الفصل الأول

التبادلات بين التقاليد: العولمة والانغلاق الثقافي

يتسلط على العالم الحديث وسواس تلاشي التمايزات. فهو يخشى توحيد الأشكال، ويشعر بالتالي «بقلق عام متعلق بالهوية». وقد أبدى بيير هاسنر هذا الإحساس، فكتب يقول في مؤلفه العنف والسلام: من القنبلة الذرية إلى محو الاثنية (باريس، الناشر Esprit، ص٣٠٩–٣٤١ و۳۸۰-۳۸۱): أخشى تمامًا أن تكون الهويات الثقافية الشهيرة في طريقها إلى الزوال عن طريق التحديث والأمركة والتلفزيون، وبأشكال توحيد أنماط المعيشة، بينما تشتد في الوقت نفسه الحاجة إلى الانفصال في إطار هذا الكون. كان يقال في الماضي إن الجمهورية الخامسة تعني التأمرك مع البقاء في الوقت نفسه في المعسكر المناهض للأمركة، ويظل التأمرك مستمرًّا اليوم مع ابتكار هوية ثقافية مغالًى فيها حتى يمكن الوقوف في وجه الآخرين.1 وهذا «الخليط المكون من الترابط المتبادل واختلاف الأصول» يطلق العنان لآليات ثقافية معقدة تستوجب اللجوء إلى تقييمات غير قاطعة.
وقبل أن يؤكد أنثربولوجيُّو ما بعد الحداثة على «إعادة صياغة التباين» الملازم لكلية عالمنا، لاحظ فرنان برودل أن «الحضارة الصناعية التي يصدرها الغرب ليست إلا إحدى سمات الحضارة الغربية»، وأن «العالم الذي يستقبلها لا يقبل في الوقت نفسه هذه الحضارة في مجملها، بل العكس هو الصحيح».2 وتتأكد صحة ذلك حتى في صميم أسلوب الإنتاج الرأسمالي، وعلى سبيل المثال في طرق وعقلية الإدارة الصناعية أو في استهلاك السلع الأكثر تجسيدًا لتلك العقلية. ﻓ «التاريخ الثقافي» لسيارة من طراز مرسيدس ليس واحدًا في ألمانيا أو أفريقيا، ومسلسل أوشين الياباني والاستعراضات الموسيقية والعسكرية للفتيات بأزيائهن المبتكرة تنشط قيمًا أو أدوارًا اجتماعية متميزة من بلد إلى آخر.3 ولذا فقد تكفَّل أحد المسئولين الرئيسيين بشركة كوكاكولا بالرد على الأخذ عليها أنها «كوكاكولا الاستعمار» قائلًا:

«إنه تجريح لا مبرر له لأن هذا المنتج ليس له هدف سوى تقديم مشروب منعش لكم، وهو مستعد تمامًا لفهم ثقافتكم، ولأن يكون له معنًى عندكم، ولأن يتواجد من أجلكم، لماذا تُسمون ذلك «كوكاكولا الاستعمار»؟

– لأنه يتم فرض قيم من الخارج.

– لا أرى ذلك، ولست موافقًا. وأعتقد أن الصداقة قائمة، وأنها متواجدة دائمًا، وستكون كذلك إلى الأبد. وقد تواجدت قبل الكوكاكولا. فالكوكاكولا يمكن أن تختفي، أما الصداقة فلا. إنها تكتفي بإرواء الصداقة، وسيكون لها معنًى معين في اليابان، ومعنًى آخر في البرازيل. وتعترف كوكاكولا بالفروق ولكنها حليفة الصداقة. ما الضرر في ذلك؟ ونحن لا نفرض، في رأيي، أي قيمة. وأعتقد أن الكوكاكولا لا تفرض نفسها بل تعكس.»4
والواقع أننا لا يمكن أن نتصور اقتباسًا ثقافيًّا دون أن يحدث هذا النوع من الاشتقاق الخلاق. ففي روسيا القرن الثامن عشر، نشأت عن إصلاحات بطرس الأكبر مؤسسات اجتماعية لا تمتُّ بصلة إلى العالم الثقافي أو المعنوي في أوروبا الغربية رغم أنها كانت تنسب نفسها إليه. فعلى سبيل المثال، كان أنصار عصر التنوير يقتنون هناك حريمًا من الرقيق مكونًا من فتيات مثقفات يتدثرن بملابس أوروبية بدلًا من الملابس الروسية (ومما له مغزاه إعادتهن إلى أهاليهن إذا ما أخطأن، مع مصادرة تلك الملابس الجديرة فقط بمعية السادة). ولم يكن الإحساس الذاتي بالانتساب إلى أوروبا متمشيًّا مع أي تقارب حقيقي مع الممارسات الاجتماعية. وبالعكس كانت هناك «أَوْرَبة» حقيقية لبعض العادات دون أن يكون هناك تصور بأنها كذلك.5 وينطبق نفس الأمر اليوم على «الأوربة» أو «الأمركة» اللتين يدينهما المناهضون ﻟ «العولمة» وغيرها من «الاعتداءات الثقافية».
ومن الواضح بالنسبة للأنثروبولوجيين وإخصائي العلاقات الدولية أن صياغة التباين من جديد، الملازم للكونية، يتم جزئيًّا على صعيد المجتمعات المحلية، ويتمثل في تأجج الخصوصيات المرتبطة بالهوية.6 كانت حركة كمال أتاتورك «تدفع إلى العالمية» بكل ما للكلمة من معنًى، وما كانت ترى أي حضارة إلا في الغرب، واستخلصت من ذلك أقصى الاستنتاجات تطرفًا لتحرير تركيا من وضعها «المثير للسخرية على نطاق الكون» وفقًا لقول أتاتورك نفسه. غير أنه ضمن في الوقت نفسه انتصار الأناضول على الروملية ذات الأجناس المختلفة، وتواكب «تغريب» البلاد مع إعادة الاعتبار أو إعادة بناء ثقافة «تركية» فيها أنها تعبر عن روح «الشعب» في مواجهة الحضارة العثمانية.7 وفي وقتنا الراهن تدور المنازعات الحالية في البلقان أو القوقاز أو آسيا الوسطى أو شبه القارة الهندية، المشحونة جميعها بالإحساس العارم بالهوية، في نفس اللحظة التاريخية مع تدويل الاقتصاد بقيادة الليبراليين الجدد، دون أن نجد مع ذلك علاقة واضحة بين الظاهرتين.
ويتمثل الخطأ الشائع في إسناد استحالة اختزال التباين إلى «الثقافة»، أو بالأصح إلى العلاقة الخاصة تمامًا التي من المفترض أن يقيمها كل فرد مع ثقافته «هو». وقد أدركنا من خلال قراءتنا لأعمال ماكس فيبر أن الإنسان كائن يتشبث بشبكة المعاني التي نسجها بنفسه. وليس هناك أي نشاط، حتى النشاط المادي، إلا وكان منتجًا في الوقت نفسه لمعانٍ أو رموز. وتَفهُّم أي ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية معناه الكشف عن «مبررها الثقافي»، كما أفادنا بذلك تيار أنثروبولوجي مضاد للنفعية؛ فالثقافة هي نفسها التي تشكل الفائدة.8
غير أنه ليس بوسعنا أن نؤكد أن «الدافع الثقافي» هو الذي يحدد تصرفاتنا أو أنه موجود ككلٍّ متكامل أو كنظام ملموس.9 وعلى سبيل المثال فإن توكفيل مخطئ في تأكيده على أنه «يوجد إلى جانب كل عقيدة دينية رأيٌ سياسي ينتسب إليها». وهو يسلم بذلك ضمنيًّا على أي حال بعد بضعة سطور عندما يحلل المفارقة الأيرلندية إذ يقول: «يُبدي هؤلاء الكاثوليك إخلاصًا شديدًا في ممارستهم لطقوسهم وحماسًا فياضًا وتعلقًا قويًّا بمعتقداتهم؛ وهم يشكلون مع ذلك الطبقة الأشد تمسكًا بالجمهورية والأكثر وفاءً للديمقراطية في الولايات المتحدة.» وقد اضطُر إلى ترك مجال سوسيولوجيا العقليات إلى مجال سوسيولوجيا التنظيم الديني، فيقول في المجلد الأول من مؤلفه المعنون عن الديمقراطية في أمريكا: إن انزواء القساوسة سياسيًّا شرط لا غِنى عنه لارتباط الكاثوليك بالديمقراطية ولتحررهم من واجب الطاعة.10 ويمكن إضافة عوامل أخرى، منها الظروف السياسية المتعلقة باحتلال إنجلترا لأيرلاندا أو تمسك المهاجرين بتقاليدهم وعجزهم عن الاندماج، كما يمكن التنويه بأن الإيطاليين الكاثوليك في الأرجنتين زودوا الفرق القومية التسلطية بمزيد من الأفراد.

