اللغةُ غير مقدسةٍ مثل شجرة الميلاد١
حين سألتني فاطمة ناعوت هذا السؤال أجبت كالتالي:
لكن يبدو أن هذا الرد لم يَرُق لها؛ إذ قالت: هذا هو جون الكاتب، من هو جون الإنسان؟
أُخفق دومًا في الكلام عن نفسي، غير أنني سأُحاول باختصار أن أرصد حياة هذا الشخص. ولد في إنجلترا عام ١٩٥٤م. ذهب إلى المدرسة ثم أصبح معلمًا، تزوَّج وعاش حياةً تقليدية حتى عام ١٩٩٤ حين قرَّر أن يُحاول في مجال الكتابة. كانت تلك نقطةَ تحوُّل في حياته.
كتابة القصِّ تتطلَّب قدرًا كبيرًا من اختبار النفس. وعبر عملية الكتابة أفترض أنني تعلَّمت العديد من الأشياء عن نفسي، نوازعها وسماتها، تلك التي انعكست بجلاء على مَضامين أعمالي.
تأثرتُ عميقًا بمصرع شقيقتي في حادث سيارة حين كنت في الحادية عشرة، وأعتقد أن هذه التجربة أدَّت بي إلى التحفُّظ على العقيدة الدينية. لديَّ اهتمام قوي بالعالم المادي، في محاولة لفهم كيف جاء هذا الكون المُدهِش الذي نحياه وكيف يعمل. أخضع لنزعتَين مُتوازيتَين: ولعٍ شديدٍ بلُغز الإنسان، ورغبة شديدة في فهمه. أومن أنني، واعيًا أو غير واع، أستكشف تلك النوازع في قَصِّي.
حين لا أكون في حال كتابة، أستمتع بتمضية الوقت مع زوجتي ومع أصدقائي. ومثل كل الكتَّاب، أقرأ كثيرًا. ومنذ أصبحت مشاركًا في تحرير مجلة «كادينزا» غدا عليَّ مطالعة عدة أكوام من القصص القصيرة يوميًّا مما تَرِدُ للنشر في المجلة. هذا يضعني في دائرة تواصُل مع الكُتَّاب بشكل حميم، وهو نوع من العمل أراه مُثريًا ومفيدًا للغاية.
ولقارئي العربي أقول:
قبل لحظة من جلوسي إلى مكتبي لأجيب عن هذا السؤال كنت في نزهة بالخارج مع كلبي حول بحيرة على مقربة من بيتي. إنه صيف إنجلترا، حيث سياج الشجيرات حيٌّ بأعشاش الطيور. يخطر على بالي الآن سؤال حول مدى اختلاف بيئتي المحيطة عن بيئتكَ بمصر، وكيف أنه من المدهش أن أتواصل معكَ مخترقين حواجز اللغة والجغرافيا! أتمنى أن تستمتع بقراءة مجموعتي هذه. وأشكر المترجمة أن أوصلت كلماتي إليك وإلى عدد أكبر من المتلقِّين.
سؤال مثير. ربما أقول إن كل كاتبٍ يسحب من رصيد خبرته في الحياة لتَغذية مادته القصصية. لذا ربما تُوافقينني أن ثمة مفردات من الواقع وأخرى خيالية في كل قصة. في تجربتي الشخصية تجدين بعض القصص معتمدة بشدة على حياتي الخاصة، «سهرة مع الأم» نموذج لذلك، غير أن بعضَها ذو روابط أوهن مع الحياة الواقعية.
أَعتقد أن مراقبة العالم أمرٌ أساسيٌّ ومُنشِّط للفكر. حين نكتب سردًا، نحاول أن نوهم القارئ أن ما يقرؤه يحدث بالفعل ويحتلُّ مكانًا ما من العالم. كي نجعل ذلك العالم «الوهمي» يبدو حقيقيًّا، نستعير مفردات عادية وحقيقية من عالَمنا ونفيد منها في العمل، فتبدو حقيقية حين يَجدلها القارئ مع تجربته الخاصة. لذلك فمراقبة العالم بدقة من قِبَل الكاتب تساعد قارئه على «تسكين» القصة موضعًا ما من الحياة.
أخشى أن معظم القراء الإنجليز على غير دراية بالأدب العربيِّ بشكل عام. أشعر بالخجل أن أعتبر نفسي ضمن تلك الشريحة.
أعتقد أن هذا يعتمد على حالتي المزاجية. ثمة أوقات أجلس فيها للكتابة، ويكون الفضاء الخارجي معتمًا، تلك القصص تتمحور حول الموت أو الفقد بشكل عام. في أوقات أخرى، أُنتج أعمالًا أكثر إشراقًا، أو حتى أعمالًا هزلية مثل «حكاية الجنِّيَّات». أزعم أن أفضل قصصي هي تلك التي تميل للعبوس.
