الطريقة المتبَعة في البحرية
أقام القبطان كِمْت وزوجته وسابينا أسبوعًا في فندق «ماترهورن» قبل وصول الفتاتَين إليه. كانت الفتاتان قد ذهبتا مباشرةً إلى نيويورك، واستغرقتا تلك الأيامَ السبعة للعثور على شقةٍ تناسبهما، واتفقتا على تسلُّمها في الأول من شهر أكتوبر. وكان عليهما بعد ذلك مقابلةُ المحامِين لوجود الكثير من تفاصيل العمل التي ينبغي تسويتها، مع الحاجة إلى استشارةِ أحد المهندسين المعماريين من أجل بناء الكنيسة. بعد مغادرة نيويورك قضت الفتاتان يومًا كاملًا في قرية هافرستوك، حيث اشترَت دورثي إمهيرست قطعةَ أرضٍ بذكاءٍ شديدٍ كما لو أنها قضت عمرها كله في مجال العقارات. وبعد هذه الصفقة استقلَّت الفتاتان إحدى عربات الأجرة إلى المحطة الواقعة على الخط المتَّصل بالسكة الحديدية الجبلية المنحدرة، وبهذا «انطلقتا إلى السماء على أسِرَّةٍ مريحة من الزهور»، مثلما قالت كاثرين التي شرحت لصاحبتها المصدومة أنه لا بأس بهذه الكلمات؛ إذ لم تكن إلا اقتباسًا من أحد التراتيل الدينية. وعندما وصَلَتا إلى فندقهما أخيرًا شعرت كاثرين بابتهاجٍ غامر.
صاحت قائلةً: «أليس هذا مُبهِجًا؟ ويَجدُر به أن يكون كذلك بالفعل؛ لأنَّنا كما أعلم، على ارتفاعٍ يزيد ثلاثة آلاف قدمٍ مما كنا عليه في نيويورك، وحتى ناطحات السحاب لا يمكنها أن تنافس مثلَ هذا الارتفاع.»
كان وادي هدسون الفسيحُ يمتدُّ تحتهم على مدى البصر، متلألئًا في الحُلةِ الزرقاء الرقيقةِ التي كسته إياها تلك الليلةُ الصيفية، وعلى بُعد بضعة أميال كان باستطاعة المرء أن يرى النهر نفسه وكأنه شريطٌ فضيُّ اللون.
أبلى القبطانُ الباسل الذي توعَّدَته ابنتُه الصغرى توعُّدًا شديدًا وهددتَه بمُختلف أنواع الآلام والعقوبات إذا هو لم يَنتبه إلى التعليمات، بلاءً باهِرًا في اختيار غرفتَين لدورثي ولابنته. كان جناح الغرف يقع في أحد أركان الفندق الضخم، وهو عبارة عن رَدهة كبيرة تشغل الزاوية، وتُطلُّ نوافذ أحد جانبيه على الغابة بينما تطلُّ نوافذ جانبه الآخر على الوادي. كانت الغرفة الأمامية المجاورة للرَّدهة غرفةَ دورثي، والغرفة الواقعة عند الطرف غرفة كاثرين، شريطة أن تُحسن التصرف مثلما قال والدها. وإذا أرادت دورثي في أي وقتٍ أن تَطرُد جارتها المُزعِجةَ، فما عليها سوى أن تستدعي القبطان، وسوف يقدِّم لها مساعدته، لكنَّ كاثرين أبدَت غضبها من عرض المساعدة هذا، وقالت إنها ستُجرِّب الغرفة لمدةِ أسبوعٍ، وإذا لم تُعجبها فسيتعين على دورثي أن ترحل.
تلا ذلك أيامٌ وليالٍ من العربدة؛ رقصات، وحفلات موسيقية، وترفيه من جميع الأنواع، وحفل راقص شديد الفخامة ليلةَ السبت، وذلك عندما وصل الرجلُ المُتعَب طوال الأسبوع والقادُم من نيويورك بعد الظهر ليجد درجة الحرارة أقل بعشرين درجة، وارتفاعَ الأرض أعلى بكثيرٍ مما كانت عليه الحالُ في مكتبه الحافل بالأعمال في المدينة. لقد عربدَت كاثرين في هذه الجولة من الإثارة، وكذلك فعلَت دورثي هي الأخرى، وإنْ كان ذلك بطريقةٍ أكثر اعتدالًا. بعد انتهاء الحفلات استمتعت الفتاتان بمُحادثةٍ مريحةٍ إحداهما مع الأخرى في قاعة الاستقبال، حيث كانت جميع النوافذ مفتوحة، بينما سطَعَ القمر فوق الوادي المضيء، والذي بدا مليئًا بمسحوق اللؤلؤ.
