أغنية من أجل «جيني»١
كان «توم» يتَّجه صوبَ غرفةِ المعيشة، بحرصِ رجلٍ عجوز يحملُ صينيةَ شاي، حين سمع «جيني» تتكلَّم. توقف فجأةً حدَّ أن صحن البسكويت وفنجانيْ الشاي جميعها انزلقَت إلى الأمام واصطدمت بحاجز الصينية. بعض الشاي تناثرَ داخل صحن الفنجان، فوجد نفسه للحظة يحملقُ في الفوضى، قبل أن يرفع رأسَه لينظرَ، عبر الغرفة، إلى زوجته.
كانت «جيني» تجلس على الأريكة ذات المقعدين، تمامًا على الحال التي تركها عليها، لكنه لمح الاختلاف واضحًا في عينَيها. كانتا مُنتبهتيْن من جديد، مشتعلتيْن بذكاءٍ مشوَّش، وكانت تنظرُ نحوه مباشرةً، بدت حاضرةً على الحال التي لم تكنْها منذ شهور. لقد حدث الأمرُ مجددًا. بينما كان في المطبخ يعدُّ الشاي، حدث الأمرُ مجددًا.
فتح فمه ليتكلَّم، لكن كلمةً لم تخرج. رأى «جيني» تمسح على تنورتها برقَّة، ولاحظَ ومضةً زرقاء على الأرض جوار قدمها اليسرى. إحدى فردتيْ قرطها. أصلحَ حنجرته وحاول من جديد.
– «جيني؟»
برقت عيناها وركزت، ثم رمت نظرةً إلى الصينية.
– «لقد سكبتَ الشاي يا توم.»
نظر إلى الأسفل مرة أخرى، ثم إلى الأعلى، أحسَّ بشفتيه تناضلان من أجل ابتسامة ما.
– «نعم فعلتُ يا حبيبتي. هكذا فعلتُ. وأنتِ أسقطتِ إحدى دلايتيْك.»
عَبَرَ الغرفة، ووضع الصينية المرتبكة ذات الصليل فوق مائدة القهوة، ثم انحنى ليلتقط قِرطَها. طقطقتْ مفاصلُ فخذه عاليًا وهو يعتدل، وكذلك حين جلس جوارها، غير أنه لم يلحظ تقريبًا. «خُذِ الأمرَ بهدوء»، هكذا قال لنفسه. خذ الأمورَ بهدوءٍ وبطءٍ وثبات.
اختطفتْ «جيني» القرطَ من راحته.
قالت فيما تُريح يدها الأخرى فوق رسغه: «لقد انخلعَت.» كاد ينسى كم كان صوتها جميلًا، كم كانت لمستُها رقيقة. بعد كل تلك الشهور.
– «هل حدث ذلك الآن؟ هذا لا يُمكن أن يكون، أليس كذلك؟ لقد كلفني الأمر دهورًا طويلة هذا الصباح كي أجعلك تبدين على هذا النحو الجيِّد، وها أنت تفسدين كلَّ شيء، دعوني أضرب ظهرها عقابًا لها، إيه؟»
عقص شعر «جيني» خلف أذنها، وشبك قرطها في مكانه من جديد. ابتسمَت له وبدت وكأنها ستتكلَّم، سوى أن جبينها ارتخى وابتسامتها تلاشت. رآها فارغة وغائبةً في البعيد مجددًا، رأى يدها ترتفع في الهواء وتبقى هناك، تُحوِّمُ في حيرة. ثم فقاعة من اللُّعاب تنتفخ فوق شفتها السفلى. سحب «توم» منديلًا نظيفًا من جيبه ومسحها.
قال بهدوء: «جيني! جيني حبيبتي، هل تسمعينني؟»
سيلٌ من قطرات العرق تشكلت فوق فوديْه كحبَّات خرز وهو ينتظر إجابتها. شعر بالدماء تخفق في عنقه. مغلقًا عينيه، أخذ يصلي من أجل أن يعود الضوءُ الواهنُ إلى عينيها من جديد.
كان لا بدَّ أن يلحظ هذا في الصباح، حين كان يساعدها كي ترتدي ملابسها. كان من الواضح وقتها أنها أفضل من المعتاد، يكفي أنها اختارت فستانًا بعينه من بين العشرين المعلَّقة في خزانتها. كان مسرورًا، لسبب ثانويٍّ هو أن ذاك الفستان كان المفضل لديه، البيج ذو الوردات الزرقاء الخفيفة، أما السبب الرئيسي فلأنها بدت وكأنها تذكرت أنه المفضل لديه. كما أن عملية إدخالها فيه كانت أقل صعوبة من المعتاد. مجرَّد عرجة واحدة حين أصرَّت على إدخال قدمها اليمنى في حذائها الأيسر، ويسراها في الأيمن. بالطبع لم تستطع أن تسير هكذا. انكفأت على السرير واستطاع «توم» أن يبدلهما، باستثناء ذلك لا عقبات على الإطلاق.
