ألبير كامو: الإبداع بين الحرية والأخلاق
تقديم من المترجِم
حين حصل ألبير كامو (Albert Camus 1913–1960) على جائزة نوبل للآداب سنة ١٩٥٧م، كان قد بلغ
شأوًا عظيمًا في تجربته الأدبية، ومساره الفكري والحياتي المشحون والمركَّب. فتَرِكة
هذا الروائي
الكبير والمفكر الرصين، والصحفي المكافح ما يناهز ثلاثين حولًا قضاها مُخلصًا، يخوض غمار
قضايا
عصره، لا يوفر شأنًا ويُقْدِم جَسورًا على اقتحام الزمن الثقافي والأيديولوجي، والإنساني،
بصفة
خاصة، الذي كان الغرب يتقلَّب فيه عشية الحرب العالمية الثانية، وخلالها، وعقبها، وليصبح
تدريجيًّا
أحد كبار أعلامه ورموزه النيِّرة.
إن الاستعادة، ولو الموجزة، لسيرة كامو ضرورية رغم أنها لا تروم التعريف به، فذلك
مبذول وإنْ
ببعض التعميم، وإنما لفهم المراحل الكبرى التي تَبلوَر فيها عمله من أغلب النواحي، وتَشكَّل
فِكرُه
ورؤيته للكتابة ودور الكاتب في عصره. أوَّلُها في مسقط رأسه بالجزائر، الولادة التي صاغت
حياته
التعليمية الأولى على يد أستاذه Jean Grenier الذي سيقود خطاه، هو التلميذ اليتيم، شِبْه المُعْوز،
ويفتح له الباب الأول للفلسفة بإرشاده إلى أحد كبار آبائها في العصر الحديث (نيتشه Nietzsche)، وهنا حيث
تفتَّح وجدانه، وتربَّى عنده فكر البدايات. لكن الأهم، ربما، هو ما تشرَّبه من المحيط
المزيج من هويتين وثقافتين، فرنسية وعربية، سائدة
ومسودة، وعاشَه توترًا في العلاقة بينهما لم تكن قابلة للحسم بالكيفية التي تصوَّرها
من أشاروا إلى
ما اعتبروه موقفًا ملتبسًا من الاستعمار الفرنسي للجزائر، وما عاناه، أيضًا، من أبناء
جلدته
أنفسهم، (الأقدام السوداء، Les Pieds Noirds)، الذين كالوا له اتهامًا معاكسًا. ثم ما عاناه كذلك
من بعض سوء الفهم تجاه حركة التحرير الجزائرية لاحقًا في المتروبول الفرنسي حين سيصبح
عضوًا
لامعًا في النخبة بعد أن انتقل إلى باريس على إثر فَقْده لعمله في الصحافة بالجزائر (١٩٤٠م).
مع
رفيقه باسكال بيا سيبدأ مرحلة جديدة هي التي ستتطور صعدًا لتصنع منه في الأخير الشخصية
التي نعرف،
ولا نعرف أيضًا، طالما أن صاحبها، وهو شخصية عمومية بكل تأكيد بَجَّل العزلة، واعتبرها
شرط إبداع
وحياة لكل فنان (انظر محاضرة أوبسال).
روافد وعوامل عدة أسهمت في تكوين هذه الشخصية وقادَتْها إلى ذُرى المجد. لا شك أن
الأدبي ذروتها
القصوى، غير أن كامو، كما سجَّل ذلك كُتَّاب سيرته؛ أوليفيي تود، وجان دانييل من أشهرهما،
صنع نموذج
الكاتب الصحفي، أو الصحفي الكاتب. في باريس التحق بصحيفة «فرانس سوار» سكرتير تحرير.