بعدما رقصَ السيد الشاب جيه كيه هِندِرسون ابن مدينة نيويورك مع كاثرين مرةً بعد مرةٍ في ليالي السبت، حضر فجأةً إلى الحفل الراقص يوم الأربعاء التالي، حيث رقص من جديدٍ مرارًا وتكرارًا مع الفتاة المُبهِجة نفسِها. ولما كان غريبًا بعضَ الشيء على رجلِ أعمالٍ مثله أن يقوم برحلةٍ تستغرق أربع ساعاتٍ خلال فترةِ ما بعد الظهيرة في أحد أيام منتصف الأسبوع، حتى إنه ليصل متأخرًا إلى مكتبه في صباح اليوم التالي، بدأت دورثي تتساءل إنْ كانت إحدى البِنى الخرسانية، ذات الصِّلة باسم الأمير إيفان ليرمونتوف الروسي، تتحلَّى بما يكفي من القوة للتصدي لهجوم فعَّالٍ من هذا النوع، بافتراض أنه كان سيتكرَّر باستمرار. بعد منتصف ليل الأربعاء وصلت الفتاتان إلى الرَّدهة الواقعة في زاوية الفندق. جلست دورثي على كرسيٍّ ذي ذراعين مصنوعٍ من الخيزران، بينما ألقت كاثرين بنفسها على كرسيٍّ هزاز، وعقدَت أصابعها وراء رأسها، وأخذت تحدِّق عبر النافذة المفتوحة في الأفق الضبابيِّ الممتد بلا نهاية وراء النافذة.
قالت كاثرين متنهدةً: «حسنًا، كانت هذه أمتعَ أُمسيةٍ قضيتها في حياتي!»
سألتها صديقتها قائلةً: «هل أنتِ متأكدةٌ تمامًا؟»
«بالتأكيد. ألا يجدر بي أن أعلم؟»
«إنه يجيد الرقص إذن، أليس كذلك؟»
«بطريقةٍ فاتنة!»
«أفضل من جاك لامونت؟»
«حسنٌ، بما أنكِ ذكرت جاك الآن فلا بد أن أعترف بأنه كان يرقص بطريقةٍ جديرةٍ بالإِكبار.»
«لم يَدُر في خَلَدي سوى أنكِ ربما نسيتِ الأمير.»
«لا، لم أنسَه بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنِّي أعتقد أنه كان يجدر به مراسلتي.»
«يا إلهي، هذا هو السبب، أليس كذلك؟ هل استأذنكِ في أن يراسلك؟»
«يا لرب السماء، لا لم يَفعل. لم نتحدَّث قط في أمر المراسلة. كان حديثنا عن الحَجَر الرملي الأحمر العتيق في معظمه. ومع ذلك، كان من الممكن أن يكتب لي ليُخبرَني بتسلُّمه للكتاب.»
«لكنكِ أعطيتِه الكتاب في مقابل الكتاب الذي أهداكِ إياه.»
«نعم، أظن ذلك. لم تخطر هذه الفكرة ببالي.»
«يُمكن أيضًا يا كيت أن تكون الأعراف الروسية بشأن مراسلة الفتيات تختلف عن أعرافنا، أو ربما سقط من السفينة، أو لمس سلكًا كهربائيًّا مكشوفًا.»
همست كاثرين بطريقةٍ غامضة: «نعم، ثمة احتمالاتٌ كثيرة.»
«يبدو غريبًا بعضَ الشيء أن يجد السيد هِندِرسون الوقتَ للمجيء إلى هنا في مُنتصَف الأسبوع.»
سألتها كاثرين: «ما الغريبُ في هذا؟ إن السيد هندرسون ليس كاتبًا مقيدًا بساعات العمل. إنه موظفٌ رفيع المستوى في إحدى شركات التأمين الكبرى، ويتقاضى مرتبًا ضخمًا.»