ثلاثة أحلام متعلقة بالهوية

تُشكل دائمًا حجة الانغلاقية الثقافية بديلًا لإثبات وجهة النظر. ومع ذلك فلم يحدث من قبلُ أن بلغت الرواج الذي تلقاه اليوم. فإذا كان المطلوب تحليل الانطلاقة الصناعية للنمور الآسيوية، فسيتم الاستناد في الكثير من الأحوال، وبشكل مناقض، إلى التراث الكونفوشيوسي، مع الاستعانة بالسابقة اليابانية لإثبات أن الرأسمالية تستطيع أن تستخلص مراميها من التقاليد. وسيتمثل فن «التنمويين» في الاستفادة من هذا الرأسمال الثقافي وجعل إدارة المنشأة متوافقة معه.11 وهناك حالات مختلفة من «التنمية الاثنية» من المفترض أنها تدعم وجهة النظر هذه: الشتات الهندي والصيني، والباميليكيون في الكاميرون، وأهالي صفاقس في تونس … إلخ. حدود هذه التيقنات واضحة تمامًا بكل أسف. فكأنه يكفي أن يصوب المرء ناظريه نحو «ثقافته» لكي يحقق «تنميته»! ومن العسير الاستدلال بتلك الثقافة وقياس تأثيراتها، فضلًا عن أن المسائل ليست بتلك البساطة على صعيد الاقتصاد الكلي.
لقد أصبحت الأبعاد الثقافية للمعجزة اليابانية مسألة نسبية الآن بعد أن ظل المديح يُكال لها لأمد طويل ومن كل جانب. فالمنشأة العائلية الشهيرة التي صُورت على أنها أحد المفاتيح لا تؤكد على أن هناك مفهومًا يابانيًّا أبديًّا. كان ذلك أحد أوجه البناء خلال الثلاثينيات في ظل الدولة-الأسرة المتسلطة والقومية المتطرفة حيث يمثل الإمبراطور أباها، وتمَّت صياغة أيديولوجيتها بينما لم تعد صناعتها في أيدي أرباب عمل فرديين كما كان الحال في عهد الميجي، ولكن في أيدي كوادر بيروقراطية تخرجت من جامعة طوكيو.12 وبصفة عامة «لم يحدث أن تحولت ثقافةٌ ما بقدرِ ما تحولت الثقافة اليابانية من خلال التبادلات وبتأثير الثقافات الأجنبية»،13 حتى إن بول فين يشبه اليابانيين في رواية جنجي وفي مرحلة ما بعد الحرب بالرومان في العصور القديمة قائلًا عنهم: «إنهم شعبٌ ثقافته ثقافةُ شعب بلد آخر، ألا وهو اليونان.»14
والواقع أن اللجوء إلى أسطورة التقوقع الثقافي لتفسير المعجزة اليابانية يعود فقط إلى منتصف السبعينيات. وقد ظهرت بمناسبة ندوة هاكون حول تحديث هذا الأرخبيل، ولكنها تميل إلى الانحسار منذ فترة لصالح إشكالية سياسية بقدر أكبر تتعلق بالدولة والأمة؛ فالتفرد الياباني بات أقل ارتباطًا بالأرخبيل وأصبح تاريخيًّا وشرق-آسيويًّا بقدر أكبر.15
ومن المعترَف به الآن أن المسار الاقتصادي كان نزاعيًّا للغاية. لقد استخلص المؤرخون من أعماق الذاكرة انشقاقًا بليغًا بقدر بلاغة الرواية الشفهية المخترعة حول التوافق، فعدد المصابين بأمراض نفسية المودعين في المستشفيات — وهم حوالي ثلاثة أمثال عددهم في الولايات المتحدة بالمقارنة مع عدد سكان يقل بمقدار النصف — لا يدل على أن هناك انسجامًا سماويًّا يسود بين اليابانيين بخصوص ظروفهم المادية وثقافتهم.16 فهذا «النمل» على حد قول رئيس وزراء فرنسي سابق، له مطالب ويعترض بقدر ما يطيع وينتج. والحق أن النموذج الكونفوشيوسي عاجز عن تفسير هذا النوع من السلوك الذي سيوصف بأنه «منحرف» في أحسن الأحوال، كما أنه محكوم عليه بأن يتكتم على عدم الانضباط والغش وعلى تفسخ المؤسسات وارتفاع معدلات الجريمة المتعاظم في الصين.
وفي أحسن الأحوال تصبح المعارك الاجتماعية والاضطرابات الملازمة لكل تطورات تاريخية مرادفة للفوضى والاغتراب في نظر أنصار التقوقع الثقافي. ومع ذلك هل يمكن اعتبار ممثلي الكوميتو البوذي والكنائس المسيحية وأحزاب اليسار أقل انتماءً إلى الهوية اليابانية لرفضهم المشاركة في شعائر الاحتفال الكبير بالبواكير عندما اعتلى الإمبراطور أكيهيتو العرش في ۱۹۹۰م، بدعوى أنه يتعارض مع مبدأ فصل الدين عن الدولة الذي ينص عليه الدستور؟17 والكوريون والتايوانيون الذين يحرزون نجاحات في نضالهم من أجل مقرطة بلادهم، أليسوا هم أيضًا أبناء هذين البلدين؟
والقضية ليست مطروحة بالطبع على هذا الشكل. فالنشاط السياسي أو الاقتصادي في شرق آسيا يتميز بصبغته الثقافية الراسخة، على غرار ما يجري في أي جزء آخر من العالم. ففي الصين تمادى تقديس شخصية ماو في استغلال رمز «الزونج» (الأمانة)، وكذلك الشارة المتخذة شكل القلب التي تحمل رسالة كونفوشيوسية واضحة.18 أما التايوانيون فلا يُقدِمون على أي عمل دون استشارة عراف. بيد أن أيًّا من تلك الممارسات الثقافية لا يكفي لتفسير النشاط السياسي أو الاقتصادي. فهذا النشاط يحيل إلى ترتيباتٍ أسبابها معقَّدة إلى حد كبير. ويعود الفضل إلى المدرسة الفرنسية في علم الحضارة الصينية في إثبات ذلك.19 وهكذا فإن مهارة «القط» زياوبنج في اصطياد «فئران» التنمية غريبة إلى حد كبير عن التراث الكونفوشيوسي، بل إنها تعود بالأحرى إلى التواصل الديناميكي لشكل خاص من الحكم متمثل في نظام «الإمبراطورية الممتدة» الحاكم الذي لا يتداخل إطلاقًا مع تاريخ البلاد، حتى وإن كان يشكل اتجاهًا ملحوظًا منذ عدة قرون. وعلاوةً على ذلك فإن موهبة «القط» بالغة التأثير بالأخص في الصين «الزرقاء» التي احتلت مركزًا اقتصاديًّا مرموقًا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وهيَّأت «العصر الذهبي» للبورجوازية الصينية قبل الثورة الشيوعية. وتشكل «نهضة آسيا» إلى الآن على الأقل، نهضة ذلك الحيز البحري الذي قد يكتسب وصفًا سياسيًّا مؤسسًا من خلال التجربة التايوانية، على عكس «التحديث بلا تأسيس» المميز للإصلاح الاقتصادي لدنج زياوبنج.20 والتجربة التايوانية تمثل في آنٍ واحد أكثرَ من مجرد تجديد للكونفوشيوسية، التأخر نسبيًّا في تحويلها إلى شعائر، وأقل من ذلك بالمقارنة مع «الصين الصفراء» المترامية الأطراف، وفيتنام، وكوريا الشمالية، وجميعها غير متأكدة من اللحاق بهذا التيار.
والواقع أن اللجوء إلى التاريخ الشامل والمتنوع مع ذلك، قد يتيح فهمًا أفضل للمسارات الآسيوية. ومن الواضح بالطبع أنه يتعين على هذا التاريخ أن يهتم بالتصورات الثقافية، شريطة ألا يغضَّ الطرف عن تحولاتها مع مر الزمن وحسب مقتضيات الظروف وتحرك العناصر الفعالة في المجتمع. غير أن التحليل لا يمكنه أن يكتفي بهذا المستوى من المعرفة. ويتردى التقوقع الثقافي في أحسن الأحوال إلى حد إثارة السخرية أو الضحك. فالسيد سولومون21 يعلن بكل ثقة ووقار متصنَّع في مؤلفه عن ثورة ماو والثقافة السياسية الصينية، والذي تولت نشره مطبعةُ جامعة كاليفورنيا في عام ١٩٧١م: بوسعنا أن نقول عن ماو إنه زعيم «إستي» يريد أن يحول المجتمع الصيني إلى مجتمع «فمي». وهو يؤدي في أسوأ الأحوال — الأمر المؤكد في هذا المجال — إلى تخيلات واهمة للعالم تتحول بسرعة إلى حمى سيئة تصيب مفهوم الهوية.
والخوف الشائع ضد الإسلام الذي استبد بفرنسا والأمم الغربية الأخرى، وإن كان بقدرٍ أقل، يرجع إلى تلك الحالة المرضية. ومن الأعراض الأولى لهذا المرض الخطاب الهذياني حول الخطر الشيعي الذي أثارته الثورة الإيرانية. ولكي نقيم هذه الفكرة المحرفة بشكل سليم، يتعين أن ندرك أن إسقاط النظام الملكي البهلوي لم يكن ثورة شيعية، ولا حتى ثورة دينية، بل بالأحرى «ثورة سياسية اتخذت، إذا صح القول، شكل ثورة دينية»، كما قال توكفيل بخصوص الثورة الفرنسية. وبالطبع فإن التدين الشعبي الشيعي وفَّر لعمليات التعبئة الكبرى في ۱۹۷۸م الجانب الأساسي من مفرداتها وتعبيراتها الرامية إلى الإثارة. وكانت الجماعات التي تولت زمام النظام الجديد قد صقلت أيديولوجيتها الراديكالية في المجال الديني خلال الستينيات والسبعينيات. غير أننا سنجد مشقة في الاستدلال على علاقة علة ومعلول تربط بين الإيمان الشيعي (أو الهوية الشيعية) وثورة الشعب الإيراني. فقد شارك فيها العديد من الإيرانيين السُّنيين، وبالأخص الأكراد. وسلك العديد من الإيرانيين الشيعة طريق التصوف الذي ندَّد به علي شريعاتي فيلسوف الثورة، كما لم تعتنق أغلبية رجال الدين الفكر الخوميني. والجمهورية الإيرانية ليست جمهورية الملالي، كما يقال ذلك بشكل آلي، كما أنها ليست من بابٍ أَولى جمهورية آيات الله، الذين أبدى أشهرهم تحفظاتهم، هذا إن لم يكونوا قد انتقلوا صراحةً إلى صفوف المعارضة. وهي على الأكثر، جمهورية بعض رجال الدين الذين يحتلون مراكز وسطى والمتحالفين مع العلمانيين. وقد تطلب تأسيسها اللجوء إلى القمع الشرس الموجَّه ضد نساء ورجال لا يقلون تمسكًا بالمذهب الشيعي عن الذين تولوا تأسيسها: ملكيون وليبراليون وأيضًا شخصيات دينية، عارضوا ابتكاراتها في مجال اللاهوتية السياسية أو اعتمادها على الاقتصاد الموجه، وكذلك مناضلون ثوريون كانوا ينادون بإسلام مُطعم بالماركسية.22 ويتضح لنا مرةً أخرى أن التفسير الثقافي الانغلاقي يُغفل وضع نصيب التناقض والنزاع السياسي في الاعتبار. وعلاوة على ذلك، يصعب تفسير عدم انتشار تلك الثورة الشيعية خارج حدود إيران وعجزها عن تجاوز حدودها وتعبئة معتنقي هذا المذهب في لبنان والخليج وباكستان.23 ولما كانت نفس العلل تُسفِر عن نفس المعلولات، فإنه يتعين الاعتراف بأن العامل الشيعي الذي أسهم في سقوط الشاه كان أقل حسمًا من عوامل اجتماعية أخرى.
غير أنه بالرغم من تلك البداهات التي يؤكدها الواقع، سارع الصحفيون والساسة بتحديد العدو، ألا وهو المذهب الشيعي، وذلك قبل تفاقم الأوضاع في الجزائر وظهور أطروحة «صدام الحضارات» التي أسعفتهم وأتاحت لهم فرصة مد الخوف المتسلط عليهم ليشمل الإسلام بوجه عام. فإذا أضرب عمال تالبوت وستروين في عام ١٩٨٢م، فإن جاستون ديفير، وزير الداخلية يسارع بالصياح: «إنهم أصوليون، وشيعة.»24 وإذا شن صدام حسين عدوانه ضد جارته إيران، سارع بمساندته جاك شيراك، الذي كان آنذاك رئيسًا للوزراء إذ أعلن في حديثٍ أدلى به لجريدة واشنطن تايمز في نوفمبر ١٩٨٦م: «هناك خطر داهم بالنسبة لنا جميعًا، قادم من إيران […]، ويجب أن يكون هدفنا المشترك […] تدارك اجتياح الأصولية للمنطقة، وتؤدي فرنسا نصيبها في ظل هذا الوضع بمساعدة العراق على تحجيمها.»25
وإذا وضعت فتيات مسلمات حجابًا على رءوسهن، فلا بد وأن يكون ذلك بإيعاز من سلطات طهران الشريرة. وإذا احتجز مجاهدون جزائريون متأسلمون فتيات واغتصبوهن ثم ذبحوهن، فإن الأمر يقتصر على زواج المتعة الشهير، الذي لا يزال شائعًا في إيران رغم اعتراض سلطات الجمهورية الإسلامية عليه، علمًا بأن اشتراطات هذا الزواج مختلفة عن ذلك إلى حد كبير26… ولحسن الحظ «فإن الجالية المسلمة في فرنسا جالية سنية-مالكية، وهي جالية معتدلة تريد أن تندمج، ولا تمتُّ بصلة إلى الإرهاب …»27 كما أفادنا بذلك رئيس الجمهورية.

ويُشكل التفسير الثقافي الانغلاقي لذلك الإدراك الانتقائي للحقائق الإنزيم المبرر له. فلنقرأ مثلًا التقرير الذي وضعه جهاز استخبارات غربية في عام ١٩٩٢م. فقد حرص صاحبه أن يبرز بيت شعر فارسي، يوحي مقدَّمًا بفحوى التقرير، جاء فيه: «شرارة واحدة تكفي لإحراق هذا العالم.» وقد أوضح التقرير أن «المصير الإمبراطوري للشعب الفارسي راسخ تمامًا في اللاوعي الجماعي للإيرانيين … فهو الذي يمنح كل مواطن إيراني ذلك الإحساس بالكرامة الوطنية البالغ أحيانًا حد الغرور. وهو الذي يكمن دائمًا خلف التطور الراهن في إيران. بل إن الخصائص الدينية في فارس، التي كانت نسطورية في العهد المسيحي، ثم شيعية في العهد الإسلامي، تشترك في الوعي بالمصير الإمبراطوري للأمة. وهناك اليوم قدرٌ كبير من التماثل بين العقيدة الشيعية والقومية الإيرانية، حتى إنه من الصعب أن نقول ما إذا كان تصدير الثورة الإسلامية التي يدعو إليها الإمام الخوميني يهدف إلى نصرة الإسلام أم إلى استعادة أمجاد الإمبراطورية. فقد يكون الهدف النهائي للإمام وخليفَيه خاميني ورفسنجاني نفس هدف الشاه، ألا وهو استعادة الإمبراطورية، حتى وإن اختلفت استراتيجياتهم». غير أن تلك الاستراتيجيات المختلفة تستند إلى سمة ثقافية أساسية.

إذا أراد المرء أن يتحدث عن إيران، فيجب أن يظل مائلًا في ذهنه دائمًا مفهوم «الكتمان» أو «التقية». وقد يُترجَم هذان اللفظان بالمواربة أو التحايل أو المداهنة، مع ضرورة إضفاء مفهوم ديني عليهما لتخليصهما من كل ما يمكن أن يعتبر سيئًا في هذا السلوك، فهو سلوك جيد بالنسبة للإيراني، ورجال الدين الشيعة يدرسونه (بقدر أكبر من السُّنيين)، ويجب ألا نضع ما يقوله الإيرانيون أو يفعلونه، في المرتبة الأولى. فهذه «المواربة» لها مبررها بالطبع عندما يتعلق الأمر بمصالح الدين أو الإمبراطورية […] ووفقًا لنفس المبدأ الذي يقضي بأولوية الجانب الديني على الجانب السياسي أو الاقتصادي، يسعى الشعب والصفوة والقادة معًا إلى انتصار الإسلام «المضطهد» على الإمبريالية الغربية، منبع الاضطهاد. وهناك سلاحان مُشهَران منذ عام ١٩٧٩م: بُغض الغرب واللجوء إلى «الكذب» كوسيلة لتحقيق انتصار الثورة الإسلامية على المسيحية واليهودية. وتسهم في هذا التكتيك الأساليب المبتكرة لجذب رءوس الأموال وتكنولوجيا الغرب.

