مقدمة

فلتسقط البوم ذات النظرة اللزجة!
ولتسقط السحالف ذات القحف المزدوج!
ولتسقط الحرباوات البهلوانية!
ولتسقط الديوك الرومية المغرورة!
بهذه الشعارات عبرت لجان الدفاع عن الثورة في جمهورية بوركينا عن رأيها في المؤتمر القومي الثاني الذي انعقد في ۱۹۸۷م.1 وبوسعنا أن نقول إن خطابهم هذا كان ذا قوام ثقافي خاص. فهو يبدو لنا من جهة مثيرًا للابتسام لأنه ليس مفهومًا بالنسبة لنا الآن. ومن جهة أخرى، فقد كان مفهومًا بالنسبة لكل فرد في العاصمة واجادوجو؛ لأن مواطني بوركينا يقيمون علاقة رمزية دائمة مع عالم الحيوان، عن طريق الطوطمية.
ولم يكن هناك أي جديد، على أي حال، في اللجوء إلى المفردات الحيوانية في المجال السياسي في هذا البلد. ففي ظل النظام السابق انتسب الحزبان السياسيان المعترف بهما قانونًا، أحدهما إلى الفيل والثاني إلى الأسد، وكان الرمز الحيواني الخاص بالخصم خير وسيلة للنَّيل من سمعته. وقد لجأ الرئيس توماس سانكارا إلى تصنيف متطور فعلًا لكي يتفوق في القضاء على «أعداء الشعب». ﻓ «الجاموس المذعور» يشير إلى البرجوازية التجارية، و«القطط السوداء» و«الكلاب الضالة» تعني الخدم المحليين للإمبريالية الفرنسية، و«الكلاب الجرباء» يقصد بها الموظفين الفاسدين، و«الكلاب المقاتلة» تشير إلى المرتزقة والعنصريين، و«الديوك الرومية المغرورة» كناية عن العسكريين ورجال الجمارك الذين تعوزهم الأمانة، و«البوم الدهشة» ترمز إلى الموظفين غير الثوريين، و«البوم ذات النظرة اللزجة» يقصد بها ساسة جمهورية فولتا العليا الثالثة،(١) و«الضباع المرتعبة» كناية عن التجار أو الموظفين عديمي الذمة، و«الذئاب الجائعة» الساسة، و«الإوز البري» أي المرتزقة في صيغة أخرى، و«الثعالب الخائفة» أي التجار، و«السحالف ذات القحف المزدوج» أي النقابيون أو التجار، و«الحرباوات البهلوانية» أي الساسة، والقوى الظلامية، والذين جُردوا من جنسيتهم.2

وكثيرًا ما كانت نتيجة تهجين تلك الرمزية مع الخطاب الثوري الدولي ثقيلة على السمع:

«أيها الرفاق، لتكن لديكم الشجاعة للاعتراف بأن العديد من أفراس البحر والحرباوات لا تزال ترتع في أجهزة الخدمة وقوات الجيش، وتحاول تلك الحيوانات المائية والبرية عرقلة التحولات الجارية في صفوف الجيش بكافة الوسائل، غير أن أعمال التخريب التي يقدمون عليها ضد الثورة الديمقراطية والشعبية في غاية المهارة والبراعة بحيث تتطلب من جانب الرفاق المخلصين المزيد من اليقظة والحزم لفضحهم ومكافحتهم. ولكن الشعب لن يُخدع. ولذا فإن المهمة المباشرة لكل فرد في القوات المسلحة تتمثل في إزاحة آخر ممثلي الجيش الاستعماري الجديد حيثما يختبئون.»3
على أنه يجب ألا نقلل من شأن صدى تلك اللغة السياسية-الحيوانية وسط الرأي العام في بوركينا. فهذه اللغة «تتحاور» مع سجل الحواديت التي استوعبتها الطفولة، خاصة وأن أبطالها في أغلب الحالات من الحيوانات التي تدخر قدرًا كبيرًا من أساليب الخداع والمكر. وقد أقدمت دينيز بولم على إبراز صلة القربى بين أبطال تلك القصص و«الميتس» المقابلة لها عند الإغريق4 بشكل مقنع. وفضلًا عن ذلك فإن ذلك السجل الحافل بالحيوانات والمناهض للثورة كان يتردد بلا شك في الشارع المستعد دائمًا للسخرية و«المقارنة المزاحية» و«التوريط المفارق».5 وأخيرًا فإن الثوريين المستعينين بالحيوان كانوا على دراية بمدى تأثير التصورات الخادعة. فالعديد من استعاراتهم المفضلة — بدءًا بمختلف التهيئات الخاصة بالبومة — تحيل إلى عالم اللامرئيات المثير للقلق، وبالأخص السحر والشعوذة. ويكشف عن ذلك على أي حال اتهام «أعداء الشعب» بالتحرك في الظلام.