«حقًّا؟ هل يتكلم مثلما كان يتكلم جاك لامونت؟»
«إنَّ حديثه أقل من حديث الأمير المسكين جاك شبهًا بمعهد تروي للتكنولوجيا، وأكثر منه شبهًا بجريدة «هوم جورنال»، وحس الفكاهة لديه أعظم كثيرًا مما يتمتع به الأمير. عندما أخبرتُه أن قَسَم رجال التأمين يجب أن يكون «يُمكنكَ المراهنةُ بحياتكَ على صدْق كلامي!» انفجر في الضحك. أما جاك، فما كان ليُدرك معنى هذا أصلًا. على أيِّ حال، لقد تأخَّر الوقتُ جدًّا، وأنا نعسانةٌ للغاية بحيث لا يُمكنني أن أشغل بالي بالفِتيان ولا بالمزاح كذلك. تُصبحين على خير!»
في اليوم التالي، حمل البريد الصباحي لدورثي رسالةً ضخمة مُزيَّنة بطوابع بريد إنجليزية. أغلقت دورثي الباب، وفتحت المظروف، ووجدَت عدة أوراق رقيقة تحمل عنوان نادي «بلووتر كلَب، بول مول».
قرأت دورثي: «أذكُر قولًا مأثورًا قديمًا مفادُه أنَّ على المرء ألَّا يقلق أبدًا من مشكلةٍ ما قبل وقوعها. فمنذ أن ودَّعتُكِ وحتى هذه الليلة التي أكتب فيها ظللتُ أتوجَّسُ خيفةً من مشكلةٍ لم تكن موجودة، مما تسبَّب لي في إزعاجٍ كبير. لقد كنتِ معي عندما تلقيتُ الرسالةَ التي تأمرني بالعودة إلى إنجلترا، ولا أدري إن كنتُ نجحتُ في إخفاء كل علامات قلقي أم لا، لكنَّ لدينا الآن في الأسطول رجلًا لا يتردَّد في فسخ قرار أيِّ محكمةٍ عسكرية؛ ولذا خشيتُ من إعادة فتح قضية «صخرة بحر البلطيق»، وهو ما كان من المُمكن أن يعني تحطيم مسيرتي المهنية. لقد حسمتُ أمري بأنه إذا ساءت الأمور تمامًا، فسأتوجَّه إلى الغرب وأصبح راعيَ بقر، لكنَّ مسافرًا تعرفتُ إليه على متن الباخرة «إنثيوزييَانا»، أخبرني ما ساءني من القول بأنَّ شخصية راعي البقر هي إلى حدٍّ بعيدٍ شخصيةٌ من الماضي لا يُقابلها المرءُ إلا في كتابات ستيوارت إدوارد وايت، وأُوين ويستر، والعديد من الرجال المشهورين الآخرين الذين ذكر أسماءهم. ومن ثمَّ فقد عبرتُ المحيط كما ترين، وأنا أشعر بقدرٍ غير قليلٍ من الكآبة؛ إذ وجدتُ وظيفتي الحالية مُهدَّدة، ومستقبلي غير مضمون.
عندما وصلتُ إلى لندن أخذتُ غرفة في هذا النادي الذي انضممتُ إلى عضويته منذ بضع سنوات، وأثبَتُّ حضوري في الحال لدى الأميرالية. وهناك عجزتُ بالرغم من اجتهادي، عن معرفةِ المطلوب مني. كان باستطاعتي بالطبع أن أذهب إلى عمي، الذي يعمل في الحكومة، وربما كان سيُبصِّرني بحقيقة الأمور، وإن لم تكن له علاقة بالبحرية، لكنني أُفضِّل تحاشي عمي ميتجيرن. لقد ربَّاني مذ كنتُ صبيًّا صغيرًا، ويبدو أنه خجولٌ، بلا مبررٍ واضح، من ثمرة تربيته. إنَّ ابنه هو ذاك المُلحَق الدبلوماسي في سفارتنا ببطرسبرج الذي حدثتُكِ عنه.»
توقفَت دورثي عن القراءة قليلًا.
وقالت لنفسها: «ميتجيرن، ميتجيرن. لا شكَّ أني أعرف هذا الاسم!»