وبناءً على هذه المسلَّمة الانغلاقية ثقافيًّا يتم إطلاق العنان لتلك الآلة الهاذية: «فالضعف الذي حل بالعراق لم يؤدِّ فقط إلى القضاء لفترة من الزمن على المخاطر التي كانت تتهدد الحدود، بل يمكن أن تُغْري أيضًا باستعادة مدينة كربلاء المقدَّسة العزيزة على قلوب الشيعة الإيرانيين، وذلك عن طريق الشيعة العراقيين. وإذا كانت إيران تعارض الآن تقسيم العراق، فربما لأنها تريده لنفسها بالكامل لإعادة بناء الإمبراطورية الفارسية.» غير أن التهديد الملموس بقدر أكبر يتعلق بالانتشار النووي: فسواء تعلق الأمر بالشاه أو بآية الله، فإن الفكر الإمبراطوري يتطلب بالضرورة امتلاك السلاح النووي. فهو في نظر كل أمم العالم الثالث رمز الاستقلال والقوة(١) […] والانتشار له أبعاد دينية. والسلاح النووي يُعتبر حجة قوية في حوزة الملالي الموفدين للتبشير في الشرق الأوسط وأفريقيا. إنها بمثابة سورة نصر تضاف إلى النص الإيراني للقرآن (كذا). وبالطبع تُعتبر قرائن عزم إيران على التزود بالسلاح النووي «ضعيفة» باعتراف كاتب التقرير نفسه، ولكن هناك في رأيه قرينة أخرى «قوية إلى حد كبير»، ألا وهي زيارة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية: «إذا كان المطلوب إخفاء شيء ما فإن الوسيلة الجيدة تتمثل في إظهار أنه ليس هناك ما يستلزم إخفاءه، وذلك عن طريق عمليات تفتيش لا تتضمن أي مخاطرة. ويتفق ذلك تمامًا مع خط تفكير المواطن الإيراني العادي المؤيد ﻟ «التقية»؛ أي «الإخفاء». وهكذا نجد أننا بصدد إصدار أحكام على مجرد تصور للنوايا. فبالنظر من «عدم توفر دليل مطلق على النشاطات الإيرانية في مجال التسلح النووي»، فإن التهمة تعتمد على افتراضات ثقافية بحتة. «ويستدعي التأكد من ذلك أن توضع في الاعتبار تصريحات المسئولين والمصلحة السياسية والدينية التي تحققها إيران بامتلاك سلاح نووي». ولما كان كاتب التقرير من يتامى الحرب الباردة، فقد طبق نموذج الخطر الشيوعي على التهديد الإيراني. فتصريح الرئيس رفسنجاني الذي أعلن فيه عزمه على ربط التكنولوجيا الغربية بالإخلاص للمبادئ الثورية، يتم ربطه فورًا بمقولة لينين الشهيرة: «سيبيع الغربيون لنا كل شيء، بل وأيضًا الحبل اللازم لشنقهم.» ومن المفترض أن إيران تجسد «إسلامًا ثوريًّا» تحول إلى «السلاح الأساسي لإرادتها الإمبراطورية».

«ويتمثل السلاح في التدريب في قم، في الجامعات الإسلامية، لكل الطلاب القادمين من كافة أنحاء العالم الإسلامي. إنه المساندة المالية التي تقدم للحركات الإسلامية الخاصة بأقليات مضطهدة في مختلف الدول الإسلامية، إنه الأمل الذي يحدو كل المحرومين، بأن يعيشوا في عالم أفضل بالرجوع إلى قوانين القرآن القديمة. وتريد إيران أن تكون حامل رسالة الإسلام. وقد ورثت إيران ذلك عن الاتحاد السوفييتي، أمل البروليتاريا من خلال جامعة لومومبا ومساندته للحركات الثورية المحلية. ولدى إيران نفس الأوراق الرابحة مثل الاتحاد السوفييتي، وطن البروليتاريا. فهي وطن المعاناة والمحرومين والشهداء منذ هزيمة كربلاء في عام ٦٨٠م والمبشر بآمالهم.»

ويرى صاحب التقرير أنه يتعين ألا يهمل التحول الذي يمثله ذلك «الإسلام الثوري» الذي يبدو «الإرهاب» الفلسطيني محترمًا للغاية بالمقارنة معه:

«كان إرهاب السنوات العشر الأخيرة من فعل عرب مكافحين من أجل القضية العربية، ومن أجل التراب العربي في فلسطين. ومن الناحية النفسية يمثل إرهابي الثمانينيات جنديًّا يستخدم أسلحة الجندي: المتفجرات، والسلاح الناري، بل والسلاح الأبيض […] والإرهابي التابع لأي نضال أو للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يعتبر نفسه سليل الفُرسان العرب الذين أقاموا إمبراطوريتَي الأمويين والفاطميين: ويستخدم جندي الله السيف، والسلاح الناري، والمتفجرات إذا لزم الأمر [كذا] وهو ينازل عدوًّا هو أيضا جندي. وفي حملاتنا الصليبية — نحن الأوروبيين — الدليل على ذلك. ولكن الأمر مختلف تمامًا بالنسبة للإسلام الثوري. فقد تحول العدو إلى «كافر» بغيض تمامًا. إنه الشيطان الأكبر الذي أهان إسلام الأجداد بسلاح التكنولوجيا ولا يجب إلحاق الهزيمة به فقط، بل وإنزال العقاب به وإبادته بالقضاء على تكنولوجيته التي تأسست عليها قوته وكانت المحرك لتطوره الاجتماعي. وإذا لجأت الأجهزة الإيرانية إلى استراتيجية إرهابية، فإن الأساليب التي ستُستخدم ستكون مختلفة تمامًا عن تلك التي عرفناها من قبل.»

وفي مواجهة ذلك «الإسلام الثوري»، يجب الاعتراف بأن «الشريعة علم»، وأنه من المناسب «تتبع تطور المؤتمرات الإسلامية التي تحاول، في طهران وغيرها، إزالة الخلافات بين الشيعة والسنة، وقياس مدى التأثير الحقيقي للفقهاء الإيرانيين في تنمية مختلف الاتجاهات الأصولية، وتتبع المجادلات بين مختلف المدارس الفقهية … إلخ.» وبما أن «الإسلام يطرق أبوابنا»، فإن صاحب التقرير يوصي … ﺑ «تعيين مستشار في الشئون الدينية، عليم بما يدور»! غير أنه لا يستطيع مع ذلك أن يخفي قدرًا من الحيرة والتردد، فيتساءل بكل وقار: «إيران المعتدى عليها، إيران المعتدية، إيران المحاصَرة، إيران الثورية، إيران الإمبراطورية أو إيران الهشة؟ ليس من السهل سبر أغوارها. وعلى أي حال هل هناك إيران واحدة أو أكثر من إيران متعددة الأوجه؟» وعليه يجب تجنب المخاطر: «أعتقد إذَن أنه من الفطنة، فيما يخصنا، أن نضع في اعتبارنا الحد الأقصى من المخاطر، أي إيران الإمبريالية والثورية التي تحمل رسالة الانتقام الإلهي والموعودة بفرض سلطانها على العالم. وقد نفاجأ باكتشاف أن التهديد الحقيقي أقل خطورة، ولكن المفاجأة ستكون آنذاك سارة.»

