداقةُ المدير، وتمنَّى لو أنه يعود آمنًا إلى الوقت الذي كان فيه رغيفٌ واحدٌ يَكفي مدةَ أربعة أيام؛ إذ كان سيَستريح حينها من حالة التوتُّر المُستمر الذي تُسبِّبه زياراتُ السجَّان التي لا تَنقطِع. كان يخشى أن ينهمك جدًّا في عمله ذات يوم؛ فلا يسمع صوت المزاليج وهي تُسحَب؛ ومن ثمَّ يُضبط متلبسًا، إذا جاز التعبير.
بُعَيد تناول الغداء أرسل المديرُ في طلبه، وسأله عدةَ أسئلةٍ مُتعلِّقةٍ بتشغيل المُولِّد الكهربائي. أخفى ليرمونتوف نفادَ صبره، وبدأ يُلقي تعليماته بجديةٍ نموذجية. كانت الكتب الدِّراسية الرُّوسية المُتوفِّرة في مجال الكهرباء من النوع الأوَّليِّ للغاية، ولمْ يكن المدير يستطيع قراءة الألمانية رغم تمكُّنه من الحديث بها، ولذا كان المجلدان اللذان في حوزته والمكتوبان بهذه اللغة مُستغلقَين عليه. من أجل هذا كان جون مُضطرًّا للبدء بمبادئ ذلك العِلم.
غير أنَّ المدير تحمَّس للغاية، حتى إنه نسيَ حذره للحظةٍ، وفتحَ أحدَ الأبواب، واصطحبَ ليرمونتوف إلى غرفةٍ اكتشفَ ليرمونتوف أنها كانت مُستودَع الأسلحة والذخيرة الخاصة بالسجن. أشار المدير إلى بطاريةٍ كبيرةٍ قابلةٍ للشحن كانت على أرضية هذه الغرفة، وسألَ عن الغرض منها. شرحَ ليرمونتوف استخدامات البطارية، بينما كان يَفحصُها فحصًا شاملًا، ووجدَ أنَّ العديد من خلاياها قد أُتلِفَت تقريبًا خلال النقل؛ وذلك بسبب فساد تركيب شبكات التوصيل فيها. مع ذلك، كان نصف مراكم البطارية تقريبًا سليمًا وقابلًا للتشغيل؛ ففصلها ليرمونتوف وأحضرها إلى غرفة المُولِّد الكهربائي، حيث أوضحَ للمدير عملية الشحن. رأى ليرمونتوف في المستودَع صندوقًا يحتوي على مصابيح مُتوهِّجة، ولفَّاتٍ من سلكٍ مُغطًّى بالحرير ومواد أخرى جعلَت عينيه تتلألآن من البهجة. قال بالألمانية:
«لو أعطيتني لفَّةً من هذا السلك، ومصباحًا أو اثنين، ومِركمَ بطاريةٍ، أو بالأحرى ستة مراكمات، فلن أُزعجك بشأن الشموع بعد ذلك.»
لم يُجب المدير في تلك اللحظة، لكنه بعد قليلٍ سألَ ليرمونتوف بالروسية عن موعد إعادة شحنِ البطارية. عيَّن ليرمونتوف الوقتَ، وأمرَ المديرُ السجَّانَ بإحضار السجين من الزنزانة في ذاك الوقت، وبذلك أذن المديرُ لمعلِّمه بالانصراف.
من مزايا هذا اللقاء التي سعدَ بها ليرمونتوف أنه رغم شدةِ انهماك المُدير في هذه الدُّروس، لمْ يَسمح لنفسه قطُّ بالبقاء وحيدًا مع سَجينه. كان واضحًا أن المُدير في لحظات هُدوئه أمرَ السجَّانَ ومساعده أن يتبعا الأميرَ دائمًا وأن يكونا دائمًا في حالة تأهُّب. كان تحت حزام السجَّان مسدسان كبيران، وكان حامِلُ المصباح مُسلَّحًا بمِثلهما. كان ليرمونتوف سعيدًا بهذا؛ لأنه لو كان المديرُ منحه كاملَ ثقته، حتى على الرغم من أنه لم يَطلُب منه تعهدًا بعدم مُحاولة الهرب، لأبَتْ عليه طبيعته أنْ يُهاجم ذلك الزعيمَ بالقسوة التي يَنوي أن يُهاجمه بها عندما يحين الوقتُ لذلك، وعلى أيِّ حالٍ، فقد قال لنفسه إنه مهما بلغَ وُدُّ المديرِ فإنَّ من سوء حظِّه أن يحول بين سجينه وبين الحرية.
