خاتمة

الابتكار المفارق للحداثة

بوسعنا الآن أن نقرر أربع نقاط أساسية تم التوصل إليها:

  • (١)

    وظيفة التخيل المؤسسية تقوم بدور مركزي في قيام الدولة، وفي الإنتاج السياسي بوجه عام.

  • (٢)

    أيًّا كانت محاولات استخدام هذه الوظيفة من جانب المحركين السياسيين — حتى وإن كانوا مهيمنين على الأوضاع — فإنها تظل غير قابلة للاختزال، ويمكن اعتبارها لا نهائية وأن ترويضها مستحيل.

  • (٣)

    وظيفة التخيل لا تنفصل عن النواحي المادية، وهذه الوظيفة بنَّاءة بحكم تلك الخاصية، وتتحقق التطورات السياسية والاقتصادية في أبعادها. وعليه لا يمكن النظر في جانب مادي ما إلا من خلال علاقته بالتخيل.

  • (٤)

    وأخيرًا، فإن التخيل لا يمثل كلًّا متماسكًا في مجتمع معين ما دام يشمل سديمًا من الأشكال غير متجانسة ودائمة الانفلات. وعليه فإن المنتجات التخيلية ليست بالضرورة متماثلة الأشكال. فهي بحكم تعريفها منتجات رمزية، متعددة المعاني، وملتبسة، وهي تسهم بهذه الصفة في «تماسك» المجتمع دون أن تتوفر أبدًا إمكانية إثبات «تماسك عالم معانيه»، أو حتى التسليم بإمكانية ذلك الإثبات.

وهذه القواعد المنهجية التي فرضت نفسها من خلال تفكيرنا قد تترك لدى القارئ إحساسًا بعدم الارتياح وانعدام الوزن. بيد أننا رأينا من خلال الرجوع إلى بعض النصوص الكلاسيكية في مجال العلوم الاجتماعية أو الفسلفية أن عدم تجانس المجتمع بشكل جذري قديم للغاية، وتم التدليل على ذلك على نطاق واسع. فقد توصلت أعمال توكفيل، وماركس، وفيبر، ودوركهايم، وباختين، ونوبرت إلياس، إلى ذلك الاستنتاج المزعج بتدليلات تتراكم بالأحرى ولا تتناقض عمومًا. وأكد عدمَ التجانس هذا أنثروبولوجيون أو سوسيولوجيون — ومنهم مثلًا كليفورد جيرتز، وروبرتو دا ماتا، وجورج بالاندييه، وأنطوني جايدنز — من خلال تجاربهم. وعليه فقد صاغ ميشيل فوكو إذن تقليدًا فكريًّا مستقرًّا تمامًا عندما أعلن استنادًا إلى المجلد الثاني في الرأسمال الذي جاء فيه: «المجتمع أرخبيل من السلطات المختلفة.» إذ أوضح أن «أي مجتمع ليس جسمًا موحدًا تمارس فيه سلطة واحدة فقط، ولكنه في الواقع تجمع، وارتباط، وتنسيق، وتدرج أيضًا لسلطات مختلفة تظل مع ذلك لكلٍّ منها خصائصها».1
والعجيب في الأمر أن المجتمعات الغربية تجد مشقة كبيرة في قبول هذا الدرس الأساسي واستيعابه. فهي تقع دائمًا في حفر الاستدلالات النفعية، فتعطي أهمية خاصة لاستخدام ومعالجة الأشكال المتخيلة والانفعالات أو البراهين الكلية، وتمنح الأولوية للعوامل الثقافية الأولية، مع أن أيًّا منها ليس أفضل من غيره. ويظل بالأخص مفهوم التغير الاجتماعي معياريًّا وممتدًّا في خط مستقيم وغائيًّا، كما تشهد على ذلك المماحكات حول «التحولات الديمقراطية» و«الانتقال إلى اقتصاد السوق».2 ومع ذلك، ومنذ أمد طويل «اعتاد المؤرخون على ألا ينظروا بالضرورة إلى التحديث باعتباره تغييرًا شاملًا».3 ففي الولايات المتحدة مثلًا لم يكن توحيد النقد عملية سهلة. فقد شكلت إحدى القضايا الاجتماعية الشديدة التفجر في نهاية القرن التاسع عشر، وتعرضت على نطاق واسع لعراقيل مختلف الممارسات المناهضة لتوحيد النقد.4 وكيف يمكن أن ندرج هذا الحدث الذي وقع في دنيبروبتروفسك في عام ١٩٩٤م في النموذج الليبرالي الجديد للإصلاح: «فبينما كان أنطولي كوزوي البالغ من العمر ٣٧ سنة، يتريض في منتزه المدينة، هاجمه كلب ضخم، وقد جذبته على ما يبدو رائحة الكحول القوية التي كانت تفوح منه، وخلال المعركة التي اشتبكا فيها قتل الرجل الحيوان بأن مزق عنقه بأسنانه.»5 وعلى أي حال فإن اقتصاد السوق يتشكل أو لا يتشكل تلك التصرفات!

لما كان المرء يغض الطرف عن أبعاد التخيل وبالأخص «عملية تكوينه» بالمعنى الفرويدي للمصطلح، فإنه يتستر على أبعاد اللبس. وهذا النسيان يجعل الابتكار المفارق للحداثة أمرًا غير معقول أو فاضحًا. نعم، المدينة «عبثية» دائمًا بالمفهوم الفرويدي. غير أن هذه العبثية ملازمة لتحقيقها في الخيال، وفي «تشكيلها» و«ترجمتها الملخصة» في سلاسل من الممارسات المتباينة. وعندما يدين المنطق الانغلاقي بعض تلك المفارقات، فإنه لا يكون قد ارتكب أقل التفسيرات الخاطئة التي تحول دون فهمنا لزمننا.

