على متن السفينة
على مدار يوم الصيف الطويل، ظلَّت قلوب تلك السيدات، صغيرات أو غير صغيرات تمامًا، تخفق بحماس رقيق لمَّا تسلَّمن دعوات الحضور إلى الحفل الراقص المُقام على متن السفينة «كونسترنيشن» في تلك الليلة. أُضيفت اللمساتُ الفنيةُ الأخيرةُ للثياب البديعةِ التصميمِ التي تطلَّبَ عملُها مهارةً وذوقًا ومالًا. لمَّا ارتدت فتياتُنا الثلاثُ أكثر الثياب أناقةً ودلالةً على حُسن الذوق، شعرنَ بالابتهاج، وبدا هذا الشعور على كل واحدةٍ منهنَّ تبعًا لطبيعتها؛ فكان انتشاءُ سابينا تعبيرًا عن الفخامة، وكانت دورثي هادئةً ورزينة، أما كاثرين فلم ترضَ على الرغم من توسُّلات أمها، بالبقاء هادئةً، وإنما راحَت تهز فستانها الجميل يَمنةً ويَسرةً وهي تتمايل بحركات رقصة الفالس، وتَقتبِس، كعادتها، من كلمات أوبرا السير دبليو آر جيلبرت. راحت تتراقص على الأرضية على إيقاع غنائها.
في غضون ذلك، كان البحَّارُ المُخضرَم اللطيفُ القبطانُ كِمْت في غرفةٍ بالطابق الأسفل يقصُّ آخر الأخبار على زوج ابنتِه المستقبلي، وهو ضابطٌ شابٌّ في البحرية الأمريكية، ظلَّ ينتظر بنفاد صبرٍ نابعٍ من إحساسه بالواجب، قُدُومَ المُشرقة سابينا. عندما نزلتِ السيداتُ أخيرًا، انطلقَ الجمعُ، وسط الظلام المُحتشِد في هذه الليلة الصيفية المُبهجة، نحو الرصيف البحري الخاص الذي مُنِحوا، بفضل المكانة الرسمية للقبطان كِمْت، امتيازَ الإبحار منه إلى الطرَّادة، وذلك على متن المركب الحكومي الصغير، المُسمَّى «ويب-بور-ويل»، الذي كان سينقل فيما بعدُ وزير البحرية وبِطانته عبر هذه المياه نفسِها. قبل لحظاتٍ من وصولهم إلى الرصيف البحري استوقَّف خُطاهم دَوِيُّ أحد المدافع، وتلاه على الفور ظهور السفينة «كونسترنيشن» تميِّزها من بين غيرها المصابيحُ الكهربائية؛ كانت حدود الصواري، والمدخنةُ وهيكلُ السفينة مُحاطةً كلها بنجومٍ متوهجة.
صاحت سابينا، التي كان فتاها واقفًا إلى جوارها: «يا لَلروعة! يبدو أن صاروخًا عملاقًا، من صواريخ الألعاب النارية، كله بلونٍ واحدٍ، قد انطلق، وظلَّ مُعلَّقًا هناك مثل نجوم السماء.»
همست كاثرين لدورثي قائلةً: «إنه يُذكِّرني بكُرة فُشارٍ أفرطت في النُّضجِ.» وقد أثارت هذه العبارة في الفتاتَين ما يكفي من الطيش لكي تَنفجِرا في الضحك.
دوَّى صوتُ مدفعٍ من إحدى السفن الأمريكية، وعلى إثره بدت فرقة السفن البيضاء في وهج كوميض البرق. وفي هذه اللحظة أخذت جميعُ اليخوت والمراكب الأخرى في المياه تتباهى بنيران قذائفها، وأضاءَ الخليجُ الصغيرُ كله مثل بحيرةٍ في عالِم سحري.
قال القبطانُ كِمْت وهو يضحك ضحكةً خافتة: «والآن، راقبوا السفينة البريطانية. أظن أنها ستؤدي لنا عرضًا رائعًا بإحدى الرايات.» وبينما هو يتكلم ظهرَت، ممتدةً من منصة المراقبة على متن السفينة إلى صاريها، رقعةٌ كبيرةٌ من القماش زرقاءُ اللون، عليها أربع نجماتٍ ضخام تُشكل مُجتمعةً أركان متوازي أضلاع والْتمَعَت في وسطها مرساةٌ كبيرةٌ بيضاء. ضجَّ طاقمُ السفينة «كونسترنيشن» بالهُتافات، وعزفت الفرقةُ الموسيقية التي على متنها النشيدَ القومي الأمريكي؛ نشيد «الراية المرصَّعة بالنجوم.»