أُخرِجَ ليرمونتوف مرةً أخرى من زنزانته قبل حوالي نصف ساعةٍ من الوقت الذي عيَّنه لإتمام عملية الشحن، ومع أن المُدير لم يذكر شيئًا عن نيتِه، فقد أحضر السجَّانُ ومُساعدُه إلى الزنزانة ست بطارياتٍ مشحونةٍ، ولفةَ سلكٍ، واثنَي عشر مصباحًا. غيَّر ليرمونتوف عندئذٍ نظام عمله. كان يبدأ كل ليلةٍ حالَما ينتهي من تناول العشاء، ويعمل حتى مشارف الصباح، وينام طوال النهار إلا عندما يقاطع السجَّان نومَه. على غرار روبنسون كروزو، حاول جاك أن يسِمَ الوقتَ بعلاماتٍ، وذلك بإحداث ثَلمٍ بسكينه في قائمة المنضدة، لكنه كان ينسى في معظم الأيام أن يُنفِّذ هذه العَملية، وبهذا فشلَ تقويمه الخشبي تمامًا بسبب الفوضى. قدَّر أنه كان قد قضى في السجن أكثر من الأسبوع بقليل عندما علمَ من جلجلةِ المزاليج أنَّ الزنزانة المُجاورة كانت تستعد لاستقبال نزيلٍ جديد.
قال: «يجب أن أُجهِّز له ترحيبًا»، وأطفأ المصباح الكهربائي الموجود في نهاية السلك المرن الطويل. كان قد أعدَّ مفتاحًا صغيرًا أنيقًا للبطارية؛ ومِن ثمَّ كان يُضيء النور ويُطفئه مثلما يحلو له، دون الاضطرار إلى تجشُّم عناء فك الصواميل التي كانت تُثبِّتُ أحد أطراف السلك النحاسية في مكانها. توجَّه ليرمونتوف إلى حافة جدول الماء وأضاءَ شمعته، ثم وضعَ الجزء الزجاجي من المصباح الكهربائي في ماء الجدول، وأرخى السلك المرنَ المتَّصل به، وترَك الجزء الزجاجي من المصباح يتعرَّض لخطر التحطُّم في حال اصطدم بالقضبان الحديدية الموجودة داخل النَّفق، لكنَّ ذلك الجزء الزجاجي الكروي الصغيرَ تغلَّبَ على تيار الماء دون حتى أن يُصدِر جلجلةً ملحوظة، ورسا في قاع الماء في مكانٍ ما قرب مُنتصَف الزنزانة التالية، وظلَّ هناك يتلوَّى كسمكةٍ في أَسرِ صنَّارة صيد. بعد ذلك رقا جاك على المنضدة، وانحنى داخل النَّفق العُلوي، وبدأ يُنصت.
صاحَ دروموند، بصوتٍ عالٍ، وكأنَّ جهارةَ الصوت كانت ستنقل المعنَى إلى آذان هؤلاء الأجانب: «أنا مُعترض. أنا معترض على هذا الاعتداء، وأطالب بحقي في التواصل مع السفير البريطاني.»
سمعَ جاك السجَّانَ يدمدم قائلًا: «سوف يَكفيك رغيف الخبز هذا أربعةَ أيام.» لكن بما أن هذه الكلمات قِيلَت بالروسية فلمْ يكن ما نقلَتْه من المعنى إلى عقل الرجل الإنجليزي بأكثر مما نقله اعتراضُه الذي أعلنه قبل دقيقةٍ، مِن فهمٍ إلى ذهن السجَّان. دوَّى صوتُ إغلاق الباب، ثم تلا ذلك صمتٌ مُطبِق.