وينطبق ذلك على الابتكار الديني للحداثة. فمن المعروف أنه قام بدور كبير في تاريخ الغرب، وأن إجراءات التمثيل البرلماني من أصل كنسي، وأن معارضة الإصلاح شأنها شأن الإصلاح نفسه ساهمت في حلول أشكال سياسية وفنية جديدة. كما أن التعبئة الكاثوليكية كانت أساسية في التحول الاجتماعي بل وفي التطور الهائل الذي شهدته أيرلندا، وبرينانيا، وفانديه، وبافاريا، وفلاندريا، والبندقية، وأن نفس هؤلاء الكاثوليك، الذين رفضت الكنيسة فكرهم الديمقراطي، قد دعموا تأسيس الديمقراطية ورسخوا أقدامها عن طريق الأحزاب الديمقراطية المسيحية. وكذلك كانت التَّقَوية (حركة دينية معتمدة على دراسة الكتاب المقدس والخبرة الدينية الشخصية) البوتقة التي سُقيت فيها قوة بروسيا في القرن الثامن عشر، وكانت الميتودية (التي حاولت إحياء كنيسة إنجلترا) مصدر نشأة الوعي العمالي الراديكالي في إنجلترا في القرن التاسع عشر، كما أن الاستقلال الأمريكي وديمقراطيته هما الابنان الشرعيان للتطهرية. وفضلًا عن ذلك لم تكن بالضرورة التيارات الدينية الأشد تعلقًا بأهداب الفكر المحافظ، أقل التيارات مشاركةً في التحديث، بل إن «راديكالية حقيقية للتقاليد» قد تواجدت عن طريقها.6
ولا يثير كل ذلك الدهشة من وجهتَي النظر النظرية أو المنهجية. فهناك أولًا العديد من الدراسات التي تناولت حدس هيجل إزاء دور المواكب المدنية أثناء الثورة الفرنسية. فقد عثرت تلك المواكب، سواء في المدينة الإقطاعية أو الحديثة، على الوظيفة الخلاقة للطقوس التي كان فوستيل كولانج (۱۸۳۰–۱۸۸۹م) قد أخطأ بأن خص بها المدن القديمة وحدها. فالمدينة تنشأ وتتغير وتبعث من جديد من خلال احتفالات هذا النوع بين ما هو ديني ودنيوي، وتكون أكثر من مجرد عرض مسرحي لهويتها. فعلى سبيل المثال، كانت فلورنسا تعيش عن طريق العديد من الاحتفالات التي كانت تحقق وحدتها، وتحكم في الوقت نفسه التنافس بين الشخصيات الكبرى. وفي نفس هذه المدينة، في القرن الخامس عشر، تم الانتقال من النظام الجمهوري إلى الدولة شبه الاستبدادية، والإشراك التدريجي للأطفال واليافعين والعامة في حياة المدينة الموكبية التي كانت محرمة عليهم قبل «ثورة الطقوس».7 كما أنه وفقًا للتحليل الكلاسيكي لفيكتور ترنر، فإن «مراكز الحج» […] تولد «مجالًا»، وربما ساعدت في «خلق شبكة من المواصلات حولت فيما بعدُ الرأسمالية من نظام قومي إلى نظام عالمي قابل للبقاء».8 وقد سبق أن رأينا أن «الحج الإداري» الدنيوي الطابع كان على ما يبدو حاسمًا في بلورة الجماعة المتخيلية للأمة في العالم الجديد، وأن «الحج السياحي» ربما يرسم حاليًّا مجالًا حضريًّا أوروبيًّا.
بيد أن الطقوس الدينية بالمعنى الحقيقي أبعد عن أن تكون كمًّا مهملًا في تكوين الأمم الأوروبية، ولسنا في حاجة إلى التريث أمام موقف الملكية في إنجلترا وفرنسا، ولنذكر المواجهة التي وقعت بين الدولة الإيطالية الفتية والكرسي البابوي على نفس المسرح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ففي عام ١٨٧٨م تعرض الموكب الجنائزي للبابا بيوس التاسع لتهجم الجماهير عليه بعنف فوق جسر سان أنجيلو، حيث راحت تهتف: «ألقوا به في الماء، هذا البابا الخنزير! عاشت إيطاليا! عاش جاليباردي!» واضطرت قوات الدرك الايطالية (الكارابينييري) للتدخل لإفساح الطريق للموكب، علمًا بأن الفاتيكان كان قد رفض أصلًا هذه الحماية حتى لا يكون ذلك اعترافًا منه بالدور المسئول للدولة في تنظيم الموكب. وعندما اجتمع سير آلاف القساوسة في سبتمبر ۱۸۸۲م في سان لورنزو لإحياء ذكرى قداسة البابا، عقد الليبراليون مظاهرة مضادة في مدفن عظماء الدولة أمام مقبرة الملك فيكتور عمانويل الثاني.9 والتزامًا منا بالمصطلحات التي أوردناها، فإن المنافسة الرمزية حول الضريحين كانت بمثابة «ترجمة ملخصة» للنزاع بين شرعيتين متصارعتين في إيطاليا. كما أن العلاقات بين المراكز السياسية والدينية وبعض الأرباض التابعة لها كثيرًا ما نقلتها وسائل الإعلام عن طريق النشاط التخيلي الخاص بالطقوس. ففي الفترة الواقعة بين سنتَي ١٨٣٠ و١٩٥٠م ساهم ما لا يقل عن ثمانين ظهورًا لمريم العذراء في تأكيد هوية ومصالح منطقة البرابان الكاثوليكية في هولندا حيث الأغلبية من البروتستانت. وفي عام ۱۹٨١م، ظهرت السيدة العذراء، في الوقت المناسب أيضًا في مدينة مديوجوري بالبوسنة والهرسك لإغاثة الرهبان الفرانيسكان الحريصين على الحفاظ على استقلالهم الذاتي في مواجهة السلطات السياسية وأسقف موستار والفاتيكان.10
وعليه، فإن المدينة الحديثة لم تتجرد من الأوهام بالقدر الذي افترضه ماكس فيبر؛ فالاحتفالات والمواكب والمظاهرات لا تزال فعالة، وتظل لحظات جوهرية في تأكيد جوانبها المعنوية، والإخراج المسرحي للموت مثلًا مطبوع دائمًا بأبهة مواتية للتقيد بتدرجات السلطة أو الثراء عن طريق اتباع بروتوكول صارم، كما قد يكون مجالًا لتسييس صريح بتجسيد المواجهة بين السلطات والمعارضة، أو لاستئثار أنصار الفقيد بصيته سواء كانت نواياهم سليمة بقدر قليل أو كبير (كما جرى في فرنسا عند وفاة جورج بومبيدو) بل وخصومه أيضًا (كما جرى في ١٩٩٦م عندما نعى جاك شيراك سلفه). وقد سبق أن رأينا في الفصل الثالث أن القدرة الفعالة للطقوس السياسية تعود إلى الانفعالات التي تتركز فيها. والحداد انفعالٌ مُواتٍ بشكل خاص لتحويل المشاعر إلى عمل سياسي فعال. ففي أغسطس سنة ١٩١٤م مثلًا، ارتجل ليون جوهو، الأمين العام للاتحاد العام للعمل — وهو التنظيم الوحيد الكبير لأقصى اليسار الذي لم يكن قد أيَّد بعدُ سياسة الحكومة في مجال الدفاع الوطني — ارتجل تأبينه لجان جوريس.(١) وفي خِضم الحمية الجمهورية التي سادت الاحتفال، وبتأثير من تصفيق الجمهور عندما أشار إلى ضرورة الصمود أمام العدوان الألماني، أعلن باسم التقاليد الثورية مساندته لما أسماه رئيس الجمهورية ريمون بوانكاريه بعد ذلك بساعات في رسالته إلى البرلمان «الوحدة المقدسة»، فسجَّل بذلك عودة الطبقة العاملة المنظمة في نقابات إلى حضن الأمة.11
