في غرفة الحياكة
كان في غرفة الحياكة التي تُطلُّ على منظرٍ رائع ثلاثُ نسوة؛ أمٌّ وابنتاها. كانت الأم جالسةً على كرسيٍّ هزازٍ مُنخفِض، مثالًا مُتجسِّدًا للعجز المُحزِن، وقد ارتخَت يداها على حِجرها، بينما خلَّفت الدموعُ آثارًا على وجهها العتيق. كانت الابنة الكُبرى تَذرع الغرفة جَيئةً وذهابًا في تجسيدٍ عجيبٍ للحيوية والتلهُّف مثلما كانت الأم نموذجًا للكآبة. أما مُحيَّاها الجميل فقد أفسده عُبُوسٌ غاضب. كانت الابنةُ الصغرى تقف إلى جوار النافذة الطويلة، وتُسند جبينها على الزجاج، بينما راحت أصابعُها تنقُر بتكاسلٍ على حافة النافذة. كانت نظرتها مُثبَّتةً على الخليج الأزرق، حيث ترسو السفينة الحربية البريطانية الضخمة «كونسترنيشن»، محاطةً بمجموعة من سفن الأسطول الأمريكي وكأنها بجعاتٌ بيضاء في الماء. كانت الأشرعة البراقة تتلألأ في أماكنَ متفرقة فوق صفحة الخليج، بينما راحت الزوارقُ ذاتُ المحركاتِ وغيرها من الزوارق، تندفع هنا وهناك في وقاحة وَسَطَ سفن الأسطول الضخمة.
كان في أحد أركان الغرفة ماكينةُ حياكة، وعلى المنضدة الطويلة أكوامٌ من أقمشة رقيقة رديئة تُصنع منها الملابس النسائية. لم يكن ثمة سجادةٌ على الأرضية، ولا سقفٌ فوق رءوسهن، لا شيء سوى العوارض الخشبية العارية وألواح الخشب التي تَحمل ألواحَ التسقيف المصنوعة من خشب الصنوبر في السطح الخارجي؛ مع ذلك فقد كانت هذه العِلِّية مُتميِّزةً بسبب المنظر الرائع الذي يُمكن مُشاهدتُه من نافذتها. لقد كانت مَشغلًا مثاليًّا.
بينما البنت الكبرى تسير جَيئةً وذهابًا، تحدَّثت بنَبرةٍ غاضبة:
«لا يوجد أيُّ عُذرٍ إطلاقًا يا أمي، وإنه لضَعفٌ منكِ أن تَزعُمي أنَّه ربما يُوجد عذر. إنَّ المرأة غائبةٌ عن البيت منذ ساعات. ها هو ذا غداؤها على الطاولة لم تتذوَّقْه، وقد أحضرَته الخادمة في الثانية عشرة.»
أشارت إلى صينيَّةٍ عليها أطباقٌ أيَّدَت مُحتوياتُها الباردةُ حقيقةَ تعليقها.
قالت الابنةُ الصُّغرى، دون أن تَصرف عينَيها عن سفينة صاحبة الجلالة «كونسترنيشن»: «ربما أضربَت عن العمل. لن أتعجَّب إذا نزلنا إلى الطابَق السُّفليِّ مرةً أخرى ووجدْنا منظِّمي الإضراب يمنعون العمالَ مفسدي الإضراب من دخول المنزل.»
قالت أختها الكُبرى باستهزاء: «يا إلهي، يمكن الاعتمادُ عليكِ دائمًا في قول الهراء التافه. إن الطريقة العاطفية السخيفة التي تُعامِلين بها العمال، أنتِ وأبي، هي التي تجعل التعامل معهم من أصعب ما يكون. لو كانت الطبقاتُ العاملة عرفَت حدودها …»
«الطبقات العاملة! ماذا تقولين! إن دورثي سيدةٌ نبيلةٌ مثلنا تمامًا، وأحيانًا أعتقد أنها أكثر نبلًا إلى حدٍّ ما من كُلٍّ منَّا. إنها ابنةُ كاهن.»
قالت البنت الكبرى بازدراء: «هذا ما تَزعمه هي.»
ردت الصغرى دون اكتراث: «حسنٌ، لا بُد أنها أدرى بذلك.»
«إن أمثالكِ من الناس هم الذين يُدلِّلون العالةَ أمثالها بتقريبِهم منهم ومناداتهم بأسمائهم الأولى. لا تُكثِري من مُناداتها بدورثي؛ اسمُها إمهيرست.»