قال جاك لنفسه: «والآن ربما نَسمع بعض الشتائم الإنجليزية القديمة الجيدة»، لكن الصمت استمر.
صاحَ جاك عَبْر القضبان: «مَرحبًا يا آلان. لقد قُلتُ لك إنك ستُعتقَل إن لمْ تُغادر سانت بطرسبرج. سوف تعيرني آذانًا مصغية في المرة المقبلة عندما أُحذرك.»
لم يُسمَع رد، وقلِقَ جاك من الصمتِ المُتواصِل، ثم سمعَ صديقه يقول مُغمغمًا:
«سوف تتراءى لعيني خيالاتٌ عمَّا قريب. كنتُ أحسَب عقلي أقوى ممَّا هو عليه في الواقع؛ كنتُ سأُقسِم أنَّ هذا صوتُ جاك.»
نزلَ جاك عن المنضدة بسُرعةٍ وهدوء، وأضاءَ المِفتاح، وقفزَ على المنضدة من جديد، وراحَ يُحدِّق من خلال القُضبان. كان يعلم أنَّ جدول الماء أصبح الآن نهرًا من النيران، وأنه كان يُرسل إلى السقف وَهَجًا لا هو من الأرض ولا من السماء.
قال دروموند مُتأوِّهًا: «يا إلهي! سُحقًا لكل هذا!» وهنا راحَ جاك يُقهقِه من الضحك.
صاحَ جاك: «آلان. اصطَد هذا المصباح الكهربائي من الرافد وأمسكه عاليًا؛ وستَعرف مكانك. أنا في الزنزانة المجاورة؛ جاك لامونت، كهربائيٌّ ونحَّاس، نهتمُّ بكل الطلبات في الحال، حاصلون على أفضل التزكيات من عملائنا، وبأسعار مُرضية.»
«جاك، هل هذا أنت حقًّا، أم أنني جُننت؟»
«يا للهول! إنك مجنونٌ طوال الوقت يا آلان، لكنَّني جاك حقًّا. التقِط المصباحَ وأخبرني بنوع الزنزانة التي حصلتَ عليها.»
صاحَ دروموند وهو يُعاين وضعه: «بشعة! من الواضح أن الجدران من الصخر الأصم، وجدول الماء الغريب هذا يتدفَّق عبر الأرض.»
«ما نوع الأثاث الذي حصلت عليه؟ رفٌّ صخري، ومقعدٌ صخري؟»
«لا، ثمَّة منضدةٌ، وسريرٌ نقَّال، وكرسيٌّ خشبي.»
«يا إلهي! علامَ تتذمَّر يا سيدي العزيز؟ لقد أعطَوك واحدةً من أفضل الغُرف في الفندق. إنك في قاعة النجوم.»
«أين نحن بحقِّ السماء؟»
«ألم تتعرَّف على الصخرة من على متن السفينة البخارية؟»
«لم أرَ قط متنَ أيِّ سفينة بخارية.»
«فكيف أتيتَ إلى هنا إذن؟»
«كنتُ أكتبُ رسالةً في غرفتي فألقى شخصٌ ما زكيبة على رأسي، وصرَّها عليَّ بإحكام، حتى كِدت أن أهلك من الاختناق. لقد أخذوني في شيءٍ أظن أنه كان عربة أجرة وأُلقيتُ فيما علمتُ بعد ذلك أنه كان عنبرَ إحدى البواخر. عندما توقفَت السفينةُ حُملتُ مثل زكيبة جَريشٍ على كتف شخصٍ ما، وحُلَّت قيودي أمام شبحٍ هزيلٍ يرتدي بذلةً نظامية، وكان ذلك في غرفةٍ تتألق تألقًا شديدًا بإضاءةٍ كهربائية لدرجةِ أنني كنتُ أرى بصعوبة بالغة. كان هذا منذ بضع دقائق، والآن أنا هنا، وأتضوَّر جوعًا. أين يقع هذا السجن؟»
«مثلما يفعل الميكادو، كما كانت كيت ستقول، تُصمِّم السلطاتُ على جعل العقاب ملائمًا للجريمة. أنت في صخرة بحر البلطيق، التي أطلقتَ عليها قذائفَ مدفعك. قلتُ لك إن هؤلاء الموظفين المهذَّبين في سانت بطرسبرج كانوا يتلاعبون بك.»
