أحوال المادة١
نجلس على الشاطئ سويًّا، الرجلُ العجوز وأنا، نُحدِّقُ بعيدًا صوب البحر. النوارسُ تُحلِّق في دوائرَ فوق رءوسنا، تصرخُ كما تفعلُ النوارس عادةً. ملاعين كبار، أكبر حجمًا وأعلى صخبًا من النوارس التي تحملُها ذاكرتي من أيام العطلات، حين كنت طفلًا.
يُظلِّلُ العجوزُ عينيه بيده ويقول إنه يستطيع أن يرى السفن في البعيد.
أنظرُ، محاولًا ألا أُفكِّرَ في «ماري»، محاولًا ألا أتذكَّر الماءَ في شَعرِها، في فمِها. سوى أنني أتذكَّر كلَّ شيء على أية حال.
أسألُه: «أية سفُن؟»
يهتفُ صوتٌ في رأسي: «المجيء إلى هنا كان غلطةً، يجب أن تبقى بعيدًا عن البحر.»
أعلمُ. لكنني لا أستطيع. لم أعدْ أستطيع أكثر من ذلك.
يقول العجوز: «ثلاثٌ منها، ما زال أمامها طريق طويل حتى تخرج، كنتُ بحارًا فيما مضى يا «جاك»، لي عينٌ مدرَّبةٌ!»
أمسحُ الأفقَ بعيني بحثًا عن سفن العجوز، سوى أنني لا ألمح شيئًا.
فيما أبحثُ أسمعه يسعل، يتنخَّع ويبصق بعض البلغم على الرمال. مرَّت خمس دقائق، ربما عشر، منذ فعلَ الشيءَ نفسَه آخر مرة. أرمقُ البصقةَ المختلطة. الآن بها دمٌ أقل.
يقول: «هل ترى ذلك؟»
– «نعم، إنها إشارةٌ طيبة.»
يومئُ موافقًا، يربِّتُ على فمه، ثم تغوص يده عميقًا في طيَّات معطفه المبقَّع المجعَّد. يجذب شيئًا من جيبٍ داخلي، يضعه على كفِّه، ثم يرفعه عاليًا أمامي كي أراه.
يسأل: «هل ترى هذا؟»
مدى إبصاري ليس قويًّا لرؤية السفن، وهو أسوأ حتى من أن يرى الأشياء القريبة. أُلقي نظرةً جانبية، شيءٌ يشبهُ القنينة. قنينة زجاجية بالغة الصِّغر. أمدُّ يدي، لكن العجوز يغلق كفَّه ثم يهز رأسه.
– «انظرْ وحسب يا «جاك». لا تَلمس. مثلما تفعل مع النساء وراء الفاترينات.»
اسمي ليس «جاك»، غير أن العجوز ظلَّ يُناديني هكذا منذ التقينا، كل شيء كان منذ ساعة. ليس مهمًّا بمَا يُناديني. «جاك» سوف تفي بالغرض. إنه اسمٌ أفضل من كثير من معظم الأسماء، اسم أفضل مما أستحق.
أتزحزحُ، مجرجرًا قدمي على لوح الخشب الذي نتقاسمه حتى صرتُ لصيقًا به، ساقي اليسرى ضغطت بقوة على ساقه اليُمنى، إحدى طيات معطفه بيننا. رائحته الكريهة تجعل تنفُّسي سريعًا وغير عميق، لكنني لم أعدْ مُميزًا كما تعودت أن أكون. كل من أعرفهم هذه الأيام ينشرون رائحةً كريهة. أنا أيضًا لي رائحة كريهة. كما تقول الأغنية، «بالفعل لم يعد أي شيء يهم».
– «هل تراها؟»
شفتاه مُتورمتان بسبب الركلة التي أخذَها. صوته مثل نعيق الغراب.
أنحني تجاهه، أنفي على بُعدِ ستِّ بوصات تقريبًا من رأسه.
القنينة تُشبه الأخرى تمامًا. الأخرى التي سرقها الأولاد. ملأى بسائل أصفرَ داكن.
قلتُ: «نعم، أراها، ماذا بها؟ ويسكي؟»
أبدو ممتلئًا بالأمل، يُقهقِه العجوز بصوت يشبه صوت الدجاج.
– «ويسكي؟ لا. كان فيما مضى. لكنه لم يعدْ كذلك!»
أهزُّ رأسي. لا أحبُّ أن أبدو مُحبَطًا، لكنني كنت كذلك، العجوز لاحظ ذلك.
قلتُ: «ماذا عن الأخرى؟»
يسعل ويبصق ثانيةً. لا دماءَ تقريبًا هناك هذه المرة.
– «كلا. لا ويسكي هناك أيضًا. الأوغاد الصغار. اللصوص».