قال القبطانُ كِمْت موضحًا: «هذه هي راية وزير البحرية الأمريكية، والذي سيحضر معنا الليلة. لقد ظل الزوَّار شديدي التكتُّم على هذه المعلومة، لكنَّ رجالنا عرفوا السرَّ منذ أسبوعٍ تقريبًا، وسأُصاب بخيبة أملٍ كبيرةٍ إذا لم يُبادلُوهم بالمثل.»
عندما توقفت الفرقة الموسيقية التي على متن السفينة «كونسترنيشن» عن العزف، انطفأت جميع أضواء فرقة السفن الأمريكية، ثم ظهرت على سفينة القيادة رايةٌ تمتد من الصاري إلى الصاري يظهر العَلَمُ البريطانيُّ في أحد أركانها، ويَقسم صليبٌ أحمرُ كبيرٌ بقيتَها إلى ثلاثةِ مربعاتٍ بيضاء. بعدما لمع هذا الضوء شرعت الفرقة الموسيقية الأمريكية في عزف النشيد الوطني البريطاني، ثم ظهرت الأضواءُ التي تؤطر السفينة من جديد.
قال القبطان: «هذه هي راية السفينة الحربية البريطانية.»
أسرع المركب «ويب-بور-ويل» بنقل الجَمْع وآخرين معهم عبر المياه المُتلألئةِ إلى قاعدة الدَّرَج الفخم الذي كان قد أُنشئ خصيصًا لنقل النخبة من الماء إلى ظهر السفينة. كان اتساعه يزيد على ضعف اتساع سُلَّم السفينة العاديِّ، وكان مفروشًا بالسجاد من أعلاه إلى أسفله، وكان يقف على كل درجةٍ من درجاته بحَّارٌ من رجال الأسطول، كانوا ثابِتِين جميعًا وكأنهم تماثيل برونزية، وكان صف الرجال يُشكِّل، إذا صحَّ التعبير، درابزينًا حيًّا صاعدًا إلى السماء المُظلمة.
تقدَّم الجمعَ القبطانُ كِمْت وزوجتُه، وتلاهما سابينا وفتاها، وجاءت الفتاتان في أعقابهم.
همست كاثرين في أذن صديقتها: «أليس أولئك الرجال رائعين؟ ليتَ كلُّ واحد منهم كان يحمل مِشعلًا عتيقَ الطراز. إنني مُغرمةٌ بالبحَّارة.»
قالت دورثي: «وأنا أيضًا»، ثم انتبهت إلى سلوكها، وضحكت قليلًا.
قالت كاثرين متنهدةً: «أظن أننا جميعًا نُحبُّ البحَّارة.»
على متن السفينة «كونسترنيشن» كان قبطانها بدينًا يقف مُرتديًا بذلةً نظاميةً متألقةً، إلى جوار السيدة أنجيلا بيرفورد الموظَّفة بالسفارة البريطانية في واشنطن، كي يستقبل ضيوف الطرَّادة. خلفَ هذين الاثنين احتشدت مجموعةٌ من الضباط والسيدات اللاتي يَرتدين ثيابًا في غاية الأناقة، وكانوا يتحدَّثون بمرحٍ بعضهم مع بعض. عندما نظرت دورثي إلى السيدة أنجيلا التي تشبه الأميرات بدا وكأنها تعرفها؛ وكأنَّما كان على متن السفينة امرأةٌ خارجةٌ من قلب قصةٍ رومانسيةٍ إنجليزية. لقد جعلَت قامتُها الطويلةُ المنتصبةُ في فخرٍ القبطانَ الضخمَ يبدو أقصر مما هو عليه في الحقيقة. أما الخُيَلاء الفطريةُ التي تُميِّز تلك الملامح الكلاسيكية فقد لطَّفتها إلى حدٍّ ما ابتسامةٌ مؤقتة. نظر القبطان كِمْت وراءه ثم قال بصوتٍ خفيض:
«والآن أيتها الفتيات، فلتُحاولْن أن تبدُون في أحسن مظهَر. سوف تَستقبل السيدة البريطانية الفتيات الأمريكيات.»
قالت كاثرين: «أعرف أنني سأضحك، وأخشى أنني ربما أُقهقه»، لكنَّ أختها الكبرى رمقتها بنظرةٍ لا تقلُّ غطرسةً عن أيِّ نظرةٍ كان من الممكن لأيِّ سيدةٍ مثل السيدة أنجيلا أن ترمقها بها، فتلاشَت نية المرح تمامًا في تلك اللحظة؛ وهكذا مرَّ الاختبار بصورةٍ تقليديةٍ دون أن تضحك كاثرين أو تقهقه.
ذابت سابينا وفتاها في الحشد. كان القبطان كِمْت يومئ برأسه موزعًا التحايا بين معارفه الكثيرين، وأحسَّت كاثرين بدورثي وهي تتراجع وتلتصق بها قليلًا عندما شقَّ فتًى مجهولٌ طويلُ القامة طريقَه ببراعةٍ بين الناس، واتجه مباشرةً إلى القبطان، وأمسَكَه من يده بطريقةٍ تدل على صداقةٍ عميقةٍ للغاية.