«لكن لماذا وضعوك هنا يا جاك؟»
«حسنًا، لقد كنتُ مثل الكلب الطيب «تراي»، الذي رافقَ صحبةً مُريبةً، على ما أظن، ومن ثمَّ وقعَ في المتاعب.»
«أنا آسف.»
«يجدر بك أن تَبتهج. أنا عازمٌ على الخروج من هذا المكان، ولا أعتقد أنك تستطيع أن تفرَّ من السجن، دون مساعدةٍ، ولو ظللتَ تُحاول عشرين سنة. هذا هو الموقف الذي يُجابه فيه الِعلمُ الوحشيةَ. أقترحُ يا دروموند أن تُقرِّب منضدتك من ركن الغرفة، وأن تصعد عليها، حتى نستطيع أن نتكلم دون صراخ. لا يُحتمَل أن يسمعنا أيُّ شخصٍ بالخارج، حتى ولو أحدثنا صخبًا، لكن هذا مكانٌ رطب، والحديث بصوتٍ عالٍ يُؤذي الحلق. اقطع شريحةً من هذا الخبز البُني وتغدَّى معي. سوف تجده أفضل مما كنتَ تتوقَّع، كما تقولون في إنجلترا، لا سيَّما وأنت جائع. والآن …» أكملَ جاك حديثه عندما وقفَ صديقه في مقابله، ووجدا بعد تجربةٍ أن مَدَّ يديهما معًا لمْ يكن كافيًا لتمكينهما من مُصافحة أحدهما الآخر من خلال القضبان، وقال: «والآن، بينما تَستمتِع بالطعام الفاخر الذي تُقدِّمه تروجزموندوف، سوف أُعطيك وصفًا مُوجَزًا لخُطتي للهروب.»
قال دروموند: «تفضَّل.»
«يتصادَف أنَّ معي زجاجتَين تحتويان على مادةٍ إذا أُذيبَت في الماء ورُشَّت على هذا الصخر فإنَّها تحطِّمه. لقد اتَّضح أن مفعولَها بطيءٌ نوعًا ما، لا بد لي أن أعترف بهذا، لكنَّني أنوي أن أُعوِّم إليك إحدى الزجاجتَين، بالإضافة إلى الأدوات، بحيث تتمكَّن من مُساعدتي من جانبك، من فوائد هذه الخطة أنها ستُوفِّر لك عملًا مُفيدًا، وستَسمح لنا بإنجاز مُهمتنا في نصف الوقت، مثل المهندسين الذين يعملون على كلا جانبَي قناة «سيمبلون تانل».»
قال دروموند مُعترضًا: «إذا كان هناك قضبان في مجرى الماء السفلي، ألن تخاطر باحتمالية أن تنكسر زجاجتُك عند اصطدامها بها؟»
«نعم. لقد أرسلتُ لتوي هذا المصباح الكهربائي الأقل حجمًا عبر تلك القضبان، لكني سأكتفي في هذه الحالة بربط الزجاجة والمِحقنة في جوربي بإحكامٍ، وأربطُ الجورب في السلك، وسوف يتولَّى تيارُ الماء بقية المهمَّة. وحينها يُمكنك أن تُفرغ محتويات الجورب، وسوف أستعيده مرةً أخرى. لو جسرتُ على انتزاع إحدى قوائم المنضدة، لربما استطعتُ أن أُقحم الزجاجةَ والمِحقنة من هنا وأبعثهما إليك، لكن الأدوات ستَصل إلى طريقٍ مسدودٍ في مُنتصَف هذا النفق، إلا إذا كان معي عصًا لأدفعها بها كي تصل إلى متناول يدك.