الولدان اللذان قفزا عليه وخطفا القنينة الأخرى ذهبا بعيدًا جدًّا. لا يمكن أن يكونا قد تخطَّيا ثلاثة عشر أو أربعة عشر عامًا بحال. لم يَرياني ناعسًا وراء كثبان الرمال، أحلم بالأمواج، لم يَعرِفا أنني هناك إلى أن وجدا يديَّ فوقهما.
الولد الأصغر كان أقرب؛ نموذج قبيح برأس مَطليٍّ بالأزرق وخاتم معلق من أنفه. كان بالفعل قد ركَّز وعقد العزم على وجه العجوز، أرجعَ قدمه ذات الحذاء الطويل للوراء، تأهبًا لتصفية الرجل بركلةٍ. قبضتُ عليه من الخلف، أمسكت بالخاتم وجذبته عَنوة مُمزِّقًا أنفه. صرخ بحدة عاليًا مثل خنزير صغير، كوَّرَ كفَّيه صانعًا بهما كأسًا يجمع دمه النازف من الأنف.
الصبي الآخر كان حوضًا من الشحم، وكان وجهه قد غدا رخوًا من الرعب.
أمسكت بالاثنين من شعرهما وصفقت رأسَيهما معًا بعنف. ليس بأقصى قوتي، لكن بما يَكفي من قسوة.
كان العجوز يتأوَّه ويئن. تدحرج على جانبه، ارتكز على يده، ثم نهض.
نظرت إلى الولد البدين، رفعت حاجبيَّ، وتقدَّمت إلى الأمام. ارتعد الولد وهرَب ناحية كثبان الرمل، قابضًا على قنينة العجوز. استدرتُ صوب الرأس الأزرق. توهَّج في وجهي وحملق شذرًا، لكن لم يكن ثمة لهب حقيقي. بعد لحظات قليلة لحق بصديقه ماشيًا بظهره، صائحًا بكلماتٍ قذرة، ومتوعدًا بالثأر. نفس القذارة القديمة. لا شيءَ لم أسمع به من قبل.
ساندتُ العجوز ليقف على قدميه، وتحركنا صوب اللوح الخشبي. جلسنا ونظرت داخل فمه. سنَّتان مخلخلتان. وقطعة كبيرة من اللسان معضوضة ومتدلية من الجانب. مؤلم، لكن لا شيء خطيرٌ جدًّا.
أخبرته: «سوف تكون على ما يرام.»
كنت أشعر بالزهو والتألق، التألق بالنسبة لي على الأقل. اليوم عملتُ شيئًا مختلفًا، كنتُ مفيدًا لأحد ما لأول مرة منذ … منذ متى؟ لا أعرف، لكنه كان شعورًا طيبًا.
كانت الشمس تَميل، تغطس ناحية البحر الأزرق الهادئ. العجوز وأنا جلسنا على لوحنا الخشبي مثل صديقَين حميمَين، نتقاسم مشهد احتضار اليوم.
عندئذ أخرج قنينتَه …
قال ضاحكًا في سرِّه: «ويسكي!»
يده الخاوية تمسحُ على فمه من جديد، برهافة على شفتِه السُّفلى المتورِّمة.
«لا، ما تراه هنا يا جاك، هو كل ما تبقَّى لي من امرأتي العجوز.»
دقَّ القنينة الصغيرة بإصبعه الأصغر. الظفر مشقوق في موضعَيْن، وقذر بشكل مدهش.
سألت: «امرأتك العجوز؟»
يومئُ مُوافقًا ويقول: «ساندي.»
– «زوجتك؟»
يُصدر شخيرًا.
– «زوجة؟ اللعنة، لا. لم يكن لدينا أوراق. لكنها كانت أكثر من زوجة بالنِّسبة لي، أكثر من المرأة التي تزوجتها. عشنا سويًّا لعشرين عامًا، ساندي وأنا.»
قلتُ: «هذا زمن طيب! زمن طويل طيب.»
العجوز لا يقولُ شيئًا. أُحدِّقُ في البعيد صوب الماء، والآن غدا بوسعي أن أرى سفنه، ثلاث سفن غامضة ملتحفة بالضباب حيث تلتقي السماءُ بالبحر.
– «وإذن، ماذا حدث لها؟»
ينظر إليَّ ويحرك رأسه، وكأنه لا يستطيع أن يصدق أنني هكذا غبي.
– «إنها ماتت، ذهبت وماتت عني.» يقذف القنينة من كفه ويلتقطها بين سبابته وإبهامه. «وهذه … هذه هي كل ما تبقَّى لي منها.»