وتبعًا لذلك تتجاوز المواكب الجنائزية حتمًا محاولات «إدارتها». فقد تثير سخطًا شديدًا ضد الدولة باعتبارها المسئولة عن موت البطل أو المتواطئة في ذلك — كما حدث في بالرمو في ١٩٩٢م، أثناء جنازة القاضي بورسلينو وأفراد حراسته — أو حزنًا عميقًا بكل بساطة حتى إنه يغير النظرة السابقة للمسار السياسي لمن كان المقصود به هذا الحزن، مثال ذلك الملك بودوان، أو بيير بيريجوفوا، أو فرنسوا ميتران. ومن هذه الزاوية تكشف المواكب الجنائزية عن التوقعات المدينة للجماهير؛ فغضب أهالي بالرمو الشديد ينم عن رفضهم للجوانب الخفية التي تقوم على أساسها السلطة في إيطاليا، ومن خلال حزن الباريسيين الذين مروا في خشوع أمام جثمان بيير بيريجوفوا،(٢) يتضح التأمل حول مصير اليسار، وحول العلاقة بين المال والسلطة، وحول العلاقات بين الصحافة والحياة السياسية؛ وهناك خلف حزن البلجيكيين الاستفتاء من أجل وحدة المملكة. وفي أوروبا الغربية أيضًا تعرض الطقوس الجنائزية «الوحدة المتخيلة»، وتضفي عليها معنًى أخلاقيًّا وسياسيًّا بنفس القدر.
ومن وجهة النظر هذه شكلت جنازة فرنسوا ميتران بالطبع نموذجًا في هذا المجال. فقد بدت نسخة مكررة تكاد تكون مقنعة لأسطورة شخصيتي الملك، إذ اضطرت القنوات التليفزيونية إلى تخصيص شاشاتها لكي تبث على الهواء احتفالين متزامنين ومتعادلين، أحدهما مقتصر على أفراد العائلة والمدينة التي نشأ فيها، والآخر مخصص لعظماء العالم. وكان تشييع جثمانه تكريسًا للاعتراف بالابنة غير الشرعية للرئيس الراحل والتعايش بين امرأتين كان قد أحبهما. وكان المشهد في غاية الغرابة في نظر المراسلين الأجانب حتى إنهم فضلوا في الكثير من الأحوال إسدالَ ستار الصمت أو التمويه على ذلك «الاستثناء الثقافي». ولكن لا يمكن التزام الصمت إزاء تلك الحداثة الأكيدة، بمعنى أنها تتفق مع التجربة المعاشة لدى عدد من المعاصرين لا يمكن إهمالها. أما «السياسة» التي يقال عنها إنها فاقدة الاعتبار ومنفصلة عن المجتمع، فقد عرضت قصة حياة تبعث على التأمل، ويمكن أن تهز المشاعر: كان المشهد «جميلًا» كما في السينما أو في الروايات المصوَّرة. وفضلًا عن ذلك ساهمت بلا شك تأملات فرنسوا ميتران باستفاضة حول الموت مع كشفه عن مقاومته لمرض السرطان منذ ۱۹۸۱م واختياره بنفسه موعد وفاته، في تغيير التمثل الاجتماعي لمرض يُنظر إليه على أنه أفظع من أمراض أخرى، في نفس الوقت الذي كانت فيه فضيحة كبرى تلطخ سمعة رابطة البحوث الخاصة بمرض السرطان. وأخيرًا فإن المشاركة الإيجابية من جانب كلب الرئاسة — وهو من فصيلة اللبرادور — في الاحتفال الخاص، أكدت من جانب آخر المركزَ الذي تحتله الكلاب الآن في المجتمع الفرنسي وليس فقط للأسف في النطاق الخاص.12
وإلى جانب هذه الملاحظات والبحوث التي تؤكد أن المدينة الحديثة مدينة طقوسية أيضًا من وجهة نظر فوستيل دي كولونج ودوركهايم، هناك كم ضخم من الأدب النظري يدعونا إلى الربط بين العناصر المفسرة للتغيير وإلى رصد العلاقات المتشابكة في مختلف مجالات المجتمع. وهناك كذلك معالجة فوكو التي ذكرناها منذ قليل، وإصرار ماكس فيبر مثلًا حول التشابك الهائل بين التأثيرات المتبادلة، ونظرية الهيكلة عند جيدنز، والنموذج التصوري لنوربرت إلياس. وتتفق تلك المساعي المختلفة على الاعتراف بالطابع الملتبس والمفارق لطرق التحول الاجتماعي. ومن قبل تكررت في أعمال توكفيل عبارة «بدون عملهم». وفي نفس الوقت الذي أقام فيه ماكس فيبر نماذج مثالية، اعترف بدوره بأنه «يجب أن نتوقع أن تكون لتأثيرات الإصلاح عواقب غير متوقعة على الثقافة وغير مرغوبة من جانب الإصلاحيين، وهي عواقب كثيرًا ما تكون بعيدة إلى حد كبير عما كانوا يستهدفونه، بل قد تكون أحيانًا مناقضة لذلك الهدف».13 وهو يتبع تحليلًا مشابهًا يتعلق ﺑ «أنماط التوجه الاقتصادي».14
وقد ذهب إرنست ترولتش، المناقض الودي لماكس فيبر إلى أبعد منه بكثير في دراسته للابتكار المفارق للحداثة، فنوَّه بأن «دور البروتستانتية في ظهور العالم الحديث ليس بسيطًا بكل تأكيد»: «فقد كان لها دور غير مباشر، بل وغير مقصود في أكثر من مجال. وكل ما هو مشترك رغم كل شيء، بين البروتستانتية والثقافة الحديثة كامن في أعماق خبايا فكرها، وليس بلوغه سهلًا وفوريًّا بالنسبة للوعي. وبالطبع لا مجال للاعتقاد بأن البروتستانتية هي التي خلقت الثقافة الحديثة بشكل مباشر، فالأمر يتعلق فقط بنصيبها في ذلك. غير أن هذه المشاركة أبعد من أن تكون متجانسة أو بسيطة؛ فهي مشاركة متباينة في كل مجال من المجالات الثقافية المختلفة، وغير ظاهرة بقدر متفاوت ومعقدة في كلٍّ منها.»15 وعليه فمن المناسب التوصل إلى معرفة «مدى أهمية ما اضطلعت أو لم تضطلع به البروتستانتية في بعث أو دفع الحياة بوجه عام، وأساسًا ما ترتب على ذلك من عواقب غير مباشرة أو غير واعية، بل ومباشرة أيضًا فيما يتعلق بالآثار الجانبية والمعارضة، وكذلك التأثيرات التي تعرضت لها رغمًا عنا».16 وقد اختتم شرحه بذلك الأسلوب الفريد الذي اختصت به العلوم الاجتماعية في ألمانيا في بداية هذا القرن:
«لا يتم التوصل إلى تفهم العلاقة السببية الحقيقية إلا بالامتناع عن اللجوء إلى تبرير أحادي الجانب يعتمد على فكرة مرشدة من المفترض أن يستمد منها كل شيء، وأن يتم إعداد كل شيء أيضًا عن طريقها هي وحدها، وبشرط أن يوضع في الاعتبار فيض التأثيرات المتباينة والمتوازية والمستقلة التي قد تتقاطع أحيانًا، ويجب ألا نقلل من شأن المصادفات، أي العلاقات المفاجئة التي تنشأ بين عدة تسلسلات سببية مستقلة، عندما يتعلق الأمر بمثل تلك الظواهر.»17

