قتلُ الأرانب١
لم أتطلَّعْ يومًا إلى قتل الأرنب.
قالت زوجتي «ماري»، التي كان القلقُ يزيد وجهها رهافةً: «لستَ مُضطرًّا إلى فعل ذلك!» وكان هذا لطيفًا منها، غير أن كلينا كان يعلم أن تلك لم تكن الحقيقة.
إذا لم أستطع أن أجبر نفسي على قتل أرنبٍ واحدٍ أعزل، فإن كل كلامنا حول أسلوب الاكتفاء الذاتي، ومحاولة الخروج من جنس الفئران، وإقامة حياة أكثر صحية، لن يغدو كل ذلك أكثر من كلام. مجرَّد كلام. وبوسعي الآن أن أسمع والدة «ماري»، بوسعي أن أرى حاجبَيها المقوسيْن، وابتسامتها التي تقول: ألم أقل لك؟ وتهكُّمها الواثق: «أوه نعم، أنتَ دائما بارع في الكلام عن الأشياء، أليس كذلك يا جون …!»
حسنًا، لم تكن هي من يستحق هذه الترضية على أية حال، لكن ماري وأنا كنا في طريق أكثر إيغالًا من إمكانية التراجُع، تجاوزنا منذ زمن نقطة اللاعودة. تركنا وظيفتَينا، تركنا بيتنا، ثم انتقلنا نهائيًّا إلى منطقة ريفية من البلد، والآن انظروا إلينا.
أعجوبة العجائب، كنا نفعل الشيء الذي ظللنا نحلم به طيلة العامين الماضيَين. وها نحن أخيرًا، برغم كل العقبات، ندير أرضًا صغيرة تخصُّنا.
الأسابيع القليلة الأولى من محاوَلة تحويل المكان إلى شكل مقبول كانت شاقة، لكن مُرضية تمامًا. لا شك، فقد كانت الأرض المحيطة بالكوخ الريفيِّ وَعرة، وثمة أعمال بناء ناقصة، لكن المحيط العام كان رائعًا. لدينا ثمانية هكتارات من تُربة عفيَّة خصبة، محاصيل تُزرع وتنمو، دجاجات تنقنق، بطَّات توقوق، إوزات تُزمِّرُ، بضعة خراف تمأمئ، وبطبيعة الحال كان لدينا أرانب، أرانب مشغولة بما تحبُّ أن تفعله الأرانب عادة.
هل كان من الممكن أن أغامر بكل هذا، لمجرَّد أنني لا أستطيع أن أواجه ببسالة مذبحةً صغيرة، الشيء الذي هو ركن ركين من حياتنا الراهنة؟
كلا. إنه الوقت الحاسم. الوقت الحاسم بالنِّسبة لي، الوقت الحاسم بالنسبة للأرنبة.
كان اسمُها «تاج»، إحدى ثلاثة أرانب نيوزيلندية بيضاء. الذكر الضخم أطلقنا عليه اسم «بوبتيل»، أما الأنثى الأخرى فتُدعى «راج». كانت «راج» دائمًا حُبلى بحَملٍ ثقيل، ولو اتبعت «تاج» النهج نفسه لأصبح ثالوثنا الصغير في طريقه الصحيح المأمول نحو تزويدنا بحوالي ٢٠٠ رطل من اللحم كل عام. هكذا تقول الكتب على كل حال.
لكن كان ثمة مشكلة؛ فرغم كل جهود «بوبتيل» (وكي أوفي الولد حقه لا بدَّ أن أقول إنه بذل قصارى جهده بالفعل)، إلا أن «تاج» رفضت ترمي كرتَها. أسبوعًا بعد أسبوع بعد أسبوع، و«بوبتيل» يؤدي واجبَه الرجوليَّ بحماسٍ مذهل، غير أن «تاج» ظلَّت على عقمها العنيد.