«قبطان كِمْت، سُررتُ برؤيتك من جديد. اسمي دروموند؛ المُلازم دروموند، وقد شرفتُ بالتعرف إليك في تلك المأدُبة منذ أسبوعٍ أو أسبوعين.»
هتفَ القبطان بمودَّةٍ مساويةٍ لتلك التي حُيي بها: «بل أنا الذي شرفتُ بذلك يا سيدي، أنا الذي شرفتُ بذلك.» لم يكن القبطان في البداية يتذكَّر أيَّ شيءٍ عن الشاب، لكنه كان إلى حدٍّ ما سياسيًّا هاويًا، وكانت لديه كل مهارة السياسيِّين في مواجهة المجهول، وتحقيق أقصى استفادةٍ من أيِّ موقفٍ يَجد نفسه فيه.
فقال: «يا إلهي، نعم، يا حضرة المُلازم، أتذكَّر جيدًا جدًّا تلك الأغنية الرائعة التي …»
قال المُلازمُ لاهثًا: «أليسَت ليلةً رائعة؟ أظن أننا جَديرُون بأن نُهنَّأ على حالة الجو هذه.»
كان لا يزال مُتشبِّثًا بيد القبطان، وصافحها من جديدٍ بمودَّةٍ كبيرةٍ جدًّا حتى إنَّ القبطانَ قال لنفسه:
«لا بد أنني تركت أثرًا طيبًا في نفس هذا الشاب»، ثم رفعَ صوته وردَّ عليه بمرحٍ قائلًا:
«يا إلهي، إنَّ الجو مُعتدلٌ عندنا دائمًا في هذا الوقت من السنة. فحكومة الولايات المتحدة تتحكَّم بالطقس. ألم تكن تعلم هذا؟ بلى، إنَّ مكتب الطقس لدينا يُعدُّ الأفضل في العالم.»
ضحكَ المُلازمُ بانشراحٍ، برغم أن نغمةً خاليةً من الإحساس قد تخلَّلت ضحكته؛ إذ كان قد وصل إلى نهاية حديثه، وأدركَ أنه لم يَعُد بوسعِه أن يُكرِّر المصافحة مرةً ثالثة، وهو مع هذا لا يدرِي كيف يُواصِل الحديث. حينها تدخَّلَت لَباقةُ السياسيِّ وأنقذَتِ المُلازمَ بالطريقة التي كان يأملها تمامًا.
«حضرة المُلازم دروموند، اسمح لي أن أُعرفك بزوجتي.»
انحنت السيدةُ مُحيِّيةً إياه.
«وابنتي كاثرين، والآنسةِ إمهيرست، صديقة العائلة؛ المُلازم دروموند، قبطان السفينة «كونسترنيشن».»
قال المُلازم، وكأنما خطرت الفكرة لتوِّها بباله: «أتساءل إنْ كانت الفتاتان تَرغبان في الذَّهاب إلى مكانٍ تَستطيعان فيه أن تُلقيا نظرةً شاملةً على الزينة. ربما … ربما لا أكون أفضل مُرشدٍ، لكنَّني أعرف السفينة معرفةً جيدةً إلى حدٍّ ما.»
قال القبطان كِمْت: «لا تسألني. اسأل الفتاتَين. إنَّ كلَّ ما حصلتُ عليه في الحياة قد جاءني لأنني كنتُ أطلبُه، وإذا لم أحصل عليه من أول مرة، كنتُ أَطلُبُه من جديد.»
صاحت كاثرين بحماس: «نُريد أن نرى الزينة بالطبع»، فانحنى المُلازم محيِّيًا القبطان كِمْت وزوجته، وقاد الفتاتَين عبر ظهر السفينة، إلى أن وصل إلى مكانٍ مُرتفعٍ بعيدٍ عمَّن قد يَقصِد التنزُّه، وفي ركنٍ مُنعزلٍ منه إلى حدٍّ ما، لكنه ركنٌ يُطلُّ من زاويةٍ رائعةٍ على الحشد، وُضِعت أريكةٌ لا تتَّسع إلا لشخصَين قد أُخذت من قمرة أحد الأشخاص على متن السفينة. كان أحد البحَّارة يقف حارسًا، لكنه اختفى من المكان بعد إيماءةٍ من المُلازم.