«والواقع أنه يتعين الاعتراف بأن العديد من الحرباوات البهلوانية القابعة فوق الفروع الجافة البالية تحاول بكل ما لديها من ألوان فروع شجرة أغسطس.(٢) ويتمثل ذلك في لجوء بعض الأفراد، الذين يعتقدون على الأرجح أنهم أقدر من الرفاق في الجيش على الخداع، إلى اتخاذ مواقف وسطية، فيتظاهرون في النهار بأنهم مدافعون متحمسون عن الثورة الديمقراطية الشعبية، ويسارعون بارتداء معطف الثورة المضادة مع قدوم الليل. ومن حسن حظ الثورة أن هذا المعطف تفوح منه رائحة نتنة سرعان ما تكشف عمن كانوا يرتدونه في الليل.»6
ويتماثل الصراع السياسي ضد «أعداء الشعب» مع مطاردة السحرة. وهذا التحول في المعنى والانتقال من سجل إلى سجل آخر مزوَّد بشحنة انفعالية قوية ترمي في الوقت نفسه إلى تأصيل دواعي انشغال الدولة في الحياة اليومية وفي الكيان الشعبي. ومن هذه الزاوية لا تشكل الحالة الخاصة ببوركينا أي استثناء. فنادرًا ما نجد قادة أفارقة يقاومون إغراء الخلط بين المعارضة وقلب النظام، ثم بين قلب النظام والشعوذة. ففي أكتوبر ۱۹۹۰م اتهم السيد ساسو نجسو، رئيس جمهورية الكونغو «قوًى ظلامية» بإثارة الإضرابات التي زعزعت مقاليد سلطته.7 وقبل ذلك بإحدى عشرة سنة أكَّد المارشال موبوتو في جلسة للمجلس التشريعي أن قادة الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي «ثعابين ومشعوذون».8 أما السيد باندا، رئيس مالاوي في عام ١٩٩٢م، فقد أعلن بكل ثقة: «إنني أعرف أن هناك بعض المنشقين يعملون في الليل ويقابلون أجانب في جنح الظلام. لماذا لا يظهرون في وضح النهار حتى يمكن إجراء حوار بنَّاء معهم؟!»9 وفي كينيا واظب الرئيس آراب موي على التنديد ﺑ «الاجتماعات التي تُعقد في الليل» والمحظورة من حيث المبدأ، تحت ستار سهرات مأتمية، مما يتيح للساسة عديمي الذمة فرصة إجبار مواطنيهم على أداء قسم الولاء لهم.10 وهو لا يزال يستخدم بصراحة حتى الآن ذخيرة السحر للتنديد بالتعددية الحزبية المثيرة للفوضى.11 أما «آداب الوحدة»12 التي امتدحت بلا كللٍ كل حزب أوحد طوال ثلاثة عقود، فقد أوكلت ضمنيًّا لتلك الأحزاب المهمة التي كانت تتولاها بعض الحركات التنبئية المناضلة ضد السحرة. ولعل ذلك يفسر جزئيًّا ميل هذه الحركات للاضطلاع بدور المخلص.