حسنٌ، سوف نُواصِل العمل إلى أن يَتقابل حفرُنا ونَجعل قُطره كافيًا لعبورك من خلاله. عندها ستُصبح في زنزانتي. سنُطفِئ أنوارنا، وستَختبِئ أنت خلف الباب. سيَدخُل السجَّانُ وحاملُ المصباح. يجب أن تَحرص جدًّا على ألَّا يَنغلِق الباب؛ لأنَّك لو أغلقته فلن نتمكَّن من فتحِه من هذا الجانب، حتى ولو لم يُغلق بالمفتاح والمزاليج. إنه يُثبَّتُ في مكانه كالشمع، ويُحكَم إغلاق الغرفة تمامًا. بعد ذلك، تثِبُ إلى الأمام، وتُسدِّد إلى السجَّان بقبضة يدك واحدةً من ضرباتك الإنجليزية الصارعة المشهورة، وبعد ذلك مُباشرةً تُسقِط حامِل المصباح أرضًا. ولأنَّ لديَّ فكرة عن ثِقَل ضربتك، فإنني أعرفُ أنه لن يستعيد أيٌّ من الرجلين الوعيَ إلَّا بعدما نكون قد جردناهما من ثيابهما الخارجية وحصلنا على المسدسات والمفاتيح. عندئذٍ نحبسُهما في الداخل، ونُصبح أنا وأنت في الخارج.»
«عزيزي جاك، لسنا بحاجةٍ إلى أي نفقٍ لإنجاز هذه المهمة. في أول مرةٍ يدخل هذان الرجلان إلى غرفتي أستطيعُ أن أتغلَّب عليهما هنا بالسهولةِ نفسها التي أستطيع أن أتغلَّب عليهما بها هناك.»
«لقد فكَّرتُ في هذا، وربما تستطيع أن تَفعلها، لكن يجب عليك أن تتذكَّر أننا لا نَملِك إلَّا فرصةً واحدة. لو ارتكبتَ خطأً؛ لو هربَ حامِلُ المصباح وأطلق نار مسدَّسِه، وأغلقَ الباب، فلن يَحتاج إلى أن ينتظر كي يغلقه بالمفتاح، وسيُقضَى علينا. سوف أكون عاجزًا تمامًا في الغرفة المُجاورة، وبعد هذه المحاولة إمَّا أنهم سيغرقوننا، أو سيُبعدوننا أحدنا عن الآخر إلى أقصى حدٍّ ويضعوننا في أسوأ زنزانتَين هنا.»
قال دروموند بثقة: «لا أظن أنني سأخطئ التصويب، رغم هذا فأنا أفهم قصدك، وسأطيع الأوامر.»
«إنَّ وظيفتي الرسمية على الصخرة، منذ وصلتُ إليها، هي مُعلِّم كهرباء للمدير. لقد جعلتُ مُولِّد الكهرباء الخاص به يعمل، ووضعتُ الأسلاكَ في تلك الأجزاء التي لمْ يكن بها أسلاكٌ من قبل. أثناء هذه الدروس أبقيتُ عينيَّ مفتوحتَين. فيما يخصُّ السجن، يوجد لدينا المدير، وكاتِبٌ ذو رتبةٍ كبيرةٍ تقريبًا، والسجَّان ومُساعده؛ أربعة رجال، فقط لا غير. يبدو أن مساعد السجَّان هو طبَّاخ المكان، رغم أن ما يُطبخ بالفعل محدودٌ للغاية. الخبز الأسود يُؤتى به من سانت بطرسبرج، على ما أظن، وكذلك اللحم المُعلَّب والحساء؛ ولذا فأنواع الطعام محدودةٌ نوعًا ما.»