سنة ١٩٤٣م
ارتبط نشاطه الأكبر بصحيفة Combat رئيس تحرير لها، وهي تخوض
معركة وطنية شرسة ضد الاحتلال النازي، بعد اضطرار صديقه بيا التفرغ للمقاوَمة. لكن العمل
الصحفي لم
يصرفه عمَّا يمكن اعتباره نشاطه المركزي، ففي الوقت نفسه عمل في موقع قارئ بدار غاليمار
الشهيرة،
خلالها سيتم التعارف مع سارتر (١٩٤٤م) ليتنامى قبل أن ينتهي سنة ١٩٥٢م إلى القطيعة بعد
النقد الذي
وُجِّه إليه في مجلة Les temps modernes وقد اعتبرت أن مفهومه
للتمرد «جامد بشكل مقصود». من هذا الموقع، ومن غيره، ظل كامو يواصل كتابة افتتاحيات نارية
ومقاربة
للشئون الحامية لزمنه، يتقاطع فيها السياسي والفلسفي، بأسلوب سيصبح ملكه، متميز بالدِّقة
والتلميح والإيجاز
وتنوُّع المقاصد. بيد أن شاغله الأكبر ظل الأدب، أو بالأحرى الكتابة الخلَّاقة صناعةً
وتأمُّلًا.
ترجع بدايات كامو مع التأليف إلى سنة ١٩٣٧م لدى نَشْره لكتاب L’envers et
l’endroit عبارة عن نصوص تدور حول تِيمَتَي الوحدة والصمت، لدى الأم خاصة، ونجد
فيها الجذر الأول لأرضية المؤلف الفكرية، أتبعه بمجموعة نصوص انطباعية
Noces. وليس إلا سنة ١٩٤٢م سيبدأ عنده الجِد في أول كتاب
يطرح فيه تأملاته حول ما يسميه فلسفة «العبث» بعنوان «أسطورة سيزيف» (١٩٤٢م) Le
mythe de Sisyphe. يعقبه العمل الروائي الذي سيضمن به كامو مبكرًا مكانته
كروائي أصيل في جيل ما بعد الحرب الثانية بفرنسا، ويتحول إلى خزان لفهم وتأويل مصادر
تجربته، نعني
«الغريب»؛ L’Etranger (١٩٤٢م)، حيث نجد شخصية مارسو، بوضعه
الإشكالي إزاء فعل قتل العربي في الشاطئ الجزائري. تنتمي هذه الكتابات لما سُمي بمرحلة
«حلقة
العبث»، وهي شملت إلى ما سلف مسرحيتيه Le malentendu؛ «سوء
التفاهم»، وCaligula (كِلتاهما في ١٩٤٤م). يلي ما يُسمى ﺑ «حلقة
التمرد» تشمل على الخصوص روايته ذائعة الصيت «الطاعون» (١٩٤٧م) La peste فمسرحية «العادلون»
(١٩٥٠م) Les Justes، والإنسان المتمرد (١٩٥١م)
L’Homme révolté. بهذه الإصدارات كان كامو قد أرسى الصرح
الأكبر من أعماله رسَّخ بها قدمه في حقل الرواية الفرنسية وأبعد، وكذا في حقل التفكير
الفلسفي
والتأمُّلي عامة. ومن ورائهما اعتبر صاحب موقف من كثير من قضايا عصر في ملء التحولات
التي كان
العالَم يعرفها آنئذٍ، واستوجبَتْ عنده الرأي الخصوصي للكاتب، الأخلاقي والإنساني أساسًا.
لقد عاش
كامو مرحلة انهيار وصعود ثقافات وقِيم وأيديولوجيات، ورفض أن يبقى كما يقال في «البرج
العاجي» لا
هو ولا غيره من كبار مثقَّفي وأدباء زمنه؛ (أندري جيد، مالرو، سارتر، آرون، وآخرون كُثُر)
وهذا ما
جعله يتشبَّث بالكتابة الصحفية كوسيلة للتأثير المباشر في الراهن، ما دامت الصحافة عنده
قائمة على
«أخلاقية» معيَّنة، على خلفية المهنة، وما يتحلَّى به الإنسان في صميمه، برأيه الشجاع
وموقفه العنيد،
وتطلُّعه إلى العدالة؛ لذا لا عجب أن تسمعه يقول: «في الحرب كما في السِّلم، فإن القول
الفصل يرجع
إلى الذين لا يستسلمون أبدًا.»