وضعت دورثي الرسالة، وضغطت على الزر الكهربائي، وفتحت الباب. عندما دخل الخادم قالت:
«اسألهم من فضلك في مكتب الإدارة إن كان لديهم أي مرجع مُتخصِّص في سير أعلام بريطانيا، وإذا وجدته أحضره إليَّ إذا سمحت.»
حضر الخادم بعد قليلٍ وفي يده كتابٌ أحمر اللون اتَّضح أنه «دليل أعلام» باللغة الإنجليزية طُبع من سنتَين. وعندما قلَّبت دورثي الصفحات وصلت إلى ميتجيرن.
«ميتجيرن، الدوق الثاني عشر، عُيِّن عام ١٦٨١، هيربيرت جورج آلان.» تلا هذا عددٌ من الألقاب الأخرى، كانت المعلومة هي أن الابن والوريث هو ماركيز مدينة ثاكستيد، وكان يعمل بالسلك الدبلوماسي، وأن اللورد ميتجيرن كان وزير شئون الدول التابعة للتاج البريطاني في حكومة صاحبة الجلالة؛ وأخيرًا وردت قائمةٌ بأماكن الإقامة والنوادي. وضعت دورثي الكتاب واستأنفت قراءة الرسالة.
«أعتقد أنه كان ينبغي لي أن أُخبركِ أنني عندما أصل إلى سانت بطرسبرج سأكون حريصًا على تجنُّب ابن عمي ثاكستيد بقدْرِ ما أنا حريصٌ على تحاشي أبيه في لندن. ولذا أقمت في ناديَّ، وأخذتُ أقرأ الصحف. يا إلهي، من الواضح أنها ستكون رسالة طويلة جدًّا. أرجو ألا تُمانعي في هذا. أعتقد أنكِ ربما تكونين مهتمة بمعرفة كيفية إدارة الأمور هنا.
بعد يومَين أو ثلاثة من الانتظارِ المُفعمِ بالقلق جاءت رسالةٌ حاسمةٌ من الأميرالية تأكَّدَت بها أسوأُ مخاوفي، وأدخلتْني مرةً أخرى في حالةِ القلق من وقوع المشاكل. لقد جاءتْني الأوامر بإثبات حضوري في الحادية عشرة من صباح اليوم التالي، في قاعة الاجتماعات رقم ٥، بمبنَى الأميرالية، وأن أُحضِر معي كلَّ التفاصيل الخاصة بإطلاق النار من المدفع رقم كذا من معدات السفينة «كونسترنيشن» في ذاك اليوم. أتعجَّبُ منذ ذلك الحين من أنني لم أدمن الخمر؛ فلدينا كلُّ ما يعين على ذلك في هذا النادي. غير أنني ذهبتُ في الحادية عشرة من صباح اليوم التالي إلى حجرة الاجتماعات ووجدتُ خمسةَ رجالٍ مُجتمعين هم الأشد عبوسًا على الإطلاق بين جميع مَن دعيت إلى مواجهتهم من قبل. كان مظهرهم في المجمل أسوأ بعشرِ مراتٍ تقريبًا من المحكمة العسكرية التي واجهتُها سلفًا. كان أربعةٌ منهم غير مألوفين لي، لكنني عرفتُ الخامسَ على الفور؛ إذ رأيتُ صورته قبل ذلك كثيرًا. إنه الأميرال السير جون بِندِرجِست، والمعروف في البحرية بلقب «العجوز الغضوب»، إنه رجلٌ مخيفٌ صارمٌ لا يعرف شيئًا ألبتَّة عن الرحمة. إن الرجال في البحرية يقولون إنه يبدو سيئ الطبع للغاية بسبب أسفه لأنه لم يُولد قاضيَ إعدامات. تخيَّلي وجهًا واضحَ المعالم كأنه وجه سيناتور روماني عجوزٍ متجهم؛ وجهًا قاسيًا كالرخام، باردًا مثله تمامًا، ويكاد يقترب من بياض لونه كذلك، وجهًا لم يُنقِذه مِن أن يبدو كقناع الموت إلَّا عينان ثاقبتان تتألقان فيه كأنهما قطعتان من الفولاذ. عندما ينظر المرءُ تجاهه يستحيل عليه تمامًا أن يُصدِّق أن مثل هذه الشخصية البارزة كانت في يومٍ من الأيام مجرَّد طفلٍ يُدبِّر المكائد المُضحكة لمُدرِّسيه. الحق أنَّ الأميرال