صاحت كاثرين: «يا للعجب! مقاعد محجوزة، أليس هذا مُدهشًا؟ كم هي مُختلفةٌ عن كراسي المسرح، حيث يمنحك الحق في الجلوس في مكانِك أن تَحمل قطعةً ملوَّنةً من الورق المقوَّى. هنا يَحرسُك رجلٌ يَحمل سيفًا. إنه شيءٌ يعطي المرءَ فكرةً عن أهوال الحرب، أليس كذلك يا دورثي؟»
ضحكَ المُلازم بانشراحٍ شديدٍ وكأنما لم يكن هو نفسه يتمنَّى أن يكون في المكان الذي تحتله المرحةُ كاثرين في تلك اللحظة. لقد كان يَقدح زناد فكره ليحل المُعضلة المتمثِّلة في القول المأثور: «الاثنان رُفقة، أما الثلاثة فلا.» جلسَت البنتان معًا على الأريكة وراحتا تُحدِّقان في الحشد النابض بالحياة، الذي تكتنفُه الأضواءُ في براعة. كان الناسُ لا يزالون يتدفَّقون فوق السلالم المؤدية إلى السفن، وأخذت أسطُح السفن تتكدَّس سريعًا بكوكبةٍ مُتعدِّدة الألوان ودائمة التغيُّر من الناس. كان طنين المحادثة يكاد أن يَحجب صوت المقطوعات الموسيقية الشهيرة المختارة التي تعزفها الفرقة الموسيقية البارعة على متن الطرَّادة. فجأةً انقطع صوتُ إحدى المقطوعات المختارة. لقد توقَّف صوتُ الآلات الموسيقية للحظةٍ، ثم بدءوا يعزفون اللحن العسكري الوطني الأمريكي المسمَّى «ذا ستارز آند سترايبز فور إيفر» (النجوم والأشرطة إلى الأبد).
صاحت كاثرين: «مُدهش. أتستطيع فرقتكم الموسيقية أن تعزف لحن المؤلف الموسيقي «سوسا»؟»
قال المُلازم مُتباهيًا: «لا بد أن أقول إننا نستطيع. ونحن نستطيع عزف موسيقاه، إلى حدٍّ ما بحيث نُعطِي موسيقيِّي السيد سوسا أنفسَهم بعضَ النصائح النافعة.»
انحدرت كاثرين إلى اللغة العامية وردَّت قائلةً: «تَغلبون الفرقة الموسيقية، فعلًا؟ فرقة سوسا الموسيقية؟»
قال المُلازم مُبتسمًا: «بالتأكيد. والآن أيتها الآنستان، هل تسمحان لي بالانصراف بضع دقائق؟ إن هذه المقطوعة الموسيقية المختارة تعني أنَّ وزير بحريتكم الآن في المياه، ولا بد أن أكون موجودًا في مكاني مع بقية الضُبَّاط لاستقباله هو ومساعديه بكلِّ ما يَليق بهم من مراسم الاستقبال. أرجوكما، عِداني ألَّا تُغادرا هذا المكان حتى أعود؛ أتوسَّل إليكما.»
قالت كاثرين ضاحكةً: «يَجدُر بك أن تَجعل بحَّار الأسطول يَحرُسنا.»
«يا إلهي! فكرةٌ رائعةٌ تمامًا.»
رأت دورثي ملامحَ المرح تُغادِر وجهه تمامًا، مُفسِحةً المجالَ لملامحَ صارمةٍ مُسيطِرةٍ كي تحل محلها. فبالرغم من أنه كان مُنهمكًا في شيءٍ من المزاح، يجب ألَّا يرى المرءوسُ أيَّ أثرٍ للهو على وجهه. لقد قال كلمةً صارمةً لأحد بحَّارة الأسطول، فقفز ذلك الأخيرُ برشاقةٍ إلى طرَف الأريكة، ورفعَ يده مُؤديًا التحية، ووقفَ مُتيبِّسًا كإنسانٍ آليٍّ. بعد ذلك رأت الفتاتان قامةَ المُلازم الطويلةَ تشق طريقها إلى المكان الذي يقف فيه القائد.
«أظن يا دورثي أننا سجينتان. تُرى ماذا سيفعل هذا الفتى لو حاوَلنا الفرار. ألا يبدو المُلازمُ رائعًا؟»
قالت دورثي بصوتٍ خفيض: «يبدو شخصًا لطيفًا للغاية.»
«لطيف! يا إلهي، إنه مُدهش. صدِّقيني يا دورثي، سوف أرقص الرقصة الأولى معه. إنني أنا الأكبر سنًّا. إنه كبيرٌ بما يكفي لتَتقاسمه فتاتان صغيرتان مثلنا، ألا ترين هذا؟»
قالت دورثي: «لا أنوي أن أرقص.»
«هُراء، إنكِ لن تَجلسي هنا طوال الليل من دون أحدٍ تُكلمينه. سوف أطلب من المُلازم أن يُحضر لكِ أحد الرجال. سوف يأخذ اثنين أو ثلاثة من بحَّارة الأسطول ويَقبض على أيِّ أحدٍ تريدينه.»