وبوسعنا أن نتساءل بعد الإفصاح عن تلك الدرر الانغلاقية عما إذا كان صاحب التقرير لا يشارك السيد سوهانج ميله المفرِط في احتساء البوجوليه الجديد. فالجمهورية الإسلامية تعتمد من جهة على توازنات في السلطة أعقد بكثير من «الإسلام الثورى».28 ومن جهة أخرى فإن سعيها إلى التزود بالسلاح النووي، وهو ما تؤكده بالفعل مصادر أخرى (غير أمريكية)، يصطدم بمشاكل تتعلق بالتمويل ترجئ بدورها أجل حلول الخطر. ومن الممكن تفسير هذا المسعى عقلانيًّا بمقتضيات الدفاع الوطني في ظل الأوضاع القائمة في الشرق الأوسط؛ فإسرائيل وباكستان والهند أصبحت فعلًا دولًا نووية، ونوايا العراق في هذا المجال ليست بالطبع من الأسرار. وعلاوة على ذلك فإن مصادر أمريكية، لا تميل مع ذلك إلى الترفق بإيران، أشارت في نفس تلك الفترة إلى أن المجهود العسكري في هذا البلد كان متواضعًا إلى حد كبير. وكان مقدرًا ﺑ ١٫٩ مليار دولار في السنة، في ميزانيتَي ۱۹۹۰-۱۹۸۹ و۱۹۹۰-١٩۹۱م، وهو مبلغ لا يمثل، حسب البنتاجون، إلا سدس ميزانية الدفاع العربية السعودية، ونصف ميزانية الدفاع الإسرائيلية. وكانت اعتماداتها قد انخفضت بالنسبة لإجمالي الدخل القومي منذ السبعينيات، فجاء ترتيبها السادس والستين في عيِّنة مكوَّنة من ١٤٤ بلدًا، وذلك بعد العراق (الأولى) والعربية السعودية (السادسة) وإسرائيل (التاسعة) وتركيا (الحادية والخمسين) وفرنسا (السابعة والخمسين).29
ومنذ عام ١٩٨٢م، لم تتمكن الجمهورية الإسلامية على ما يبدو، من التقدم في طريق إعادة التسليح، نظرًا لتدهور الأوضاع المالية وتَردِّي الإصلاح الاقتصادي. وعلى أي حال فإن مراقبي مناوراتها العسكرية لم تُثِر قلقهم، على ما يبدو، حالة المعدات المشاركة في الاستعراضات. وفيما عدا الوضع في الاعتبار أن ما يخدعنا هو «تلك الازدواجية الجوهرية المميزة لكل ما هو إيراني»، وأن الأزمة نفسها ليست سوى خدعة ماكرة من جانب الملالي المتطلعين إلى الانتشار، يتعين أن نعترف بأن التفسير الانغلاقي للأحداث يعود بالفعل إلى التخيلات السياسية التي تثير تأثيراتها دواعي القلق حول الواقع. فعلى سبيل المثال قرر السيد باسكا، وزير الداخلية الفرنسي في ١٩٩٤م فرض تأشيرة خروج «للتحكم على نحو أفضل في دخول وخروج الأجانب من ١٣ جنسية حساسة»، وحدد «قائمة أولى […] مكونة من بلاد معروفة بالطبع، ومن أمم ذات خطورة كامنة، إما لأنها تمارس الإرهاب، وإما لأنها تخوض حربًا أيديولوجية». ولن يدهش القارئ بالطبع أن يجد إيران من بين «البلاد المعروفة بالطبع» ومن «الأمم ذات الخطورة الكامنة».30
وعملًا بمثل هذا التفكير المبني على التصور الثقافي الانغلاقي والانزلاقات في دلالات الألفاظ، تورطت فرنسا في حلم متعلق بالهوية، ألا وهو عملية إبادة التوتسي في رواندا. ومما لا شك فيه أن مساندة قصر الرئاسة في فرنسا لنظام الرئيس هابيا ريمانا من أكتوبر ۱۹۹۰ حتى أبريل ١٩٩٤م، بل وبعد ذلك أيضًا، تعود أصلًا إلى الدفاع المبتذل عن مصالح مادية صرفة؛ فالروابط بين عائلتَي الرئيسين كانت معروفة للكافة، ومن الممكن أن تكون فرنسا قد التفَّت حول عمليات الخطر المفروضة على بعض بلدان المنطقة بفضل تواطؤ الحكومة الرواندية. غير أن الحجج التي تدثرت بها هذه السياسة كشفت عن جانب لا معقول ربما كان حاسمًا. فبينما كان نهر كاجيرا يجرف جثتين كل دقيقة، وتنجرف عشرة آلاف جيفة في بحيرة فيكتوريا، وراحت المعلومات تتردد حول القضاء على نصف مليون ضحية ومسئولية غلاة الهوتو الواضحة فيما يحدث، كان لا يزال هناك مسئولون عسكريون فرنسيون يبررون مكافحة الجبهة الوطنية الرواندية بضرورة الدفاع عن نشر اللغة الفرنسية!31
هل هي أكذوبة رخيصة تصلح للمناسبة، أم سذاجة من جانب ضباط لم يحسن كان سلسلة تهذبيهم؟ ليس ذلك مسألة مؤكدة؛ لأن الدبلوماسية الفرنسية في جنوب الصحراء تتسلط عليها أحيانًا ذكرى المهانة في فاشودة، تلك المدينة الواقعة في أعالي النيل، والتي اضطُرت بعثة الجنرال مارشان إلى الجلاء عنها في عام ١٨٩٨م تحت ضغط بريطانيا، وكان ديلكاسيه، وزير الخارجية، قد تنازل عنها ليدعم تحالفات فرنسا في أوروبا ويعقد اتفاقًا وديًّا مع لندن. وبالطبع لم يعد الاتهام موجهًا في المقام الأول إلى إنجلترا الغادرة بل إلى الولايات المتحدة، نظرًا لأن المملكة المتحدة مشهورة بخدمتها لها بكل حماس، ولأن الفريق الاستعماري الفرنسي لم يغفر للولايات المتحدة أبدًا منذ الحرب العالمية الثانية تمسُّكها بالتجارة الحرة، ومساندتها لحركات التخلص من الاستعمار، وهجماتها ضد بقايا الميثاق الاستعماري من خلال مؤسسات بريتون وودز. وتعبر أولًا عقدة فاشودة، التي لا تزال تعتمل في نفوس العديد من مخططي سياسة فرنسا في أفريقيا، عن ذلك الشعور بالحصار، والحمائية المتأصلة لدى بعض دوائر الأعمال والدبلوماسيين والجاليات المغتربة. ألا يبدو وجودها أو دورها في تشاد، وأفريقيا الوسطى، وزائير، ورواندا، ونشاط أجهزة الاستخبارات التابعة لها في السودان نفسه، كما لو كان سلسلة من عمليات الثأر المتوارية ردًّا على الصفعة التي تلقتها في عام ١٨٩٨م؟ على أي حال فإن أحد الأسباب العديدة التي دعت فرنسا إلى التضامن مع الجنرال إياديما في تشاد في عام ١٩٩١م كان يرجع إلى العلاقات الحقيقية أو المفترضة بين جيلكريت أوليمبيو، المعارض الرئيسي له، وبين الأنجلوساكسونيين. ومع دنو الانتخابات التشريعية التي جاءت بالتجمع من أجل الجمهورية، وعلى رأسه جاك شيراك إلى الحكم، وُجهت الانتقادات لحركة الحزب الاشتراكي لسياسته القائمة على «حرق الجسور» (كذا) التي كانت تحتقر «علاقات الصداقة» بين توجو وفرنسا، وتُجازف «بتهيئة الفرصة لبلدان أخرى لكي تحتل مكاننا».32 وفي الكاميرون أيضًا، حامت الشبهات حول الأمريكيين والبريطانيين باستخدامهما سرًّا ورقة قائد الجبهة الاجتماعية الديمقراطية المتكلم باللغة الإنجليزية، مما زوَّد باريس بمبرر إضافي للتسليم بما يقدم عليه الرئيسي بيا من ضروب الشطط. وأخيرًا دافعت فرنسا بكل ما أوتيت من قوة عن مقعد زائير في صندوق النقد الدولي، رغم أن هذا البلد بات لا يفي بالتزاماته الخاصة بتسديد ديونه، وحتى لا يتقلص فريق المساهمين المتكلمين باللغة الفرنسية. كما أن المارشال موبوتو يحظى بمشاعر ود حقيقية على ضفاف نهر السين؛ لأنه يتحدث بالفرنسية، ولو بلهجة أهل منطقة قالونيا ببلجيكا، ولأنه استعاد مركزه كضامن لاستقرار الأوضاع في المنطقة بمناسبة الأزمة الرواندية في عام ١٩٩٤م. ولما كان عملاء فرنسا من الأفارقة يجيدون فهم دوافعها، فقد أصبحوا خبراء في إثارة مخاوفها لكي يتفاوضوا على خير وجه بخصوص مصالحهم، ولذا فإنهم يترددون في التظاهر بأنهم يتوددون لواشنطن لكي يحصلوا على المزيد من باريس.33
بيد أن حلم الوحدة الثقافية الفرانكوية يبدو ضئيل الخطورة في نهاية المطاف، بالمقارنة مع مجموع الحماقات المتعلقة بهوية الاثنيات، والتي ارتضاها المسئولون عن سياسة فرنسا الأفريقية منذ العديد من السنوات، بمساندة فكرية من جانب قطاع من الصحافة.34 وعليه فقد تم تصوير المساندة العسكرية للرئيس هابياريمانا كخيار اثني ديمقراطي؛ «فنظرًا لأن أهالي رواندا يتكونون من الهوتو بنسبة ٨٠٪، ولأن التصويت الحر في أفريقيا يكون اثنيًّا دائمًا، يجب أن تعود السلطة بالكامل إلى الهوتو» حسب ما أعلنه أحد ضباط بعثة التعاون، مستندًا في ذلك إلى روح المؤتمر الفرنسي-الأفريقي في لابول حيث ناشد ميتران أقرانه أن ينفتحوا على رياح الديمقراطية.35 وقد علَّق جان-فرنسوا دينيو، نائب مقاطعة الشير، على عمليات الإبادة التي جرت في أبريل ومايو ١٩٩٤م، بنفس العقلية قائلًا: «إنها حالة تعسف من جانب الأغلبية، لقد راهن رئيس الجهورية فعلًا على الهوتو لأنهم يشكلون الأغلبية بينما التوتسي أقلية، ولكنها أقلية رابحة. ولكن أين هي الديمقراطية عندما تكون الأقلية الفائزة؟ إن مخططاتنا ارتبكت إلى حد ما.36
هذا النوع من التفكير يحدُّ من الأبعاد السياسية للانتماء الاثني. فالهوية الهوتو تفرض توجهًا سياسيًّا محددًا، وكان الرئيس هابياريمانا حائزًا على الشرعية الديمقراطية لأنه من الهوتو؛ وبالتالي الممثل الطبيعي للأغلبية. وهذا التحليل خادع بالطبع؛ فهو يفترض أن الاثنية حقيقة موضوعية، بينما هي مجرد واقع يخص الوعي.37 ويريد هذا التحليل أن يكون الإحساس بالانتماء إلى جماعة اثنية موروثًا وراجعًا إلى أصول قديمة رغم أنه يتغير مع الزمان والمكان. فالمواطن الهوتو أو التوتسي في عام ١٩٩٠م ليس على غرار ما كان عليه في الخمسينيات أو حتى القرن التاسع عشر (ولن يكون أيٌّ منهما كذلك بالتأكيد بعد عمليات الإبادة التي جرت في ١٩٩٤م). كما لن يكون أيٌّ منهما على نفس المنوال في شمال رواندا أو جنوبها، وداخل البلاد وفي معسكرات اللاجئين، سواء في رواندا أو بوروندي أو كيفو.38 ولذا فإن الطبيعة — الاثنية أو الاجتماعية — التي تميز الهوتو والتوتسي وتشكل التضاد بينهم سواء قبل الاستعمار أو أثناء وجوده، باتت مجالًا لمناقشات ساخنة بين المتخصصين والمهتمين بالشئون السياسية.

وليس هناك شيء بدهي في كل تلك الحكاية المأساوية، كما تتظاهر السلطات الفرنسية بأنها تعتقد. ونتيجة لقراءتها للنزاع المقصورة على الهوية وحدها، ألقيت الظلال على جوانب منطقية أخرى كانت هي أيضًا حاسمة. فمن المعروف أن ميليشيات الهوتو قتلت التوتسي لأنهم توتسي. ونية الإبادة مؤكدة، على الأقل لأنه تم قتل الأطفال عمدًا ونزع الأجنَّة من أحشاء الأمهات. ولكن ألا تكمن خلف تلك الوقائع الساطعة حقائق أخرى لها مغزاها في الوقت نفسه؟ ألا يعاني أفراد هذه الميليشيات من الشباب من شظف العيش ومن افتقاد فرص التقدم الاجتماعي في ظل اقتصاد الحرب وتفاقم الأزمات وتدفقات جموع اللاجئين؟ ألا يحصلون على أجرهم لقاء ارتكاب المهام القذرة الموكلة إليهم؟ أوليسوا مرشحين للإصابة بمرض افتقاد المناعة ومحكومًا على نصفهم بالموت؟ وألا يتبعون نوعًا من التنظيمات شبه العسكرية، أي ميليشيات تتميز سواء في رواندا أو غيرها، بضم الحثالة والمهمَّشين والمجرمين، إلى صفوفها، وتسمح لهم بإرواء غليلهم، وإشباع أطماعهم بطريقة غدت فجأة عملًا مشروعًا؟ هذه الحرب «الاثنية» حرب اجتماعية وسياسية في الوقت نفسه. وعلاوة على ذلك فإن التفكير المبني جوهريًّا على الاثنية يتناسى أن الفرد، سواء كان الهوتو أو التوتسي، إنسان له مخاوف، وأيضًا أفضليات أو حسابات أو أريحيات لا تتوقف بالكامل على انتمائه الاثني. لقد شاهدنا هوتو ينقذون في رواندا، في عام ١٩٩٤م، توتسيين بُغية تحقيق مكسب أو لقناعتهم السياسية أو لمجرد دوافع إنسانية أو من باب الشفقة، كما أن توتسيين بورونديين وفروا أيضًا الحماية في عام ١٩٧٥م لهوتو كان عسكر الكولونيل ميكومبيرو يطاردونهم.

وفي مواجهة هذا النوع من التفاوتات، يوجد لدى أنصار التفسير الاثني الصرف ردٌّ جاهز يستند إلى الهوية؛ فالهوتو المعارضون الذين زعزعوا حكم الجنرال هابياريمانا منذ النصف الأول من عام ۱۹۹۰م، قبل أن تشن الجبهة الشعبية الرواندية هجومها في أكتوبر، ينتمون بصفة عامه إلى جنوب البلاد، أي إنهم يشكلون فرعًا فقط من الاثنية الهوتو. ولكن هذا الوضع مرهون بأبسط الظروف الاجتماعية المرتبطة بمناطق النفوذ السياسي أو التاريخي. فمع أن الاشتراكيين الفرنسيين يشغلون منصب العمدية في مدينة ليل منذ أمد طويل، ورغم أن تنظيمهم الفدرالي في الشمال له وزن حاسم في حياة حزبهم، فلن يخطر على بال أحد أن يقول إن أهالي مدينة ليل اشتراكيون وإن الحزب الاشتراكي حزب ليل. وفي أحلك ساعات عمليات الإبادة، ستظل استقلالية التحرك السياسي قائمة بالنسبة للديناميكية الاثنية، كخيط رفيع لإعادة البناء المفترض للدولة الرواندية؛ فالجبهة الشعبية الرواندية ستتظاهر بأن تكون رئاسة الجمهورية لمواطن من الهوتو؛ وستواصل الحوار مع المعارضة الداخلية التي سيحاول مندوبوها الإفلات من الموت في الغُرف المكتظة بفندق الألف تل في كيجالي تحت الحماية الهزيلة من جانب فصيلة من جنود الأمم المتحدة؛ وستنشق في الخارج بعض شخصيات حزب الرئيس هابيريمايا وستدين المذابح.