وعلى أي حال فقد جنى كل حزب أوحد مصادر للشرعية لا يمكن إنكارها من التوجس الشائع إزاء احتمالات الفوضى ذات الطابع الميتافيزيقي. ولم يحل ذلك إطلاقًا دون أن تصبح هذه الأحزاب نفسها فريسة «شياطين الانقسام»، ودون أن تواجه داخل صفوفها صراعات بين فرق مختلفة، جرى تصورها على أنها هي أيضا «عمل».13 وفي ظل الأوضاع يكون إسناد مثل تلك الأعمال الخفية أسهل وسيلة لتجريد الخصم من أهليَّته، وقد يكون الاتهام صريحًا؛ ففي الكاميرون عمدت الصحافة الموالية للسياسة الفرنسية في الخمسينيات إلى التعريض بأوم نيوبي، الزعيم القومي لاتحاد أهالي الكاميرون، قائلة عنه «إنه نصاب، والده […] كان غولًا، وساحرًا في هيئة فهد قُتل؛ لأنه كان قد قتل هو أيضًا العديد من إخوته في الغابة».14 غير أن أنصار اتحاد أهالي الكاميرون كانوا يأخذون بدورهم على المتعاونين مع الاستعمار، ومنهم بالأخص الوشاة، كونهم من السحرة، وهو اتهام ردده أيضًا المناضلون القوميون في زمبابوي في السبعينيات.15
ومثال كوت ديفوار يسترعي الأنظار بقدر أكبر؛ إذ نجد أن سجل اللامرئي متشابك مع فكرة التآمر الستالينية، الموروثة عن مرحلة تخالف التجمع الديمقراطي الأفريقي مع الحزب الشيوعي الفرنسي. ففي عام ١٩٦٣م تم اكتشاف «مؤامرة» أولى أو جرى بالأحرى اختراعها، باعتراف فليكس هوفويه بوانيي نفسه فيما بعد. وقد أعقبته قضية أخرى في عام ١٩٦٤م، أدت إلى «انتحار» إرنست بوكا، رئيس المحكمة العليا. وقد جاء في «اعترافاته» التي نُشرت بالكامل في الصحافة الحكومية لإثبات تعاملاته مع عالم الأرواح: «لقد لجأت إلى السحر، ولكن الساحر الأكبر أقوى، وانطلقت كل القوى ضدي، وكنت قد تسببت في إطلاقها.»16 وفي عام ١٩٧٣م، أُلصقت تهمة تقديم أضاحي بشرية17 بعدد من الضباط المفترض فيهم أنهم «تآمروا» هم أيضًا. أما جوناس سافيمبي، تلميذ البروفسور ريبن وصديقه، فقد ثبت تقريبًا أنه لجأ إلى إحراق منشقين عن تنظيمه أو خصوم له باعتبارهم «سحرة»، على الأقل في عام ١٩٨٣م وعلى ما يبدو أيضا في السبعينيات.18
كما أن منتقدي النظم الشمولية التي جاءت في أعقاب التخلص من الاستعمار لم يحرموا أنفسهم بدورهم من استغلال هذه الذخيرة عندما باتت الظروف مواتية لذلك. ففي بنين، صور الرئيس كيريكو في هيئة ساحر خلال المظاهرات التي جرت في ۱۹۸۹م؛19 وفي مدغشقر، أكدت قوى المعارضة «الحية» علنًا في ١٩٩١م أن الرئيس راتسيراكا يرعى في قصره «مسخين» يتعين إطعامهما كل يوم بأجنة بشرية حتى يدليا بنبوءاتهما. غير أنه سرعان ما تبين أن هذه الاتهامات كانت متناقضة في واقع الأمر، وأن السخط أو الخوف الذي أثارته يمتزج بقدر من الاعتبار، وعلى أي حال بقدر من الإعجاب إزاء قوًى خارقة. ومما له مغزاه مثلًا أن الرئيس كيريكو قبل بنوع من المسايرة إطلاقَ لقب الحرباء عليه، كما أعيد انتخابه رئيسًا للدولة في عام ١٩٩٦م بحصوله على ٥٩٪ من الأصوات بعد أن قضى فترة مبعدًا عن السلطة. كما أن جان بيدل بوكاسا كان يتعامل مع سجلين من ذخيرته الحافلة بالألقاب والمزايا، وهما تيري، قائد السلام (فقد كان بوكاسا «الأب الطيب») ونجاكولا، قائد الحرب؛ كما كان بوكاس أيضًا المتحدي للموت بفضل التمائم التي أودعها لديه أمين دادا الذي يحميه السحرة وجمعيات النساء السرية.20 وكان التباس مماثل قد أحاط بهالة شخصيتَي ليون مبا في الجابون، وفولبرت يولو في الكونغو، إذ إن تعاملهما مع الغيب كان طالعه حسنًا معهما قبل أن يواجها المصاعب.21