سواء بين كتابته السردية، أو تأملاته وطروحاته الفلسفية، صدر ألبير كامو عن جملة
مقولات
ومفاهيم أطَّرَت تجربته ككل، وقد نَظَّر لها بنفسه قبل أن يتبنَّاها بعده دارسو أعماله،
تختصرها
مقولتان: العبث L’absurde، والتمرد La révolte. في الأولى، كما كتب معرِّفًا في «أسطورة
سيزيف»: «يُولَد العبثُ من المواجهة بين النداء البَشري وصمت العالَم.» عنده أن الإنسان
يعيش في عالَم
يتعذَّر عليه فيه فَهْم سبب كينونته، وانعدام أي جواب عن السؤال المطروح، عن المعنى الغائب
اللهم أن
يأتي من البُعد الإنساني؛ لذا يقول: «لا يقبل الإنسان العبثي أية آفاق إلهية، وإنما يريد
أجوبة
إنسانية.» ويضيف في «أسطورة …» قائلًا: «إن العبث هو الوعي الدائم عندي بوجود الشَّرخ
بين العالم
وفكري.» يتم الانتقال إلى المقولة الثانية أو نقيض أطروحة العبث؛ أي إلى «الإنسان المتمرد»
بالأفكار المبثوثة فيه، أولًا، ثم أدبيًّا مع رواية «الطاعون»، وهي عُبور نحو الالتزام،
بفكرة أن
التمرد يولد تلقائيًّا بمجرد إلغاء الإنساني وتعرُّضه للاضطهاد، وذلك في شكل ممارَسة
عملية تمكِّن من
تخطِّي العبث. وحتى وهو ينبع من القلب، فإنه لا ينبغي أن يبقى مجرَّد مبدأ، أو في حالة
فكرة، أو شعور
تلقائي، بل يتطور إلى «لحظة الثورة»، تمر هذه عنده بمراحل؛ لذا يؤمن صاحب «الغريب» بثورات
نِسبية؛
أي لا نهائية، تتصالح فيها العدالة مع الحرية، ويتحالف فيها الاقتصاد الجماعي مع السياسة
الليبرالية، وتتطلب عنده حتمًا: «نزاهة ثقافية وأخلاقية في كل الأوقات».
هذا ما أشاد به سارتر كثيرًا رغم الخلاف النظري، وفي المواقف، أيضًا، بينه وغريمه
حين كَتَب
مُنوهًا بعد رحيله العبثي في حادث سيارة: «لقد مَثَّل في هذا القرن، وضد التاريخ، الوريث
الراهن
للسلالة الطويلة للأخلاقيين الذين تُمثِّل أعمالهم ربَّما أفضل ما في الآداب الفرنسية
أصالة. لقد خاضت
إنسانيَّتُه العنيدة، الضيقة والخاصة، المُتقشِّفة والحساسة، معركة مُرِيبة ضد الأحداث
الكثيفة والشائهة
لزمانه. لكن، وعلى النقيض من هذا، فإنه بِصلابَة مواقفه الرافضة، كان يُجدِّد في قلب
حقبتنا، وضد
الأسواق، والعجلِ الذهبي للواقعية، تأكيدَ الوجود الحي للفعل الأخلاقي.»
هذه الخصلة وميزات ومناقب جليلة أخرى في شخصية ألبير كامو، يكشف عنها سلوكه الحياتي،
الذي رغم
هُوِية التمرد المعلَنة كانت تتسم بنسبة معقولة من الاتزان والخطو السديد، مع ترجيح كفة
الممكن،
وبرفض التكلُّس المذهبي (لم يستمر انتسابه للحزب الشيوعي أكثر من سنتين، ١٩٣٣–١٩٣٥م)،
مع إيلاء قيم
العدالة والحرية والأخلاق صدارة نهجه، ومبحث أبطال رواياته ومسرحياته. هكذا كتب افتتاحية
في أول
عدد من Combat يصدر بعد تحرير باريس (٢١ أغسطس ١٩٤٤م) بعنوان «من المقاوَمة إلى الثورة» قال فيها
على الخصوص: «إن هذه الولادة الرهيبة لهي ولادة ثورة […] وباريس التي تقاتِل هذا المساء
تريد أن
تقود غدًا. لا من أَجْل الحكم، ولكن من أَجْل العدالة. لا من أَجْل السياسة، ولكن من
أَجْل الأخلاق، لا
للسيطرة على البلاد، وإنما من أَجْل عظمتها.» وبالطبع، يبقى الأهم، الأعظم هو حصيلة النتاج
الأدبي،
العميق والمتنوِّع، والغني لغة وأسلوبًا وتخييلًا، وضَع صاحبه في قلب فورة أدبية داخل
محيطه، وسريعًا
خارجه حين تردَّد صَدى كتابته في الولايات المتحدة، وتوالى الرَّجع قويًّا بترجمة أعماله
وقد تبنَّاها
غاليمار، وأصبح كامو بنفسه صاحب سلسلة نَشر ضمنها، فاتخذ بذلك وَضْع الكاتب المرموق،
الذي وإن غدًا
أكثر التصاقًا بعالَمه الأدبي، لم يبتعد قيد أنملة عن قضايا عصره، فكان الكلَّ والفردَ
نسيج وحده
في آنٍ.
