عندما يأتي جوني إلى أرض الوطن مع زحف الجيش
إن فندقًا صيفيًّا يزخر بمساحة ألف فدان من الغابات التي تقوم مقام فناءٍ خارجيٍّ لذلك الفندق، ليُوفر لنزلائه، حتى وإن كانت غرفه الوافرةُ كلها مشغولةً، مكانًا واحدًا على الأقل لكلٍّ منهم يستطيع أن يعدَّه ركنه المُفضَّل. ومثل هذه الغابة ذات الامتداد الفسيح لتتمكَّن بنجاحٍ من تحدِّي فنِّ البستنة. إنها تُصرُّ على أن تُترك وشأنَها، ثم إنَّ اتساعها نفسه يُقيم عائقًا اقتصاديًّا يَحُول دون وجود مَجازاتٍ مكسوةٍ بأناقةٍ بالحصباء. كان يوجد في السابق كثيرٌ من المجازات التي خضعت لفن البستنة في المنطقة المُجاوِرة للفندق مباشرةً، لكنَّ بعض هذه المجازات دفعه الطموحُ إلى النفاذ إلى قلب الغابة؛ فارتدَّت عن التحضُّر الذي يُوحي به منظرُ الحصباءِ المطروقة إلى ممرَّات بدائية في الأدغال، لكنَّها ظلَّت على أيِّ حال تُفضي بالسالكِ إلى شيءٍ من المناظرِ الخلابةِ الذائعةِ الصِّيت؛ شلالٍ، أو منبرٍ صخريٍّ منتصِب كأنه برج، أو صورة نحتتها الطبيعةُ في المنحدر الصخري تُشبه وجه إنسانٍ، أو لسانٍ صخريٍّ ناتئ فوق هوة الوادي السحيقة، وعادةً ما كان يُقام على هذا اللسان الصخريِّ منزلٌ صيفيٌّ ريفيٌّ أو سرادق تُنحتُ على خشبهِ أسماءٌ غيرُ معروفة؛ فيُصبح الملاذَ الأخير للمَغمورين من الناس لنَيل الخلود بنصل مطواةِ جيب.
عثرت دورثي لنفسِها على جنةٍ صغيرةٍ، لا يؤدي إليها أيُّ طريقٍ ظليلٍ يُمكن رؤيته، وذلك لأنها لم تكن واضحةً بما يَكفي كي تستحقَّ أن يذكرها الدليلُ المجانيُّ الصغيرُ الذي يقدِّمه الفندق متمثلًا في نشرة دعائية من ورقٍ مصقولٍ مليءٍ برسومٍ متدرجةِ الألوان وعباراتٍ مغالية في مديح الغابة تصفُها بأنها جنة على الأرض، وكانت الأسعار لليوم أو الأسبوع مكتوبةً على الغلاف لتبيِّن شروط الاستمتاع بهذه الجنة.
كانت تعريشة دورثي خضراء اللون، معتدلة البرودة، بلورية المنظر، أما وعورة صخورها فقد ألانتها وفرةُ أوراق الأشجار. كان ثمة ينبوعٌ رائقٌ، في مكانٍ عالٍ بعيدٍ عن الأنظار بين أوراق النباتات ينساب ماؤه على سطح المنحدر الصخري رنانًا في محاولة دائمة لملء بحيرة صغيرةٍ شديدة الصفاء عند السفح، لكنها لم تكن تمتلئ قط. كانت الطحالب المحيطة بهذه البِركة مخملية جميلة، لكنها مع ذلك كانت شديدة الرطوبة بحيث لا تَصلُح أن تكون أريكةً لإنسان، إلا إذا كان هذا الإنسان شجاعًا بما يكفي للمخاطرة بالتعرض للآلام الروماتيزمية التي أعقبَت نومةَ «ريب فان وينكل» الطويلةَ في تلك المناطق نفسها، ولذا كانت دورثي دائمًا تحمل معها من الفندق أرجوحةً شبكيةً خفيفةً كالريشة تُشبه بيت العنكبوت، وكانت تُعلِّقها ببراعةٍ بين شُجيرتَين تكاد ليونتُهما اللطيفةُ تُضفي تأثيرًا روحيًّا على هذه الشبكة القادمة من عالم الخيال والمعلَّقة في وادٍ من عالم الخيال؛ وفي هذا المكان كانت الفتاة تتأرجَح في ترفٍ بين المباهج المريحة التي منحها إياها تراخٍ كان لا يزال جديدًا جدًّا عليها فلم يتحوَّل بعدُ إلى شيءٍ مُعتادٍ أو مُمِل.