فتح عينيه، ورمق قدميها في الأسفل، وخاف أن ينظر إلى الأعلى، لم يُرِدْ أن يَلتقيَ بذلك الخواء المفرَّغ الرهيب. كان يُفكِّر أن هذا الحذاء اللطيف، حذاءٌ محظوظ. كانت تلبسه حين حدث ذلك الأمر آخر مرة.
– «توم؟»
ارتجفت رأسه لأعلى. لقد عادت، النور في عينَيها مرتعشٌ وغيرُ واثقٍ مثل لهب شمعة في نسمة ليل، لكنه كان هناك رغم هذا. ركزت بصرها عليه، طوَّحت يدها لأسفل وأراحتها من جديد فوق ذراعه.
– «الصورة يا توم، أريد صورتهم.»
– «أي صورةٍ يا طفلتي المدللة؟ أيُّ صورةٍ تقصدين؟»
نتشتْ كمَّ قميصه وهزَّته، كما كانت تفعل أحيانًا في الأيام القديمة حين كان يبدو غبيًّا وغير مُتجاوب على وجه التحديد.
– «أنت تعلم! صورتهم وهم يرقصون! يرقصون من أجل جيني المسكينة!»
عرفَها، عرف الصورة فورًا.
– «إنها في الطابق الأعلى يا طفلتي. في أحد ألبوماتك.» لم يجل بخاطره أنَّ عليه أنْ يتركها.
– «هل تُريدينني أن أحضرها لك؟»
– «نعم. الصورة.»
انتصب مترددًا على غير إرادته.
– «فقط ابقي كما أنتِ الآن، سأعودُ حالًا.»
كانت أمتعتها محزَّمة، مثل عتابٍ صامتٍ أنيق، ينتظر جوار الباب الأمامي. يحاول ألا ينظر إليها، بدلًا من ذلك راح يُحدِّق في الساعة المثبتة على الحائط في قاعدة السُّلَّم: ٤:١٠ بعد الظهر. موعد «ديفيد» في الخامسة تمامًا. خمسون دقيقة إذن هي كل ما تبقى. دعْ أو خذِ الأمر.
ترك باب غرفة المعيشة مفتوحًا كي يتمكن من رؤية «جيني». أما هي فقد التفتتْ بجسدها كي تنظر إليه، صانعةً بيديها تلويحات تستحثه، بنفاد صبر، على المُضيِّ. ابتسم لها، وبدأ رحلة الصعود الطويلة إلى غرفة نومهما، مفاصله تصطكُّ مع كل خطوة.
سوف يأتي «ديفيد» في موعده بالطبع. اعتاد أن يكون دقيقًا في مواعيده، حتى حين كان صبيًّا. لم يكن هناك داعٍ للقلق من أن يفوته باص المدرسة، وحين كان أكبر سنًّا، لم يخلف وعده إذا قال إنه سيهتمُّ بالحديقة أو سيأخذهما للخروج في نزهة. طبيعته المتزنة والعملية أفادته كثيرًا. كانا دائمًا فخورَيْن بأسلوب تناوله لأعماله وجعلها تسير في طريقها، حتى في أوقات الركود. وكان ديفيد على حق بالطبع. دار «شجرة الأرز» للمُسنِّين كانت الحلَّ العمليَّ الوحيد. جادل «توم» ضد ذلك طويلًا وبصوتٍ عالٍ، لكن «ديفيد» كان مصرًّا على رأيه.
– «أبي، أنت نفسك لست على ما يرام، وأمي سوف تتدهور حالها، لن تتحسن أبدًا. إنه الخيار الأصوب بلا شك. بوسعك زيارتها كلما أحببت. ولا داعي للقلق بشأن الرسوم. سوف أدبر الأمر كله.»
لقد صمد. صمد وقاوم لأسابيع. إلى أن كانت الليلة التي صحا فيها على صوت الأجراس ليجد نفسه وحيدًا في الفراش. لن ينسى مطلقًا تلك القفزة المسعورة صوب الباب الأمامي (مفصل فخذه ظل يصرخ بسببها فيما بعد). مشهد «جيني» وهي تمشي في الحديقة لا تَرتدي سوى معطف السيد «داوسون»، والعلامات الدامية التي تركتها قدماها على أرضية المدخل، ومشهد ارتجاف جسدها في البرد، كان قلبه على وشك الانخلاع.
«ديفيد» على حق. إنه الحلُّ العمَليُّ والأنسب فعله.
رغم ذلك، حين وصل «توم» إلى أعلى درجات الدرج وراح يترنح صوب غرفة النوم، وجد نفسه يتمنى للمرة الأولى في حياته أن يتأخَّر ابنه عن موعده.