تمتمَت الصغرى دون أن تُحوِّل رأسها: «لقد سُميَّت دورثي عند تعميدها، بشهادة العرَّاب والعرَّابة.»
اعترضَت أمهما بوداعة، وكأنما أرادت أن تقترح حلًّا وسطًا، وتُخفِّف من حدة النقاش، فقالت: «أعتقد أنها تَستحق أن تُنادى بالآنسة إمهيرست، وأن تُعامَل بلُطفٍ لكن بتحفُّظ.»
«هُراء!» هكذا صاحت الكُبرى في سخط، مُظهِرةً رفضَها الحلَّ الوسط.
همست الصغرى قائلةً: «لا أفهم سببَ ثورتكِ يا سابينا. لقد ظللتِ تُزعجينها دون توقُّفٍ حتى أنجزَت ثوبك الذي ستَذهبين به إلى الحفل الراقص. إنني أنا وأمي مَن يحق لنا أن نتذمَّر؛ فثوبانا لم يُمسَّا تقريبًا، بينما تستطيعين أنتِ أن تَسيري بجلالٍ فوق أسطُح السفينة «كونسترنيشن»، مثل يختٍ كاملِ الأشرعة. وها أنا ذا أعود إلى مزج تشبيهاتي من جديد، كما يقول أبي دائمًا. إن اليخوت لا تسير على ظهور البوارج، أليس كذلك؟»
بوهَنٍ صححَت الأمُّ المعلومةَ قائلةً: «إنها طرَّادة.» إذ كان لديها بعضُ المعرفة بشئون البحرية.
«حسنٌ، طرَّادةٌ إذن. إنَّ سابينا تخشى ألَّا يذهب أبي إلَّا إذا كان لدينا جميعًا ثياب جديدة فخمة، لكن أمي تستطيع أن تَرتدي فستانها الحريري الأسود القديم، وسأذهب أنا حتى إن اضطررتُ إلى ارتداء ثوب قطني.»
«إن التفكير في أَّن هذه المرأة تأخذ مالنا، وتتغيَّب بهذه الطريقة الشائنة ليَفوق القدرة على الاحتمال!»
«تأخذ مالنا! هذا معنى أن يمتلك المرءُ مَلَكة الخيال. يا إلهي، أنا لا أظن أن دورثي أخذَت قرشًا واحدًا منذ ثلاثة أشهر، وأنتِ تعلمين أننا اشترينا قماش الثياب بالأجل.»
وبَّخَتها أمها في لُطفٍ قائلةً: «يجب أن تتذكري أن أباكِ ليس غنيًّا.»
«يا إلهي، إنما ألتمس قليلًا من المعاملة الإنسانية. إن الفتاةَ لسببٍ ما قد خرجَت. وهي لم تتذوق شيئًا منذ وقت الإفطار، وأنا أعلم أنه ما مِن قطعةٍ فضيةٍ واحدةٍ في جيبها لتشتري بها كعكةً من أحد محلات الألبان.»
قالت سابينا: «لا يحق لها أن تتغيَّب دون إذن.»
«ماذا تقولين! إنك تتكلَّمين وكأنها بحَّارةٌ على متن بارجة … أقصد طرَّادة.»
قالت الأم بنحيبٍ، وهي تكاد تَلوِي يدَيها وتفركهما تعبيرًا عن قلقها، بعدما أنهكتها الأزمة جزئيًّا: «إلى أين يُمكن أن تكون الفتاة قد ذهبت؟ هل قالت لكِ أيَّ شيءٍ عن الخروج من المنزل يا كاثرين؟ إنها أحيانًا تأتَمنكِ على أسرارها، أليس كذلك؟»
صاحت سابينا في غضبٍ شديد: «تأتمنها على أسرارها!»
قالت كاثرين بتَنهيدةٍ بريئة: «أنا أعلم أين ذهبَت.»
صاحت الأم وابنتها بالكلمات نفسها تقريبًا: «لماذا لم تُخبرينا قبل الآن إذن؟»
أوضحَت كاثرين بهدوءٍ، وهي لا تظنُّ ألبتَّة أن كلماتها تَحوي أي شيء من الحقيقة: «لقد هربَت مع قبطان السفينة «كونسترنيشن» لتتزوَّجه. كان أبي يجلس بجواره في المأدُبة ليلة أمس، ويقول إنه بحَّارٌ رائع وأعزب. لقد كان أبي مُتيَّمًا به بصورةٍ هائلة، وقد ناقشا التكتيكات الحربية معًا. في الواقع، إنَّ أبي يتكلَّم بلهجةٍ إنجليزيةٍ واضحةٍ جدًّا هذا الصباح، وأظن أن لديه صداعًا خفيفًا يُحاول أن يُخفيَه بابتسامةٍ مُضطربة.»