يقول خبراء الاكتفاء الذاتي: إذا كانت الأنثى غير منتجة، فإن مكانها الوحيد إناء الطهو! وكانت «تاج»، تلك الأرنبة اللطيفة حلوة الطبيعة، من دون شك غير منتجة. حسنًا، لا مكان للعائشين على الصدقات في مزرعتي الصغيرة. «تاج» لا بدَّ أن ترحل.
أخبرتُ ماري: «إذا لم تُصبح حُبلى على نهاية الأسبوع، إذن سيكون … سنجلب أنثى أخرى، وسيكون عليَّ أن … أنتِ تعرفين.»
وجاءت نهاية الأسبوع، وكل ما يُمكنني قوله إن «تاج» ظلت عاقرًا كما هي دائمًا.
أعلنتُ بينما أتجه إلى زر الكهرباء لأطفئ المصباح جوار السرير: «غدًا، سوف أفعلها غدًا.»
في الظلام كنت أسمع تنفس «ماري».
– «هل أنت واثق؟»
– «نعم، لقد حان الوقت.»
لم أستطع النوم تلك الليلة. سقطتُ في النوم للحظات قليلة، فإذا بالذي سوف أفعله في الصباح يقفز في أحلامي على هيئة شبح أرنب مخبول يتلوَّى، طوله ١٥ قدم، يترنَّح في خطوته على طريقة مشاهد أفلام الرعب.
رقدت في الفراش، عيناي شاخصتان، أحملق في الظلام، أفكِّر، أتذكَّر.
أعود بالزمن إلى الوراء، حين كان قرار الانتقال إلى الريف ما زال في طور المناقشة، كان أصدقاؤنا يستمتعون باستجوابنا حول طبيعة حياتنا الجديدة والنتائج التي سنتورَّط فيها بناءً على ذلك. اهتموا على نحو خاص بالجزء الخاص بعملية الذبح. بدا أن أحدًا لا يعاني مشكلة كبيرة في التعامل مع الدجاج، أو الإوز أو الخراف، غير أن الكثير منهم روَّعتهم فكرة أن نُربِّي، نقتل ثم نأكل الأرانب.
صديقانا الحميمان، «ستيف وبولين»، كانا يربيان زوجًا من الأرانب المنزلية الأليفة غزيرة الشعر ذات الحيوية التي تنطق بالجَمال واللطف، اقتنى الصديقان هذين الأرنبين من أجل تَسلية أطفالهما، ولذا لم يكن مدهشًا أن يكون انزعاجهما شديد الخصوصية.
قال «ستيف» في إحدى ليالي لقائنا في الحانة: «لن تقدر مطلقًا أن تفعل ذلك، ليس حين تنظر إلى الأسفل فتجد هاتين العينين البنيَّتيْن الواسعتَيْن تنظران إليك، وذاك الأنف الصغير المرتجف …»
قلت له: «الأرانب النيوزلندية البيضاء لها عيون حمراء.»
هزَّت «بولين» رأسها. ستيف معه حق، ما زلت أذكر الحال التي انتابتك حين تعثَّرت وانقلبت فوق قطتنا.»
أجفلتُ. دهسي لقطتهما كان أسوأ ما مرَّ بي في حياتي كلها. أدركت منذ عهد بعيد أن «بولين» لن تتركني أنسى ذلك الحدث أبدًا.
أجبتُها بينما أختبئ خلف كأس البيرة: «الأمر مختلف … الأمر مختلف تمامًا.»
قالت بابتسامة نصفُها غضبٌ ونصفُها استهزاء: «ياللكائنات الصغيرة التعسة! على الأقل لا تتوقَّع مني أن أكون لطيفة معك بعد أن تكون قد اغتلْتَ ملايين من الأرانب الرضيعة البريئة، هذا كل ما في الأمر. أنا أتكلَّم عن الدماء التي تُلوِّث يديك …»
كانا على حق بلا ريب. أدركت دائمًا أنني سأواجه معضلةً مع عملية القتل تلك، لكني استطعت أن أطمئنَ نفسي ما دام الأمر ما زال رهنًا بالمستقبل البعيد.