قالت دورثي بنبرةٍ صارمةٍ تكاد توحي بأن الأخت الكبرى هي التي تتحدَّث: «كاثرين، إذا قلتِ أيَّ شيءٍ مثل هذا فسأعود إلى المنزل.»
«لا يمكنكِ أن تعودي. سوف أستغيثُ بالحارس. سوف أحبسكِ إذا لم تتأدَّبي.»
«ينبغي لكِ أنتِ أن تتأدبي. حقَّا يا كاثرين، يجب أن تَنتبهي لما تقولين، وإلا فستُحزنينني للغاية.»
أمسكَتها كاثرين من مِرفقها، وضغطت عليه ضغطةً سريعةً رقيقة.
«لا تَخافي يا فتاة الاحتشام، لن أُحزنكِ مهما حصل. لكنكِ ستَرقُصين بالتأكيد، أليس كذلك؟»
هزَّت دورثي رأسها.
«مرةً أخرى. ليس الليلة. يوجد الكثيرُ من الناس هنا. لن أستمتع بالأمر، وثمة … ثمة أسبابٌ أخرى. إنَّ هذا كله جديدٌ وغريبٌ عليَّ للغاية؛ هؤلاء الرجال البارزون وأولئك النساء الجميلات، والأضواء، والموسيقى، وكل شيء — وكأنني دخلتُ عالَمًا آخر؛ شيءٌ قرأتُ عنه من قبل، أو ربما حلمتُ به، ولم أتوقَّع قط أن أراه رؤيا العين.»
«يا إلهي، أيتها الفتاة الغالية، إذن، لن أرقص أنا أيضًا.»
«يا إلهي، بل ستَرقُصين يا كاثرين، يجب أن ترقصي.»
«لا يمكن أن أكون شديدة الأنانية لدرجة أن أترككِ هنا وحيدةً تمامًا.»
«ليس في هذا أيُّ أنانية يا كاثرين. سوف أستمتع بوقتي تمامًا هنا. إنني في الواقع لا أرغب في الحديث إلى أي أحد، وإنما أريد فقط أن أستمتع بحُلمي، رغم خوفٍ صغيرٍ فقط في أعماق قلبي من أنني قد أستيقظ فجأةً، وأنا أفرك عينَيَّ، لأجد نفسي في غرفة الحياكة.»
قرصتها كاثرين.
وقالت: «والآن، هل أنتِ مستيقظة؟»
تبسمَت دورثي وهي لا تزال تحلم.
صاحت كاثرين بحيويةٍ مُتجدِّدة: «انظري! لقد أحضروا الوزير سالمًا على متن المركب ذي الأشرعة الرباعية الأضلاع، ويبدو أنهم يستعدون للاحتفال. ها هو ذا مُلازمي العزيز عائد؛ طويل القامة حتى وهو بين طِوال القامة من الرجال. انظري إليه. إنه في عجلةٍ كبيرةٍ من أمره، لكنه في غاية الأدب، وحريص على ألا يَرتطم بأي أحد. والآن يا دورثي، لا تخافي. سأكون نموذجًا مثاليًّا للحياء. سوف تَفخَرين بي عندما تكتشفين ما يتملَّكُني من الخجلِ عند الحديث باحتشام. أظن أن عليَّ أن أُظهر الشوق إليه قليلًا. لا أعرفُ في الواقع كيف أَفعل هذا، لكن في الروايات الإنجليزية القديمة كانت الفتيات يُظهِرن الشوق دائمًا، وربما يتوقَّع الرجلُ الإنجليزي أن يرى قليلًا من الشوق في فتاته. تُرى هل أسْرته من النبلاء. إذا لم يكن كذلك، فلا أعتقد أني سأُعبِّر عن شوقي كثيرًا. ومع ذلك، أيُّ جدوى لخُيلاءِ الأُبهةِ الفارغةِ والفخر بالنَّسب؛ أليس هكذا تقول القصيدة؟ إنني أحبُّ مُلازمنا الصغير الغالي لشخصه فقط، وأعتقد أنني سأحظى برقصةٍ واحدةٍ فقط معه، على الأقل.»
استولى دروموند على كرسيٍّ خفيفٍ من مكانٍ ما، ووضعه بحيث يُشكِّل مع الأريكة زاوية قائمة، كي يتمكَّن من رؤية الفتاتَين دون أن يحجب عنهما الرؤية. اختفى البحَّار المُكلَّف بحراسة الفتاتَين من جديد، وبدأت الفرقة الموسيقية في تلك اللحظة تعزف موسيقى الرقص.
صاحَ دروموند في ابتهاج: «حسنٌ، لقد رتَّبتُ كلَّ شيء. لقد استقبلتُ وزير البحرية، سوف يرقص قبطانُنا مع زوجتِه، وسيرقص الوزير مع السيدة أنجيلا. وها هم أولاء يبدءون!»