السير جون بِندِرجِست يبدو وكأنه قد نبَت من الأرضِ شديدَ التجهُّمِ يرتدي زيه النظامي كاملًا، كأولئك الجنود الذين تحكي عنهم الأساطير. لقد بُوغِتُّ أشد المباغتة عندما واجهتُ رجلًا بهذه الصفات لدرجةِ أنني لم أرَ ألبتَّة صديقي القديم، بيلي ريتشاردسون، جالسًا أمام الطاولة بصفتِه واحدًا من الموظفين الثانويين في اللجنة. قال لي بيلي إن ما حوَّل شفتيَّ بدا شاحبًا عندما أدركتُ ما كنتُ مقبلًا عليه، وأظن أنه كان مُحِقًّا. عزائي أن وجهي لم يتورَّد خجلًا كما هي عادتي المُربِكة. لقد منَحني شخصٌ ما كرسيًّا، ثم بدأ رجلٌ قصيرُ القامة وجهه شبيهٌ بوجه ابنِ مِقْرَض يوجِّه إليَّ الأسئلة، وهو في ذلك يرجع بين الحين والآخر إلى ورقةِ فولسكاب كانت أمامه. وكان الآخرون متأهبين لتدوين الإجابات.
«متى أُطلِقت نيران المدفع الجديد من على متن السفينة «كونسترنيشن» في بحر البلطيق؟»
عزيزتي الآنسة إمهيرست، لقد اعترفتُ لكِ من قبلُ أنني لستُ متوقدَ الذكاء، وفي الواقع، لم يكن هذا الاعتراف ضروريًّا بالمرة؛ فلا بد أنكِ أدركتِ هذه الحقيقة سريعًا، لكن اسمحي لي هنا أن أتباهى في سطرٍ أو سطرين بمأثرتي الوحيدة، والتي هي عبارةٌ عن دقةٍ حسابية. إنني عندما أنفِّذ التجارب العِلمية لا أُدوِّن النتائج بالحساب التقريبي؛ لقد كانت إجابتي عن سؤال الرجل ذي الوجه الشبيه بوجه أبي مِقْرَض فوريةً وكاملة.
لقد أجبتُه قائلًا: «في الساعة العاشرة وثلاثٍ وعشرين دقيقةً وسبعَ عشرةَ ثانيةً من صباح يوم الثالث من شهر مايو من هذا العام.»
بقيَ الموظفون الخمسة الكبار متبلدين تمامًا، لكنَّ شيئًا من الدهشة بدا على الكاتبَين المُختزِلَين، وهمس أحدُهما قائلًا: «هل قلتَ خمس عشرة ثانية يا سيدي؟»
قال السير جون بندرجست بصوتٍ فظٍّ أجش بدا وكأنه آتٍ مِن ضريح: «قال سبع عشرة ثانية.»
«مَن الذي صوَّب المدفع؟»
«أنا يا سيدي.»
«لماذا لم يَفعل الجنديُّ المِدفَعِيُّ هذا؟»
«لقد فعل يا سيدي، لكنَّني كنتُ أراقبه أيضًا ورفعتُ فوَّهة المدفع بمقدار ٠٫٠٠٠٣٢٧ من البوصة.»
«هل كان مِدفعِيُّكَ غير دقيقٍ إذن إلى هذا الحد؟»
«لا يا سيدي، لكنني وزنتُ الذخيرةَ من قبلُ ووجدتُ أن وزنها ناقصٌ بمقدار أونصتَين وسبع وثلاثين قَمحة.»
ينبغي ألَّا أُضجركِ بالأسئلة والأجوبة كلها. إنما أكتب هذه فقط على سبيل المثال. لقد سألوني عن ارتداد المدفع، وأجزاء التشغيل فيه، وحالة العديد من الأشياء بعد إطلاق النار منه، وقد استطعت لحُسن الحظ أن أجيب في الوقت المحدَّد تمامًا عن كل سؤالٍ وجَّهوه لي. في نهاية الاستجواب طلب مني أحدُ القضاة أن أُعبِّر، بطريقتي الخاصة، عن رأيي في المدفع. وعندما طرح عليَّ هذا السؤال حَدَجَه الأميرالُ السيرُ جون ببصره؛ لأن الإجابات التي قدمتُها كانت توفِّر مجتمعة بالنسبة إلى خبير، رأيًّا دقيقًا عن المدفع، وذلك بافتراض صحة تصريحاتي التي أؤكد أنها كانت صحيحة. مع ذلك، وبما أن السير جون لم يُعلِّق شفهيًّا على سؤال القاضي، قُلتُ رأيي في المدفع بقدرِ ما استطعتُ من إيجاز.
