وجبة إفطار مع «آندي»١
يقول شقيقي الأكبر «آندي»: «افتحي فمَكِ يا لوسي.» لكنَّني لن أفعل. أنا خائفة جدًّا، لكنَّني لن أفتحَ فمي مهما قال، ومهما بدا عصبيًّا ومهما فقد عقله.
فقدَ أعصابه صباح أمس. واليوم، رغم عنادي، لم يكن عصبيًّا جدًّا. ليس بعد، على أيَّة حال. ظلَّ لبرهةٍ يُؤرجِح ملعقتَه تحت أنفي كما اعتاد أبي أن يفعل حين كنت طفلة. لكنه حين وجدني ما زلت أرفض الطعام، لم يثُر عليَّ ولم يَضربني. فقط يتوقف عن أرجحة ملعقته. بعد ذلك يهزُّ كتفَيه استنكارًا ثم بدا حزينًا، كأنني خيَّبتُ رجاءه. يهزُّ رأسه ويسحب الملعقة بعيدًا عن وجهي ويقول: «سوف تُغيرين رأيك يا «لوسي لوكيت»، سوف تنصاعين.»
لكنه مُخطئٌ. لن أفعل.
يواصل «آندي» إفطارَه. لا أريد أن أشاهد ذلك. أنظر إلى الأشياء الأخرى بدلًا من ذلك. أرقب البقع على الطاولة، موقد الطعام، الثلاجة، خزائن الأكواب بأقفالها الجديدة الضخمة. «آندي» حوِّل مطبخنا إلى فوضى ولخبطة عظيمة. وفعل الشيء ذاته في كافة أرجاء المنزل، ملابسه وكتبه وأوراقه في كل مكان. الوحل على الأرضية من حذائه الطويل، صحون الأمس ملقًى بها في الحوض كما تلقى النفايات، وفي الركن جوار الباب الخلفي بوسعي أن أرى زوجًا من جواربه المتسخة.
أكره حال الفوضى تلك. حين كان أبي هنا، كنا دائمًا نحافظ على البيت نظيفًا منظَّمًا، وشديد الأناقة. أحبه هكذا. لو سمح لي «آندي»، سوف أقوم بتنظيف كلِّ شيء فورًا، في هذه اللحظة تحديدًا، لكنني أعلم أنه لن يسمح لي. وإذا فعلت ذلك بغير موافقته، فسوف أقع في مشكلة ضخمة.
الساعة بطيئة جدًّا. أحدِّق فيها وأحاول أن أجعل العقارب تمشي أسرع. أريدها أن تأتيَ على الوقت الذي يخرج فيه «آندي» إلى العمل. الوقت الذي أصبح فيه نفسي. حين أكونُ نفسي سوف أكتب في دفتر مذكراتي من جديد.
أجعل عينيَّ تخرجان من البؤرة وأُحاول التفكير في لا شيء، غير أنني لا أستطيع. أفكر في الوقت، في ساعات الحائط وساعات اليد وكيف يُمكن أن نشاهد الساعة. أبدأ في التفكير في الطعام، وبعدها لا أستطيع التوقُّف.
يقول «آندي»: «اللعنة!» فيجعلني أقفز. أنظر إليه فأراه وقد أسقط بعض الطعام مع اللعاب جوار ذقنه. ثمة بقعة مبتلَّة فوق قميصه، لا أريد أن أرى أيًّا من ذلك، أنظر بعيدًا.
أتمنى لو لم أكن جائعةً إلى ذلك الحد. أنا جائعةٌ كما لم أكن في حياتي كلها.
أرفعُ كأسي وآخذُ رشفةً فتُصدرُ معدتي جلبةً أثناء نزول الماء. يسمع «آندي»، ورغم أنني لا أنظر إليه، لكن بوسعي أن أشعر بابتسامته العريضة. هو يحسب أن صريرَ معدتي يعني أنني سأفعل ما يُريد. يظن أنني سرعان ما سأشاركه إفطاره، لكنني لن أفعل. رغم أني لم آكل أيَّ شيء منذ مدة طويلة، أيام وأيام، ورغم أنني في طريقي لأبدو مثل هؤلاء الأطفال الأفارقة الذين تراهم في التليفزيون يتضوَّرون جوعًا، لكنني لن أشارك «آندي» إفطاره. إلى الأبد. أنا مثل ذلك الرجل البدين فوق الدراجة البخارية، الرجل الذي غني تلك الأغنية التي اعتاد أبي أن يُحبَّها: «بوسعي أن أفعل أيَّ شيء من أجل الحبِّ.