لذا قلنا في البداية بإن الرجل وقد تُوِّج بجائزة نوبل كان قد بلغ شأوًا بعيدًا في
مساره
الفكري والأدبي، ولو لم يتصيَّده الموت مبكرًا لمضى أبعد، خلافًا لمُناوئيه في الوسط
الباريسي
المُعادي له، ممن عَدُّوا مَنْحه الجائزة دليلَ وصوله إلى المحطة الأخيرة. جاء خطاب كامو
أمام الأكاديمية
السويدية ذا نبرة تاريخية وقوة كفاحية وإنسانية عالية. لم يكن خطابًا تقليديًّا بالمرة
أمْلَته
المناسَبة، ويتجاوز بعدها، بل سِجلًا حافلًا بمُجْمَل الرؤية الفلسفية والإبداعية للرجل،
وضَع فيها يده
على أخطر ما في زمانه، متجاوبًا مع ما كان متوقعًا منه، ويرد في الوقت نفسه على السِّجالات
المعلَنة
ضده، خاصة منها موقفه أو ما سُمِّي صَمْته تجاه الحرب الاستعمارية في الجزائر، وهو ابن
هذا البلد،
وكان رافضًا للعنف من أي مصدر جاء. هكذا، مثلًا، تعرَّضَت عبارته الشهيرة «أمام العنف
أفضِّل أمي على
العدالة.» لتحريف، وأصابته في مَقتل بسبب استغلال خصومه، بينما هو فاهَ بها في سياق حواره
مع طلبة
جامعة أوبسال، عقب انتهاء محاضرته (انظر النص في الكتاب). قال بالحرف: «في هذه اللحظة
هناك من
يلقي قنابل في تراموايات الجزائر. ربما توجد أمي بين الركاب، فإذا كانت هذه هي العدالة
فأنا
أفضِّل أمي عليها.»
يلتقي القارئ، في هذا التدوين، مع نصين أساسيين في حاشية العمل الفكري والنضالي وسِجِل
دقيق
لمنظومة المفاهيم الأدبية والمذاهب المُؤطِّرة لها مثل التيارات المصاحبة. وإذا كنت ممن
يعتبرون أن
مبادئ الكاتب، وهو عند كامو الفنان، توجد كما تُسْتَخلص أساسًا من صُلب عمله الفني، وليس
من فُتات
أقواله أو نصوصه الميتا-نصية، فإني أجد أن لهذه قيمتها التركيبية والمجوهرة لمجمل كتابات
الكاتب، ولمواقفه في الحياة، فضلًا عن سيرته الحميمية. وعند فنان من عيار كامو، ارتبطَت
الكلمة
لديه بانخراط واعٍ في شئون وشجون عصره، تصبح للنصوص المُوازية قدرة الإضاءة والتزويد
بأدوات تحليل
وتأويل إضافية للأعمال الأدبية، لا غنى عنها أحيانًا. أحسب أن من سيقرأ، كما قرأتُ وأفدت،
محاضرة
أوبسال، الموالية للخطاب أمام أكاديمية السويد، واللذين آثَرْنا جمعهما في هذه الترجمة
تحت عنوان
واحد لارتباط سياقهما وانسجام وتعالُق قضاياهما؛ أحسب أنه واجدٌ نفسه أمام إحدى الخلاصات
القليلة
والغنية لثقافة وأدب حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أولًا، وتركيب مفرَد للتيارات
الصاخبة
والهامسة للحقبة ذاتها، في قلبها الجدل حول الواقعية الاشتراكية، وموقف الكاتب، ووضع
الكتابة بين
أقطاب الجمال والحرية والالتزام، باختصار بين حدَّي الروح الإبداعية الطليقة وأي نَزعة