إذا كنتِ تقصدين ﺑ «رسالة نحو العالم» أن تسألي عما إذا كنت أعتقد بأن الأدب يجب أن يقول شيئًا ما، أو يجب أن يُحمَّل بدلالة ما، فالإجابة نعم. لا ضير مطلقًا من الكتابة من أجل المتعة وحسب، لكنَّني كقارئ أحتاج أكثر من ذلك. أحتاج أن يكون للقصة شيء من الثِّقل، شيء من الرؤية، شيء من المغزى. وككاتب، ذاك هو القص الذي أسعى لكتابته. القصص الممتعة وحسب سرعان ما تُنسى، لكن القصص التي تقول شيئًا عن الإنسان وشرط الحياة ربما تدوم معك إلى نهاية الحياة.
هذا يتوقَّف على كيف تأتيني فكرة القصة. أحيانًا تكون بذرة القصة هي «الموقف» أكثر منها «الشخصية». أعمل الآن على قصة تعتمد على الموقف. البطل بدأ في سماع أصواتٍ داخل رأسه، حين واتتْني الفكرة، لم يكن لديَّ شخصية بعينها في رأسي، وتتخلَّق الشخصية بالتدريج حين أبدأ في طرح الأسئلة على نفسي. بدأت بنوعها واخترته أنثى، ثم العمر وكان ١٤ عامًا. لكن مع تحرك العمل إلى الأمام، وجدت أن الأحداث ستتواءم أكثر لو كانت الشخصية ذكرًا بالغًا. وهكذا تتخلَّق الشخصية بالتدريج إذا كانت القصة تتكئ على الموقف أو الحدث. غير أن أحوالًا أخرى تكون فيها بذرة القصة هي الشخصية ذاتها التي تقفز فجأة إلى رأسي مكتملةً تقريبًا. تكون تلك الشخصية قد تولدت من شخص ما قابلته في الطريق، في الحُلم، أو من الذاكرة. ما عليَّ فعله حينئذ هو خلق الموقف الذي من خلاله تخرج تلك الشخصية للحياة لتقول شيئًا يستحق أن يقال.
كادينزا تعنى بتقديم الأدب القويِّ مهما كان مصدره. سوى أنها لا بدَّ أن تظهر بالإنجليزية؛ لأنَّ قراءها ومحرريها جميعًا من الناطقين بالإنجليزية.
تجربتي في العمل الصحافي مقصورة على تحرير المجلَّة، وأؤدي ذلك العمل في المنزل. أي ليس عليَّ أن أذهب للمكتب كل يوم. لكن على أية حال التحرير عملية مُستهلكة للوقت جدًّا، أنا واعٍ تمامًا أن إبداعي لم يَعُد يأخذ الانتباه الكافي الذي اعتاده من قبل عملي في الصحافة، لذلك أتفق معك تمامًا.
أعتقد أن الناس عادة يَنسَون أننا ننتمي إلى عالم الحيوان أيضًا. أنا أحب الحيوان، ونعم، أومن بأن ثمة روابط عميقة بين الإنسان والحيوان من شأنها خلق إبداعٍ مختلف.
عادة حين أشرع في الكتابة، أعمل على شحن القارئ بخبرة انفعالية ما. أومن أن ذلك أحد أهم الأسباب التي من أجلها يقرأ الناس القصَّ. لذلك، نعم، أفكر في أثر ما أكتب على مشاعر قارئي. وحتمًا فإن الطريقة الوحيدة لفعل ذلك هو استجلاب واستجماع انفعالاتي الخاصة، وأعتقد أن ذلك هو السبب في أن الكتابة كثيرًا ما تكون شاحذةً للعاطفة. بين حين وآخر أجد نفسي أبكي فيما أكتب. حين يَحدُث ذلك فتلك إشارة على أنني وقعت على شيء قد يُحرِّك القارئ أيضًا.
أعتقد أن تلك العين يمكن أن تفيد كثيرًا. قال ريموند كارفر ذات مرة: «من الجائز، في القصيدة أو القصة القصيرة، أن تكتب عن الأشياء التافهة أو العادية مستخدمًا لغةً عادية ومألوفة لكن دقيقة ونافذة، يمكنك أن تشحن تلك المألوفات: الكرسي، ستارة الشُّرفة، الشوكة، الحجر، قرط المرأة، بطاقةٍ مُذهلةٍ وهائلة.» أتفق مع ذلك التوجُّه تمامًا وهو الذي أجتهد أن أصنعه في قصصي.
على الكتَّاب أن يجوبوا طرقًا وعرة صعبة المسالك. أي كم من الفكر وهبْناه للقارئ؟ كم من الجهد جعلناهم يبذلون حتى ينكشف لهم العمل؟ ولأننا لا يُمكِن أن نعرف كل قرائنا شخصيًّا، ربما بدا ما نقوله أكثر مما يَجب لبعضهم، بينما يكون أقل مما يجب لآخرين. هذا شيء آخر يجعل من الكتابة عملية معقَّدة.