على نفس المنوال، نوَّه نوربرت إلياس بأن «الحضارة» و«الترشيد» ليسا ثمرة الرشد البشري، ولكن من إنتاج ما كان يسميه «نظام التبعية المتبادلة بين البشر». وقد لجأ بالذات ذلك المؤرخ المعاصر إلى نموذجه التصوري هذا، فأوضح مثلًا كيف أن التطورات التي تقرر أشكال تناضد المجتمع الفرنسي، في القرنين التاسع عشر والعشرين، تتجسد في «ديناميكيات عمياء»:

«والواقع أن الحيز الاجتماعي يبدو بناءً أقامته عدة أنواع من التماسك مختلفة بطبيعتها وبمدتها، تبدو في تنافس فيما بينها من أجل الموارد وأشكال التنمية الممكنة […] وعليه فإن عملية التقييم، كما يظهرها نموذج تصوري ما، أبعد إذن من أن تكون في خط مستقيم أو محددة بشكل أحادي الاتجاه عن طريق ظواهر وحيدة وهيكلية كبرى. ففي أغلب الأحوال، تنجم تغيرات هامة من خلال حركات على الحواف وضعيفة نسبيًّا […] والصورة التي تفرض نفسها انطلاقًا من مثل هذه الديناميكيات هي بالفعل عبارة عن شكل يتضمن نقاطًا متحركة تنتظم وفقًا لأشكال محلية متميزة، وهذا الشكل العام يتأثر في الوقت نفسه بتحركات كلٍّ من مكوناته، وبهياكلها الخاصة وبالديناميكيات المتولدة عن تلك الهياكل. وعلى هذا الصعيد بالذات يمكن التحدث عن تطورات عمياء، لأنه من الواضح أن كلا من تلك الأشكال الإجمالية التي تحققت خلال عملية التطور هي النتاج المؤقت لعدة حركات تتم انطلاقًا من مصالح ورؤًى ومشاريع مختلفة.»18
ومن بين الأمثلة في هذا السياق، هناك بروتستانتية الكلفانيين التي كانت عقبة صريحة في طريق تحقيق المركزية الملكية، وخدمتها مع ذلك في الأمد البعيد بتبني الفرنسية كلغة مقدسة بدلًا من لغة الأوسيتان المحلية في جنوب فرنسا.19 كما أن التحول السياسي في إسبانيا بعد وفاة فرانكو كان ثمرة ﻟ «اختيار وفاقي» من جانب العناصر المحركة التي لم تسعَ إلى بديل آخر عقلاني مع أو ضد الديمقراطية بقدر رجوعها إلى التقاليد وقواعد اللعبة السائدة من قبلُ في مختلف قطاعات المجتمع المدني. والديمقراطية الإسبانية مدينة إلى حد كبير ﻟ «تحولات» الكنيسة في الخمسينيات وﻟ «تبدلاتها» نتيجةً لتقدم العديد من الشباب الكاثوليكي في صفوفها، ولاندماجها في المجال الديني الأوروبي الغربي، ولردود فعل مجمع باتيكان-۲.20 فالانزلاقات والتفاعلات المتبادلة من مجال إلى مجال آخر في المجتمع دائمة. ومما يزيد من دواعي الحيرة التي تسببها أنها تعود إلى أسباب عارضة.21 وعندما تحدُث تلك «الترابطات غير المتشابهة» تكون ثمرة لعمليات ثقافية — ومنها بالأخص انتقال المعنى — حللناها في الفصل الثاني، وتدخل في إطار البعد المستقل الذاتي للتخيل؛ فهي إحدى تلك «العلاقات الوراثية الملموسة التي تكتسب حتمًا طابعًا فرديًّا خاصًّا»، والتي حدثنا عنها فيبر.22
ومع أن المجتمعات السياسية الغربية مزودة بكل هذه الحصيلة إلا أنها تبدو مشلولة وعاجزة عن اللجوء إليها عندما يتعلق الأمر بحل رموز علاقاتها مع الآخرين، ومنها مثلًا علاقاتها مع الإسلام ومع اندماجها هي نفسها في عملية العولمة. ويجعلنا ذلك على استعداد لاقتفاء أثر توكفيل عندما رأى أن مؤسسي إنجلترا الجديدة (مستعمرات بريطانيا السابقة في الولايات المتحدة) «متشيعون متحمسون ومجددون متهوسون في آن واحد»: «فقد كانوا أسرى روابط وثيقة للغاية مع بعض المعتقدات الدينية، ومتحررين من أي أحكام سياسية مسبقة.»23 غير أننا نمتنع فورًا عن مثل هذا القول بالنسبة لحركة إسلامية ما. فهناك فارق طبيعي بينها وبين عملية تعبئة سياسية من وحي مسيحي، تحول دون عقد أي مقارنة. فليست هناك أهمية في نظرنا لأن يذكرنا المؤرخ بصدد جاوه بأن «بوادر الحداثة لم تظهر مع مجيء البرتغاليين أو الهولنديين، ولكن مع قدوم التجار وانطلاق السلطنات الأولى».24 فلا أحد يستمع إليه أو إلى زميله الذي يعقد صلة بين نهضة الإسلام من جديد وبين التحول الاجتماعي،25 ولا أهمية أيضًا لقول الأنثروبولوجيين إن هذه التعبئة تحمل في طياتها تغيرات عميقة، سواء بالنسبة للممارسات الدينية أو بالنسبة للكائن الاجتماعي.26 ويكفي أن يشيروا إلى ذلك بخصوص استخدام الحجاب حتى تثور جوقة المتعلمانيين! فالانغلاقيون يؤمنون تمامًا بأن الإسلام واحد، لا يقبل القسمة، ومحكوم عليه بأن يتوالد ذاتيًّا إلى الأبد في ظل الظلامية والتعصب، وفي ظل نظام «الاعتدال» الخاضع للرقابة في أحسن الأحوال، هذا رغم أن تركيا أثبتت أن فكرها قابل للتطور والترشيد تحت ضغط مقتضيات التاريخ.27 وفي هذا المجال مكث الجدل على النطاق العام متوقفًا عند مرحلة ما كان يُسمى في العصور الوسطى السايكوماشيا، أي المواجهة بين كيانات مجردة ومتخاصمة: أثينا ضد سبرطة، وروما ضد قرطاجة، والغرب المسيحي والعلماني (علماني لأنه مسيحي: مع تجاوز المملكة المتحدة والولايات المتحدة وبعض الديمقراطية في الدرجة الثانية!) ضد الإسلام. ويتم التنازل بكل وقار لمن لا يقبلون تلك الرؤية المانوية بأن عقيدة الرسول يمكن أن تحمل في طياتها تغيرات اجتماعية ولكن سرعان ما يساق الاعتراض التالي: هل يسري ذلك على الحداثة بالمعنى الذي نقصده في الغرب حسب تراث التنوير باعتباره «خروج الإنسان من وضعه كقاصر وهو الذي تقع مسئوليته عليه هو نفسه» (كانط)؟
تستحق هذه القضية أن تعالج باختصار، إما أن يكون لدينا تعريف تاريخي أو سوسيولوجي للحداثة فنرى أنها مثلًا «مرحلة موجهة نحو المستقبل، ومتصورة على أنها ستكون على الأرجح مختلفة وأفضل إن أمكن من الحاضر والماضي»،28 أو تجربة اجتماعية خاصة بتلك المرحلة المعينة، وخصوصًا تجربة العولمة.29 وإما أن نكون مع فوكو، وهو يعلق بالذات على تساؤل كانط: ما هو التنوير؟ حيث لا نفهم «جيدًا» ماذا يعني مفهوم الحداثة هذا،30 ونعتبرها «على الأرجح حالة قائمة، لا مرحلة من مراحل التاريخ»، مع محاولة معرفة كيف أنها «منذ أن نشأت الحداثة وجدت نفسها في صراع مع مواقف مضادة للحداثة». وهكذا تتحول «الحداثة» إلى سلوك عام، «نوع من التساؤل الفلسفي يثير في وقت واحد مشكلةَ العلاقة مع الحاضر، وأسلوب التواجد التاريخي، وتكوين الشخص نفسه ككائن مستقل». ويرى فوكو أن «الخيط الذي يمكن أن يربطنا بتلك الطريقة بالتنوير ليس الإخلاص لعناصر عقائدية، بل بالأحرى الإحياء المستمر لموقف، أي لسلوك عام فلسفي، يمكن أن يوصف بأنه نقد متواصل لكياننا التاريخي»، وما جاء بعد ذلك في استدلاله مهم بالنسبة لمقصدنا؛ لأنه يرفض أي «ابتزاز» عن طريق التنوير في شكل «بديل مفرط في التبسيط ومتسلط»؛ «فإما أن تقبلوا التنوير فتظلوا متمسكين بتقاليد العقلانية […] وإما أن تنتقدوا التنوير وتحاولوا بذلك الإفلات من مبادئ العقلانية هذه». وفضلًا عن ذلك يرفض فوكو أي خلط بين التنوير والقيم الإنسانية. والواقع أن روح الحداثة تتمثل في «موقف حدودي» يحرص على أن يتساءل: «ما هو نصيب ما يكون فريدًا وعارضًا وناجمًا عن ضغوط تعسفية من بين ما هو شامل على نطاق العالم، وضروري، وإجباري بالنسبة لنا؟»31
من الواضح أن مطلب الإسلاميين يتفق مع التعريف الأول للحداثة حتى وإن لجأ أحيانًا إلى مسعًى أصولي يزعم أنه سيعيد عصر الخلافة الذهبي؛ فهو يريد أن يكون ثوريًّا أو تقدميًّا، ويرى أن الأمور ستتجه نحو الأحسن من الزاوية الأخلاقية، وأيضًا من وجهة نظر الاستقلال الوطني، والديمقراطية، والمساواة الاجتماعية؛ وهو لا يخفي إعجابه بالتكنولوجيا. ولو أعطيت الأفضلية للتعريف الثاني للحداثة، فهناك جانب على الأقل من المناضلين الإسلامين يبذلون الجهود بالذات للتخلص من «وضع القاصر» من خلال التزامهم، عن طريق استخدام العقل، مما يثير ثائرة التقليديين ضدهم. ورغم أن الأوهام التي تصور إيران على أنها محط الأممية الظلامية، إلا أنها في الواقع معمل تجري فيه تجارب ما يصفه البعض بأنه إصلاح في صفوف الإسلام، بكل ما يتضمنه ذلك من مناقشات ونزاعات وترددات. لقد تم الإعداد لثورة ١٩٧٩م من خلال جهود ذهنية وفقهية مكثفة، بالأخص في مدينة النجف المقدسة.32 وتجري الآن عمليات إعادة نظر كبرى بين الفكر الديني والفكر العلماني في ظل الجمهورية الإسلامية ومن خلال نزاعات بالطبع.33 ويرى سعيد أرجوماند أن رجال الدين الدستوريين المعاصرين في إيران هم أولى السلطات الإسلامية القائمة التي تستشعر الحاجة الملحة إلى التوفيق بين المفاهيم الأساسية للعلم السياسي الإغريقي، والشريعة باعتبارها القانون الإسلامي المقدس.34