ومع أن جنودًا فرنسيين شاركوا بين سنتَي ۱۹۹۰ و۱۹۹۳م في عمليات فحص للبطاقات الشخصية التي تذكر الانتماء الاثني لحامليها مما يشير في الواقع إلى أنهم متواطئون مع الأوغاد التابعين للجبهة الشعبية الرواندية؛ نظرًا لأن خانة الهوية توضح أنهم «توتسي»، إلا أن الاعتقاد بأن هؤلاء الجنود كانوا مستعدين لاستخلاص أقصى عواقب نضالهم من أجل الفرانكوية والأغلبية الديمقراطية الهوتو، يكون بالطبع إهانة لجيشنا وحكومتنا الطيبة. غير أن المتطرفين من اﻟ Hutu Power(٢) تكفلوا بهذه المهمة بعد أن أقنعوهم بسلامة تفكيرهم فيما يتعلق بالهوية. وهكذا أدت القوة الهذيانية للتخيل الفرنسي إلى تحقيق التغطية العسكرية للإعداد لعملية إبادة حقيقية، بل وربما استكمالها، حسب بعض المصادر، بغية تدارك المذابح التي كان من المفترض أن الجبهة الوطنية الرواندية ستكون مسئولة عنها في حالة الانتصار. ولم تكن هذه السياسية الضالة إلا ختام سلسلة طويلة من المفاهيم الخاطئة حول «الثقافات» الأفريقية. ولكي ندرك أبعاد ذلك، يمكننا أن نسمح لأنفسنا بفهم كيف يمكن أن نعتبر حتى الآن أن المارشال موبوتو هو الرمز الأعلى لوحدة زائير، وهو المسئول الذي أعلن مايلي في خطاب أذاعه الراديو والتليفزيون:
«كنت لا أزال في جبادوليت عندما سمعت أن حوالي اثنتي عشرة امرأة تظاهرن. لقد رأيت تلك المظاهرة، كيف تتصرفون أنتم يا أعضاء حركة الشبيبة المناضلة من أجل الثورة؟ وماذا تفعلون أنتم يا أفراد ميليشيا الحزب الأوحد؟ لا تنتظروا رجال الشرطة، ولا تنتظروا الجنود أو قيادة حركة الشبيبة. إنكم تعرفون معنى السلام عندنا، ذلك السلام الذي كلَّفَنا تحقيقه الكثير. لديكم أحذية، إذن اركلوهن بأقدامكم. أنا لا أطلب منكم أن تُحدِثوا فوضى، ولكن اركلوهن بأقدامكم. ولديكم أيدٍ، إذن اضربوهن. أكرر، اضربوهن بأقدامكم. لديكم أيدٍ، اضربوا. لديكم رأس كامو!(٣) اطردوهن من الشارع باسم السلام.»
في هذا اليوم، تولت القوات النظامية مهمة إنقاذ السلام الزائيري، والذي كلف تحقيقه الكثير»؛ فقد تم إلقاء القبض على الاثنتي عشرة امرأة، واغتصبهن مراتٍ عديدة أفرادٌ من البوليس السياسي الحاملون لفيروس فقدان المناعة.39 والحق أن الجنرال موبوتو الذي ساءه للغاية المصير البشع الذي لاقاه صديقه تشاوشيسكو، عرف بعد ذلك هداية الديمقراطية، وأقام نظام تعدد الأحزاب في أبريل ١٩٩٠م. غير أنه سرعان ما ابتكر التمايز. ففي مايو من نفس السنة، تولى الكومندو التابعون لفرقة الرئاسة الخاصة عملية تطهير حرم جامعة لوبومباشي المتمرد، بالسلاح الأبيض، مع الحرص على ألا يلحق الأذى بالمنتمين أصلًا إلى إقليم الأكوادور40 مسقط رأسه. وهكذا استهل هؤلاء الكومندو عملية استعادة السيطرة على الأوضاع التي نجحت في آخر المطاف بفضل لامبالاة الدول الغربية. ومما لا شك فيه أن أغلبية قادة هذه الدول كانوا موقنين بأن المارشال موبوتو لن ينصلح أبدًا، سواء في مجال إدارة شئون البلاد أو في مجال احترام حقوق الإنسان. وكان الكل يدرك أيضًا أنه يراوغ لكي يستعيد ذلك؛ فقد حظي بالمؤازرة التي لم تنعم بها شخصيات المعارضة. ولا يهمنا أن نضع في اعتبارنا هنا أن الأوساط السياسية الزائيرية حفرت بنفسها لحدَ آمالها نتيجةَ انقساماتها وعجزها، أو أن نيلسون مانديلا والبابا يوحنا بولس الثاني ساهما في إضفاء الشرعية الدولية من جديد على المارشال موبوتو. فالمهم أن نُسجل هنا على الطبيعة تصورًا خياليًّا انغلاقيًّا صرفًا فعالًا، وأن نستدل على طريقة الإدراك الانتقائية التي يعمل بواسطتها. هناك ثلاث أساطير أقنعت الأوروبيين، والفرنسيين بنوع خاص، بأن يسلموا بالأوضاع القائمة في زائير؛ شبح حدوث تمردات كتلك التي جرت في الستينيات؛ وتمزَّق شمل البلاد التي تحتل مركزًا استراتيجيًّا في قلب وسط أفريقيا؛ والفكرة القائلة بأن هذه الدولة العملاقة ليست سوى تركيبة من «الاثنيات» المتهيئة للتناحر؛ والقناعة بأن «الثقافة الأفريقية» لا تتفق مع التعددية السياسية لأنها تعتمد على أولوية القائد.
لقد أكد أيديولوجيو الحزب الواحد مرارًا وتكرارًا طوال ثلاثين سنة أن «تمساحين ذكرين لا يمكن أن يعيشا معًا في خليج واحد». وكنا مستعدين لتصديقهم خاصة وأنهم كانوا يضفون هالة لاحقة من الاحترام على مفهوم السلطة الاستعمارية المفحم، ولأن تحجيم الشيوعية يستلزم على ما يبدو وجود سلطات قوية. ثم إن تشنجات التعددية الحزبية والانقسامات المتوالية في أحزاب المعارضة جاءت لتصدق على نظرية التمساح الذكر. واعتمادًا على تلك المعرفة الإثنولوجية، أخفى مسئولو سياسية فرنسا الأفريقية بالكاد عدم اقتناعهم مطلقًا بإمكانية نجاح التجربة الديمقراطية في جنوب الصحراء. وقد نوهت صحيفة الموند بأن «أسطورة الزعيم، سواء كان شيخ قبيلة أو من أمراء الحرب أو رئيس دولة لا تزال راسخة الأقدام، كما تؤكد ذلك التجربة المؤسفة في الصومال أو أنجولا»، مع إشارتها إلى أن هذا التحليل يستوجب توخي جانب الحذر.41 وفيما عدا الأوساط المستنيرة في مجالَي السياسية والصحافة، يظل هذا التفكير في مقدمة مجموع الحماقات المتعلقة بأفريقيا، رغم مرور ثلاثين سنة على خروج الاستعمار. وقد أوضح أحد موظفي شركة مكلفة بنظافة مترو باريس بعد دورة تدريبية «لتفهم الثقافات والحضارات المغربية والأفريقية» أوضح رأيه قائلًا: «يشعر المرء أحيانًا أن الأفارقة السود لا يفهمون ما يُطلب منهم، ليس فقط لأنهم لا يجيدون الفرنسية، ولكن أيضًا لأن الاتصال بهم لا يتم بشكل حسن. لقد علمت أن الأفارقة يتصرفون إلى حد كبير من خلال العشيرة، وأنه من المهم للغاية وضع رأي شيخ القبيلة في عين الاعتبار عندما يكون المراد فرض شيء ما.»42
غير أن «أسطورة الزعيم» — التي لم تحلْ دون خروج مئات الآلاف من الأفارقة في مظاهرات منذ ١٩٨٩م، أو عدم احترامهم للانتخابات في عدة بلدان — ليست سوى وهم. ففشل الديمقراطية في شِبه القارة يعود بقدر قليل إلى «الثقافة»، وإلى حد كبير إلى علاقات القوى السياسية والأزمة الاقتصادية والعلاقات الدولية. وفضلًا عن ذلك فإن الاستبداد الرئاسي الجاريَ إحياؤه من جديد يستمد جانبًا كبيرًا من وحيه الأيديولوجي والعملي من عهد الاستعمار، لا العهد السابق عليه. فالطريقة التي خلق بها كلٌّ من المارشال موبوتو في زائير، والرئيس بيا في الكاميرون، عدة أحزاب «معارضة» لتقسيم صفوف خصومهم تُذكرنا مثلًا بالتقنية المدروسة تمامًا التي استخدمتها الإدارة الفرنسية في مكافحتها للأحزاب القومية. وإذا كان الدكتاتوريون من أمثال سيكوتوري في غينيا، أو الزعيم بوتليزي في مقاطعة الناتال بجنوب أفريقيا قد نسبا نفسيهما إلى شخصيتين بارزتين في الماضي الأفريقي — وهما على التوالي ساموري وشاكا — فلم يتم ذلك دون عملية إعادة تفسير أيديولوجي حديثة، في ظروف التخلص المعاصرة من الاستعمار أو الأبارتيد.43 أما جان بديل بوكاسا، أو غاسينيه إياديما، أو أمين دادا، فكانوا نتاجًا ثقافيًّا صرفًا للجيش الاستعماري، حتى وإن كانت شراستهم الماكرة قد أثارت ردود فعل متميزة في مجتمعاتهم نسبة إلى شخصياتهم التاريخية.44 وهذا الارتباط بجهاز القمع الخاص بالبيض لم يضرهم أبدًا؛ لأن البيروقراطية العسكرية الأوروبية كانت تاريخيًّا موصلًا الحداثة والارتقاء الاجتماعي في نظر العديد من الأفارقة الذين اتخذوا منها نموذجًا لأعمالهم، ومنها مثلًا تصرفاتهم الدينية.45
وفيما عدا الأمثلة، العديدة حقًّا خلال القرن التاسع عشر، للدول المحاربة التي كان مصيرها في أيدي أبطال طغاة ونهابين، فإن التشكيلات السياسية في أفريقيا القديمة كانت تتميز بالأحرى بتوازنات معقَّدة للقوى، بين مختلف المؤسسات والمراتب الاجتماعية. بيد أن تلك البنى الخاصة بالدولة أو بتوارث السلطة كانت أحيانًا قريبة للغاية من النظام الدستوري، كما كان الحال في مملكة أشانتي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث كانت استقلالية الممسكين بزمام السلطة محدودة.46 والأساطير البانتو حول تأسيس الممالك المقدسة تكشف عن أيديولوجية سياسية حقيقية، وتفصح عن مفهوم ثنائي الرأس يُذكرنا بأولى الوظائف الهندية-الأوروبية الثلاث التي تدارسها جورج دوميزيل،47 التحليل البنيوي للأساطير الذي أسهم في إضفاء الطابع العلمي على دراسة الأديان (الجرمانية، والهندية-الأوروبية، والرومانية). أما «الزعماء السود» الأثيرون لدى الحاكم للسلطة الفرنسي روبير ديلافينيت، فكانوا في أغلب الأحوال من صنع المستعمر الحريص على اختيار أعيان محليين لإدارة المجتمعات التي احتلها.
وهذا واضح في المجتمعات التي كانت مجردة من مؤسسات سياسية مركزية، حيث كانت إقامة زعامات في تلك الحالات تتناقض تمامًا مع التصورات الثقافية للسلطة وتتسبب في نزاعات وخلافات خطيرة.48 وحتى في الممالك والزعامات القائمة أصلًا قبل الاستعمار، تغيرت بشكلٍ عميق فكرةُ النظام الملكي وتصور السلطة بفعل المستعمر. وقد لجأ الألمان والبريطانيون بالأخص إلى شخصيتَي القيصر غليوم الثاني والملكة فكتوريا لدعم نفوذهما، وذلك بتنظيم العديد من شعائر الاحتفال ﺑ «الملكية الإمبراطورية»، وهي شعائر لا يدانيها في مجال الاستعانة بالأساليب البالية حفل البوجوليه الجديد في قرية بايانجام. ففي عام ١٨٩٠م، مُنح ضابط ألماني زعيم الشاجا في تنجانيفا معطفًا وخوذة لوهنجرين، البطل الألماني الأسطوري في أوبرا فاجنر التي تحمل نفس الاسم، حصل عليهما من دار الأوبرا في برلين. وكان الزعماء المحليون حريصين من جانبهم على الاستزادة من مصادرهم الرمزية، فراحوا يُلحون في طلب الحصول على لقب «ملك» وعلى دعوتهم لحضور تتويج ملوك إنجلترا، وزودوا أنفسهم بعروش وتيجان وصولجانات، وراحوا يحتفلون بدورهم باليوبيلات. ولم يكن هذا الولع بالرموز السياسية الأوروبية قاصرًا على الأعيان وحدهم؛ إذ كان جمهور أهالي المدن يشاركونهم في ذلك بالأخص في إطار روابط الراقصين التي كانت تنقل عن العسكريين الألمان درامية تدريباتهم العسكرية أو الأبهة المحيطة بممثل صاحب الجلالة.49
ومما لا شك فيه أن من يستطيع أن يميز بين نصيب الجانب الأفريقي ونصيب الأيديولوجية الاستعمارية في حزمة الخيوط المتشابكة هذه، يحتاج إلى دهاء شديد. فالمارشال موبوتو يضع على رأسه قلنسوة من فراء الفهد، وهو الحيوان الذي يرمز منذ أزمنة سحيقة إلى السلطة عند شعوب البانتو.50 ولكن الزعماء المحليين الذين تعاونوا مع المستعمر البلجيكي استخدموا نفس هذا الشعار، وأضفوا عليه مفهومًا آخر غير ذلك الذي كان يمكن أن يعنيه في مجتمع كانت السيادة فيه بالتوارث في القرن التاسع عشر أو القرن الثاني عشر. فالرأي العام الزائيري يربط سلطة المارشال موبوتو بصورة بولا فاتاري المرعبة، «محطم الصخور»، وهي الصورة التي كانت تستدعيها الهيمنة الاستعمارية.51 كما أن المؤرخين يعلمون أن السلطة في عالم البانتو تعبر عنها علاقات القربة منذ حقبة سحيقة.52 ومع ذلك وجَّه أمير بلاد الغال في عام ١٩٢٥م خطابًا إلى الرئيس الأعلى للسوتو جاء فيه: «إنني لسعيد للغاية لأنكم تعتزون دائمًا بذكرى جدتي، الملكة فيكتوريا.» «[…] إنها لم تعد بيننا ولكن الملك يواصل السهر عليكم بعناية أبوية صرف.» وفي ۱۹۱۰م، خاطب الملك جورج الخامس رعاياه في باتوسولاند بنفس هذه النبرة، فقال:
«إذا واجه طفل صغيرٌ متاعب، فإنه يتوجه إلى أبيه، ويقرر أبوه ما يجب فعله بعد أن يكون قد استمع إليه. يجب أن يثق الطفل في أبيه وأن يطيعه لأنه ليس سوى فرد بين أسرة كبيرة. وقد اكتسب أبوه خبرة كبيرة وهو يعالج مشاكل الكبار، وبوسعه أن يقرر ما هو جيد ليس للطفل وحده، ولكن من أجل سلام الأسرة بأسرها ورفاهيتها […] وأمة الباسوتو تشبه هذا الطفل، من بين الشعوب العديدة التابعة للإمبراطورية البريطانية.»53
لقد رأينا في بايانجام أن التقاليد يقابلها المزيد من التقاليد. وبوسعنا أن نوضح أن ما هو تقليدي ليس ذلك الذي نعتقده. ففي أفريقيا الموغلة في القدم كانت التقاليد عمليات تطورية تؤمن «تواصلًا متحركًا».54 وقد جمدها الاستعمار في تقاليد وفولكلور بتأثيره الأيديولوجي ونصوصه القانونية.55 وفي الوقت نفسه حاولت الإدارة الأوروبية تثبيت أماكن الأهالي الخاضعين لها، أو توجيه هجراتهم بما يتفق مع مصالحها. وحصيلة رد الأفارقة على تلك السياسات العامة والاستراتيجيات ليست سوى الاثنية. وهناك وفرة من المؤلفات الأنثروبولوجية أو التاريخية تثبت أن المجتمعات السابقة على الاستعمار كانت كلها تقريبًا متعددة الاثنيات، وتضم تشكيلة كبيرة من المجموعات الثقافية، وأن أشكال التعبئة الاجتماعية أو الدينية كانت تشمل اثنيات متعددة، وأن أفريقيا الغابرة لم تكن بالتأكيد شبكة من الاثنيات.56 ولا يعني ذلك أن الاثنية كانت «بناءً» أقامه المستعمر الحريص على أن يفرق ليَسود، كما يساعد ذلك القوميون حتى الآن وعن طيب خاطر (أو أيضًا، على نحو مفارق، بعض الإثنوجرافيين القوميين) من الأفارقة. والواقع أن المستعمرين ساهموا هم أيضًا في «تكوين» تلك الاثنية بانتحال المصادر السياسية والثقافية والاقتصادية الخاصة بالدولة البيروقراطية. ويقول جون ليف باختصار بليغ للغاية: «كان الأوروبيون يعتقدون أن الأفارقة ينتسبون إلى قبائل، وأقام الأفارقة قبائل، للانتساب إليها.» وفي ذلك سوء فهم من بين حالات عديدة أخرى من سوء الفهم.57 والأهمية السياسية للانتماء الاثني ناجحة بالذات لكونه ظاهرة حديثة تمامًا، مرتبطة ﺑ «الدولة المستوردة»، وليس راسبًا أو انبعاثًا جديدًا «الثقافة التقليدية».
والواقع أن هذه الاثنية غير موجودة، على الأقل بالمعنى الذي يقصده أنصار التوجه الثقافي الانغلاقي. ومن الممكن أن نستخلص، مع تواصل الزمن، وفي حيز معين، عددًا من التمثلات الثقافية، وعددًا من «التقاليد» الإدراكية بالأخص، كما توصل إلى ذلك يان فانسينا بالنسبة للبانتو في الغابات الاستوائية. بيد أن كل واحدة من تلك التمثلات يتداولها عدد كبير من المحركين المتنوعين، بما في ذلك في صفوف الفروع «الاثنية». فلو جرى الحديث مثلًا عن السلوك الاقتصادي لدى الباميلكيه بالاستناد إلى «ديناميكيتهم» الأسطورية والمخاوف التي تثيرها، لكان ذلك تسليمًا من جانبنا بخطاب سياسي متفجر يغازل التطهير الاثني ويتنازل عن التفرقة بين مسارات التراكم (أو فض التراكم) حسب الفئات الاجتماعية وأجيال المقاولين.58 هل سنتأسى أو نكتفي بمفهوم لثقافة سياسية أفريقية لا تتوافق مع بنية دولة تقوم على تصورات غربية ويتقرر تخطيط حدودها المصطنعة في مؤتمر ينعقد في برلين؟ ولكن الأزمات المتكررة في رواندا وبوروندي والصومال توحي بأن التواصل الترابي والثقافي بين المجتمعات السابقة على الاستعمار والدول المعاصرة لا يشكل أبدًا ضمانًا للاستقرار، بل يمكننا أن نتساءل، على أساس مثال النزاعات في منطقة البحيرات الكبرى، عما إذا كان التحديث الأيديولوجي والعسكري في الدول التي تواجدت أصلًا قبل الاستعمار لم يشجع على توتر العلاقات داخلها، بينما أدى إدماجها في أحياز سياسية متوسعة، نتيجة لتغير المعايير بفعل الاستعمار بصفة عامة، إلى تسويات لا مفر منها بين الصفوة، بل وإلى عمليات تمثيل متبادلة بينهم، ومال إلى إذابة التناقضات الاجتماعية، أو للحد منها على الأقل.59 وعلى أي حال فإن الأزمة السياسية في أفريقيا لا شأن لها بالادعاء بالطابع المصطنع لحدودها الأقدم أحيانًا من حدود بعض البلدان الأوروبية. ألا يشكل نهر الراين حدودًا طبيعية؟! وهل كان للحدود طابع تاريخي بين البلدان التي توارثت الإمبراطورية الرومانية الغربية وتلك التي توارثت الإمبراطورية الرومانية الشرقية؟ وهل كانت من عوامل إقرار السلام؟
والواقع أن قبول الأفارقة بالحدود التي آلت إليهم بانسحاب المستعمر، يشكل إحدى السمات البارزة في التاريخ الحديث لشبه القارة. فقد تسلم سكان البلاد الأصليون السلطة في الدولة المستوردة، وشكل «تكوين» الانتماء الاثني، ردًّا على المؤسسات والقواعد الجديدة لتوزيع الموارد، إحدى الاستراتيجيات المفضلة، وإن لم تكن الوحيدة؛ كان كلٌّ من اعتناق الدين المسيحي أو الإسلامي، ونشأة عبادات، وظهور أنبياء أو كنائس مستقلة، وتنظيم نقابات أو أحزاب سياسية، وتطور الزراعة والقطاع الإعلامي، كان كل ذلك شاهدًا على انتقال زمام المبادرة إلى الأفارقة، بتنافذ مع النظام الاستعماري. وقد تعهدت رسميًّا النُّظم التي تولدت عن انسحاب الاستعمار بأن تنهض بهذا التواصل بتوقيعها على ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية.60