ولا يجد قادة الدول الأفريقية حرجًا في أن يحيطوا أنفسهم بعرافين، وفي الانضمام إلى طرق روحانية سرعان ما تتحول إلى منظمات رئيسية في النظم المعنية وإلى وكالات للصعود الاجتماعي.22 وهكذا كشفت دوريًّا حوليات زائير خلال العقود الأخيرة عن إفادات مثيرة. ففي عام ١٩٨٢م أفشى نجوزا كازل إي بوند، الوزير السابق الذي انضم مؤقتًا إلى صفوف المعارضة، أفشى أسرار نشاط «نقابة تضم زوجات بعض بارونات النظام» كن يناضلن ضد منافساتهن المنتميات إلى «المكاتب الثانية» الشهيرة؛ أي «أجهزة المخابرات»، وضد «النجاح المادي الذي تحرزه الفتيات العذبات» باستخدام نفوذهن لدى زوجة الرئيس موبوتو، وباللجوء أيضًا إلى خدمات عدد ضخم من صناع التعاويذ. وبهذا الصدد قال:
«وعلاوة على بعض الوقائع التي يُستحسن إسدال ستار الصمت عليها، كان صناع التمائم والتعويذات قد حولوا الجزء الخصوصي من مقر سكني إلى محل إقامتهم؛ غرفة نومي أثناء غيابي بالطبع. ولما كانت الأسفار جزءًا من نشاطي اليومي تقريبًا، بصفتي وزيرًا للخارجية، فقد باتت مهمة صناع التمائم سهلة إلى حد كبير. ولم يكن هؤلاء المشعوذون يكتفون بترك تماثيل صغيرة وغيرها من ضروب «العمل»، بل كانوا يأتون أيضًا ﺑ «أدوية» في شكل حبوب أو مساحيق أو سوائل لوضعها في طعامي. ولما كان الخوف قد استبد بأحد خدمي فقد أفادني بألا ألمس طعامي. وقد زعمت أني أعاني من عسر الهضم وامتنعت عن الأكل. وأعطى خادم آخر قطعة من اللحم المغموس في هذا المسحوق لكلبي الذي مات فورًا. وهنا أصبح الوضع خطيرًا […] كانت «النقابة» الطويلة الباع قد قررت إذلالي. واستدعاني الرئيس بهذا الخصوص فآليت على نفس أن أشرح له الأمر برمته. وكان تفهمه لوضعي متطابقًا مع التشابه الفريد لحالتي، وقد صاح: زوجاتنا يبالغن، مما أراح بالى.»23
وبعد أن تم إرساء التعددية الحزبية، اعترف كبار رجالات الدولة بكل ما اضطروا إلى ارتكابه من أعمال خسيسة لكي يظلوا متمتعين بحظوة المارشال موبوتو، ومنهم مثلًا ذلك المدعو بوفاسا إمبيا نكوسو، الوزير السابق الذي اعترف بأنه «نام بجوار أجداث» بمقتضى الميثاق الذي عقده مع الشيطان.24 بيد أننا لسنا في حاجة إلى الاستماع إلى اتهامات أو اعترافات صريحة إلى هذا الحد لكي نقتنع بوجود ممارسات خفية في العالم السياسي لأنها واضحة جلية. ولا تخلو أي انتخابات من تصرفات؛ فعندما سئل سبع وأربعون من المشعوذين في أبيدجان في عام ١٩٨٥م، أكدوا أنه بمقدورهم إعطاء الفرصة لعملائهم لكي يفوزوا في الاقتراع. وفي عام ١٩٩٢م، حاول بعض المواطنين من برازافيل تسريب حبوب الذرة «ذات القدرة السحرية على التكاثر»25 في صناديق الاقتراع. ولا مجال للتوصل إلى منصب وزاري دون وساطة أحد المتخصصين في هذا الفن. وكان هوفويه بوانيي يحذرهم قائلًا: «لا داعيَ لاستشارة المشعوذين، فأنا أعرفهم جميعًا.» والواقع أن الطريق المؤدية إلى قصره في كوكودي كانت تقدم فيه