كانت تأمُل دائمًا أن تقرأ كثيرًا وهي على الأرجوحة الشبكية، لكن الكتاب كان ينزلق من يدها في كثير من الأحيان ويَختفي بين الطحالب، فتستلقي على ظهرها وتنظر إلى الأقراص السماوية الزرقاء الصغيرة التي تظهر من بين متاهة الأوراق الخضراء المعلَّقة فوقها كأنها رقعة شطرنج. بعد ظهر أحد الأيام، وبعد أن خذل دورثي وسقط من يدها كتابٌ هو أحدث ما أُلِّف في الأدب القصصي، وكان كتابًا مُدوَّنًا على غلافه الورقي الذي يَحمي جلدته القماشية، وبحروفٍ واضحةٍ «دولار ونصف»، لكنه كان يُباع في متاجر التَّجزئة الكبرى بدولار وثمانية عشر سنتًا فقط، وكانت هي مُستلقيةً على ظهرها شِبه منوَّمةٍ مغناطيسيًّا بتأثير وميض أوراق النباتات الخضراء التي فوقها، في تلك اللحظة سمعَت صوتًا عذبًا يتغنَّى بأغنيةٍ مَرِحةٍ من أغاني الحرب الأهلية، وهكذا علمَت أن كاثرين كانَت تُعلن بهذا عن اقترابها منها.
لكنَّ دورثي عادَت بذاكرتها إلى مرحلةٍ أبعد في تاريخ بلدها، وقلَّدت بصوتٍ خافتٍ صيحةَ الحرب عند الهنود الحُمر؛ وذلك لتُعلم القادمة أن قدومها مرحَّبٌ به، وبعد قليلٍ اندفعَت كاثرين بعنفٍ عبر الشجيرات الصغيرة الكثيفة.
وصاحت قائلةً: «ها أنتِ ذي هنا، يا آنسة كسلانة.»
«ها أنا ذي، يا آنسة نشيطة، أم هل أناديكِ آنسة الطاقة التطبيقية؟ كاثرين، لقد مشيتِ بسرعة كبيرة حتى تضرَّج وجهُكِ بالحمرة.»
«ليس هذا من الجهد، وإنما من الغيظ. لقد عانيتُ وقتًا عصيبًا للغاية يا دورثي. إنه القلق بشأن التهذيب الملائم للآباء هو الذي يُفسد الجهاز العصبي للأبناء الأمريكيِّين. تُدربينهم على الطريقة التي ينبغي أن يسلكوها، وعندما يَكبُرون يَحيدون عنها. ليس أفظع من أن يكون لديكِ والدان يَحسبان أنهما يتحليان بحس الدعابة. حمدًا للرب أن أمي لا تتحلَّى بمثل هذا!»
«إذن فوالدكِ هو الذي كان يُسيء التصرف، أليس كذلك؟»
«بلى، بالتأكيد. إنه يُعامل أخطر مسألةٍ في حياة المرأة وكأنها الشيء الأحدث من نوعه في «الحياة».»
اعتدلَت دورثي في جِلستها في الأرجوحة الشبكية.
وقالت: «أخطر مسألة؟ هذا يعني عرض زواج. يا إلهي يا كيت، هل عاد رجل التأمين هذا إلى هنا مرةً أخرى؟»
«أيُّ رجل تأمينٍ هذا؟»
«يا إلهي، كاثرين أيتها الفاتنة المتحجِّرة القلب، وهل هناك غيره؟ اجلسي هنا بجواري على الأرجوحة الشبكية، وأخبريني كل شيءٍ عن الموضوع.»
رفضَت كاثرين قائلةً: «لا، أشكرك. إن وزني أثقل من وزنك، ولا أستطيع أن أخاطر بانكسار رقبتي بانهيار قطعة القماش الرقيقة هذه. لا بد أن أحرص على نفسي من أجله.»
«إنه رجل التأمين إذن الذي تُراعين مصالحه هذا، أليس كذلك؟ هل أمَّنتِ على حياتكِ عنده؟»
«يا إلهي، إنكِ تسيئين التصرُّف كأبي تقريبًا، لكنكِ لستِ مضحكةً مثله. أظنكِ تقصدين السيد هِندِرسون. إنه رفيقٌ مُبهجٌ للغاية في الرقص، لكن الحياة يا عزيزتي دورثي، لا تتَّبع كلها إيقاعات موسيقى ستراوس لرقصات الفالس.»