وعلى العكس فإننا نرى كيف أن التشهير الدائم باسم التنوير، ذلك الخليط المتناثر من المبادئ الإنسانية والواقعية السياسية التي رحبت بانقلاب ۱۹۹۲م في الجزائر، يتذرع بالدفاع عن العلمانية والمرأة مع أنه لا يتفق مع روح الحداثة.

•••

يجب أن يمكننا نقد الانغلاقية الثقافية من التخلص من المعضلة الزائفة التي تميل المجتمعات الغربية إلى الانزواء في حدودها. فالبديل لا يقع بين العولمة من خلال التماثل والتوحد، على حساب تنوع الثقافات، وبين النسبية عن طريق زيادة حدة التفردات الثقافية على حساب بعض القيم الأساسية. فالعولمة تعني إعادة صياغة الفوارق، وليست هناك حاجة إلى جعلها شرطًا مسبقًا لها. وهذا الإصرار ليس حشوًا فقط، بل إنه يثير الريبة لأنه يفتح الطريق أمام كافة أنواع القيود الذهنية والسياسية.

فالخطاب الانغلاقي وكذلك للأسف الدبلوماسية الانغلاقية يحصران أكثر فأكثر المجتمعات التاريخية في تعريف جوهري لهوياتها، بإنكار حقها في الاستعارة وفي الاشتقاق الخلاق، أي التغيير المحتمل عن طريق الابتكار المفارق للحداثة. ولا وجود هنا لأي شيء سوى حلف مقدس محافظ بين الطغاة المحليين وحماتهم أو الضالعين معهم في الغرب، وهو حلف كنا شهودًا على تناقضاته في العراق، ورواندا، والجزائر، وصربيا، والصين وروسيا، ولم يكن له حتى فضل إقرار السلام ولو بالقمع. فلن يصبح مترنيخ كل من أراد ذلك! والواقع أنه يتعين على الديمقراطيين الغربيين أن يكونوا قادرين على الإعلان بأعلى صوتهم عن الطابع العالمي لمبادئهم السياسية مع الأخذ في الاعتبار أنه سيعاد تنقيتها في المجتمعات التي تستقبلها. وستنجم روعة قيمهم من خلال تسليمهم بأن «عولمة» هذه المجتمعات، أي إعادة ابتكارها، ستتم ليس عن طريق قادة حريصين على «أصالتهم»، ولكن من خلال عمل ملموس فقط لنشرها في أعماق المجتمعات المعنية.