قالت أمها بلهجةٍ جادة: «لا يمكن لأحدٍ أن يُخفي الصداع؛ لأنه شيءٌ خَفيٌّ. أتمنَّى ألا تتكلَّمي بطيشٍ كبيرٍ هكذا يا كاثرين، وعليكِ ألا تتكلَّمي عن أبيكِ بهذه الطريقة.»
قالت كاثرين بلهجةٍ جازمةٍ، وبثقةٍ كبيرة: «يا إلهي، إنَّني أنا وأبي يفهم أحدُنا الآخر»، وفي تلك اللحظة، وللمرة الأولى طوال هذا الحوار حوَّلَت الفتاةُ وجهها عن النافذة؛ إذ كان الباب قد انفتح لتدخل منه المُذنِبة.
صاحت سابينا ولم تكد قدم إمهيرست تعبُر بأكملها عتبةَ الباب: «والآن يا إمهيرست، ما معنى هذا؟»
نظرت النسوة الثلاث كلهن إلى الوافدة. كان وجهها الجميل متوهِّجًا، ربما بسبب الجهد الناتج من صعودها الدَّرَج، وتألقت عيناها كعينَي إلهة الحرية عندما قابلَت تلك النظرةَ المحدقة المتعجرفة التي رمقتْها بها سابينا ذاتُ القامة الفارعة بمثلها في ثبات.
وقالت بهدوء: «لقد أخَّرني أمرٌ ما.»
«لماذا خرجتِ من دون إذن؟»
«لأنه كان لديَّ عملٌ أقوم به ولم يكن يمكن القيام به في هذه الغرفة.»
«ليست هذه إجابةً لسؤالي. لماذا لم تَستأذني؟»
رفعَت الفتاةُ يديَها ببطءٍ، وأظهرَت مِعْصَمَيها الجميليَن وقد ضمَّت أحدَهما إلى الآخر، وكشفَت كُمَّ فستانها الأسودِ عن جزءٍ يسيرٍ مِن ساعِدها.
وقالَت بتؤدة: «لأن القيود قد سقطَت عن هذَين المِعصمَين.»
«لستُ أدري ما تقصدين حقًّا»، هكذا قالت سابينا التي يبدو أنها تأثرَت رُغمًا عنها، لكنَّ الأخت الصغرى أخذَت تُصفِّق بانتشاء.
وصاحت: «رائع، رائع يا دورثي. أنا أيضًا لا أدري ما تقصدينه، لكنكِ تبدين مثل ماكسين إليوت في تلك المسرحية عندما …»
قاطعتها الأخت الكبرى قائلةً من خلفها: «هلَّا تصمُتين!»
أعلنت دورثي قصدها قائلةً: «أقصد أنني لا أنوي مواصلة الحياكة هنا بعد الآن.»
قالت الأم بتفجُّع: «يا إلهي، آنسة إمهيرست، آنسة إمهيرست، سوف تُقدمين من دون شفقةٍ على تركنا في هذه الأزمة ونحن بلا مُعين؛ ولا يُمكننا الحصول على أيِّ حائكة ملابس في المنطقة تحت أيِّ ظرفٍ من الظروف. إن الجميع يعملون ليلَ نهارَ للاستعداد للحفل الراقص يوم الرابع عشر من الشهر الجاري، وأنتِ … أنتِ التي ربيناكِ …»
قالت الابنةُ الكبرى بسخريةٍ ومرارة: «أظنُّها ستحصُل على مالٍ أكثر.»
قالت كاثرين، وقد تقدَّمت خطوةً للأمام وضمَّت يديها معًا: «دورثي، يا إلهي. هل تقصدين أن تقولي إنني سأحضر الحفل الراقص بثوب قطني في النهاية؟ لكنَّني سأذهب، برغم ذلك، حتى ولو رقصتُ بعباءةٍ صباحية.»
وبَّخَتها أمها قائلةً: «كاثرين، لا تتكلَّمي بهذه الطريقة.»