لكنَّني لن أفعل ذلك.»
أتمنَّى أن يأتي وقت ذهاب «آندي» إلى العمل. أتمنى ذلك جدًّا، جدًّا.
الثلاثاء
مفكرتي الحبيبة. لم يَضربني هذا الصباح، لكنه يكلم نفسه كثيرًا. ليست كلمات منطقية، بل تلك الكلمات المصنوعة التي يستعملها أحيانًا. يفعل ذلك أكثر وأكثر منذ أن مات أبي، وهذا مُخيف. هو يصيح ويتوعد ويسبُّ كثيرًا أيضًا.
يفحص كلَّ مزاليج الخزانات مرتَين قبل خروجه إلى للعمل. وكان اشترى قفلًا جديدًا، قفلًا أكبر للثلاجة. وبينما كان يُركِّبُه أخبرني أنني أصبحتُ جلدًا على عظم، وتظاهر بالقلق الشديد. ثم الآن، بعد أن حبسني في غرفتي، قال الشيء الذي أرعبني جدًّا. وقف في الخارج وقاله بصوتٍ عالٍ، من خلال الباب.
قال: «تَعرفين ماذا يجب عليك فعله يا «لوسي»، لن تبرحي الغرفة الآن، لن تبرحيها حتى وقتٍ مُتأخِّر جدًّا.»
كان يُصفِّر وهو يغادر المنزل. سمعت الشاحنة تدور ورأيته يقودها إلى أسفل الطريق. والآن، أنا وحدي من جديد. وحدي تمامًا.
لا يُزعجني أن أكون وحيدة، لكنني أكره أن أُحبس هكذا. حين أُسجَن على هذا النحو أشعر أنني على وشْك الجنون، وذلك حين أفكر أنني لن أعيش طويلًا. عيد ميلادي الشهر القادم، لكن إذا لم أخرج من هذه الغرفة بشكل أو بآخر، وإذا لم أجد شيئًا آكله، أعتقد أنني لن أصل السادسة عشر.
السادسة عشر
يقول «آندي» أحيانًا: «ترقَّبي يا «لوسي لوكيت، السادسة عشر على الأبواب.»
سوف يَلمسني حين يقول ذلك، إلا إذا رأيته قادمًا فأنسحب سريعًا. أكره أن يَمسَّني.
يقول: «سن الرشد، قريبًا جدًّا.» ثم يضحك ضحكته المقرفة.
أعتقد أنني ربما لا أودُّ أن أبلغ السادسة عشر. أظنُّني لا أريد أن أصل إلى السن القانونية.
الأربعاء
يومياتي الحبيبة. أمس كان يوما طيبًا. يومًا مُهمًّا. وجدتُها! وجدت طريقة للخروج من غرفتي.
ما فعلته هو التالي:
انتظرتُ حتى خرج «آندي»، تسلقتُ خارج النافذة، دسستُ أصابعي في الفجوات بين قوالب الطوب. تحرَّكت بمحاذاة الحافة حتى الماسورة الضخمة في زاوية البيت. كان شيئًا خطرًا لأن غرفتي مرتفعة جدًّا، وتألَّمت أصابعي جدًّا، وكدت أسقط مرتين، لكن، كان لا بدَّ أن أفعل ذلك.
بمجرَّد وصولي إلى الماسورة كان من السهل أن أهبط للأسفل. ذهبت رأسًا إلى شجرة التفاح الكبيرة وأكلت ثلاث تفاحات. كنت أرغب في المزيد لكنني أرغمت نفسي على التوقُّف بعد الثالثة مخافة أن أُصاب بالإعياء. بعدها ذهبت للنظر داخل السقيفة. الأغراض التي أردت كانت ما تزال هناك. الحبلُ كان مخبَّأً وراء بعض الصناديق، لذلك لن يلحظ «آندي» غيابه إلا إذا احتاجه، وهذا احتمالٌ ضعيف.
لم آخذ كل صندوق السمِّ قاتل الأعشاب الضارة. فقط أفرغت بعضًا من مُحتوياته في منديلي، ثم ربطته في حزامي. كنت مرتعبة من أن يعود «آندي» مبكرًا ويُمسك بي، لذلك خبأت تفاحتَين أخريين في جيبي، ربطت الحبل في كاحلي، وتسلقت عائدةً إلى غرفتي. كدت أسقط مرةً أخرى، لكنني لم أسقط، والآن والحبلُ لديَّ، بوسعي الخروج والدخول وقتما أشاء.