ظلَّ الشباب يشاهدون الرقصَ دقائقَ معدودة، ثم قال المُلازم:
«أيتها السيدتان، إنني أشعر بخيبة الرجاء لأنَّكما لم تُثنيا على عرض الأضواء الكهربائية الذي أقمناه.»
قالت دورثي بنبرةٍ مؤكدةٍ، وكانت هذه أول مرةٍ تُكلِّم فيها المُلازمَ في تلك الليلة: «أنا واثقةٌ أنه في غاية الإتقان، حقًّا، وأنه بارعٌ لأبعد الحدود»، لكن كاثرين، التي كانت قدمُها الصغيرة تنقر سطحَ السفينة على إيقاع موسيقى الرقص، رفعَت رأسها فجأةً، وقالت — بلا مبالاةٍ — إنَّ العَرض كلَّه جيدٌ للغاية بالنظر إلى كونه محاولةً بريطانية في مجال الإضاءة، لكنها ترجو الفتى أن يتذكَّر أن أمريكا هي مَنشأُ علم الكهرباء.
وقالت: «أين كنتم ستُصبحون لولا إديسون؟»
قال المُلازم بمرح: «أظن أننا كنا سنُصبح حيث كان موسى عندما انطفأت الشمعة؛ في الظلام.»
قالت دورثي: «ربما كنتم ستَمتلكُون مشاعل. لقد نسيَتْ صديقتي أنها كانت تتمنَّى أن يحمل البحَّارةُ مشاعلَ فوق ذلك الدَّرَج المُعلق بجانب السفينة.»
«كنتُ أقصد مَصابيح كهربائية؛ مصابيح إديسون بالتأكيد.»
لم تكن كاثرين راضية عمَّا لاحَ من بوادر. فقد كانت مولعةً بالرقص إلى أبعد حدٍّ، في حين زرع هذا الفتى اللطيف نفسه هنا على كرسيٍّ خفيفٍ ليتحدث عن الكهرباء.
«آنسة كِمْت، يؤسفني أن عرضنا قد خيَّبَ أملَك. إن ازدراءك للهندسة البريطانية في مجال الكهرباء لا ينال مِنَّا؛ لأن هذا العَرض قد أنجزه حِرفيٌّ أجنبي، وآملُ أن أُعرفكِ إليه.»
قالت كاثرين، بأسلوبٍ شبيهٍ إلى حدٍّ ما بالأسلوب المعتاد لأختها الكبرى: «يا إلهي، حقًّا! أنا لا أرقص مع الحِرفيين، شكرًا لك.»
أكَّدت كاثرين على كلمةِ «أرقص»، لكنَّ المُلازمَ لمْ يفطِن لتلميحها؛ ولم يَزِد على أن ضحِك من جديدٍ بطريقةٍ دمثةٍ إلى حدٍّ يدعو إلى السخط، وقال:
«سوف تُشارك السيدة أنجيلا جاك لامونت في رقصة الفالس القادمة.»
قالت كاثرين بغطرسة: «يا إلهي، بإمكان السيدة أنجيلا أن ترقص مع أي حَدَّادٍ تُريده، لكنني لا أفعل هذا. إنني أفترض أن جاك لامونت هو فنيُّ الكهرباء لديكم.»
«نعم، هو كذلك، وأنا أعتقد يقينًا أنه أفضل رجلٍ على متن هذه السفينة. من المحتمَل جدًّا أن تكوني قد قرأتِ عن أخته. إنها تَكبُر جاك بسنة واحدة، وهي جميلةٌ جدًّا، ومثقفة، وفيها كلُّ ما ينبغي لسيدةٍ جليلةٍ أن تتحلى به من الصفات، لكنها وهبَت الفلاحين ممتلكاتها الضخمة، وهي تعمل معهم في الحقول؛ تعيش مثلما يعيشون، وتأكل مما يأكلون. لقد كُتِبَ مقالٌ عنها في إحدى المجلات النقدية الفرنسية منذ مدةٍ ليست بالبعيدة. إنها تُدعى الأميرة نتاليا.»
ردَّدت كاثرين الاسم، مُلتفتةً بوجهها ناحية الفتى: «الأميرة نتاليا! كيف يُمكن أن تكون الأميرة نتاليا أختًا لجاك لامونت؟ هل تزوجَت أحد الأمراء المسنِّين، ولجأَت إلى الحقول من الاشمئزاز؟»
«يا إلهي، لا؛ إن جاك لامونت روسي. إنه يُدعى الأمير إيفان ليرمونتوف عندما يكون في وطنه، لكننا ندعوه جاك لامونت على سبيل الاختصار. سوف يُساعدني في المهمة الروسية التي كلمتكِ عنها.»
سألت كاثرين: «أيُّ مهمة روسية؟ لا أذكر كلامك عنها.»
