باراكودا١
الشابة الصامتةُ، التي ترقُد في السَّرير رقم «٦» تُدعى «ياسمين». هكذا أُدعى أنا أيضًا. سوى أن الأسماءَ محضُ نعوتٍ قشرية، تطفو كالزبَدِ، مُتأرجحةً فوق سطح الماء. غير أن أمورًا أكثر عمقًا كنا نتقاسمها. تلك الأمور التي جعلتْها ترتاحُ إليَّ وحدي، والتي جعلتني لا أقضي يومَ عطلتي إلا إلى جوارها.
كان اليومُ صعبًا. عنبرُ المُستشفى يئنُّ بالمرضى، الأمرُ الذي جعلَ نهاري كلَّه مشحونًا بالعمل: تفريغُ السلال جوارَ الأسرَّة، ملءُ نماذجِ التقاريرِ الخاصةِ بالمرضى، تبديلُ الضماداتِ وتغييرُ الملاءات. وأخيرًا، في نهايةِ اليومِ تقريبًا، تمكنتُ من اقتناص بضعِ دقائقَ لإعدادِ فنجانٍ من القهوة، أخذتُه إلى حيث المقعدِ البلاستيكيِّ برتقاليِّ اللون جوار سريرِها. أشعرُ بالامتنانِ لتلك الدقائق التي أريح فيها قدميَّ، وأنعم فيها بصحبتها من جديد.
– «مرحبًا يا ياسمين.»
أقولها، وكأنني أرحبُ بنفسي. إنها لا تردُّ. «ياسمين» لا تردُّ مطلقًا، إنها مكتئبةٌ حتى العمق.
كانت «ياسمين»، مثلي تمامًا، إحدى الضحايا التي دمَّرها البحر. أنا أيضًا كنتُ ابنةً لأحد الصيادين، من أجل هذا، أُخرجُ الكلماتِ من فمي مثل طُعْمٍ في شصِّ سنارة صيد، أصبُّ في أذنيها الكلماتِ، ثم أتخيلُها تغطسُ في عمق الماءِ الباردِ داكنِ الزرقة، عميقًا بالأسفل حيث ترقد هي على الأرجح.
– «لديَّ قليل من الوقت اليوم!»
أخبرها بينما أمسحُ بأناملي على شعرِها. مع فتاةٍ كهذه، يكون من الصعبِ دائمًا ألا تلمسَها. كانت «ياسمين» شيئًا نادرًا، امرأة شديدة الجمال. من أجل هذا، كان الناسُ يَختلقُون الأسبابَ من أجل المرور في فضائِها. أضبطهم يتأمَّلونها، يشربونها داخلهم، يمضغُون تفاصيلها. إنهم «باراكودا»، جميعهم.
الممرضون الذين يَدفعون الكراسي المتحرِّكةَ، يبطئون، حدَّ الزحف، حين يَقتربون من سريرِها. الزوار المتجوِّلون ذوو العيون الجسورةِ الجشعة. الأطباء، الذين يتوقَّفُون فجأةً يسحبون الستارة الشفيفة ثم يُعيدون اختبار أشياء ليست في حاجةٍ إلى اختبار.
الجمالُ الباهرُ هو شيء لم نتقاسمه سويًّا، وأنا غير سعيدةٌ بذلك.
قلتُ لها: «والدك ربما يكون هنا حالًا، لقد قالَ الأسبوع الماضي أنه سوف يأتي.»
لم تقل «ياسمين» شيئًا. فقط ارتجفَ جفنُ عينِها اليسرى، أو هكذا خُيِّلَ إليَّ.
مرَّ شهران منذ وقعت تلك الحادثة فوق قاربِ الصيدِ الخاص بأبيها. منذ سقوطِها إلى البحر، لتغورَ في عمقِ الماء، ثم تَتشابكُ أطرافُها في خيوط الشبك. مرَّ وقت قبل أن يكتشفَ الأمرَ أحدٌ، ثم بدأ الذُّعرُ والفزعُ. سحبها أبوها إلى متن القارب، ثم أبحر صوب القرية. حين وصل أخيرًا، حملَ إلى الشاطئ ما كان يظنُّه جثمانَ ابنته.
– «ياسمين!» أهمسُ. أريدُها أن تلتقطَ اسمَينا مثل طُعمَ السمكة. أريدها أن تبتلعه.
لحسن الطالع جاء طبيبٌ شابٌّ إلى قريتهم ذلك الصباح، ليزورَ أقاربَ له بالجوار. كان هو من استعادَ الفتاةَ الغريقةَ من حافةِ الموت، هو من أخبرني بقصتها: «فتحتْ عينَيها، نظرت إلى أبيها وقالت كلمةً واحدة، ثم غرقت من جديد، في الغيبوبة هذه المرة.»
«باراكودا.» هذا ما قالته «ياسمين».
حين يزورها أبوها، يمسح على شعرها، يُقبِّلُ وجنتها، ثم يجلس على المقعد البلاستيكي برتقاليِّ اللون جوار سريرها، آخذًا كفَّها بين راحتَيه. مثلما أبي، لديه الكف ذاتُها، البنية الضخمة التي خشَّنتها الحياة، كف صياد. هو أيضًا تفوحُ منه رائحةُ البحر، يتظاهَر بأنه رجل بسيط وطيب!
«ياسمين.» نشترك في أشياء كثيرة، نحن تقريبًا كيانٌ واحد.
أتذكرُ تلك الصباحاتِ الباكرة، شعري يُمَسُّ كي أستيقظ، يَرفعني أبي من سريري نصفَ نائمةٍ، يحملني بين ذراعيه، ثم يُلقيني فوق قاربه.
صوته خشنٌ في أذني، يداه خشنتان فوق جلدي، لم أرغب في الذهاب أبدًا، لكنني كنتُ مجرد طفلةٍ، وكان يفعل ما يريد.
أتذكر الماءَ المالحَ، الشمسَ الحارقة، وأمي تنكمش وتتضاءل فوق الشاطئ. أتذكَّرُ ألواحَ القاربِ الخشبي وصخرةَ التثبيت، أتذكَّرُ صرخاتِ النوارس.
«ياسمين، لديك حياةٌ في داخلك، ألا تسمعينها تنادي؟»
لا شيء!
يصفقُ بابُ العنبر بشدة، ألمحُ والدَ «ياسمين» يمشي صوبَنا، حاملًا الزهورٍ، ويَبتسِم لي.
حتى في الموت، الطفلةُ الكامنةُ داخلي ترى ابتسامةَ أبي، «ياسمين» كذلك، سوف تنال ابتسامة هذا الرجل. أعرف ذلك.
يقفُ جوار سريرها، يمسح على شعرها، شيءٌ يمور عميقًا في داخلي.
أراقبُ جفن ياسمين وأنتظر ارتجافتها.
(٢) العنوان الأصلي Fishing for Jasmine.
(٣) الباراكودا العظيمة Great barracuda سمكة ضخمة يبلغ طولها حوالي ١٫٨ متر، تَقتات بالأسماك والربيان، تُقيم غالبًا قرب الصخور المرجانية وتُشكِّل خطرًا على الغواصين؛ فهي سريعة جدًّا وتمتلك أسنانًا حادة جدًّا يُمكنها أن تشطر الإنسان إلى نصفين.