ألبومات الصور، «جيني» ملأت العشرات منها خلال السنوات، كانت مكدسة فوق الرفِّ أسفل النافذة. جميعها مؤرخةٌ بخطِّها الأنيق والمنتظم الذي كان لديها دومًا. لم يأخذ «توم» الكثير من الوقت ليجد الألبوم الذي يريد. فتحه وبدأ يقلب صفحاته. الصورة التي أرادتها «جيني» كانت في منتصف الألبوم تقريبًا. سحبها من غلافها البلاستيكي وأخذ طريق العودة للأسفل. كانت الرابعة وخمس عشرة دقيقة.
شاهدته «جيني» يعبر الغرفة، ثمة تعبير على وجهها لم يستطع قراءته. جلس جوارها وعرض عليها الصورة.
– «هذه يا جين؟»
أومأتْ، أخذتها منه وقبضت عليها بأصابعَ مرتعشة. حين نظرت إلى الأعلى كانت عيناها مبتلَّتيْن بالدموع.
– «أوه يا توم! انظر! كانوا صغارًا جدًّا! صغارًا جدًّا!»
– «أعلم يا حبيبتي، أعلم.»
كان حفلَ عشيَّة الكريسماس، هو يتذكَّر. فريق «إخوة إلى الأبد» في الصورة يؤدون أغنية «جيني البائسة». كانت كلما أُذيعت في الراديو تغني «جيني» معها، وتريد أن ترقص. «توم» كان يرقص لإسعادها، ويشعر بنفسه قويًّا واثقًا من نفسه.
– «صغارٌ جدًّا.»
طوَّقها بذراعه، وجلسا ينظران إلى نفسيهما، يرقصان «الروك آند رول»، بين بالونات الجليد والقبَّعات الورقية، يضحكان عاليًا للمُصوِّر الذي طال نسيانه. برقةٍ، وبصوتٍ أعلى بالكاد من همسة، شرعت «جيني» في الغناء.
– «حسنًا، جيني لديها أخٌ يتعقَّبني أينما ذهبت، أبوها يُريد أن يرسلني خارج البلدة في قطار.
أرجو أن أظلَّ هناك حتى تخرج «جيني» من السجن، جيني البائسة …»
أرخَتْ رأسها على صدر «توم» الذي أخذ يُهدهِدها بحنوٍّ. حين تكلمت ثانية كانت مجرد همهمةٍ خافتة داخل قميصه.
خرجت كلماتُه مُتكسِّرة وغير واضحة.
– «نعم يا حبيبتي.»
أحسَّ أنها أومأت.
– «إنه مكان رائع وفسيح، كما تعلمين. سوف تقضي «جين» أيام حياتها قبل أن تستوعبه كاملًا!»
– «أجل، يا حبيبتي، خلال لحظة.»
– «هل ستبدو هي … هل سأبدو أنا … لطيفة في عينيه؟»
– «لطيفة» ليسَتِ الكلمة المناسبة يا قطتي الحبيبة، تبدين جميلة مثل لوحة.»
رفعت رأسها وابتسمت، وحين أراد أن ينظر في عينيها، حين انحنى ليُقبِّلها، لمح النور يرتعد ثم ينطفئ. لهب الشمعة ارتعش ثم خبا. لكنه قبَّلها على أية حال، آملًا … غير أن شفتَيها كانتا غير مُستجيبتَين. حين انسحب ونظر إلى وجهها ثانيةً، كان الخواء العميق العميق قد عاد.
– «جين؟»
قال: «جيني البائسة! جيني حبيبتي التعسة البائسة.»
رنَّ جرس الباب في الخامسة تماما. حين فتح «توم» الباب كان «ديفيد» واقفا عند العتبة. مسح بعينيه القاعة بحثًا عن حقائب أمه، وبدا محبطًا قليلًا حين لم يجد أيًّا منها.
– «أبي؟ ماذا هناك؟ أليستْ مستعدَّة؟»
نظر «توم» إلى ولده. كانت به ملامح من «جيني»، منعكسةً في جبهته العالية الناصعة، وفي زرقة عينية الوفيرة.
هزَّ «توم» رأسَه.
– «لا، ليست مستعدةً، كلانا غير مُستعدٍّ إن أردت الحقيقة. لقد أعدنا التفكير قليلًا، والدتك وأنا، تحوُّلٌ في القلب، يمكنك أن تقول.»
– «لكن يا أبي …»
– «توم؟ توم، هل هذا هو «ديفيدنا»؟»
جاء صوت «جيني» طافيًا خلال غرفة المعيشة، فأوقف ولدها في منتصف الجملة. حملق في والده، الذي ردَّ عليه بابتسامة عريضة.
قال له فيما يأخذه من ذراعه: «هل أخبرك بأمر يا فتى؟ لماذا لا تأتي للداخل؟ سأضعُ غلاية الشاي على النار. أمك تبتهجُ برؤيتك دومًا، سواء أظهرتْ هذا أم لم تظهره. وبعد ذلك سنَمضي ثلاثتُنا في الدردشة، ما رأيك؟»