خبأتُ الحبل والسمَّ تحت إحدى بلاطات الأرضية المفكوكة. لو اكتشف الذي أفعله أعتقد أنه سيقتُلني.
الخميس
يومياتي العزيزة. اليوم على الإفطار كنت خائفة حقًّا أن يلحظ «آندي» الاختلاف. فكرت أنه ربما يُوجد مذاقٌ لاذعُ أو شيء من هذا القبيل. راقبته جيدًا، كان مسرورًا لأنني أراقبه، لكن يبدو أنه لم يَلحظ شيئًا. أظنُّ أن خُطَّتي قد تنجح.
وأنا أشاهد «آندي» يأكُل اليوم، تذكرت الصباح الذي رأيته فيه يأكل ملعقته الأولى من جسد والدِنا. بدا ذلك منذ أمد بعيد. كأنه شهر تقريبًا، كان يجب أن أبدأ في الاحتفاظ بك مبكرًا يا مذكراتي.
كان يومًا مشمسًا، ليس ممطرًا مثل الآن، أتذكَّر حين نزلت لتناول الإفطار، وكان «آندي» قد جلس بالفعل على السُّفرة. بدا وكأنه ظلَّ ينتظرُني. بدا مُتوترًا.
قال: «اليوم، هذا هو اليوم يا لوسي الصغيرة.» وأجلسني جواره. ثم جعلني أشاهده وقد شرَع في أكل أبي.
كان يتحدث عن اشتغاله على الأمر لأسابيع، منذ ذلك اليوم الذي أحضرنا فيه جرَّة رماد الوالد من محرقة الجثث. أمطرت في ذلك اليوم أيضًا، وصرختُ طويلًا. وضعنا الجرَّة على رفٍّ عالٍ في المطبخ، وبعدها أقام «آندي» احتفالًا صغيرًا بالشموع ونحوها. كان يتظاهَر بأنه يقرأ مادةً في كتاب، مادةً بلغة هزلية، غير أني أعتقِد أنه اختلق اللغة.
ذاك الحفل كله كان فكرته هو. بدأَ كلُّ شيء على ما يرام لكن سرعان ما غدا الأمرُ بشعًا. لم أُرِد أن أشارك، لكنه أرغمني، وبعد ذلك اضطررتُ إلى الذهاب إلى التواليت للتقيُّؤ. وحين دخلت فراشي في الليل، أتى إليَّ وأخبرني ماذا يَنوي أن يفعل. ماذا سيفعل بأبي. أخبرني بالخُطَّة.
قال: «إنها مادةٌ مهمَّة يا لوسي، إنه الشيء الذي فعله الناس في العصور القديمة، قبل المسيح وقبل كلِّ شيء. حين كانوا يعيشون في الكهوف ويَصطادون الحيوانات المتوحِّشة بالرماح. إنها تعطيك القوة. تُحوِّلك إلى كائنٍ خاص متميز.»
بعد ذلك وبعد أن أنهى عبثه معي، قال: «أريدكِ أن تكوني شخصًا مميزًا أيضًا يا لوسي.»
في البدء، ظننتُ أن الأمرَ كلَّه مجردُ كلام. أنتِ تعرفينني يا مُذكراتي. فأنا غبيَّة. أسيء فهم الأمور أحيانًا. لكنَّك تعرفين «آندي» أيضًا، تعرفين كيف يكون. يُمكنك أن تدركي كيف وقعتُ في غلطة كتلك. «آندي» يتكلَّم كثيرًا. وُلدَ تحت فألٍ سيِّئ، أبي اعتاد أن يقول إنه ملعونٌ بلسان أنشط مما يَنبغي. يقرأ تلك الكتب، يُكوِّن تلك الأفكار، ثم يتكلَّم ويتكلَّم ويتكلم حتى تضطر إلى الخروج من البيت من أجل نزهة حول النهر لإطعام البطِّ وما شابه. لأنك لو لم تفعل، فمن المحتمَل جدًّا أن ترتكبَ شيئًا شريرًا. ربما تأخُذ سكين تقطيع اللحوم الحادَّة من دُرْج المطبخ وتطعنه في قلبه، ربما تقتله.
كنا نتكلم، أبي وأنا. كان يأخذني لإطعام البطِّ أحيانًا، كان يحكي لي قصصًا عن أمي، ويخبرني ألا أدعَ «آندي» يدخل تحت جلدي. كان يمسك يدي بلطفٍ، ليس مثل «آندي»، ينظر في عينيَّ ويبتسم. كم كان الحال أفضل حين كان أبي هنا! كان يعرف كيف يُعمِل الكوابحَ وكيف يجعلُ الأمورَ أكثر بطئًا. حين كان أبي هنا كانت الأفكارُ والأحاديث بعيدة كبُعد خطط «آندي».