العديد من القرابين.26 ولم يحدث أي تمرد سواء كان قوميًّا أو ماركسيًّا، بدون عرافين وأحجبة.27 وليس هناك أي انقلاب يحرم نفسه من تلك الورقة الرابحة، حتى إن بعض الانقلابيين يؤمنون بأنه بإمكانهم الاستغناء عن أسلحة أخرى والنجاح في قلب النظام الملعون بوسائل روحانية بحتة.28 وربما اقتضى الأمر التضحية بقرابين بشرية لتقلد السلطة. وقد اتضح ذلك فيما يتعلق بسيكوتوري — إذ كان من مهام معسكر الاعتقال في بوارو أن يوفر ما يلزم من الأضاحي — كما تتكاثر المعلومات حول عمليات القتل الطقوسية في بلدان خليج غينيا.29 ولا مجال للكفاح ضد الأبارثايد في جمهورية جنوب أفريقيا بدون تشبيه نظام اللامساواة بأعمال «السحرة» المشئومة. لقد صاح ثابو مبيكي، وهو أحد القادة الرئيسيين للمؤتمر الوطني الأفريقي: «بولالا أبا ثاكاتي! اقتلوا السحرة!» وذلك في مؤتمر عُقد في أمستردام، مرددًا بذلك صيحة الحرب التي أطلقها أصلًا الملك دينجان، كما أن كتائب الموت التابعة لحركة إنكاثا كانت تطلق بدورها نفس الصيحة وهي تطارد رفاق المؤتمر الوطني الأفريقي في قطارات الضواحي.30
والممارسات الخفية أبعد عن أن تكون من الآثار المتبقية للتقاليد التي سيزيلها التطور الاقتصادي، فهي توفر وسيلة لتفسير العالم المعاصر، وتتيح إمكانية فهم التبادل النقدي، وتصور اقتصاد السوق، وصياغة التحولات في النظام العائلي، وتقبل العلاقة مع البيض. ولذا فإن تصورات العالم الخفي ليست جامدة، بل قابلة للتطور. وعلى سبيل المثال فإن أشكالًا جديدة من السحر تظهر، ومنها الإيكونج في الكاميرون.31 وبينما يدور الحديث عن الأسلاف، لا تقتصر أبعاد ذلك الوجود الاجتماعي على الموروث الثقافي، إذ إننا بصدد مجال يُبتكر المستقبل من خلاله. وفي ظل تلك الأوضاع يبدو من غير المألوف ألا يستثمره المحركون السياسيون؛ فليس هناك تحرك سياسي على هامش اللامرئي، لأنه لا وجود لمباراة كرة قدم ولا امتحان مدرسي، ولا علاقة غرامية أو زوجية، ولا مرض أو موت، ولا نزاع خاص بالعمل، ولا إدارة لمنشأة، ولا عمليات سطو، لا تدخل هي أيضًا بدورها في هذا الإطار.
وتشارك في الإيمان باللامرئي كل العناصر الاجتماعية تقريبًا، الكبيرة منها والصغيرة؛ فقد يكف سكان مدينة بأسرها عن المصافحة باليد خوفًا من «قتلة الجنس» الذين يقضون على ذكورتهم بتلك الوسيلة، أو يقلعون عن التعامل مع الناس خشية عمليات القتل الطقوسية، أو يتبادلون السعف لطرد «السيدة البيضاء»، التي تهلك الرضع. ويُجري أحد وكلاء التأمينات تحقيقًا لاقتناعه تمامًا بأن العديد من الأعمام يُبرمون عقود تأمين ضد الوفاة لصالح أبناء عمومتهم لكي «يأكلوهم» بعد ذلك؛ ولا يعمل مستخدمو منشأة عامه موريتانية إلا بعد الظهر دون أن يتعرضوا لأي لوم؛ لأن مدير تلك المنشأة ينتمي إلى طائفة الحدادين، بينما ينصح الناس بتحاشي أفراد تلك الطائفة الاجتماعية في الصباح لإبعاد الشر عنهم.32 وحتى إذا كان الأفريقي لا يؤمن بيقينيات المحيطين به أو ناخبيه إلا أنه مضطر إلى وضعها في الاعتبار؛ فالمرشحون في انتخابات كوت ديفوار التشريعية في ١٩٨٥م «تدرَّعوا» لا لسببٍ سوى بث الطمأنينة في نفوس ذويهم أو أنصارهم.33