ردَّت الابنة الكبرى بانفعال قائلةً: «بالطبع، حين يتعلَّق الأمرُ بمزيدٍ من المال، فلا قيمة للطِّيبة.»
ابتسمَت دورثي إمهيرست عندما ذكرَت سابينا كلمةَ طِّيبة.
وأقرَّت قائلةً: «المسألة كلها مسألة مالٍ بالتأكيد بالنسبة إليَّ.»
قالت كاثرين، بتنهيدةٍ مُبالغ فيها: «دورثي، لم أتوقَّع ذلك منكِ مُطلقًا. ليتَه كان حفلًا راقصًا بأزياء تنكرية، إذن لاستعرتُ بذلةَ أخي جاك النظاميةَ، وذهبتُ بها.»
قالت الأم شاكيةً: «كاثرين، أنا مصدومةٌ فيكِ.»
«لا يُهمني؛ فسوف أبدو رائعة في زي طالبٍ صغيرٍ بالبَحرية. لكن، دورثي، لا بد أنكِ تتضوَّرين جوعًا؛ إنكِ لم تَمسِّي غداءك ألبتَّة.»
قالت سابينا بصرامة: «يبدو أنكِ نسيتِ كل شيءٍ اليوم، الواجب وكل شيءٍ آخر.»
قالت دورثي بصوتٍ خفيض: «أنتِ مُحقةٌ تمامًا.»
«وهل هربتِ مع قبطان السفينة «كونسترنيشن»، وتزوجتُما في السر، وكان هذا أمام أحد قُضاة الصلح؟ أخبرينا كل شيءٍ عن الموضوع.»
سألتها دورثي، وقد غزا الذعرُ عينَيها بُرهةً من الزمن: «ماذا تقولين؟»
«يا إلهي، كُنتُ لتوي أقول لأمي وساب إنكِ هربتِ في وضح النهار، مع قبطان السفينة «كونسترنيشن»، الذي كان بالأمس أعزبَ شديدَ المرَح، لكنه ربما أصبح اليوم رجلًا مُتزوِّجًا إذا صحَّت شكوكي. يا إلهي، دورثي، هل سيكون عليَّ أن أذهب إلى الحفل الراقص بفستان من قماشٍ منقوش؟»
نظرت الفتاةُ حائكة الملابس نظرةً رقيقةً إلى كاثرين المندفعة.
وقالت: «كيت، عزيزتي، سوف تلبسين أروعَ فستان للحفلات الراقصة رآه الناس يومًا في بار هاربر.»
سألتها سابينا: «كيف تَجرُئين على مُناداة أختي باسم كيت، والتفوُّه بهذا الهراء؟»
«سأظلُّ أناديكِ دائمًا بالآنسةَ كِمْت، والآن، سوف أَجلِس إذا سمحتِ. أنا مُتعَبة.»
صاحت كاثرين: «نعم، وجائعةٌ أيضًا. ماذا أُحضر لكِ يا دورثي؟ هذا كله بارد.»
«أشكركِ، أنا لستُ جائعةً على الإطلاق.»
«ألا تُريدين فنجانًا من الشاي؟»
ضحكَت دورثي في شيءٍ من السأم.
وقالت: «بلى. وأريد بعض الخبز والزبد.»
قالت كاثرين، تقترح عليها: «وكعكة أيضًا.»
«وكعكة أيضًا، من فضلك.»
انصرفَت كاثرين بسرعةٍ إلى الطابَق السفلي.
«حسنٌ، أنا مندهشة!» هكذا هتفَت سابينا لاهثةً وهي تستجمع قوَّتها من جديد، وكأنما انهارت قيمة النسيج الاجتماعي.
وضعت زوجة القبطان كِمْت إحدى يديها فوق الأخرى وبدا في وجهها تعبير ينم عن إذعان ممتزج بالصبر، كمَن ترى جميع المعالم والحدود القديمة وهي تتلاشى من أمام عينيها.
سألت سابينا ببرودٍ شديد: «هل ثمة أي شيءٍ آخر نستطيع إحضاره لكِ؟»
ردَّت دورثي، بثقةٍ ورصانة: «نعم، سأكون ممتنةً للغاية إذا أحضر لي القبطان كِمْت بطاقة دعوةٍ إلى الحفل الراقص على متن السفينة «كونسترنيشن».»