نجلس هناك، هو وأنا، كلٌّ منا مثبَّتٌ بقنينته الخاصة، كلٌّ منا يفكر في أفكاره الخاصة. أنا أفكر في «ماري»، وأتساءل عن «ساندي». ربما في حياة أخرى، في كونٍ آخر، كان بوسعنا نحن الأربعة أن نكون أصدقاء. ربما كان بوسعنا أن نحيا حياةً طبيعية. وظائف، حفلات عشاء، أطفال.
أسأله: «وإذن، ماذا بها؟ ما زالت تبدو لي لطيفةَ الشكل كأقرب ما تكون إلى الويسكي.»
العجوز يرفع القنينة إلى شفتَيه ويُقبِّلها. يرفعها إلى السماء فترسل الشمسُ المنخفضة عبر القنينة سهمَ حربةٍ حادةٍ من ضوء الكهرمان.
– «ما تنظر إليه هنا يا «جاك» هو قنينةُ بَول. بول حبيبتي «ساندي». بوسعك أن تقول: ماءُ «ساندي» الطيب!»
أحدِّقُ فيه، أتساءل إن كان جادًّا، لكن شيئًا ما في طريقة ولعه وتعلُّقه بتلك القنينة جعلني أقتنع أن ما يقوله هو الحقيقة.
– «بولها؟»
أومأ.
أومئُ أنا أيضًا.
قد تأخُذ كل أنواع المعاني، أقولُ لنفسي. لو كان ثمة شخصٌ يعلم، سأعلم.
– «منذ متى تحتفظ بها؟ متى ماتت؟»
– «١١ أغسطس ١٩٩٠، الساعة الثالثة والربع عصرًا. يومٌ حارٌّ، مثل اليوم.»
أركِّز تفكيري لثانية أو اثنتين، أعدُّ على أصابعي للخلف.
– «١١ أغسطس؟»
يومئُ من جديد.
– «في أيِّ يومٍ نحن الآن؟»
أجاب: «١١ أغسطس … عيد وفاة «ساندي». هل لديك ساعة يد؟»
الآن، أنا أقول للرجل العجوز الكلام ذاته. قلتُ له: «أنا آسف»، و«كلا، ليست لديَّ ساعة يد، لكن انظرْ، الشمسُ مُنخفِضة عند خط الأفق. إنها ربما الثامنة، أو التاسعة.»
العجوز لا يقولُ أية كلمة، وظللنا نجلسُ في الصمت لبرهة.
سمعتُ صوتًا يشبه الركض والشِّجار من ورائي ويدور حولي، أفكر أن الرأس الأزرق والولد البدين ربما عادا وسط شلة من الصبية بعد كل ما جرى، لكنه لم يكن سوى طائرٍ يركل الرملَ لأعلى.
ننصتُ إلى الأمواج المتكسِّرة، وإلى صرخات النوارس في السماء. الطائر وراءنا يتوقَّف عن الضجيج والركض، ثم يطيرُ بعيدًا.
أخيرًا، أسأله.
– «إذن كيف حدث أن حملتَ في جيبك قنينةَ بول عمرها ثلاثة عشر عامًا لتتجوَّل بها أينما ذهبت؟»
ينظرُ إليَّ ثم يهزُّ رأسه مجددًا.
– «ماذا يعرفُ طفلٌ مثلك؟ لن تفهم!»
أهزُّ كتفي. إذا ما أغلقتُ عينيَّ الآن، سوف أرى «ماري» في المياه. أفكِّرُ في أن أعرض على العجوز تذكاري الخاص: خصلة من شعرها. ربما كي أريه أن لدينا أشياءَ مُشتركة.
قلتُ له: «جرِّبني.»
يُحرِّك لسانَه دائريًّا داخل فمه، محاولًا عضَّ شيء ما. وفجأةً يضعُ نصف يده بالداخل، يأخذ شهيقًا عميقًا، ثم يشدُّ بغتةً. عندما جذب يده إلى الخارج، كانت تحمل أحد أضراسه المخلخلة. ثم يَبصُق على التراب. لون أحمر من جديد.
يقول: «الأوغاد الصغار! ما الذي جرى للأطفال هذه الأيام؟ لم يعد لديهم احترام.»
– «أليست تؤلم؟»
مرةً أخرى، النظرة البلهاء.
أتذكَّر شيئا اعتادت «ماري» أن تقوله عن الناس. «إنهم ذاخرون بالحكايا، الحكايا المدهشة. حتى هؤلاء الذين يبدو عليهم أن شيئًا لم يحدث لهم أبدًا.»
أنا، لم يكن لديَّ أبدًا الوقت للإنسانيات، لكن ثمة شيءٌ ما حول هذا الرجل العجوز. حتى أنا كان بوسعي أن أرى ذلك.
سألته: «ما اسمك؟»
يهزُّ رأسَه للمرة الثالثة.
– «الأسماء مثل الألم يا «جاك»، لا تُساوي شيئًا. إلا حين تموت بالطبع.»