فهل يشكل إذَن ذلك الإيمان المشترك ثقافة أفريقيا؟ لا بالتأكيد، إذا كان الغرض من ذلك القول بأن هذا الإيمان يشكل كتلة من التصورات المتماسكة التي لا تتأثر بالزمن وتتفوق في أهميتها على السجلات الأخرى، وتكون بشكل ما من النوع الخطابي المطلق في مجال السياسة، وتشكل رؤية أولية للعالم بحيث يكون كل شيء بالنسبة لها مجرد طلاء، ويلاحظ المؤرخ بالطبع أن هناك تصورًا موحدًا نسبيًّا بخصوص السحر عند البانتو في الغابة الاستوائية.34 ولكن الأنثروبولوجي يثبت من جانبه أن تلك الممارسات الحقيقية ليست متجانسة أو مانعة لسجلات أخرى تتعلق بالتحرك الاجتماعي. ومن الممكن أن تتعايش مع طقوس الاستحواذ،35 على عكس رأي ظل معترفًا به لفترة طويلة، وهي كامنة في نفوس الكاثوليك المؤمنين، وإن لم يكونوا أقل مسيحية (ولكن أكثر ميلًا للإحسان) مع ذلك. وبهذا الصدد كان تعليق صحيفة كاميرونية على الوجه التالي بعد صدور قرار يقضي بإيقاف قس ينتمي إلى حركة مناهضة للسحر، عن ممارسة مهامه الدينية: «ومما أثار الدهشة والخزي أن أسقف سانجمليما يشن الحرب ضد أعضاء الطائفة المسيحية ويتحالف مع الفاسدين، وهم السحرة والمشعوذون وصناع التعاويذ […] ومما يثير المزيد من القلق أن هذا الحبر يتحمل، كما نعلم مسئولية مصير عدد من القساوسة من ياوندة حتى سانجمليما. ومن الواضح أنه يريد الآن أن يلتهم حيًّا القس جاسبار ماني […] والسرعة التي تكتنف هذه القضية برمتها تدل بكل جلاء عن إرادة تدمير خالصة.»36
وفضلًا عن ذلك فإن ممارسات السحر في نطاق ثقافي معين تختلف من منطقة إلى أخرى، ومن عهد إلى عهد آخر.37 وتكشف الملاحظة المعاصرة لذلك النطاق أن صورة اللامرئي متنوعة ومعقدة بقدر أكبر مما كانت توحي به أعمال المؤسسين الأوائل للأنثروبولوجيا. والتمييز الشهير بين الشعوذة والسحر الذي أورده أيفانز بريتشارد انطلاقًا من حالة الزاند تم تعميمه بطريقة متعسفة، وهو بالأحرى الاستثناء لا القاعدة.38 ومن جهة أخرى لا يمكن الرضا بالتأكيد على أن الشعوذة مجرد أداة هيمنة أيديولوجية؛39 فهي تخدم في الواقع الصغار كما تخدم الكبار، وتشكل عامل عدم تحديد للوضع الاجتماعي على الأقل نسبيًّا.40 ولعل باختين، عالم الدلالات الروسي، كان سيتحدث على الأرجح عن «اختلاف البنية»؛ إذ ربما احتلت الشعوذة في أفريقيا ما أسنده هذا العالم لدور الكرنفال في المجتمع الغربي في القرن السادس عشر.
ومع ذلك فإن ممارسات اللامرئي تشكل بلا جدالٍ ممارسات ثقافية حتى إن كانت لا تجسد تمامًا الثقافة الأفريقية. فنحن نود أن نتصور أنها ممارسات غربية بالنسبة لنا. وهذا أمر غير مؤكد بالطبع. فعلى الصعيد السيكولوجي، لا تقول نظريات السحر الأفريقية شيئًا أكثر مما جاء في كتابات جرودك، ولينج واسترسون. والواقع أن أشكال التعزيم والرقية الجديدة التي تعتبر الإثراء أشبه بالتهام الآخر، ماركسية للغاية في حقيقة الأمر؛ فالتراكم البدائي يقوم فعلًا على الاستلاب. ولما كان الرأسمالي يستحوذ على السلطة بل والحياة، فمن الممكن أن يكون هناك تراكم.41 على أنه لا يهم منذئذٍ أن يسهم خلق نوع من الغربة الجذرية «بينهم» و«بيننا»، في جعل اللامرئي الأفريقي واقعًا ثقافيًّا يبدو غريبًا في نظرنا.