«هل تقصد أن تقول إن هؤلاء الرجال الأربعة فقط هم المسئولون عن السجن؟»
«عمليًّا نعم، لكن توجد الحاميةُ كذلك. الجنود يقيمون في مجموعةِ غرفٍ فوقنا مباشرةً، وفي تقديري يوجد أربعة عشر رجلًا وضابطان. عندما تصل إحدى السفن البخارية يُجنِّدون ما يلزم من الجنود لتفريغ السفينة؛ ثم يصعد هؤلاء الجنود إلى الدور العُلوي مرةً أخرى. من الواضح أن الشُّعبة العسكرية لا تتواصل كثيرًا مع الموظَّفين، الذين يَعدُّونهم سجَّانين. أعتقد أنَّ الضابط العسكري هو رئيس الصخرة؛ لأنه عندما وجد غرفة المدير مُضاءةً بالكهرباء، طالبَ بالمثلِ في مسكنه. هذا هو السبب الذي جعلني أصعد إلى الطابق العُلوي. والآن، هذه السلالم منحوتةٌ في الصخر، وهي لولبية، ومحمية بأبواب ثقيلة من السنديان في الأعلى والأسفل، ولهذه الأبوابِ مزاليج فولاذيةٌ في كلا الجانبين. ومن ثمَّ فإن من الممكن لكلٍّ من السلطة العسكرية في الطابق العلوي، أو السلطة المدنية، أن تعزل نفسها عن الأخرى. إذا حدث تمردٌ بين الجنود، فسيستطيع المدير أن يغلق عليهم باب علِّيَّتهم بالمزاليج، وسيواجهون صعوبةً كبيرةً في الخروج. والآن سأُخبرك بخطتي. سنجرِّد السجَّانَ والمساعد من أسلحتهما، ونأخذ مفاتيحهما وثيابهما الخارجية وقبعتَيهما. سوف تناسبك ثيابُ السجَّان، وربما تناسبني ثيابُ الرجل الآخر. ثم سنَحبسُهما هنا، وإن قابَلْنا الكاتِبَ أو المديرَ في الممرات فسيكون لدينا الوقتُ للتغلُّب على أحدهما أو كليهما قبل أن يَفطنا إلى التغيير. سوف أصعد على السلالم اللولبية، وأُغلِقُ الباب العُلوي من الداخل بالمزلاج، ثم أغلق الباب السُّفلي. بعد ذلك نفتح جميع الزنازين، ونُحرِّر المساجين الآخرين، وننزل من الصخرة، ونركب قارب الصيد الفنلندي، ونبتعد عن المدفعين الموجودين فوقنا، ونُبحِر في اتجاه الساحل السويدي. يجب ألَّا نخطئ؛ علينا فقط أن نبحر باتجاه الغرب، وأخيرًا سنُصبح في أمان. ثمة خطرٌ واحدٌ فقط، وهو أننا ربما نُقدِم على محاولتنا عندما تكون السفينة البخارية هنا، لكن علينا أن نخاطر بذلك.»
«أما مِن طريقةٍ لمعرفة هذا؟ ألا يمكنك أن تنتزع هذه المعلومة من المدير؟»
«إنه يأخذ حِذْره دائمًا، وهو رجلٌ قليلُ الكلام. حالما ننتهي من النفق سوف أسأله عن المزيد من الأدوات الكهربائية، وربما أستطيع حينها أن أحصلَ على تلميح عن الباخرة. أتصوَّر أنها تأتي في مواعيدَ غيرِ مُنتظِمة، ولذا فإن الطريقة الآمنة الوحيدة ستكون في أن نُقدِم على محاولتنا بعدما ترحل هي مباشرةً.»
«هل ثمة أيُّ احتمالٍ أن نُقابل بعضَ الجنود في الطابق السفلي؟»
«لا أظن ذلك. أَمَا وقد أصبحت لديهم إضاءتهم الكهربائية فإنهم يقضون وقتهم في لعبة الورق وشُرب الفودكا.»
«حسنٌ يا جاك، تبدو هذه الخطةُ عَمليةً بشكلٍ معقول. والآن، مرِّر لي أدواتك، وأصدِر تعليماتك.»