قالت سابينا لاهثةً: «حقًّا! ألا تُكمِّل أمي هي الأخرى جهودَ أبي وتُعطيكِ ثوبًا من ثياب الحفلات الراقصة من أجل تلك المناسبة؟»
«ليس لي أن أُزعجها بهذا، يا آنسة كِمْت. إنَّ بعض زبائني قد أطرَوني من قبلُ بقولهم إن لي ذوقًا رفيعًا في الثياب، وإن تصميماتي، لو عُرفَت أكثرَ من هذا، لربما تُصبح طرازًا رائجًا في نطاقٍ ضيق؛ لذا سأعتني بزيِّي بنفسي؛ لكن إذا تكرَّمَت مدام القبطان كِمْت بالسماح لي بحضور الحفل الراقص تحت رعايتها الشخصية، فسأكون في غاية الامتنان لذلك.»
«ما أروع هذا! أما مِن شيءٍ أستطيع أنا عملَه لتعزيز طموحاتكِ يا آنسة إمهيرست؟»
«أنا ذاهبةٌ إلى الحفل الراقص بصفتي مُتفرِّجةً فقط، وربما يُمكنكِ أن تبتسمي لي عندما تمرين بي أنتِ ورفاقكِ، لكي يقول الناس إنني من معارفِك.»
بعد هذا ساد الصمتُ غرفةَ الحياكة إلى أن دخلت كاثرين، تتبعها إحدى الخادمات بالشاي وقِطع الكعك. كانت بعض خامات الثياب موضوعةً على منضدةٍ دائريةٍ صغيرةٍ فأزاحتها المندفعة كاثرين جانبًا، ووُضعت المنضدةُ، والصينيةُ فوقها، على يمين دورثي إمهيرست. عندما غادرت الخادمةُ الغرفة، انسلَّت كاثرين إلى طاولة الحياكة الطويلة، ووثبَت فوقها بخفةٍ، وجلست هناك تهزُّ قدمًا رقيقةً صغيرة. جلست سابينا على الكرسي الثالث في الغرفة، كان العُبُوس لا يزال يُضيف صرامةً إلى وجهٍ هو دون ذلك وجهٌ جميل. الابنة الصغرى هي التي تكلمت.
«والآن يا دورثي، أخبرينا بكل شيءٍ عن الهروب والزواج.»
«أيُّ هروبٍ وزواج؟»
«كنتُ أُهدِّئُ من مَخاوف أمي بإخبارها أنكِ هربتِ مع قبطان السفينة «كونسترنيشن» لتتزوجيه. لا بد أنني كنتُ مخطئةً في ذلك الظن؛ لأنه لو كان الزواجُ السريُّ الذي رجوتُ حدوثَه قد تَمَّ لكنتِ قلتِ لسابينا إنَّ القيود في معصميكِ بدلًا من قولكِ إنها أُزيلت. لكنَّ أمرًا مُهمًّا حدث، وأريد أن أعرف كل شيءٍ عنه.»
لم تستجِب دورثي لهذه المناشَدة، وبعد دقيقةِ صمتٍ قالت سابينا بلُغةٍ عملية:
«كلُّ ما حدث هو أن الآنسة إمهيرست تتمنَّى أن يُقدِّم لها أبي بطاقة دعوةٍ للحفل الراقص الذي سيُقام على متن السفينة «كونسترنيشن»، وعندما سلَّمَت بحدوث ذلك، طلبَت من أمي أن تكون مرافقتها في الحفل، وعلاوةً على هذا عبَّرت عن رغبتها في أن أُعاملها بتهذيبٍ بالغٍ عندما نكون على متن الطرَّادة.»
صاحت كاثرين بمرح: «يا إلهي، إنَّ الشرط الأخير ميئوس منه ولا تُجدي حتى الصلاةُ من أجله، لكنَّ الشرطَين الآخرَين مُحتملان جدًّا. يُسعدني شخصيًّا أن أكون مرافقة دورثي، وأما عن التهذيب، يا إلهي، فسوف أتحلَّى بتهذيبٍ يُعوِّض عن كل نقصٍ في دماثةِ بقية أفراد الأسرة.