فالشباب الفولبي يتزينون بنظارات شمسية وجوارب متعددة الألوان، وحقائب يد، وصنادل نسائية من المطاط ذات كعب مرتفع لكي يتميزوا عن الجماعات الاثنية الأخرى وعمن يكبرونهم في السن. وإذا كانت منتجات الثقافة المادية الرأسمالية لا تشوه هوية مستهلكيها بل قد تعززها، فإن قيم الديمقراطية ومؤسساتها تولد خصائص تتعلق بالهوية عندما تنقل إلى مناطق أخرى. والقضية المطروحة ليست مثلًا تحديد ما إذا كانت الديمقراطية تتلاءم مع «الثقافة الأفريقية»، ولكن كيف ستجعلها المجتمعات الأفريقية متلائمة بتبنيها لها، على غرار الهند التي أعادت صياغة موضة وستمنستر.35 ويجدر بنا أن نلاحظ أن شتلات النظم البرلمانية التي تم نقلها خارج أوروبا ازدهرت لا كنسخة مطابقة للأصل، ولكن كتهجين بالاستعانة بذخيرة الشرعية المحلية. وهكذا «صقلت رجل السياسة في الهند الديمقراطية خامات تقليدية، فهو ليس إنسانًا جديدًا».36 وبالمثل «تساند الجماهير التركيبة الديمقراطية الحديثة، لا لأنها قرأت مؤلفات جون ستيوارت ميل، ولكن بسبب ماضيها الإسلامي». «وهي تساندها بقدر ما تجد فيها إمكانية تجشم الجانب الأكبر من حقها الفطري في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وفي حماية مجالها الخاص.»37 ويسجل هذا الموقف تواصل التوجه الانتخابي في تركيا منذ ١٩٥٠م. وليس من المؤكد في هذا الصدد أن يؤدي تسلم حزب الرفاه مقاليد السلطة إلى هزة أرضية. وكان بروديل يقول عن الرأسمالية إنها «زائر الليل» «الذي يصل بعد أن يكون كل شيء في مكانه».38 وينطبق ذلك على الديمقراطية أيضًا، وتتمثل القضية في تأكيدها بفضل تدخل العناصر السياسية المحلية، لا في كون عناصرها «أصيلة».
ومما يجعل تبرير عدم تبصر المحافظين في هذا المجال متعذرًا بقدر أكبر أن توكفيل، مؤلفهم المقدس، كان قد أدرك إمكانية أن تصبح الديمقراطية عامة مع تباينها، وإن كان قد أعطى الانطباع أحيانًا أنه خص بها «المسيحيين» وحدهم. وقد توقع «مجيئها القريب الذي لا مفر منه والشامل […] في العالم»،39 وأعلن في هذا السياق: «إن ما رأيت عند الأنجلوساكسونيين يدفعني إلى الاعتقاد بأن هذا النوع من المؤسسات الديمقراطية يمكن أن يصمد في بلدان أخرى غير أمريكا إذا ما تم إدخالها في المجتمع بحذر، لتمتزج شيئًا فشيئًا مع العادات وتنصهر تدريجيًّا مع آراء الشعب.» ثم تساءل: «لو أن شعوبًا أخرى استعارت من أمريكا تلك الفكرة العامة والخصبة، دون أن تحاول مع ذلك أن تحاكي سكانها في تطبيقهم الخاص لها … وحاولت أن تتخلص بذلك من الطغيان أو الفوضى التي تهددها، فما هي الأسباب التي تدفعنا إلى الاعتقاد بأنه يتعين أن تبوء جهودهم بالفشل؟»40
ولنعرض مع ذلك قضية خاسرة. ألا يكتفي النسبيون بأن يسجلوا إعادة صياغة الفروق هذه عندما يتكلمون عن المفهوم الإغريقي والآسيوي والإسلامي للديمقراطية وحقوق الإنسان، وعندما يرون أن «قيم العدالة والتسامح والحرية […] يمكن أن تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة من خلال ثقافاتنا وتقاليدنا»؟41 ولكننا سنرفض ذلك بإصرار. فهناك فارق أصلي بين المعالجتين. فمن جهة، يستبعد التفكير الانغلاقي انتشار القيم والنماذج مؤكدًا على أنها لا تتفق مع النواة الصلبة لثقافات يتعذر مساسها وتتضمن مصدرًا لعدم الاستقرار. ومن جهة أخرى، فإن التفكير المناهض للانغلاقية الثقافية يقلل من شأن التطعيم بتلك القيم والنماذج بالتشكك في استعدادها للتحول وفي القدرة الابتكارية لدى المجتمعات التي تستوردها. وعلاوة على ذلك يلوح خلف هذا الفارق في المعالجة اختلاف فلسفي في المنهج بين تعريفين للمفهوم؛ ففي الوضع الأول يكون المقصود «الجوهر»، وفي الثاني يكون «الحدث».42
و«الحدث» بالنسبة لما يشغل بالنا يتمثل في تسلسل تلك «العلاقات الموروثة ذات الطابع الملموس التي تكتسب لا محالة طابعًا فرديًّا خاصًّا»؛ إنها عمليات «تشكيل» البلد الذي قد يكون ديمقراطيًّا. وقد تكون تلك التسلسلات الحديثة بعيدة المدى؛ فماكس فيبر يربط بين مولد الرأسمالية وثورة الإصلاح الأخلاقية، كما يربطه أيضًا بسلسلة من التحولات المؤسستية التي جرت في العصور الوسطى القديمة داخل المدن والنظام الإقطاعي والكنيسة الكاثوليكية.43 ويجدر بنا لو اقتصرنا مؤقتًا على «العلاقات المتبادلة دون تماثلها» وبين التغيرات الدينية والتغيرات السياسية، أن نلاحظ كيف أن التغيرات الأولى تتداخل مع تغيرات المسرح المدني. ويتعين ألا يكون تفهمنا لتلك التفاعلات المتبادلة غائيًّا، فليس هناك ما يضمن أن تكون تلك التفاعلات بطبيعتها عوامل مقرطة. على أنه يجب أن نتنبه إلى تلك العلاقات التي تقوم بين الحركات الدينية — ومنها بالأخص الحركات التنبئية والمؤمنة بملك المسيح طوال ألف عام قبل يوم الحشر — وبين «تشكيل» الحيز العام، خاصة وأن عمليات التعبئة هذه التوفيقية كثيرًا ما تكون في آن واحد وسائل لنقل البيروقراطية الكنيسية، والعقلانية الوضعية والفردية على غرار الكاو داي(٣) في فيتنام، والبهائية في إيران، والنورسو في تركيا، والتنبئية في كوت ديفوار، والقومية الهندوكية المتطرفة في الهند.44 وبإمكان تلك التعبئات أيضًا أن تقدم خطابًا جديدًا وراديكاليًّا حول الحرية، من الخطأ اعتباره كمًّا مهملًا، فضلًا عن أنها (أي تلك التعبئات) تُذكرنا بأن الغرب الديمقراطي ليس أبدًا المحتكر لتلك الفكرة.45 ومما يزيد من إشعاع المبادئ الليبرالية تضافرها مع تلك التمثلات المحلية الأصلية أو التلفيقية بخصوص التحرر.