لكنه رحل الآن، ولم يعد هناك من يضع الكوابح في وجه «آندي». فقط أنا.
الجمعة
مذكراتي الحبيبة. «آندي» في التواليت. وأنا محبوسة في غرفتي، لكن بوسعي سماع جلبته. آمل أن يخرج اليوم للعمل.
حلمتُ حلمًا سيئًا عن أبي الليلةَ الماضية. حلمتُ أنني عدت إلى البيت من المدرسة ووجدته ميتًا عند قاع السُّلَّم، عنقه مثنيٌّ ورأسه ملتوٍ تمامًا. «آندي» كان يجلس على الدرج ينظر بفزع، وبعدها صحوت وتذكَّرت أنه لم يكن حُلمًا. هذا ما حدث بالفعل.
بكيتُ طويلًا. بكيتُ نهرًا كاملًا. أتذكَّرُ كيف جعلني «آندي» أجلس معه على الدَّرج وأنظرُ إلى الأسفل حيث أبي، وكيف كان يفتعلُ ضجيجًا هزليًّا، وكيف أنه لم يَبكِ. ربما لم يبك لأن أبي كان يضربه أحيانًا. ربما كان ذلك هو السبب. لا أدري.
بعد بُرهة راح إلى الهاتف وكلَّم بعض الناس.
أتذكَّر كيف جاءت سيارة الإسعاف وأخذت أبي. وضع «آندي» ذراعيه حولي وأمسكني لمدة طويلة. ربما لساعة أو نحو ذلك.
قال: «لوسي، لم يعد هناك غيرك وغيري الآن.»
وكان على حق، لأنَّ أحدًا لم يأتِ لزيارتنا بعد ذلك. كنت أحب أن أسكن على بعد أميال من أي مكان قبل أن يموت أبي، قبل أن ينزع «آندي» الهاتف. أكره ذلك الآن. الأشياء حولنا أصبحت عبثية منذ ذلك الحين. ليسَت عبثية بمعنى ها – ها، بل شاذَّة العبث.
لا أظن أن «آندي» افتقدَ أبي، ولو قليلًا، لكنني أفتقده. أفتقده بشدة. أبي الآن مجرَّد حفنة رماد في جرَّة، وإذا أخفقتْ خُطَّتي أعرف أن «آندي» سيستمرُّ في التهامه كل يوم، ملء ملعقة من جسد أبي كل صباح. ويومًا ما سيفنى أبي تمامًا. سوف يغدو مجرَّد جرَّة فارغة فوق رفِّ المطبخ.
ذهب آندي إلى العمل. شاهدته يَمشي صوب الشاحنة. لم يكن على ما يرام.
السبت
يومياتي الحبيبة. هذا الصباح نزلت للإفطار وكان «آندي» جالسًا هناك إلى طاولة المطبخ. بدا مريضًا جدًّا ومعتوهًا جدًّا. أشفقتُ عليه، تقريبًا.
همسَ: «لوسي الصغيرة … لوسي لوكيت الصغيرة.»
كنت أحب أن يُناديني هكذا. جلست إلى الطاولة.
كان انتهى من إعداد مكونات صحنه الخاص من «الكورن فليكس»، السكر، زجاجة الحليب، لكنه لم يملك القوة لفتح غطاء جرَّة أبي. ذهبت إليه وفتحتها له. نظر إليَّ وتدلَّى فكُّه مَفتوحًا.
سأل: «هل تُشاركينني؟»
أجبته: «لا، لكنني لا أمانع أن أساعدك.»
بدا سعيدًا إلى حدٍّ ما. كان لا بدَّ أن أوقف نفسي من الشعور بالتعاطف معه.
أغمد «آندي» ملعقته في جرَّة أبي، وقتها بدأت كل ذرَّة من طاقته تتلاشى، ولم يستطع إخراج الملعقة ثانيةً. راح يبكي.
قال: «أنا آسف أني حبستك في غرفتك، أنا آسف على الكثير من الأشياء يا لوسي. ساعديني أكثر من فضلك.»
مددتُ يدي، جذبت الملعقة ورششتُ خليطَ رماد أبي مع سمِّ الأعشاب فوق صحن «الكورن فليكس» الخاص بآندي. ثم أضفت السكر واللبن. ابتسم لي «آندي» بامتنان.
بعد برهةٍ، بدأت أطعمُه بنفسي.