والآن يا دورثي، دعي عنكِ الخجل. ها هم أُولاء أختُكِ وابنةُ عمكِ وعمتُك ينتظرن كشف السر المُروِّع. ماذا حدث؟»
قالت الفتاة، وهي تبتسم من الطريقة التي أسهبَت بها الأخرى في الحديث: «سوف أُخبركِ بما سيحدث يا كيت. من المُحتمَل أن تُوافق السيدة كِمْت على اصطحابي أنا وأنتِ إلى نيويورك أو بوسطن، حيث سننزل في أفضل فندقٍ هناك، وسنزيِّن أنفسنا بفساتين للحفل الراقص ستكون موضع إعجاب مدينة بار هاربر بأكملها. سوف أدفع تكاليف هذه الرحلة لردِّ جزءٍ من معروفِ والدكِ الذي سيأتيني ببطاقة دعوة، ومعروف والدتكِ التي ستَسمح لي بأن أكون واحدة منكن.»
«يا إلهي، إنه ليس هروبًا من أجل الزواج إذن، وإنما ميراث. هل مات قريبك الشرير الغني؟»
قالت دورثي برزانةٍ، وعيناها تنظران إلى الأرض: «نعم.»
«يا إلهي، أنا آسفةٌ جدًّا على ما قلتُه الآن!»
وبَّختها أمها قائلةً: «دائمًا ما تتكلمين من دون تفكير.»
«نعم، أليس كذلك؟ لكن، أتعلمين، كنتُ أظن بطريقةٍ ما أن دورثي ليس لها أقارب؛ لكن إذا كان لها قريبٌ غني، وسمح لها بأن تَكدح كالعبيد في الحياكة، فأنا أرى إذن أنه شرِّير، سواء مات أو لا يزال على قيد الحياة، وهذا رأيي!»
علَّقت سابينا على كلامها بصرامةٍ وإنصاف: «عندما يتقاضى المرءُ أجرًا نظير عمله لا يُسمى ذلك عبودية.»
نظرت الفتاة الحائكة الملابس إليها. وقالت:
«كان جدِّي، في ولاية فيرجينيا، يملك عبيدًا قبل الحرب، وكثيرًا ما كانت تُراودني فكرةُ أن أيَّ لعنةٍ ربما تكون لها علاقةٌ بالاستعباد قد كُفِّر عنها بي أنا جزئيًّا على الأقل، كما يُنذر بذلك الكتابُ المقدَّس، حيث يقول إن ذنوب الآباء سوف تبلغ عاقبتُها حتى الجيل الثالث أو الرابع. لقد كنتُ أفكِّر في هذا عندما تحدثتُ عن سقوط القيود من معصمَيَّ؛ لأنكِ أحيانًا، يا آنسة كِمْت، كنتِ تجعلينَني أشكُّ إن كان الأجر والعبودية على تلك الدرجة من التعارض التي يبدو أنكِ تتخيلينهما عليها. كثيرًا ما كان أبي الكاهن، يُحدثني عن عبيدِ أبيه، وعلى الرغم من أنه لم يُدافع مطلقًا عن نظام الرِّقِّ، فأنا أظن أن تأثيرًا سحريًّا ما كان يُضعِف من وضوح الماضي في عقله ومن الجائز أن ذلك التأثير السِّحري قد حجب عنه العيوبَ التي كانت تشوب الحياةَ في المزرعة. لكنني كثيرًا ما كنتُ أظن وأنا في حالات الاكتئاب والوحدة أنني كنتُ لأُفضِّل أن أُصبح إحدى إماء جدي على أن أتحمَّل الحياة التي أُجبرتُ على أن أحياها.»
ناشدتها كِيت قائلةً: «ربَّاه، دورثي، لا تتكلمي بهذه الطريقة، وإلَّا ستُبكينني. فلنبتهج مهما يكن من أمر. أخبرينا عن المال. ابدئي بالقول: «في يومٍ من الأيام»، ثم سيُصبح كل شيءٍ على ما يرام. فمهما بلغت بداية مثل هذه القصص من فظاعة، فإنها دائمًا ما تنتهي بالكثير والكثير من المال، أو بأميرٍ يرتدي زيًّا رسميًّا رائعًا ويضع شريطًا ذهبيًّا، وتَحصُلين على نصف مملكته. هيَّا تكلمي.»
رفعت دورثي عينَيها إلى صديقتها المتلهِّفة، وطرد ابتهاجٌ مُشرقٌ سحائبَ الكآبة المحتشدة على وجهِها.