شحبَ لونُ دورثي، وابتعدت قليلًا عن صديقتها، بينما أخذت عيناها تتسعان لترسلا تحذيرًا سريعًا للمُلازم، الذي تذكَّر، بعد فوات الأوان، أن هذه المحادثة بشأن روسيا قد جرت أثناء سيرهما عندما خرجَا من البنك. سعلَ الفتى قليلًا خلف يده المنبسطة، واحمرَّ وجهه خجلًا، وقال متلعثمًا:
«يا إلهي، لقد ظننتُ أني أخبرتكما. ألم أُحدثكما عن الأمير أثناء قدومنا إلى هنا؟»
قالت كاثرين: «لم تتحدَّث عن هذا على ما أذكر. هل هو أميرٌ أصيلٌ حقيقي؟ أميرٌ مُنحدرٌ من سلالة ملكية مائة بالمائة، وبكلِّ ما في الكلمة من معنًى؟»
«لا أعرفُ شيئًا عن مسألة الملَكية، لكنه أميرٌ ذو منزلةٍ جيدةٍ في بلده، وهو كذلك حدَّادٌ ممتاز.» ضحكَ المُلازم ضحكةً خافتةً صغيرةً، ثم قال: «لقد تأثَّر هو وأخته تأثرًا بالغًا بتعاليم تولستوي. إن جاك، في ظني، هو المُخترع الأروع على وجه الأرض حاليًّا، بصرف النظر عن إديسون. يا إلهي، إنه الآن مُنهمِكٌ في مشروعٍ يستطيع من خلاله أن يجعل المنازل تطفو من فوق الجبال هنا إلى مدينة نيويورك. يجعلها تطفو؛ بل ربما ينقلُها عبر خطٍّ للنقل هو المصطلح الأنسب. تعرفين أنهم يملكون خطوط أنابيب لنقل النفط. حسنٌ؛ إن جاك لديه محلولٌ يُذيب الحجارة كما يَذُوب السُّكرُ الأبيض في الشاي، وهو يعتقد أنه يستطيع أن ينقل السائل من المحاجر إلى مكان إنشاء المبنى. يبدو أنه بعد ذلك يصب هذا السائل في قوالب، وبهذا تَحصُلين على الحجارة من جديد. أنا شخصيًّا لا أفهم العملية، لكن جاك أخبرني أنها رخيصةٌ بطريقة عجيبة، وفعَّالةٌ بطريقة عجيبة كذلك. لقد استلهم الفكرة من الطبيعة ذات مرةٍ عندما كنتُ أنا وهو نقضي إجازتنا في ديترويت.»
«مدينة ديترويت، بولاية ميشيجان؟»
«نهر ديترويت.»
«حسنٌ، ذلك يتدفق بين ولاية ميشيجان وكندا.»
«لا، لا، هذا في فرنسا. أعتقد أن الاسم الحقيقي للنهر هو نهر تارن. حسنٌ، يوجد هناك ممر ضيِّقٌ يُسمى ديترويت؛ ذلك المضيق. إنه مكانٌ رائع؛ صَدعٌ هائل. تدخلينه في قارب، وجميع روافد النهر تصبُّ في المجرى الأساسي كدَفقاتٍ تنطلق من فوَّهة خرطوم مياه. يقولون إنَّ سببَ هذا هو المطر المترشِّح من خلال أوراق الأشجار الميتة الساقطة على سطح الأرض في الأماكن العالية البعيدة؛ إذ يتشبَّع الماءُ بغاز ثاني أكسيد الكربون، ومن ثمَّ يُذيب حجرَ الجير حتى يصل إلى الجرانيت، ويُشكِّل الجرانيتُ مهدَ هذه الأنهار الواقعة تحت الأرض. لقد بدا لي الأمر كلُّه في غاية الروعة، لكنَّه أثار النزعة العلمية في جاك، وهو لا يزال يواصل التجارب العلمية منذ ذلك الحين. إنه يقول إنه سيتمكَّن من بناء مدينة باستخدام خرطوم مياه في العام القادم.»
«أين يعيش؟»
«يعيش في الطرَّادة في الوقت الحالي فقط. لقد ساعدتُ في جعله يُوقِّع عقد العمل للسفينة باسم جون لامونت، وقد نجح من دون شك. لا عجبَ في هذا؛ فهو يحمل شهاداتٍ علميةً من جميع أنواع الجامعات الألمانية، ومن جامعة أكسفورد، ومن معهدٍ أو اثنين في الولايات المتحدة. أما في وطنه فهو يعيش في مدينة سانت بطرسبرج.»