نظرة الشعب الإنجليزي إلى العرب تَعتمِد بشكلٍ أساسيٍّ على: عمن تتكلَّم. الكثير منهم يُدركون أن ما يحدث في العالم من إرهاب مثل تفجيرات لندن الأخيرة هو نتاج لأسباب مُركَّبة ومعقدة سياسيًّا واجتماعيًّا وتداعيات مباشرة لسياسات عدم المساواة في العالم. البعض الآخر، بكل أسف، يتمنَّى ببساطة أن يُزيح هؤلاء البشر الذين باتوا يرون فيهم «العدو» المهدِّد لحق الحياة.
لم أَحصُل على ردود فعل كثيرة عن «أحلام أسامة» تحديدًا ربما لأنها حديثة الكتابة. أذكر أن قارئًا أمريكيًّا قال إنها «تبسيط للقضية»، لكن قارئًا عربيًّا قال إنها أعطته رؤية كاشفة تظهر تعقُّد الحال وتأزُّم أزمة الإرهاب لدى الغرب. باستثناء قراءتك لم أحصل، حتى الآن، على ردود فعل سوى هذين.
من جديد يعتمد هذا على الشخص وطريقته في التفكير وتناول الأمور، وعلى مدى معرفته بالمجتمع العربي والإسلامي. معظم الشعب الإنجليزي الأبيض يَعلمُون أقل القليل عن العقيدة الإسلامية رغم أن مُسلمين كثيرين الآن يَحيون في المملكة المتحدة. القسم المتعلِّم من الإنجليز يفهمون جانبًا من الوضع على صورته الصحيحة، لكن القسم الأعظم من الشعب الإنجليزي يشعر أن القليل جدًّا من المسلمين يُمكن الوثوق بهم. «توني بلير» رئيس الوزراء كان يتكلَّم أمس مع بعض القيادات الإسلامية حول البحث عن طرائق لمدِّ جسور الوعي بالآخر من أجل رأب صدع التباينات الواسعة في رؤية العرب من قِبَل المواطن الإنجليزي بين أقسام المجتمع المتباينة، لكن الشاهد أن الكثير جدًّا من العمل ما زال يجب أن يتم.
يجب أن أعترف أنني لم أفكر في ذلك الأمر من قبل. حتى وقت قريب لم تكن أعمالي تُقرأ سوى في أمريكا والمملكة المتحدة وحسب. غير أن مُبادرتك الطيبة، بترجمة مختارات من قصصي إلى العربية مما سيُساهم في معرفة القارئ العربي بي، سوف تجعلني أفكر فيما بعد في القارئ الأجنبي.
المغامرة في مادة الكتابة، نعم. يجب أن نتحرَّى الاحتمالات والإمكانيات الخاصة بالقص ونأتي باكتشافاتنا الخاصة من أجل متعة القارئ الذهنية. أما عن خوض المَخاطر في اللغة، فيجب أن يتم ذلك بحذر بالغ، وبعد أن يكون الكاتب مُوغلًا بعمق في قواعد وأسرار اللغة. وعن قداسة اللغة، لنقل إن اللغة مثل شجرة عيد الميلاد، علينا أن نعرف كيف نرعاها لتنمو. لا أومن بقداستها في ذاتها، أو في وجوب عدم المساس بها. لكنني أعتقد أن أية تغييرات بها لا بد أن تضيف إليها، فقط إذا «حسَّنت» الإضافات من قيمة اللغة كأداة. كثير من التغييرات تجعل اللغة أقل تأثيرًا وتلك يجب أن نتجنبها.
هذه الآونة أكتب كلَّما ساعدتني الظروف. اشتريت حديثًا كمبيوتر نوت بوك (حاسوب متنقل)، وهو أداة رائعة لأنه ببساطة يعني أنني لم أعد مُجبرًا على أن أظل مربوطًا إلى مكتبي. أجلس في الحديقة الآن وأنا أكتب، وأشاهد الشمس تُشرق خلف غيمة لوهلة. أهمية أخرى لذلك الحاسوب المتنقل أنه يجذبني بعيدًا عن الإنترنت وعن بريدي الإلكتروني. اكتشفت أنني كنتُ أمضي الساعات داخل الإنترنت بغير أن أكتب حرفًا! أما عن كم من الوقت تأخذني القصة فلا إجابة محددة على ذلك. بعضها يأتي في يوم أو يومين، والبعض ربما يستغرق شهورًا.
أحبُّهم جميعًا. لكن عادة الأحدث هي الأقرب إلى قلبي ربما لفترة، لذا فإن تلك التي أنا بصدد تسلُّمها في لندن مع سبتمبر القادم هي الأعز وهي جائزة «كاتب هذا العام». كم أنا فخور أن قرأتِني يا فاطمة وسعيدٌ أن جعلتِ القارئ العربي يقرؤني.