«حسنٌ، ذات يومٍ كنتُ أعيش في سعادةٍ كبيرةٍ مع والدي في بيتٍ صغيرٍ من بيوت القساوسة في بلدةٍ صغيرةٍ قرب نهر هدسون ريفر. لقد أفقرت الحربُ عائلتَه، وعندما بِيعت المزرعة، أو تُركت ليدِ الإهمال، كان كلُّ ما يأتي منها من المال يذهب إلى أخيه الأكبر والوحيد. كان أبي عالِمًا حالمًا، ولم يكن رجل أعمال مثل أخيه الذي يبدو أنه كان يتمتع بتلك المهارة. لقد ماتت أمي وأنا طفلة؛ فلست أتذكَّرها. كان أبي أطيب الرجال وأكثرهم صبرًا، وكلُّ ما أعلمه هو الذي علَّمَنيه. كنا فقراء للغاية، وقمتُ أنا بمهام تدبير المنزل، والتي أديتها على خير وجهٍ أمكنني، حيث كنتُ أتعلَّم دائمًا من إخفاقاتي. لكنَّ أبي لم يكن يكترث ألبتَّة لوسائل الراحة المادية إلى حد أنه لم يُوبِّخني ولا مرةً واحدة. لقد علَّمني كلَّ ما أعرفه عما يُمكن تسميته بالإنجازات، وقد كانت إنجازاتٍ متنوعةً بطريقةٍ غريبةٍ للغاية؛ إلمامٌ باللغتَين اللاتينية واليونانية، وقدْرٌ جيدٌ من الفرنسية، والتاريخ، والأدب، وحتى الرقص والموسيقى؛ إذ كان عازفًا ممتازًا. لقد توقَّف دخلُنا الضئيل مع توقُّف حياة أبي، وكان عليَّ أن أختار العمل الذي ينبغي لي أن أقوم به لأجني قوت يومي، مثل «أورفانت آني» في قصيدة «وِتكم رايلي». لقد بدا أن هناك ثلاث سُبل مفتوحة أمامي. كان بإمكاني أن أُصبح مُربية أطفال، أو خادمةً في المنازل، أو حائكة ملابس. لقد أحرزتُ بعض المكانة بالفعل في العمل الأخير، واعتقدتُ أنني إذا تمكنتُ من تأسيس عملٍ لنفسي، فستكون الفرصة في تحقيق بعض الاستقلال مع هذا المجال أعظم مما لو أصبحتُ مربيةَ أطفالٍ أو خادِمة. لكن لكي أفعل هذا كنتُ أحتاج على الأقل إلى رأسِ مالٍ صغير.
على الرغم من انقطاع التواصُل بين الأخوَين على مدار سنواتٍ عديدةً، فقد حصلتُ على عنوان عمِّي، وكتبتُ له أُخبره بموتِ أبي، وأطلبُ منه بعضَ المساعدة لكي أُنشئَ عملًا لنفسي، ووعدتُه بإعادةِ ما يُقرضني من مالٍ مع الفائدة حالَما أستطيع؛ لأنه على الرغم من أن أبي لم يقُل قط كلمةً سيئةً واحدةً في حق أخيه الأكبر، فقد عرفتُ بطريقةٍ ما عن طريق الحدس، وليس عن طريق العلم، أنه كان رجلًا قاسيًا، وقد برهنَت على هذا رسالتُه التي ردَّ بها عليَّ؛ إذ لم تحتوِ على أي عبارةٍ تدلُّ على الأسف لموت أخيه. رفض عمِّي أن يُقرضني المبلغ الذي طلبته منه، قائلًا إنه قبل عدةِ سنواتٍ أعطى أبي مائتَي دولارٍ ولكنَّ أبي لم يردَّها له مُطلقًا. ولذا فقد أُرغمتُ، حتى اللحظة الراهنة على الأقل، على التخلِّي عن خطَّتي في فتح مؤسسةٍ لحياكة الثياب النسائية حتى ولو على أضيق نطاق، واضطررتُ إلى قبول وظيفةٍ كتلك التي أُزاولها هنا. لقد تمكَّنتُ على مدار ثلاث سنواتٍ من ادِّخار مبلغ المائتَي دولار، وأرسلتُه إلى عمِّي، وتعهَّدتُ له بإرسال مبلغ الفائدة إذا أخبرَني بتاريخ الدَّين. ردَّ عمي برسالةٍ تُوضِّح المعلومات، وضمَّنها إيصالًا بأصل الدَّين، مع كشفِ حسابٍ في غاية الدقَّة لمبلغ الفائدة في حال حُسبَت على طريقة الفائدة المركَّبة سنويًّا؛ إذ كان هذا هو حقه القانوني، لكنه عبَّر في رسالته عن استعداده لقبولِ فائدةٍ بسيطةٍ وإعطائي إيصالًا بالمبلغ كله.»