«هذا صحيح دون أدنى مناقشةٍ يا كيت، وتلك الآراء تجعلكِ جديرةً بالثناء. مَن الرجلُ إذن؟»
واصلَت كاثرين كلامها في جدية: «إنَّ نفس المرء لتطمح إلى أشياءَ أسمى من الأعمدة المخصصة للكتابة عن المجتمَعات الراقية في جريدة «نيويورك صنداي»، ومن الثَّرثرة الفارغة في قاعة رقصٍ مشتعلةٍ بالإثارة.»
«هذه نقطةٌ أخرى تُحسب لكِ يا كيت، وإني لأزداد احترامًا لكِ. فهمتُ كل شيءٍ الآن. إن هذه الكلمات الجليلة التي تقولينها لتشيرُ مباشرةً إلى كتاب «الحجر الرملي الأحمر العتيق» الذي ألَّفه هيو ميلر وإلى أعمالٍ من هذه النوعية، والآن أتذكَّر أغنيتك «عندما يعود جوني إلى أرض الوطن مع زحف الجيش». أفهم من هذا أن جاك لامونت قد وصل.»
«لا، لم يفعل.»
«لقد أرسل لكِ رسالةً إذن، أليس كذلك؟»
«لم يُرسِل.»
«يا إلهي، حسنٌ، إنني أستسلم. أخبريني عن المأساة بطريقتك.»
للإجابة عن هذا السؤال سحبَت كاثرين يديها من وراء ظهرها، وناولَت صديقتها رقعة ورقٍ كانَت تُمسكها مذ دخلت عليها. رأَت دورثي شعارًا من شعارات النبالة مرسومًا في أعلى الورقة، وكان مكتوبًا في أسفلها، وبكلماتٍ رسميةٍ للغاية، ما مؤدَّاه أنَّ الأمير إيفان ليرمونتوف يُقدِّم أحرَّ تحاياه للقبطان كِمْت؛ القبطان السابق في البحرية الأمريكية، ويطلب الإذن في التواصل المحترم الرسمي مع ابنة القبطان. رفعَت دورثي عينيها عن الرسالة، فقالَت صديقتها بهدوء:
«أترين، إنهم في حاجةٍ إلى كاثرين أخرى في روسيا.»
«آملُ ألَّا تكون مثل أخرى سبقَتها؛ إنْ كان كلُّ ما قرأتُه عنها صحيحًا. كانت هذه الرسالة لأبيكِ إذن، أليس كذلك؟»
«بلى، ويبدو أنه يَعُدُّها مزحةً كبيرة. قال إنه كان سيرسل برقيةً بمُوافقته، لكن بما أن السفينة «كونسترنيشن» أبحرَت بعيدًا، فسيُحاول الوصول إليها عن طريق الإرسال التلغرافي اللاسلكي، وسيحصل على الفتى بهذه الطريقة: إنه يَقترح أن تُلتقط لي صورٌ فوتوغرافيةٌ جديدةٌ كثيرة، وذلك كي يتمكَّن من تسليمها للمراسلين عندما يسألون عن التفاصيل. ويزعم أنه يرى بخياله عنوانًا ضخمًا مطبوعًا بالأحرف السوداء في الجرائد المسائية يقول: «أميرٌ روسيٌّ يأسِر واحدةً من أجمل بنات بلدنا»، ثم ألمح في شيءٍ من الإهانةِ إلى أنه ربما يكون الأفضل بالرغم من هذا كله عدم استخدام صورتي؛ لأنها قد لا تعزِّز الصورة المتخيَّلة عن «الابنة الجميلة» التي يتحدَّث عنها عنوان الجريدة.»
«نعم يا كيت، إنني أفهم أن مثل هذا التعامل مع موضوعٍ حيويٍّ كهذا كان أمرًا مُزعجًا للغاية.»
«مزعج؟ بالتأكيد كان كذلك! لقد زعم أنه سيُثبِّتُ هذه الرسالةَ بمسمارٍ صغيرٍ في لوحة الإعلانات في رَدهة الفندق، كي يعلم الجميعُ مدى سموِّ مكانة نزلاء فندق ماترهورن. لكنَّ أكثرَ ما يثير السخط في هذا الموقف هو أن هذه الرسالة ظلَّت قابعةً أيامًا طويلةً في منزلنا في بار هاربر. أنا متأكدةٌ تمامًا أني أوصيتُ بتمرير الرسائل إلينا، لكن، لمَّا لمْ يصل أيُّ شيء، أرسلتُ برقيةً بالأمس إلى مُستأجري منزلنا، وها قد وصلَت الآن كومةٌ كاملةٌ من الرسائل المتأخِّرة، ومعها رسالةٌ موجزةٌ من المُستأجِر يقول فيها إنه لم يكن يعرف عنواننا. سوف تُلاحظين في آخر الرسالة أن الأمير يطلب من أبي أن يتواصل معه بإرسالِ ردٍّ إلى السفينة «كونسترنيشن» في نيويورك، والآن لقد أبحرَت السفينة إلى إنجلترا، ولا بد أن جون المسكين ظلَّ ينتظر وينتظر دون جدوى.»