أدبية
مذهبية توجيهية. وسنرى كيف أن صاحب «الغريب» يعرض في مُحاضرة جامعة أوبسال بشمولية ونظر
ثاقب، وأقل
ما يمكن من السجالية — لا ننسى أنه كذلك كاتِب افتتاحيات، وذو قلم بتَّار — هذه العناصر
جميعها
بتفاعُل مع تاريخها وإوالياتها الخاصة، بقدر ما يقرنها بالزَّمن المعيش الذي تَبلوَرت
فيه وأنتجها
بشروط التاريخ الحي. لكن كامو، الفنان الحر، والملتزم والمُتمرِّد، أيضًا، على طريقته،
يرفض الانصياع
للشروط والقوانين، وينتصر لناموس الحرية، باعتباره الدستور الوحيد الملائم للفنان، وانطلاقًا
منه
تسن النواميس الأخرى، في مُقدِّمها أخلاقيَّاته التي ترعى مواقفه.
لنتأمل بعض الأقوال الذهبية الواردة في هذا المتن، من قبيل: «إن الفنان يُصنع من الذهاب
والإياب الدائِبَين منه وإلى الآخَرِين، في منتصف الطريق من الجمال الذي لا يمكن أن يتخلَّى
عنه
والجماعة التي لن يُنتزع منها. لهذا فالفنانون الحقيقيون لا يحتقرون أي شيء، ويُلزمون
أنفسهم
بالفَهم بدل إصدار الحكم، وهم إذا انحازوا لطرف في هذا العالَم، فليس إلَّا إلى المجتمع،
أو
بالعبارة العظيمة لنيتشه، حيث لن يسود أبدًا الحاكم بل المُبدِع، عاملًا كان أو مثقَّفًا.»
أو قوله
يعني الكتاب: «كيفما كانت نقائصنا الشخصية، فإن نُبْل مهمتنا سيتجذر دائمًا في التزامين
يصعب
الحفاظ عليهما: رفض أن نكذب حول ما نعرف، ومقاومتنا للاضطهاد.»
عديدة هي الأقوال التي سيحس معها
القارئ أنها وهي كُتِبَت نصف قرن قبل اليوم تُلحُّ بحضورها، ودلالاتها واستدعاءاتها الآن
أقوى من أي
وقت مضى، خاصَّة ما يؤكد على دور الفنان وحريته والتزامه الضمني والحر معًا؛ أجل: «…
إننا في قلب
البحر، والفنان، شأن غيره، عليه أن يُجدِّف بدوره، بدون أن يموت ما أمكن، بمعنى أن يواصل
العيش وهو
يبدع.»
أظن أخيرًا، وهذا دافعي الفعلي لترجمة هذه المادة، أن أي فنان لا يمكن أن يتخلَّى
عن دور
ريادة أفكار التنوير والتجديد في الحياة، عن مهمات الإصلاح ومناهضة كل أشكال؛ الرِّدَّة،
والاستبداد،
والإذلال لكرامة الإنسان، والتسخيف للقيم الرمزية العليا، وقد عاش ألبير كامو وكَتَب
من أَجْل هذه
القيم، التي نحن اليوم في كل مكان من العالَم، وفي عالَمنا العربي خاصة، حيث بدأ يسود
التخلي
والاستسلام والاستجداء، في حاجة لإعادة ربط الصلة معها، والاستنارة بها، وإثارتها مجددًا
في
نقاشاتنا وسِجالاتنا، أيضًا، فهي ضرورية إبداعيًّا وأخلاقيًّا، وقَمينة بأن تَهدي المحيط
الثقافي
الأدبي إلى سواء ذلك السبيل الذي زاغ عنه أو يكاد، وعلى الله قصد السبيل.
أحمد المديني
باريس في ١ / ٩ / ٢٠٠٩م