وأيًّا كان المضمون الإقليمي أو الاثني للحروب الأهلية التي تعاني منها أفريقيا اليوم، إلا أنها لا تتعرض للوحدة الوطنية. بل إن المحرضين المتسببين في تلك النزاعات استُبعدوا أحيانًا بكل عنف حتى الطريق الفدرالي، وظلوا أنصارًا متشددين للدولة الموحدة، كما هو الحال بالنسبة لتشاد أو أنجولا أو السودان. والمحاولة الحقيقية الوحيدة للانفصال جرت في بيافرا في عام ١٩٦٧م وتم سحقها. أما المشروع الانفصالي لكاتنجا في عام ١٩٦٠م، فقد حرضت عليه إلى حد كبير مصالحُ أجنبية وكان مآله الفشل، وإن كانت ذكراه لا تزال ماثلة في الذاكرة التاريخية للزائيريين، وحرص على إحيائها المارشال موبوتو الأريب، على فترات منتظمة، حتى يبدو دائمًا أنه المعقل الأخير ضد تمزق بلده. غير أن الدرس الأكبر في تاريخ زائير يتمثل بالذات في الرسوخ المدهش للفكر القومي. فها نحن بصدد دولة مترامية الأطراف تتركز أغلبية سكانها على الحدود، علمًا بأن نظام المواصلات فيها مدمر وقُراها مطوقة، ومؤسساتها منهارة، ومدنها فريسة لعمليات نهب متكررة، واقتصادها لا يخضع لأي قواعد أو لجباية الضرائب، إن لم يكن متحررًا من أي استقطاعات إجبارية. ومع ذلك تظل هذه الدولة موحدة سياسيًّا. والنقاش حول اللامركزية الذي دار في إطار المؤتمر القومي في بداية التسعينيات كان يتعلق بضرورة إسناد المهام الإدارية للمناطق لا بتقسيم أراضي البلاد؛ فإقليم كيفو مثلًا الذي تخلت السلطة المركزية عن الاهتمام به منذ سنوات عديدة، وراح يتاجر على نطاق واسع مع بقية العالم عن طريق المغتربين الناند، لم يفكر في فصم انتمائه إلى زائير، وقام بدور سياسي هام في إطار المؤتمر القومي. ومن المفارقات أن زائير، مارد أفريقيا العليل، تؤكد متانة الدول التي رسم مؤتمر برلين حدودها. ولعل أبلغ ما يمكن أن يُذكَر في هذا المقام أن الصراع المسلح في الصحراء الغربية وأرتيريا وأرض الصومال كان مطلبه الرئيسي العودة إلى الحدود التي رسمها الاستعمار أو الحفاظ عليها.

لقد صادفت عمليات تطعيم المؤسسات والأيديولوجيات المصدرة إلى أفريقيا لصالح التوسع الإمبريالي الأوروبي المتاعب وأثارت النزاعات، إلا أنها لم تصطدم بعقبة «الثقافة الأفريقية التقليدية» التي سنجد مشقة في محاولة تعريفها. وعلى العكس فإننا نلاحظ أن هذه الأسطورة الملازمة للتفكير المقتصر على دور الثقافة دون غيرها، هي التي تعتمد عليها النسبية السياسية التي تريد أن تنكر على الزنوج تطلعهم إلى الكونية؛ «فما دام جنس الزنوج نوعًا من البشر مختلفًا عنا، كما تختلف سلالة الكلاب السَّبَنْيَلية عن الكلاب السلوقية»، وما دام «الزنوج والزنجيات المنقولون إلى البلاد الأشد برودة، ينجبون حيوانات من نوعهم»،61 على حد قول فولتير، فلا جدوى من محاولة فرض نموذجنا الديمقراطي، ومفهومنا حول التطور، وفكرتنا عن القضايا العامة، أي باختصار، ثقافتنا. وقد تحولت هذه البرهنة إلى كابوس على ضفاف بحيرة كيفو.

اختراع التقاليد شبيه باختراع الحداثة

من المؤسف أن التوجه الثقافي الصرف أشبه بنبيذ البوجوليه الجديد؛ فحالة السكر الناتجة عن ذلك التوجه لا تقل سوءًا. كما لا يمكننا أن نقول إن نبيذ هذا التوجه يكشف عن حقيقته، إذ سرعان ما يكذب تحليل الوقائع افتراضاته، وذلك لسبب بسيط؛ فالتوجه الثقافي الصرف يُصر على أن يعتبر أن «الثقافة» تتألف من كِيان ثابت ومنغلق على نفسه بتمثلاته وعقائده ورموزه. وتتميز هذه الثقافة بشدة «توافقها» — وفقًا للفظ الذي استخدمه توكفيل وكذلك ماكس فبير — من خلال آراء ومواقف وسلوكيات محددة.