«أرسلي على عنوان السفينة «كونسترنيشن» بإنجلترا.»
«لكنَّ جاك قال لي إنَّ السفينة «كونسترنيشن» خرجت من الخدمة فور وصولها، ومن المحتمل أنه سيكون قد سافر إلى روسيا.»
«لو أرسلتِ إليه على عنوان الأميرالية في لندن، فستمرر الرسالةُ إلى أي مكانٍ يكون فيه.»
«وما أدراكِ بهذا؟»
«لقد سمعتُ أن هذا هو المعمول به.»
«لكنكِ لستِ واثقةً من هذا، وأنا أريد أن أتأكَّد.»
«هل تحبينه حقًّا يا كيت؟»
«بالتأكيد أحبُّه. أنتِ تعرفين هذا حق المعرفة، ولا أريد لأي سوء فهمٍ غبيٍّ أن يقع في البداية، كذلك الذي يسمح لكاتبٍ سخيفٍ بمواصلة قصته حتى الصفحة الأربعمائة من مثل هذا الهراء»، ولمسَت بإصبع قدمِها برفقٍ ذلك المجلدَ المُلقى على الأرض تحت الأرجوحة الشبكية دون ذنب.
«إذن لماذا لا تُقرين رأي والدكِ وتُرسلون برقية؟ فلستِ أنتِ مَن سيرسلها على أيِّ حال.»
«لا يُمكنني الموافقة على هذا. سوف يبدو وكأننا متلهفون على الأمر، أليس كذلك؟»
«اسمحي لي أن أرسل أنا برقيةً إذن.»
«أنتِ؟ لمَن؟»
«ناوليني هذا الكتاب الذي تَحتقرينه يا كيت، وسوف أكتب برقيتي على الورقة البيضاء الموجودة في أوله. وإذا وافقتِ على مضمون الرسالة، فسأذهبُ إلى الفندق وأرسلها في الحال.»
أعطتها كاثرين الكتاب، وأعارتها القلم الرصاص الفضيَّ الصغير الذي كان يصلصل وهو مُعلقٌ، مع حِلًى صغيرةٍ أخرى، في سلسلة حزامها. كتبَت دورثي رسالةً بعجلةٍ، وقطعَت الورقة، وناولتها لكاثرين التي قرأَت الآتي:
آلان دروموند، نادي بلووتر كلَب، بول مول، لندن. أخبِر لامونت أن رسالته إلى القبطان كِمْت تأخَّرَت، ولم تَصِل القبطانَ إلَّا اليوم. سوف يُرسَل إليك ردُّ القبطان كِمْت ضمن مظروفٍ على عنوان ناديك. رتِّب لتمريرِه إذا غادرتَ إنجلترا.
عندما انتهت كاثرين من القراءة رفعت بصرها إلى صديقتِها، وهتفَت قائلةً: «حسنًا!» مُودِعةً تلك الكلمة الوحيدة من المعنى ما يوازي في عمقه عُمقَ البِركة الصافية التي كانت تقف عند حافتها.
صبغَت الحُمرةُ وجهَ كاثرين وكأنما الشمس الغاربةُ في تلك اللحظة كانت تتألَّق أشد تألقٍ فوقه.
«إنكما تتراسلان إذن، أليس كذلك؟»
«بلى.»
«وهل هذه حالة …»
«لا؛ بل صداقة.»
«متأكِّدةٌ أنها ليسَت أكثر من هذا؟»
هزَّت دورثي رأسها.
«دورثي، أنتِ فتاةٌ طيبة؛ أنتِ طيبةٌ بالتأكيد. إنكِ مستعدةٌ لفعل أيِّ شيءٍ كي تساعدي صديقةً في مشكلة.»
ابتسمت دورثي، وقالت:
«إن أصدقائي قليلون للغاية؛ لذا فإن أيَّ شيءٍ أستطيع أن أفعله من أجلهم، لن يكون عبئًا كبيرًا على قدراتي.»
«ومع ذلك يا دورثي أنا مُقدِّرةٌ تمامًا لما فعلتِه الآن. أنتِ لم تكوني تحبين أن يَعرف أيُّ أحدٍ أنكِ كنتِ تراسلينه، ومع ذلك لم تتردَّدي لحظةً واحدةً عندما رأيتِني قلِقة.»