غير إني عدلت تمامًا عن فكرة النوم، ومع بداية تسلُّل الضوء الخافت عبر الستائر، كان عليَّ قبول حقيقة أني لن أستطيع مجددًا أن ألهي نفسي أو أصرف تفكيري بالأمر. الوقت الحاسم. أما فيما يخص «فليسيتي كاندال»، فلم تكن في أي مكان حتى تُرى.
حول الخامسة صباحًا، انزلقتُ من السرير، ارتديت ملابسي وتسللتُ ببطء إلى الطابق الأسفل، تاركًا «ماري» تتنازعها أحلامها الخاصة. وددتُ أن أنهي الأمر بأسرع ما يمكن، ومن الأفضل أن يتم بينما هي ما زالت في نومها.
في الخارج، كانت شبورة الصباح الباكر تتدفَّق وتُغطي الأرض. بدا ذلك مناسبًا على نحو ما.
كان كل من «راج، وتاج، وبوبتيل» في أقفاصهم المنفصلة في الحظيرة الصغيرة خلف الكوخ. كانت أنوفهم تختلج تجاهي كلما اقتربت أكثر، بينما أخذ «بوبتيل» يضرب الأرض بأقدامه.
إذا قُدِّرَ لك أن تقتل أرنبًا، فإليك ما يجب أن تفعله:
تأخذ ساقيه الخلفيتيْن بيدك اليسرى، تقبض على رأسه بيمناك، ثم تلوي الرأس إلى الوراء. في ذات الوقت تضغط يدك إلى الأسفل كي تشدَّ العنق. إذا أديت الخطوات على نحوٍ صحيح، ستنكسر عظمة العنق ويحدث الموت تقريبًا في لحظة.
قرأت التعليمات عشرات المرات. أحفظها عن ظهر قلب. بل إني مارست كل تلك الخطوات من قبل على منشفة الصحون باعتبارها أرنبًا! غير إني بمجرَّد أن أخرجت «تاج» من قفصها؛ ارتعشت يداي.
حملتها إلى الخارج حتى لا يتمكَّن «راج وبوبتيل» من رؤية الذي سوف يحدث. داعبتها، أخبرتها أني آسف، ثم، بأسرع وأدق ما يُمكن.
قتلتها.
كان الأمر رهيبًا، سوف لا أنساه مطلقًا. ولن أنسى أبدًا كمَّ القسوة التي كان عليَّ أن أجذب بها.
غير إني أنجزت الأمر على نحو صحيح. نعم على الأقل أنجزته على نحو صحيح. إذا كانت قد تألَّمت، فلم يكن ذلك إلا لثوان قليلة.
بعدما قتلتها، كان عليَّ أن أنجز عمليتَي السلخ والتقطيع. أعرف النظرية، عليك أن تحزم ساقي الأرنبة الخلفيتيْن فوق مفصل القدم مباشرة ثم تعلقها على خطافيْن. بعدها تشقُّ قَطعًا صغيرًا أعلى مفصل كلِّ كاحل من ساقيها الخلفيتين، ثم تمدُّ القطع حتى فتحة الاست. بعدئذ تنزع طبقة الفراء عن الجلد عند ساقَيها ثم تقشرها عن سائر الجسد.
فعلت كل ذلك، فعلته على نحو جيد. لقد هيمنت على الموقف الأساسي، جابهت الأمر الذي طالَما أفزعني، تصرفتُ كرجلٍ. وكنت بالفعل راضيًا عن نفسي.
•••
حين فتحتها لأُفرِّغ أحشاءها، تبخَّرت كل مشاعر الغبطة.
•••
هبطت «ماري» إلى الطابق الأسفل ووجدتني جالسًا في المطبخ.
قالت: «ماذا هناك؟»
أخبرتُها.
تعرفت على الكبد، القلب، الكليتيْن، لكن ثمة أشياءَ أخرى في الداخل لم أستطع التعرف عليها مطلقًا. أشياء لم تكن في الكتب.
عشرة أشياء.
– «كان يجب أن أنتظر يا ماري، «تاج» كانت ملأى بالصغار.»
كانت «تاج» حُبلى. بعد كل هذا.