غير أن فيبر لم يكن من أنصار الانغلاق الثقافي، ولم يوافق أبدًا على التفسير القائم على «عقلية الرأسمالية» التي كثيرًا ما تنسب إليه بالاستناد العشوائي إلى مؤلفه الشهير عن الأخلاقيات البروتستانتية وعقلية الرأسمالية.62 فقد كان يرفض تجريد العوامل المادية من عوامل الأخلاقيات الدينية لتفسير قيام الرأسمالية. وهو يقول: «لا مجال للدفاع عن أطروحة خرقاء وعقائدية إلى أقصى حد، تزعم أن «عقلية الرأسمالية» […] لا يمكن إلا أن تكون نتاج تأثيرات معينة للإصلاح الديني،(٤) حتى إنها تؤكد أن الرأسمالية، بوصفها نظامًا اقتصاديًّا، ليست إلا من خلق ذلك الإصلاح». وكان فيبر يتحدث عن «التداخل الهائل بين التأثيرات المتبادلة بين الأسس المادية وأشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي والمضامين الروحية لحقبات الإصلاح الديني». وقد أنهى مؤلفه بتوضيح كان من المفترض أن ينهي ذلك النزاع، إذ قال: «هل من الضروري أن نحتج بأن هدفنا ليس إطلاقًا إحلال تفسير روحي للحضارة والتاريخ — لن يكون أقل أحادية الجانب هو أيضًا — محل تفسير عِلِّي «مادي» صِرف؟ كلٌّ منهما ينتمي إلى مجال الممكن، غير أن كليهما يسيء إلى الحقيقة التاريخية، نظرًا لأنهما لا يكتفيان بدور العمل التمهيدي ويزعمان أنهما يتوصلان إلى استنتاجات.»

ويتحدث فيبر بالطبع في مواضع متفرقة عن «الطابع الأصيل والدائم للعقائد الدينية، ويعطي الأولوية لدراسة «الأسس الدجماتيكية» و«النظرية الأخلاقية»، ولا يقتصر على تحليل الممارسة الأخلاقية». بيد أن مشروعه الخاص «بالبحث فيما إذا كانت بعض «التوافقات» يمكن أن تلاحظ بين أشكال الإيمان الديني والأخلاقيات المهنية»، لم يكن سوى مرحلة في سعيه إلى تشكيل «شخصية مثالية […] لا نصادفها إلا فيما ندر في الواقع التاريخي». وفيما يختص بما تبقى، يفكر فيبر حسب التجربة التاريخية أو بالأحرى حسب القالب التاريخي: «فتحويل الظواهر التاريخية إلى تطورات […] لا يدخل الحقيقة في مقولات مجردة، بل يبذل الجهود لربط تلك الظواهر بعلاقات تكوينية ملموسة، لا بد وأن تكون ذات طابع فردي خاص». وهو يرى أن قيام الرأسمالية يعود إلى إمكانات تواجدها، وأنه نتاج «تسلسل ظروف». وتنفرد الرأسمالية بكونها «ظاهرة ثقافية» لأنها تتمثل في «عقلية»؛ «فالقضية الكبرى في توسع الرأسمالية الحديثة ليس أصل رأس المال، بل إن هذا التوسع نتاج تطور العقلية الرأسمالية» الذي ظهر في الحضارة الغربية، وفيها وحدها». وإذا كانت الرأسمالية تُعرَف ﺑ «عقليتها» إلا أن نشأتها لا تعود إلى «ثقافتها» وحدها. ويدلل بذلك أنصار التفسير «الكونفوشيوسي الجديد» للمعجزات الاقتصادية في شرق آسيا على أنهم فيبريون بقدر ضئيل للغاية على عكس مؤرخي المدرسة الفرنسية في علم الحضارة الصينية الذين ينتقدون الافتراضات التي ساقها ماكس فيبر بخصوص الصين، ويواصلون نفس السعي إلى «تاريخ شامل».

ويختلف ماكس فيبر أيضًا عن أنصار الانغلاق الثقافي المفترضين من حيث الاهتمام الذي يوليه للبعد الخارجي للتغير. فالمجتمعات، في مؤلفاته، لا تستجيب فقط لإيعازات منطقها الخاص بها، وبالأخص ثقافتها، إذ إنها في تفاعل مستمر مع ما يحيط بها، حتى لو كان قد تم تقليص ذلك المحيط بلا مسوغ وقصره على فئه الظواهر العسكرية والدبلوماسية.63 وكان ماكس فيبر، المعجب بالإنجليز، غريبًا عن روح العصر الرومانتيكية، القومية والإمبريالية التي كانت البؤرة الأساسية للفكر الثقافي الانغلاقي في ألمانيا، وذلك من وجهة النظر الأيديولوجية، وبحكم روابطه الأسرية.64 وكان يستبعد بالأخص أي تعريف جوهري للمجموعات الاثنية والأمم، إذ كان يرى أنها «تبريرات سياسية»، ويعتبر أن «مفهوم السلوك الاجتماعي المحدد «اثنيًّا» يتضمن ظواهر يتعين على التحليل السوسيولوجي الدقيق أن يتبينها بعناية.»65
والانغلاقية الثقافية في المجال السياسي في أشكالها الحديثة عبارة عن تحولٍ طرأ على «الصور الكبرى لإنكار الآخرين» المتمثلة في التفكير العنصري، والقوى المتطرفة والإغرابية الفردية.66 وهذا التوجه الثقافي الانغلاقي يجب أن يربط بالذات، من منظور التحليل السياسي، بحركة «اختراع التقاليد» التي تميز بها تاريخ الغرب منذ نهاية القر الثامن عشر.67 وقد تجسدت عملية التشكيل هذه من خلال تلقين قيم معينة ونماذج سلوك عن طريق التكرار، علمًا بأنها تستند بوضوح إلى الماضي، على أن يكون هذا الماضي قابلًا لإعادة بنائه أو صنعه. لقد كان «اختراع التقاليد» عنصرًا أساسيًّا في «بناء» و«تكوين» الدولة الحديثة في الغرب. فقد جاءت بالاندماج، النزاعي بقدر متفاوت، بين المركز والمناطق المحيطة به وﺑ «صحوة القوميات» ومولد التطرف القومي، وبالوحدتين الألمانية والإيطالية، وبالمجتمعات الصناعية، وبإقامة الدول-الأمم على أنقاض الإمبراطوريات القديمة المتعددة الاثنيات، وبتجميع سكان متباينين من المهاجرين في العالم الجديد وأستراليا.
وهناك أيضًا علاوة على اختلاف الأوضاع، السمة الرئيسية ﻟ «اختراع التقاليد»، ألا وهي إعادة الاستخدام العملي وغير الواعي لشذرات استيهامية من الماضي لصالح الابتكار الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي. ففي بريطانيا مثلًا لم تترسخ أبهة الطقوس الملكية إلا مؤخرًا، في نهاية القرن التاسع عشرة، رغم ميول الملكة فيكتوريا المتحفظة في مجتمع صناعي تعتمل فيه تقلبات المنافسة الإمبريالية وصعود الطبقة العاملة. وساعد تطور الصحافة بدءًا بثمانينيات القرن التاسع عشر على الترويج الشعبي لهذا التمجيد للملكية، وذلك قبل أن تواصل هيئة الإذاعة البريطانية تلك المهمة.68 كما أن رواج الطرازات القوطية الجديدة، والباروك الجديد والكلاسيكية الجديدة في عواصم العالم الغربي، كان مصاحبًا للتمركز والبيروقراطية والتوسع في الأهلية المدنية لتشمل أعدادًا متزايدة من المواطنين، والابتكار الاجتماعي بوجه عام.69 وعلى سبيل المثال، فإن الطراز القوطي الجديد لمبنى دار البلدية في فيينا، كان يذكر الليبراليين بأن المدينة كانت بلدة حرة، ويعيد الصلة بالماضي بعد فترة طويلة من الحكم الاستبدادي؛ والطراز الباروك الجديد المميز لمسرح المدينة كان تخليدًا لمرحلة كان رجال الدين فيها هم ورجال البلاط وأفراد الشعب يتقاسمون ولعهم بالمسرح؛ والطراز الرينسانس (النهضة) الجديد لمبنى الجامعة كان بمثابة إعلان عن القطيعة بين العقلانية والخرافات؛ والطراز الكاسيكي للبرلمان كان يذكر بالمثل الديمقراطية الإغريقية.70
في بلدان أفريقيا وآسيا المستعمرة، يتوافق تجمد «الثقافة التقليدية» في ظل الاحتلال الأوروبي مع الصورة التالية: تتواكب عملية تحويل العادات إلى طقوس وشكليات مع اشتداد التغيير الاجتماعي. ففي الهند مثلًا اتخذت إقامة النظام الملكي الإمبريالي بعد ثورة السيباهي (الجنود الهنود الخاضعون للقيادة البريطانية) في ١٨٥٧م والقضاء على السيادة المنغولية في ١٨٥٨م، اتخذت شكل التوجه السياسي والثقافي المتمسك بالتقاليد. فقد تحولت ألقاب وامتيازات الأمراء الذين قبلوا المشاركة في تحرك التاج البريطاني إلى نظام مؤسسي، وكوَّنوا تدريجيًّا فئة مهيمنة، تقليدية تمامًا مثل فئة الزعماء في أفريقيا.71 وتم وصف شعوب وثقافات الهند، وجدولتها وتصويرها فوتوغرافيًّا، وأودعت في مكتبات ومتاحف هذه الحضارة التي قيل عنها إنها في طريقها إلى الاندثار. وجرت عمليات تنقيب عن الآثار، وتم جرد صروح شبه القارة الهندية. وباختصار حدَّد البريطانيون بمزيد من الهيمنة ما هو هندي. وبينما كان الجنود من أهالي البلاد يرتدون بذة عسكرية تفصيلها أوروبي قبل عام ١٨٦٠م، تقرر بعد ذلك أن يرتدوا لباسًا من الطراز المنغولي الجديد، يشمل عمامة وحزامًا وسترة.72
وتمثَّل رد الفعل إزاء انتقال الهند إلى العهد الاستعماري الإمبريالي في اللجوء إلى التقاليد أو إلى العادات غير المألوفة. ولكن انتقالها إلى عهد التعبئة القومية والنزاعات بين الطوائف اتخذ صبغة مشابهة. وفي الوقت الذي كان البريطانيون يصطنعون فيه حضارة هندية، كان المثقفون الهندوكيون ينتجون تقاليد هندوكية باللجوء إلى «تلفيقية استراتيجية». كان المطلوب، حسب كريستوف جافريلو «بناء هويتهم ضد الآخر، باستيعاب ملامحه الثقافية الرائعة والفعالة»: «فقد أيقظ ظهور التهديد الخارجي لدى الأغلبية الهندوكية الإحساس بالهشاشة، بل وبعُقد نفسية، مما دفع إلى إصلاح الهندوكية باستعارة النواحي القوية عند المعتدي، تحت ستار العودة إلى روعة العصر الذهبي للبراهمية، المخترع من جديد إلى حد كبير، والذي يظل منطقه الأجنبي نشطًا.»73 وقد شهدت «التلفيقية الاستراتيجية» التي ظلت سمة متواترة تميز المقاومة الهندية للغزوات الأجنبية، شهدت فترتين مهمتين في نهاية القرن التاسع عشر وخلال العشرينيات، قبل أن تصبح ممارسة سياسية نضالية عند القوميين الهندوس. وقد نظم هؤلاء أنفسهم بالذات وفقًا لنموذج أصيل لدى الطائفة، وبالأخص الأكهرا التي تشكل في آن واحد تنظيمًا مناضلًا ومجالًا للتدريبات الرياضية العسكرية، تتميز بطقوسها المتشددة. وكانت جمعيات إرهابية قد استخدمت أصلًا مؤسسة الأكهرا هذه من جديد بخلط مصادر الإلهام. وكان أعضاء إحدى تلك الجمعيات يقسمون يمين الولاء أمام الربة كاتي، وقد وضعوا الباجاقات جيتا (القصيدة الفلسفية الساسكريتية التي تشكل أحد النصوص الأساسية للفلسفة الهندوكية) في يد والمسدس في اليد الثانية.74 وفي العشرينيات، شجعت جماعة الهندو-ماهاسبها بدورها تأسيس الأكهرا لكي تدافع عن نفسها ضد حركة الخلفاء عند المسلمين. غير أنها تخلت عن تدريب الجسد والمعارك بين الأفراد لصالح ألعاب الفرق التي يؤثرها الإنجليز، وبدا الشكل التقليدي للأكهرا خاضعًا بكل وضوح لابتكار سياسي وتعليمي.75
وفي الختام فإن إقدام القوميين على إعادة تفسير الماضي «الهندوكي» وتحويلهم «التقاليد» لأغراض نضالية جاء منذ قرن من الزمن بهوية سياسية جديدة جذريًّا في المناخ الثقافي لشبه القارة الهندية بأن أدمجت فيها تمثلات غريبة على الهندوكية — ومنها مثلًا عناصر من الفردية المساواتية، والتبشير والبنى الكهنوتية — وذلك من أجل «تحقيق تجانس» مجتمع يتميز بتبايناته القصوى، بغية تحويله إلى أمه.76 وفي إطار المسرح السياسي الهندي، يشكل الاحتفال بالفيدا (النصوص الدينية والأدبية المدونة باللغة الساسكريتية القديمة، وهي أول نصوص أدبية هندية) أداة للتستر على الحداثة، على غرار مختلف الصيغ الجديدة للأصالة» الأفريقية التي نمت بمحاذاة الاختراع الاستعماري للتقاليد، بالأخص في زائير تحت رئاسة موبوتو، وفي التشاد في ظل حكم تومبالباي، وفي توجو تحت رئاسة غناسنجبه إياديما، وفي غينيا الاستوائية تحت حكم ماسياس نجيما، وفي إقليم ناتال الخاضع لهيمنة الزعيم بوتليزي.
وهذا النوع من التعريفات التراجعية للحداثة يجعل الاستراتيجيات الخاصة بالهوية شمولية بشكل كامن.77 أولًا لأن الثقافة الأصلية حسب تخيلها، يتم تعريفها في مواجهة ثقافات مجاورة، يُنظَر إليها مع ذلك على أنها مختلفة جذريًّا، ولأن هذا التباين المفترض يقود إلى مبدأ الاستبعاد الذي سرعان ما يصبح استنتاجه المنطقي عملية التطهير الاثني. وعندئذٍ يعامل التبادل بين الثقافات كنوع من الاغتراب، وفقدان للماهية، بل ونوع من التلوث. وأخيرًا فإن الثقافة التي تم تخيلها ترسم للأفراد التابعين لها هوية مبسَّطة أشبه بالأشياء والأثاث السابق التجهيز والمطلوب تجمعيه بكل يسر، وإن كانت هذه الثقافة تفرض عليهم عن طريق القمع إذا لزم الأمر. وهذا هو منطق المتأسلمين وكذلك منطق «ذوي الملابس السوداء» في إسرائيل الذين يفرضون على إخوتهم في العقيدة الدينية إعادة بناء أيديولوجي متعسف تمامًا لتاريخهم وعقيدتهم. وذلك أيضًا المنطق البشع لمذابح البوسنة ومنطقة البحيرات العظمى الأفريقية. فبقدر ما يتم دفع الآخرين إلى الرحيل، بقدر ما يتم منع الأقربين من التواطؤ معهم، وذلك بإجبارهم إذا لزم الأمر على الهجرة الجماعية عند الاحتكام إلى السلاح كما جرى في رواندا في عام ١٩٩٤م، وفي سراييفو في ١٩٩٦م.
بيد أنه يتعين الإقرار بأن التشددات السياسية-الدينية والأشكال القصوى للاثنية القومية تنهل من المنابع المشتركة للقوميات الأوروبية والأمريكية78 التي تستند هي أيضًا إلى الكذب والأوهام السياسية. ويعترف إرنست رينان بأن «النسيان، بل والخطأ التاريخي، يشكلان عاملًا أساسيًّا في خلق الأمة».79 ومن وجهة النظر هذه، فإن «الأشكال الكبرى لإنكار الآخرين» لا يمكن فصلها عن أشكال إنكار الذات. ولكن يجب ألا نستنتج من ذلك أن «المجتمعات المتخيلة» باختراع التقاليد تكون شمولية بالضرورة. ولا تتوفر لدى كل الأنظمة الوسائل اللازمة لتحقيق أهدافها؛ ﻓ «الأصالة» الزائرية كانت مشروعًا شموليًّا، ولكن تنفيذها لم يتجاوز مرحلة التحكم الاستبدادي.80 ويتعين على عمليات «بناء» نظم تقوم على الهوية أن تتوافق مع عملية «قيام» الدول. وتتناسب فعالية السياسات العامة العلاقات المعقدة بين القوى والمؤسسات الاجتماعية، والوزن الديموغرافي، وإملاءات الاقتصاد، وممارسات العناصر البشرية الفاعلة.
ومن المؤكد أن اختراع الحداثة السياسية عن طريق اختراع التقاليد يتوافق مع تشكيلة كبيرة من الاستراتيجيات والنظم السياسية، علمًا بأن كلا الاستراتيجيات والنظم ليست بالضرورة من النوع المتعلق بالهوية. فقد كان اختراع الحداثة أحد القوالب الثقافية للديمقراطية البرلمانية وللمفهوم الكوني للمواطنة وللدولة الراعية في إنجلترا وفرنسا، ولكنه أوحى بالانزلاق الشمولي في إيطاليا وألمانيا. وعلاوة على ذلك فإن صياغة التقاليد القومية في كلٍّ من تلك البلدان كان متناقضًا. فقد ناصر رينان فكرة ظهور مختلف الأجناس البشرية في آن واحد، وكان مقتنعًا ﺑ «أبدية طفولة الأجناس غير القابلة للتحسين». ولما كان موريس باريس عاجزًا عن مطالبة «ابن سام هذا بأن تكون تقاطيع وجهه جميلة مثل تقاطيع الجنس الهندو-أوروبي»؛ فقد كان يفضل أن تكون محاكمة دريفوس (الضابط الفرنسي اليهودي الذي اتهم بالتواطؤ مع العدو) «حسب الأخلاقيات الفرنسية وحسب عدالتنا، كند»، بل أن يتم الاعتراف بأنه «ممثل لنوع مختلف من البشر»، وأن يعتبر «شاهدًا حيًّا يصلح لتدريس الأشياء […] في أخد الكراسي الجامعية المخصصة للاثنية المقارنة».81 أما أعمال زيف سترنهل التي تعرضت للانتقادات، فيعود لها على الأقل الفضل في التذكير بأن فرنسا لم تتنكر للقومية الثقافية الراسخة الأقدام بل والبيولوجية والعنصرية التي تنسب عادة إلى التاريخ الألماني.82 وعلى العكس فإن القومية كان لها هي أيضًا متحدثون باسمها من الديمقراطيين في إيطاليا وألمانيا تغلبوا في نهاية الأمر بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا اللبس المتعلق بالتقوقع الثقافي في المجال السياسي متواجد لدى القوميات الاثنية-اللغوية في أوروبا الشرقية والوسطى؛ فالتقنين المتأخر للثقافات البولندية أو المجرية أو التشيكية أو البلغارية أو اليونانية أو الرومانية أو الأكرانية أو التركية، الذي صاحب بناء الدول وقيامها في القرنين التاسع عشر والعشرين لم يستبعد أيًّا من التعبيرات الليبرالية أو الفاشية أو الشيوعية من ذلك التقنين. وتصلح تلك الملاحظة للاثنية في أفريقيا، فهي في آن واحد مبدأ للاستبعاد بل والقتل، وهي تأتي بنظام أخلاقي جديد للدولة.83