«في الواقع يا كيت، لم يكن ثمة ما أخفيه. إن ما بيننا لا يعدو كونه تبادُلَ رسائل عاديًّا جدًّا. لقد تلقيتُ منه رسالتَين فقط؛ واحدةً في بار هاربر بعد مغادرته بأيام قليلة، وأخرى أطول من سابقتها عندما وصلنا إلى الفندق، وقد أرسلها من إنجلترا.»
«هل ذهبَت الرسالةُ الأخيرةُ إلى بار هاربر هي الأخرى؟ كيف تسنَّى لكِ أن تتسلميها في حين لم نتسلم نحنُ رسائلنا؟»
«كلا، لم تذهب إلى بار هاربر. لقد أعطيتُه عنوان محاميَّ في نيويورك، وهم مرَّرُوا لي الرسالة هنا. لقد صدرت الأوامر للمُلازم دروموند بالعودة إلى وطنه، أصدرها شخصٌ يملك السلطة لفعل هذا، وقد تلقى الرسالة أثناء جلوسه معي في ليلة الحفل الراقص. لقد تورَّط في مشكلة مع روسيا. أُجري تحقيقٌ في المسألة، لكنه بُرِّئ. لقد رأيتُه قلِقًا نوعًا ما من استدعائه إلى أرض الوطن وأظهرتُ تعاطفي معه بقدرِ ما استطعت، ورجوتُ أن تئول الأمور كلها إلى الأفضل. استأذنني في أن يرسل لي رسالةً يُطلعني فيها على نتيجة التحقيق، ولما كنتُ مهتمةً بالأمر، أذنتُ له بكامل رغبتي، وأعطيته عنواني. كان كلُّ ما في الرسالة التي تلقيتُها يدور عن مشاركته في لجنةٍ عُقدت في الأميرالية. لقد كتب لي من النادي الموجود ببول مول والذي أرسلتُ هذه البرقيةَ إليه.»
ظهرَت في خد كاثرين غمَّازةٌ ماكرةٌ وهي تستمع إلى هذا الشرح الدقيق، وانثنى جانبُ ثغرها بأوهنِ أثرِ ابتسامةٍ يمكن أن يراه أحد. وبدلًا من أن تتغنَّى بكلمات القصيدة، قالتها همسًا:
«نحن عذراوان أضنانا الهوى.»
قاطعتها دورثي: «بل واحدةٌ فقط إذا سمحتِ.»
«مُلتاعتان وإنْ برغمِ أنوفنا …»
«واحدةٌ فقط.»
«لكننا بعد عَقْدَين من يومنا، لن نعود عذراوَين أضنانا الهوى.»
قالت دورثي متظاهرةً بالرزانة والخجل: «يُسعدني أن أُلاحظ أن الرسالة التي أرسلها الأميرُ إلى والدكِ قد أعادتكِ مرةً أخرى إلى السطح المستوي الذي توجد به كتابات جيلبرت وسوليفان، رغم أنه يجدر بكِ في هذا الوادي المُستوحَى من عالم الخيال أن تقتبسي من أوبرا «أيولانثي» وليس من أوبرا «بيشانس».»
«بالتأكيد يا دوت، إن هذا المكان قد يصلح لتجسيد الموضع الظليل بين الغابات الذي تتحدث عنه أوبرا «بايرِتس بينزانس»، سوى أنَّ البحر بعيد للغاية عنا. لنَعد إلى موضوعنا على أيِّ حال، أنا لا أعتقد أننا سنَحتاج أبدًا إلى إرسال هذه البرقية. أنا لا أحب فكرة إرسال البرقيات أصلًا. سوف أعود إلى الفندق، وسأُملي على أبي الطائش هذا كلماتٍ جادةً لا تقلُّ في الأسلوب الفخم الرسمي عن الرسالة التي تلقَّيناها من الأمير. سوف يكتب أبي العنوان على مظروفها ويختمه بالشمع، وإذا تكرمتِ بإرسالها مع رسالتكِ التالية للملازم دروموند، فلا شك أنها ستصل إلى جاك لامونت في النهاية.»
قفزت دورثي من الأرجوحة الشبكية إلى الأرض.
وهتفَت في لهفة: «يا إلهي، سوف أذهب معكِ إلى الفندق وأكتب رسالتي في الحال.»
ابتسمت كاثرين، وأمسكتها من ذراعها، وقالت:
«كم أنت عزيزة لديَّ يا دورثي! سوف أسابقكِ إلى الفندق حالَما نخرج من هذا الدَّغَل.»