«شكرًا لك أيها المُلازم دروموند.» هكذا قال السير جون بصوته العالي العميق، وكأنما كان ينطق بحكمٍ بالعقوبة، وبهذا تمَّت شهادتي، وانفضَّت اللجنة.»
كنتُ قد خرجتُ إلى الشارع قبل أن يَلحق بي بيلي ريتشاردسون، وعندئذٍ لفتَ انتباهي إليه بضربةٍ مدوِّيةٍ على الكتف.
وصاح قائلًا: «آلان، يا فتاي، حُقَّ لك أن تفخر بما صنعت. إنه يوم سَعدك.»
سألتُه وأنا أصافحه: «كيف هذا؟»
«يا إلهي، إننا نُحقِّق في أمر هذا المدفع اللعين منذ أسابيع، والسؤال هو هل نَصنع المزيد منه أم لا. إنك تعلم مدى وضاعة العجوز الغضوب هذا وتشبُّثه برأيه. والحق يا فتاي أنك أيَّدتَ رأيه في كل كبيرةٍ وصغيرةٍ عن المدفع. إنه رجلٌ وحشيٌّ مُستبدٌّ مُستأسِدٌ يودُّ بقيةُ أعضاء اللجنة لو يخالفونه إن استطاعوا، لكنك أفسدتَ خُططهم. يا إلهي، إن السير جون لم يُوجِّه قط كلمة شكرٍ واحدة لأي إنسانٍ منذ أن وُلد وحتى الساعة الحادية عشرة وسبع وعشرين دقيقةً وخمس عشرةَ ثانيةً من صباح اليوم؛ مثلما كنت ستَقول أنت.» وفي الوقتِ الذي أكتبُ فيه هذه الرسالة يبدو أن حَدْسَ بيلي هذا قد وجدَ ما يُسوغه؛ لأن شريط التسجيل الذي أستمع إليه في النادي أعلن لِتوِّهِ أن أعضاء اللجنة صوَّتوا بالإجماع لصالح صناعة المدفع، وأضاف أن هذا يُعدُّ انتصارًا لرئيس اللجنة؛ الأميرال السير جون بِندِرجِست، وقد تلا اسمه هذا عدةُ اختصاراتٍ تُشير إلى أوسمته وألقابه العسكرية.
عزيزتي الآنسة إمهيرست، لقد طالت هذه الرسالةُ، مثلما كنت أخشى إلى حدِّ الإفراط، وكلها كلام عني مثلما كان أول حديثٍ بيننا. لكن من ناحيةٍ أخرى، فأنتِ الشخص الوحيد، على الجانب الآخر من المحيط، الذي أفضيتُ إليه بهموم نفسي، وأنا مؤمنٌ برقةِ فؤادك الشديدةِ لدرجةٍ تجعلني واثقًا أنكِ لن تُوبِّخيني هذه المرة على تخطِّي الحدود المقبولة للمراسلة الودية. لقد أمضيتُ الأيامَ الطويلة السابقة كلَّها في اكتئابٍ شديد، ولهذا فإن ردة الفعل المفاجِئة تدفعني بقوةٍ إلى الخروج إلى «بول مول» وقذف قلنسوتي في الهواء والهتاف بأعلى صوتي؛ من الواضح جدًّا أن هذا الفعل إنما هو من بقايا طموحي السابقِ أن أكون راعي بقر. بصراحةٍ شديدة، يبدو أن القضية الروسية قد نُسيَت بالفعل، لكن اثنَين فقط لم ينسياها؛ قائدي العجوز البدين على متن السفينة «كونسترنيشن»، وعمي. لقد أجبَرَني السير جون المتعِب هذا على الإبحار عبر المحيط فقط من أجل الإدلاء بشهادتي، والتي استغرقَت خمسًا وثلاثين دقيقة تقريبًا، بينما كان بوسعه أن يتحلَّى بقليل من الصبر وينتظرَ حتى تصل السفينة «كونسترنيشن» بنفسها، أو أن يرسل إلينا برقيةً كي نجرِّب المدفع في بار هاربر. لكنني أظن أنه بعد حادثي المؤسف مع روسيا توجسَت حكومتُنا خِيفةً من احتمالية أن أُشوِّه بقعةً من بِقاع الولايات المتحدة الأمريكية، ومن احتمالية أن تُضطرَّ هي لتحمُّل العواقب. ولذا من المحتمل رغم كل شيء أنه كان من الأوفر لهم أن يستقدموني على متن الباخرة «إنثيوزييَانا».»