«هل لديه قصرٌ هناك؟»
ضحكَ دروموند، وقال:
«لديه ورشة حِدادة، وفوقها غرفتان، وسوف أُقيم معه بضعة أشهر فورَ أن أحصل على إجازتي. عندما تصل الطرَّادة إلى إنجلترا ندفع رواتب الموظفين، وأتوقَّع ألا يكون لديَّ ما أقوم به لمدة ستة أشهر؛ ولذا سأذهب أنا وجاك إلى سانت بطرسبرج.»
«لماذا تسمونه لامونت؟ هل هو اسمٌ مأخوذٌ من اسمه الحقيقي ذلك الذي ينتهي بالمقطع «أوف»؟»
«تقصدين ليرمونتوف؟ نعم. لقد أسَّس القيصر ديميتريوس، في وقتٍ ما في بداية القرن السابع عشر، كتيبةَ حرسٍ مَلَكيٍّ اسكتلندية، تمامًا كما فعل لويس الحادي عشر في فرنسا قبل ذلك بمائتَي عام، وهناك أتى من اسكتلندا آل لامونت، وآل كارميشيل، وآل بوكانان، وآخرون، وقد مُنِحوا ألقابًا ومُمتلكات. الأمير إيفان ليرمونتوف يعود نسبُه إلى لامونت الأصلي، الذي كان أحد ضُبَّاط كتيبة الحرس الملَكي الاسكتلندية في روسيا.»
«إذن فهو في الحقيقة اسكتلندي، أليس كذلك؟»
«هذا ما أقوله له عندما يُزعجني؛ لأنني أنا شخصيًّا اسكتلندي. يا إلهي، لقد انتهَت رقصة الفالس. هل تأذنان لي في دقيقة أُحضِرُ فيها سمو الأمير؟»
أحنَت دورثي رأسها، وابتسمَت كاثرين ابتسامةً جميلةً عبَّرت بها عن إعطائه إذنها.
صاحت كاثرين، عندما غابَ المُلازمُ عن مدى صوتها: «يا إلهي، دورثي، فكِّري في الأمر! أميرٌ حقيقي، وأنا لم يَرقَ طموحي قطُّ إلى أعلى من كونتٍ تافه، أو أحد العامة من هذا النوع. إنه لي يا دورثي؛ أنا من عثرتُ عليه أولًا.»
«كنتُ أظن أنكِ استوليتِ على المُلازم، أليس كذلك؟»
«ما قيمة المُلازمِين عندي؟ أنا الشريفة بنت القبطان (المتقاعد) لا يُمكن أن أنزل إلى مستوَى مجرَّدِ مُلازم.»
«لن يكون عليكِ أن تنزلي كثيرًا، يا كيت، مع رجلٍ في مثل طول السيد دروموند.»
«لقد بدأتِ تلاحظين، أليس كذلك يا دوت؟ لكنَّني أهبكِ المُلازم بنفسٍ راضية؛ لأنَّني سأرقصُ مع الأمير، حتى ولو اضطررتُ إلى طلب الرقص معه بنفسي.
يا إلهي، ها هما ذان قادمان. أليس رائعًا إلى حَدِّ الكمال؟ انظري إلى لحيتِه! إنَّ لونها يشبه تمامًا لون قطعةٍ ذهبيةٍ قشيبةٍ من فئة العشرين دولارًا. انظري إلى هذا الوشاح العريض الذي يَضعه مائلًا على جسمه. تُرى ما معناه. وتفرَّسي في تلك الأوسمة العسكرية المتلألئة على صدره. يا إلهي، أليس رائعًا؟»
«بلى، بالنظر إلى كونه حدَّادًا. تُرى هل صنعَ تلك النجوم على سندانه؟ إنه ليس فارعَ الطول مثل المُلازم دروموند.»
«دورثي، لن أسمح لكِ بالحطِّ من قدر أميري. كيف تتصرَّفين بكل هذه السماجة؟ لقد اعتقدتُ من البداية أن المُلازم طويلٌ للغاية. لو أنَّ الأمير يتوقَّع منِّي أن أقول له «سموك» فسيخيب أملُه.»
«أنتِ مُحقةٌ تمامًا يا كيت. سوف يَليق اللقب بالمُلازم أكثر.»
«دورثي، أعتقد أنكِ تشعرين بالغَيرة.»
قالت دورثي وهي تهز رأسها وتضحك: «يا إلهي، لا، لا أشعر بالغيرة»، ثم أضافت: «صه!» ذلك أنَّ كاثرين كانت على وشك أن تتحدث من جديد.
في اللحظة التالية كان الشابان واقفَين أمامهما، وبعدما تعارفوا برزانةٍ بعضهم إلى بعض، بادر الأمير إلى التوسُّل إلى كاثرين كي تتعطَّف عليه بالرقص معه، وقد سرَّ الفتاةَ أن تتلطَّف بالموافقة على طلبه هذا، دون أن تُظهِر، برغم ذلك، استعجالًا كبيرًا في موافقتها على طلبه، وانطلقا يسيران معًا.