غير أن الحركات الدينية ليست وحدها الناقلة للعولمة السياسية. إنها مجموع الممارسات الرمزية التي يجب أن نقربها من عمليات «تشكيل» المدينة، وبالأخص تلك «الفكرة العامة والخصبة» المتمثلة في الديمقراطية. وقد عرضنا في الفصل السابق ملاحظات حول هذا النوع من «العلاقات المتبادلة» عندما تعرضنا لمختلف السجلات المرتبطة بالشعر، والمأكل والملبس، وبينا أنها يمكن أن تكون موحية لحركات ثقافية حقيقية قابلة للمقارنة بالتحركات الاجتماعية والدينية. وعندئذٍ تنشأ من خلال مثل هذه الحركات الثقافية «طقوس تحديث» على غرار اللودروك في جاوه مثلًا. فقد أتاح هذا النمط المسرحي للشباب إمكانية الابتعاد عن عالم حيِّهم المغلق أو مناطقهم العشوائية، قبل إقامة النظام الجديد، لكي يتعايشوا في عالم مختلف اقتصاديًّا واجتماعيًّا عن مدينة سورابايا، بل وأيضًا بالنسبة للمجال القومي. وقد وفر لهم إمكانات عملية ومعرفية للتعامل مع مؤسسات الدولة والمجتمع المعاصر. كما كان هذا المسرح أداة لنشر العقلانية و«فك السحر» نسبيًّا باستخدام النقدية والبيروقراطية، بل وأيضًا بالربط بشكل متناقض في الكثير من الأحوال بين التمثلات الاجتماعية للبروليتاريا الجاوية، وذلك بالنسبة للمُثل التي كان الحزب الشيوعي الإندونيسي يدافع عنها حيث تقاربت معه بعض تلك الفرق.46
وتتخيل المجتمعات السياسية نفسها من خلال تشكيلة كبيرة من هذا النوع من الطقوس الاجتماعية التي تدرج تبايناتها، وأيضًا ابتذالاتها في الكثير من الأحوال، تحت مسمى الثقافة لإعلاء شأنها زورًا. وينطبق ذلك الآن على أحد معاني الرياضة، وبالأخص كرة القدم، المجال الفريد للعولمة، بما في ذلك ما تتضمنه من إعادة صياغة الفارق بين بلد وآخر أو نادٍ وآخر. وقد كتب كريستيان بروبرجيه يقول بعد تحقيق أجراه في مارسيليا، وتورينو، ونابولي، بخصوص كرة القدم: «إنها لغة تعامل بين الرجال تتجاوز المناطق والأجيال، تدفع كلًّا من الفرد والمجموع إلى الحوار الذي يواجه الجدارة بالخط؛ والعدالة بالغش؛ و«نحن» بالآخرين. وتبدو مباراة كرة القدم […] وكأنها أحد القوالب الرمزية العميقة لعصرنا. وهي تتأرجح بين الحفل والحرب، والكوميديا والدراما، والسخرية والجدية، والوهم والحقيقة، والطقوس والاستعراض؛ فتركز القيم الأساسية التي تصوغ مجتمعاتنا في نمط مهجن وفريد.»47 وأيًّا كانت المرونة التفسيرية لمباراة كرة القدم التي تحول دون اختصارها في وظيفة ذات معنًى أوحد، فهي بالأخص «خير موقع تتجسد فيه التخيلات الديمقراطية، التي تشيد بالمساواة في الفرص، والمنافسة العامة، والجدارة الشخصية […]»48 وتهيئ في الوقت نفسه موضعًا للصدف والخدع. وتوحي عولمة لعبة كرة القدم والانفعالات التي تثيرها بأنها أصبحت أحد الطقوس الكبرى التي تعقد من خلالها العلاقات بين أفراد مجتمع معين أو عدة مجتمعات مختلفة؛ فالمدينة الحديثة كروية، ورياضية عامة بقدر أكبر، وهي متدينة في الوقت نفسه، دون أن ينفي أحدهما الآخر، كما أثبت ذلك في الجزائر التفاف جمهور مدرجات ملاعب كرة القدم الفتي حول جبهة الإنقاذ الإسلامية.49 وهكذا تُعتبر المصادمات في أفريقيا بين أنصار مدن أو بلدان مختلفة «ترجمة مختصرة» دارجة للروح القبلية أو العداء للأجانب، بينما كانت مآثر فريق «بافاما، بافاما» القومي في جنوب أفريقيا الجديدة في عام ١٩٩٦م، مناسبة مدنية خارقة للتعبير عن المصالحة بين مختلف الأجناس.50
وعلى غرار الأنواع الأخرى من الصلات المتبادلة، فإن المبادلات بين مجالَي الأهواء الرياضية والسياسية تكون طارئة وتفتقر إلى توجهات محددة. فمنذ أن نظمت الألعاب الأولمبية الأولى، كان المشاهدون من مختلف المدن العديدة قد «انحازوا لإحساسهم بأنهم يساهمون في احتفال إغريقي بوجه عام، يرمز إلى حضارتهم» دون أن يكون الهدف المنشود من اجتماعهم الإشادة بوحدتهم وبهويتهم في مواجهة البرابرة.51 ويتبع حاليًّا إسهام كرة القدم في «الوحدة المتخيلة» نفس هذا النظام. فالرياضية تشكل أحد مجالات الإعلام التي يتم من خلالها تصور المجال العام. فنقل المباريات عن طريق التليفزيون بين الولايات المتحدة إلى جمهورية إيران الإسلامية يؤمن عولمة مختلف الترتيبات الممكنة لتلك الرياضية. غير أن التركيزات التي تحققها الرياضة في هذا الصدد مفارقة بنفس القدر كالابتكار الديني للحداثة. فقد تكون ملتوية أو جريئة أو مازحة أو عنيفة، دون أن تتخذ أبدًا مسارًا مستقيمًا، كما أن غرابتها تذكرنا ببعض الوقائع الواردة في هذا الكتاب. فعلى سبيل المثال استمدت استعراضات «الماجوريت» (الفتيات المرتديات زيًّا شبه عسكري) الكثير من السجلات العسكرية؛ فالعصا التي يلوحن بها مستعارة من الجيش الأمريكي الذي استوردها بدوره من تايلاند وجزر ساموا، بل والجزيرة العربية في الثلاثينيات، ولكنها انصهرت في تقاليد العروض الفرنسية. ومن جهة أخرى تلتزم فرقهن بالانضباط وتتبعن نظامًا هرميًّا، وترتدين زيًّا موحدًا، وتتحركن على نغمات موسيقية بأسلوب متباعد، بل وساخر، أشبه بأسلوب الدفاع الوطني، مما يحرج إلى حد ما ضباطَ الثُّكنة المحلية ويثير غضبهم. ويتعين، مع الأخذ في الاعتبار الفروق، أن نقرب هذا النشاط الترفيهي والرياضي بشكل متزايد برقصة البني (Beni) التي نشرت تقنية الدريل (Drill) في أفريقيا الشرقية. وقد جمعت حركة الماجوريت في فرنسا بشكل ملتبس تمامًا بين الالتزامات المعنوية الصارمة والاستعراضية في النطاق المحلي، مما أتاح، ولو لفترة محدودة، لفتيات بسيطات منحدرات من أوساط متواضعة، فرصة الإفلات من عائلاتهن وتنمية رؤيتهن الاجتماعية، وربما ساعدهن أيضًا في اتخاذ مسار ارتقائي.52