يبتسم لي ردًّا لابتسامتي، أسنانه حمراءُ بالدم.
– «وإذن … أتحبُّ أن تسمعَ عن «ساندي»، أم لا؟»
أومئُ.
يضع ضرسه على راحة كفه، بمحاذاة القنينة الصغيرة الملأى ببول الميتة «ساندي»، ثم يضمُّهما لصق بعضيهما.
يقول فيما يُواجهني بابتسامةٍ عريضة: «اجتمعَ شملُهما معًا.»
ألاحظ للمرة الأولى أن عينيه ليستا متماثلتيْن. اليسرى بنيَّة، اليُمنى خضراء. تبدوان مجهدتين وثقيلتين، لكنهما ما زالتا حيَّتين.
أتذكر دروس الفيزياء الأولى. المعلِّم الذي كانت لديه «تفاحة آدم» بحجم بيضة دجاجة. مساعِدة المعمل الشابة ذات الصدر الضخم، كان الأولاد يتأملونها وهي تتحرَّك عبر المعمل.
أقول: «المواد الصلبة، السوائل، الغازات.»
– «لقد فهمتَ الآن يا جاك. الآن أنت وأنا، نحن اثنان من «المواد الصلبة» إذا أتيح لنا أن نرى. الحالة الأولى للمادة، كلانا. كلُّ مَن له عينان بوسعه أن يرى ذلك. لكن ليس حبيبتي «ساندي». إنها حتى كانت تتحرك مثل موجة. «ساندي» لم يكن لها «مشية» كان لها «تدفق».
فهمت ماذا كان يعني. عرفت فيما مضى نساء قليلات مثل ذلك. يعود السبب عند بعضهنَّ إلى التنورات الطويلة أو الكعوب العالية، لكن القليلات منهن «يتماوجْن ويتدفَّقنَ» حتى وهنَّ عاريات. «ماري» كانت واحدة من هؤلاء. كنت أراها تَتماوج من المطبخ إلى غرفة النوم، ثم تعود تتدفَّق صوب المطبخ.
الرجل العجوز يُواصِل الحديث.
– «ساندي، كان لديها حوض استحمام كبير وقديم. كانت ترقد فيه لساعات، بشرتها تجعَّدت كلها. تمكُث هناك طيلة اليوم وطيلة الليل إن استطاعت. وكانت تصبُّ تلك المستحضرات واللوسيونات. يا الله، كانت تنفق نصف دخلي على هذه المستحضرات النسائية. لكنها كانت تأتي إلى الفراش ناعمةً، والطيبُ يفوح منها إلى درجة لا يمكن أن تتخيَّلها.»
كان مخطئًا. أستطيع أن أتخيَّل، لكنني لا أحتاج أن أفعل. فأنا أتذكَّر.
أمدُّ يدي إلى جيبي، أخرجُ صندوقي الصغير، أعرض عليه خصلة شعر ماري. يتفرَّس فيها، يلمسها بإصبعٍ قذر، ثم يُومئ.
– «رحلت هي الأخرى؟»
شخصٌ غريب هذا الرجل العجوز. أنا سعيدٌ أن كان بوسعي مساعدته.
أرقبُ الشمسَ تغطسُ أكثر قليلًا.
– «نعم، «ماري». كانت فتاة من نوع الحالة الثانية أيضًا.»
أشعر بالغصَّة التي تَنتاب أعماقي، حنين لم أشعر به منذ سنوات. يومًا ما في القريب سوف أحاول أن أعود إلى البيت ثانية. لأرى إن كان ثمة من ما زال يُذكرني.
لم نتكلم لبرهة.
فجأة، يقف العجوز ويمشي صوب البحر. سفنُه قريبة الآن. ألحق به، خصلة شعر ماري ما زالت معي.
يُقبِّل قنينة ساندي، يمسكها لدقيقة أخرى، ثم يقذف بها في الماء.
يقول: «جئتُ هنا لأقذفهما الاثنتين في البحر، ما زالت … ثمة واحدة يجب أن تُرمى.»
ينظر إلى شَعر «ماري» ويرفع حاجبَيه، لكن الوقت ليس مناسبًا لي، ليس بعد. أُخرجُ صندوقي، أضعُ داخله الخصلة، ثم أعيدُ الصندوق إلى جيبي.
أقول له: «ربما يومًا ما.»
الرجل العجوز يومئُ.
– «لقد تأخَّر الوقت، هل لديك مكان ننام فيه؟»
شاحنتي تقف فيما وراء الكثبان.
أجيبه: «نعم.»
النوارسُ تزعق فوق رءوسنا، والبحر يجيش بعنف إلى الأمام وإلى الخلف، محرِّكًا جزيئات المادة.