«المتوحِّش!» هكذا هتفت كاثرين، وقد تسبَّبت لها هذه الكلمةُ في توبيخٍ خفيفٍ من أمِّها على انفعالها ولغتها غير الملائمة.
قالت كاثرين، من دون أن يَعتريها خجل: «حسنٌ، أكمِلي.»
واصلت دورثي قائلةً: «إنما أذكر هذا الجزء تحديدًا من القصة ليكون درسًا عمليًّا في الأمانة. لم تحدث منذ بداية الكون حالةٌ من حالات فعل الخير دون انتظار مقابلٍ أشبه بما فعلتُه أنا حين أرسلت مبلغ المائتَي دولار. يبدو أن عمي كان رجلًا مُنظَّمًا للغاية. لقد وضع رسالتي التي تحتوي على المال في ملفٍّ ومكانٍ مُحدَّدَين، ووضعَ معهما كذلك نسخةً مكتوبةً على الآلة الكاتبة من رده، وعندما تُوفِّي، كانت هذه الوثائق هي ما لفَتَ انتباه مُحاميه إليَّ؛ إذ إنَّ عمي لم يترك وصية. لقد اتصلتْ شركة كاليفورنيا بمحامِين في نيويورك، وبدءوا سلسلةَ تحقيقاتٍ دقيقة للغاية، وأسفرَت تلك التحقيقاتُ في النهاية، بعدما قدمتُ لهم إثباتاتٍ مُعينةً طلبوها مني، عن إعلاني وريثةً لتركة عمي.»
سألتها كاثرين: «وما مقدار ما ورثتِ؟ ما مقدار ما ورثتِ؟»
«لقد طلبتُ من المحامِين في نيويورك أن يُودعوا لي عشرة آلاف دولار في البنك الوطني السادس الواقع بهذه المدينة، وقد فعلوا. وكان خُروجي اليوم كي أسحب شيكًا صغيرًا من هذه الوديعة لأتأكَّد إن كانت حقيقية.»
تمتمت كاثرين بنبرةٍ تنمُّ عن خيبةِ أملٍ كبيرة: «عشرة آلاف دولار، هل هذا كل شيء؟»
سألتها دورثي وعيناها تلمعان فرحًا: «أليس هذا كافيًا؟»
«نعم ليس كافيًا، أنتِ تستحقِّين عشرة أضعاف هذا، ولن أذهب إلى نيويورك أو بوسطن على حسابك لشراء ثياب جديدة. هذا غير وارد! سوف أَحضُر الحفل الراقص بثوبي المصنوع من قطن الكاليكوه.»
ضحكت دورثي بصوتٍ مُنخفِض، وأخرجَت من الحقيبة الصغيرة التي تحملها على جنبها رسالةً، وناولت كاثرين إياها.
وقالت تُحذِّر صديقتها: «إنها خاصَّة وسرية.»
قالت كاثرين وهي تفتحُها: «يا إلهي، لن أُخبر أي أحد.» قرأت كاثرين قراءةً حثيثةً حتى منتصف الرسالة، ثم هبَّت واقفةً فوق المنضدة، وصرخت:
«خمسة عشر مليون دولار! خمسة عشر مليون دولار!» وأخذت تُؤرجح ذراعيها إلى الأمام والخلف كرياضيٍّ على وشك أن يقفز، ثم قفزت على الأرض، وكادت تقلب المنضدة الدائرية الصغيرة، والصينية وكل شيءٍ وهي تعانق دورثي إمهيرست.
«خمسة عشر مليون دولار! هذا يُشبه … يا إلهي، أمي، أتُدركين أن في بيتنا واحدةً من أغنى الفتيات في العالم؟ ألا ترَين أنَّ بقية هذا الاجتماع يجب أن تُجرى في قاعة الاستقبال تحت أفخم رعاية؟ كم هو مشين أن نُبقي وريثةً مثل هذه في العلِّيَّة!»
قالت سابينا ببطءٍ وفتور: «أعتقد أن دخل السيد روكفيلير …»
صاحت الأخت الصغرى الساخطة: «ربَّاه، سُحقًا للسيد روكفيلير ودخله!»
ناشدتها أمها بعينَين دامعتَين: «كاثرين!»