وبدلًا من إدانتنا التعبئات — سواء كان دينية أو رياضية أو ثيابية أو مرتبطة بالتعامل مع الشعر أو غير ذلك — بنعتها عمومًا بالتفاهة، والانسلابية والرجعية وفقًا لمعايير يزعم أنها عامة وشاملة، يجدر بنا أن نتقصى دلالاتها وآثار تعميمها المتباين وفقًا لظروف تاريخية محددة. وعلى أي حال فإن جميع آثار التعميم ليست مقبولة حتمًا، ولا تعفينا من الأحكام الأخلاقية التي تخص ضمير كل فرد. فلنحكم ببساطة من خلال معرفة الوقائع لا عن طريق ملفات لم تدرس بتعمق؛ ولنتجنب الخطأ في تقدير الجوانب الثقافية فنعتبرها إشارات سياسية؛ ولنحرص على ربط قوالب التحرك الرمزي بواقعها، فهي تشكل الصور التخيلية وتركزها في المجال السياسي.

ويتعين ألا نتناسى أيضًا أنه إذا كان نقد الاستراتيجيات المتعلقة بالهوية في المجال السياسي يمر عبر استخدام العقل — عقلية التنوير — التي لا غنى عنها ﻟ «الخروج من الأقلية»، فهو يقتضي أيضًا استرداد التخيل للاعتبارات التي عرضناها بإسهاب في الفصلين الأخيرين.

لقد ترافع الأب جريجوار المندوب أصلًا للكهنوت في المجلس الثوري في أواخر العهد الملكي الذي دعا إليه النبلاء والكنيسة والعامة في ۱۷۸٩م، ترافع أمام الجمعية التأسيسية الفرنسية، فأعلن أمامها:

«لدى كلٍّ منا مدارك يمكن أن يقال عنها إنها أبواب الضمير، وكلنا قابلون لأن نستقبل بواسطتها انطباعات عميقة، ومن يدعون حكم شعب ما بنظريات فلسفية ليسوا فلاسفة إطلاقًا. فالإنسان المتحرر من كل ما هو مادي يمكن أن يلين أمام تأثير الأوسمة وسحر كل فنون المحاكاة، ومن يتفاخر بأن العقل وحده هو مرشده، ربما يكون قد خضع بقدر أقل في الكثير من الأحوال لصوته بالمقارنة مع أوهام التخيل والأحاسيس. وهذه التأثيرات ناشئة عن طبيعة الإنسان نفسها، وإذا كان فلسفيًّا فإنه يتطلب تحليله بشكل ما عن طريق تجريدات تيسر معرفته، إلا أنه يتعين على الأقل النظر إليه في مجموعه، والانطلاق من هذه النقطة للتأثير على قلبه وتوجيهه نحو إنجاز الواجبات التي تؤمن استقرار النظام الاجتماعي.»53

وليس هناك اليوم ما يهدد «استقرار النظام الاجتماعي» أكثر من اندفاعة أوهام الهوية. لقد بات من المُلح مواجهتها بعقلية فلسفية حديثة تفرق بين نصيبَي كلٍّ من المحتمل والعام، ما دامت الأحزاب السياسية في أوروبا وغيرها قد بادرت بخوض ما تسميه «معركة الهُوية».

الملاحظات

  • (١)

    اغتيل جان جوريس، الزعيم الاشتراكي الفرنسي ومؤسس جريدة الأومانيتيه عشيةَ اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكان شعار الاشتراكيين الفرنسيين آنذاك «الحرب ضد الحرب» باعتبار أن النزاع يدور بين الرأسمالية القومية من أجل مصالحها، وأنه يتعين على الطبقتين العاملتين الفرنسية والألمانية أن تتحالفا معًا ضد هذه الحرب.

  • (٢)

    كان بيريجوفوا رئيسًا لوزراء فرنسا، وقد انتحر وهو يتولى هذا المنصب عندما كشفت الصحافة أنه حصل على قرض من صديق له بمبلغ مليون فرنك فرنسي (حوالي ٦٠٠ ألف جنيه مصري) لبناء فيلا، وسدده بالكامل. ولكنه قَبِل من صديقه ألا يدفع له فوائد لذلك القرض، مما دفع إلى مساءلته باعتبار ذلك رشوة مقنعة.

  • (٣)

    (القصر الأعلى) ديانة تلفيقية فيتنامية نشأت في ١٩١٩م، وسرعان ما انقسمت إلى عدد كبير من الفروع الطائفية. وقد تعرض أتباع هذه العقيدة لمطاردة السلطات الفرنسية لميولهم القومية. وهذا المذهب الذي يسعى إلى إعادة صياغة وتجديد القيم الكونفوشيوسية يجل العديد من «القديسين»، من بينهم فيكتور هوجو وونستون تشرشل، وجان دارك، وصن يات سن، ولا يزال له عدد كبير من الأتباع في جنوب فيتنام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