بالمناسبة، لقد علمتُ بالأمس أن الأوامر صدرت للسفينة «كونسترنيشن» بالعودة إلى مياه الوطن؛ ولذا أتوقَّع أن أرى جاك لامونت قريبًا. سوف تخرج السفينة من الخدمة في مرفأ مدينة بورتسمث، وأظن بعد ذلك أنني أنا وهو سننال حريتنا لمدة ستة أشهر. إنني أتطلع إلى أن يُعد لي جاك بعض الأطعمة الروسية الشهية على غرابتها عندما نصل إلى ورشة الحدادة الخاصة به في سانت بطرسبرج. لو تدبرتُ أمري في روسيا كما أرجو وأتوقَّع، فسأَقضي بقية إجازتي في الولايات المتحدة. أنا لم أزُر إلا القليل جدًّا في الواقع من معالم هذا البلد العظيم، ولديَّ توقٌ كبيرٌ لزيارة المزيد من معالمه. عندما يكون المرء في الخدمة على متن السفينة لا يُمكنه أن يتنزه على الشاطئ إلا نزهات قصيرة جدًّا. أرغب في زيارة شلالات نياجارا. يبدو من السخف أن يُبحر المرء على طول الساحل الأمريكي من كندا وحتى نيويورك، ولا يدخل مرةً واحدةً إلى داخل البلد بحيث يرى الشلالات العظيمة.
إن النُّظُمَ في روسيا مُعوِّقةٌ بعض الشيء، لكنني بالتأكيد سوف أعلم في غضون أسبوعين أو ثلاثة إن كنتُ سأنجَح أم لا. إذا لم يتسنَّ لي النجاح، فلا فائدة إذن من الانتظار هناك؛ وسأحاول أن أقنع الأمير بمرافقتي إلى أمريكا. خلال الأسابيع التي سأنتظر فيها في سانت بطرسبرج سوف أواصل التأثير عليه حتى يقتنع بالتفاهة المُطبِقة التي يتصف بها أيُّ إنسانٍ لم يدرس محطةَ توليد الطاقة الكهربائية الرائعة عند شلالات نياجارا. علاوة على ذلك فهو مهتمٌّ بالنظام التعليمي للولايات المتحدة. لقد قال لي، ونحن في الطريق إلى المحطة في صباح ذلك اليوم، إن النظام التعليمي للولايات المتحدة هو الأروع في العالم من دون شك؛ وذلك لأنه وجد أن معرفةَ صديقتكِ، الآنسة كاثرين كِمْت، بعلم الكهرباء والتعدين والفلسفة الطبيعية وعددٍ كبيرٍ من الأمور الأخرى التي تُثير اهتمامه، أكبرُ من معرفة كل السيدات اللاتي قابلهنَّ من قبلُ في أوروبا مجتمِعات. إنه يعتقد أن هذا النوع من التعليم هو النوع المناسب للفتيات، أما أنا فقد أدهشني هذا كلُّه نوعًا ما؛ لأن صديقتكِ، وإن كانت ساحرة الجمال، فهي لم تَقُل أيَّ شيءٍ، أثناء معرفتي القصيرة للغاية بها، يجعلني أشك حتى في إمكانية أن تكون قد تلقَّت تعليمًا في مجال العلوم الطبيعية.
عزيزتي الآنسة إمهيرست، إنني أتطلع كل يومٍ لتلقِّي رسالة منكِ، لكنَّ الأميرالية لم تتلقَّ أيَّ رسالةٍ بعد، وهم عندما يتلقون رسالةً فسيُمرِّرونها إلى أي مكانٍ في العالم أكون فيه.»