ومن جهة أخرى فإن ممارسات اللامرئي المفهومة فورًا بالنسبة للأفارقة تشكل إحدى الأدوات المفضلة التي يخترعون بواسطتها من جديدٍ اختلافهم في عملية العولمة، ويقدمون عن طريقها تعريفهم للمفاهيم العامة. وحتى يمكن فهم ذلك يتعين أن يستقر في أذهاننا أن أبعاد الحياة الاجتماعية هذه كانت دائمًا بمثابة «حدود» مختارة يعتمد عليها الابتكار الثقافي في العلاقة مع العالم الخارجي. وعلى سبيل المثال يتجاوز بصفة عامة الطواف التلقيني الذي يتولاه المطببون لعلاج المرضى وغير ذلك من ضروب المداواة، يتجاوز الأصول العرقية، وكثيرًا ما ينتمي أصلًا مشعوذو الرؤساء إلى مناطق أو بلدان أخرى خلاف تلك التي ينتمي إليها زبائنهم الأجلاء. ويطوف الأفارقة حاليًّا في لامرئي عبر قومي وعولمي؛ فكنيث كواندا وجواكيم شيسانو يستشيران شيوخًا هنودًا، ومستشار بول بييا حاخام يهودي متعمق في التفسير الصوفي والرمزي للتوراة، وتنتشر في دوالا شائعةٌ فحواها أن هناك عصابة من السحرة تقيم علاقات مع المافيا الإيطالية.42 وفي المقابل تعاني صناديق بريدنا وطأة بطاقات لمشعوذين يعرضون خدماتهم، وفي روما يكافح غبطة المطران ميلينجو ضد الأرواح التي تطارد أصحاب الحضور الكاريزمي في كافة أنحاء العالم.
والظاهرة ليست جديدة، ونصيب الانطلاقات الأخيرة للعولمة في تواجدها قليل؛ نظرًا لأن البيض يُنظر إليهم عمومًا، حتى وإن كانوا من المبشرين، من خلال اللامرئي، حيث لم يكفَّ شبح السحر عن ملاحقة التجارب الاجتماعية التي اندمج من خلالها نصف القارة في النظام الدولي: العبودية والوضع الاستعماري، والتنصير، وتغلغل الاقتصاد الرأسمالي، والمعارك السياسية المصاحبة للتخلص من الاستعمار.43 وعندما أكد الرئيس الداهية يوليوس نيريري أن صندوق النقد الدولي «ساحر» وليس «مطببًا» لكي يعزز معارضته لبرنامج تعديل بنية الاقتصاد الذي كان الممولون يحاولون فرضه على تنزانيا، كان واثقًا من أن هذه الحجة ستصيب هدفها وسط الرأي العام.44
غير أنه من الجلي تمامًا أن تصورات وممارسات اللامرئي هذه تنتمي إلى عالم التخيلات. ولا يعني ذلك أن كل ذلك ليس «صحيحًا»، فالوقائع تتحقق نظرًا لأن الناس يؤمنون بها. فهم يصابون بالأمراض ويموتون من جراء هجوم السحر؛ وهم ينقبون عن السحرة ويقتلونهم؛ ويتوجهون للمعارك في حماية التمائم، ويسقطون تحت وابل الرصاص، ويودَعون في السجون بتهمة الاشتباه في قيامهم ﺑ «صنع تمائم»؛ وهم يتولون العلاج علانيةً باسم نفس تلك الرؤية للعالم، بل ويتمتعون أحيانًا بعضوية رابطة مهنية تعترف بها الدولة. فالسحر واللامرئي موجودان لأنه يوجد أناس مقتنعون تمامًا بذلك. وردود الأفعال الناجمة عن ذلك اليقين فعالة، وهذا كافٍ بالنسبة لنا. كما أنها ملتبسة أيضًا، وذلك أمر هام بدوره. فالحدود دقيقة بين الاستخدام السيئ للامرئي والاستخدام الطيب. إنه عالم يتميز بقابليته للتحول إلى العكس، وبالتالي الشك الدائم. والاتهام بممارسة السحر به تلميح على أي حال؛ فالتفاهم يتم بالإشارة، والتفسير يتسم بالمغالاة. ومعنى ذلك أن الخلاف هو القاعدة، ويكون بصفة عامة فعالًا سواء كانت النتيجة طيبة أو سيئة، وأبعاد اللامرئي خيالية لأنها وهمية. ويذكرنا ذلك بتعريف جيل دولوز «الخيالي ليس غير حقيقي، ولكنه العجز عن التمييز بين ما هو حقيقي وغير حقيقي».45 على أن الخيال لا يتشكل دفعة واحدة وبشكل نهائي، بل إنه بالأحرى «مركَّب».46 وكيف يمكن تصور هذا «الخيال المركب» الخاص بالحداثة السياسية دون الانغماس في المثالية السحرية؟

الملاحظات

  • (١)

    الاسم السابق لجمهورية بوركينا (بوركينا فاسو).

  • (٢)

    الشهر الذي استولى فيه توماس سنكارا على تقاليد الحكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