التقوقع الثقافي باعتباره أيديولوجية العولمة

كان تكوين المجتمعات الثقافية المتخلية ظاهرة أيديولوجية مفضلة العولمة منذ القرن التاسع عشر من خلال التباسها السياسي. فمن المدهش أن يساهم التقوقع الثقافي في الوحدة الجدلية للعالم بتأكيده على الفروق القاطعة بين الهويات الاثنية أو القومية، وبين الحضارات. فقد كان على سبيل المثال المصفاة التي غربلت نشر التكنولوجيا الصناعية، والنموذج المدرسي الغربي، وتنظيم الدولة، والبيروقراطية، والنظم الكنسية المسيحية، ومبادئ الاقتصاد الرأسمالي. وقد أضفى هذا التوجه الشرعية على تلك الاستعارات، بزعم أنها ستخدم الأمة أو مصير الديانة دون أن تشوه «ثقافتها»، وهو رأي له وجاهته، وإن كان متناقضا بشكل غريب مع مقدماته الفلسفية.84

ومن وجهة النظر هذه يتجاوز التقوقع الثقافي في المجال السياسي الإشكالية الكلاسيكية التي ترى أن التعبئة القومية أتاحت للأفارقة والآسيويين الفرصة لتوجيه أسلحة المستعمرين كما يقال في كتب التعليم الثانوي. فالقومية الاثنية أو الدينية ظاهرة معقدة تحرك ديناميكيات أخرى خلاف بناء الدولة على يد صانعي «التكامل القومي» أمثال سوكارنو ونهرو وأتاتورك، وكافة الزعماء الأفارقة سواء أثاروا الإعجاب أو الازدراء حسبما تكون أسماؤهم فليكس هوفويه-بوانيي (الرئيس السابق لجمهورية كوت ديفوار) أو جان-بيدل بوكاسا (رئيس جمهورية وسط أفريقيا السابق).

وقد راجع بنديكت أندرسون وجهة نظره الأصلية في الطبعة الثانية من مؤلفه الشهير الجماعات المتخيلة، فأقر بأن القومية المستعمرة في آسيا أو أفريقيا لا تنحصر في «القومية الرسمية» التي بذلت الدول الأوروبية جهودها لإرساء قواعدها بدرجات متفاوتة من النجاح.85 وبفضل ذلك الإيضاح بتنا ندرك على نحو أفضل لماذا وكيف نصبت الدول المستوردة نفسها ﮐ «مجتمع متخيل» ولم يعمد سكان البلاد الأصليون إلى إعادة النظر فيها عندما تم التخلص من الاستعمار. وما قلناه عن الهند يمكن أن يعمم. وقد واصل المحتل الأوروبي الاقتداء بالأشكال السياسية والحضارية المتواجدة أصلًا قبل قدومه، من خلال رسم الخرائط وتنظيم المتاحف ودراسة الآثار والتاريخ والإثنولوجيا والاستشراق، وإن كان يضفي عليها وحدة ما كانت تجمع بينها، ويؤمن لها بلوغ «التقدم». وفيما بعد تبنَّى القوميون من مواطني تلك البلدان «عملية إضفاء الشكلية والطقوسية» هذه على «ثقافة تقليدية»، كما حددوا شعار الدولة الجديدة التي جاءت بها.86
وتخيل المجتمع القومي — المعاش أحيانًا كمجتمع ديني كما هو الحال عند الإسلاميين أو الشعبويين من السينهال في سري لانكا، أو المناضلين الهندوس في حزب بهاريتا باناتا بارتي (B. J. P.) في الهند — لم يقتصر فقط على تأكيد شرعية امتلاك الأرض، أو إقامة مؤسسات سياسية وإدارية جديدة، أو توزيع المصادر الاقتصادية أو تحديد الوضع الاجتماعي. فقد أنشأ ذلك المجتمع القومي قيمًا أخلاقية واقتصادية وسياسية جديدة جرى التنازع حولها بضراوة، ولكنها أكسبت الدولة الاستعمارية أو ما بعد الاستعمارية صفة الدولة الحقيقية.87 وهذا ما يجعل تحليل القومية مسألة عويصة، وكذلك أيضًا التواطؤات بين المستعمِر والمستعمِر. فالمتعاونون مع المستعمر لم يخدموا فقط مصالح مادية ومصالح أسيادهم المفترضة في الوقت نفسه. فقد جسدوا أيضًا مُثلًا ومعايير وأساليب معيشة ومعارف قد تدفع إلى الإقدام أو التعاطف أو الولع، ولن يتوانى بعض المعجبين بهم عن اعتناقها. وفي هذه الحالة يكون دائمًا الوضع الاستعماري، أو وضع التبعية بوجه عام، «مغامرة ملتبسة». ويعترف بطل رواية الكاتب السنغالي شيخ حميدو كان: «أنا لست أحد أبناء ديالوبي له وضع متميز في مواجهة غرب متميز، وأقدر بكل رويَّة ما يجب أن آخذ منه وما يجب أن أتركه له في المقابل. لقد أصبحت الاثنين معًا. ولا يوجد حل واضح بين حدَّي اختيار واحد. هناك طبيعة غريبة تُعاني الضيق من كونها ليست الاثنين معًا.»88
في هذا العمل المبتكر للتقاليد والمتخيل للجماعة، كثيرًا ما تصرف المستعمَر والمستعمِر بالاتفاق معًا، وأحيانًا داخل نفس المؤسسات، وفقًا لنفس التيارات الفكرية ونفس المعتقدات، ولكن من أجل أهداف مختلفة تتخذ في كل الأحوال تقريبًا شكل سوء تفاهم عملي.89 وهكذا كان تَشيُّؤ التقاليد في جنوب الصحراء مسألة تخصُّ الأوروبيين أولًا. فقد وفَّرت لهم وسيلة لتأكيد هويتهم العنصرية ووضعهم الاجتماعي في ظل أحوال غير ثابتة، مالوا إلى التقليل من شأنها بالرجوع إلى الماضي. وهكذا صاغ الحكام البريطانيون في ظل الحكم غير المباشر أسلوب حياة يكاد يخص النبلاء لكي يتغلبوا على انعزالهم ويحافظوا على كرامتهم باعتبارهم من «المتحضرين»، بينما أقام عمال المناجم البيض في أفريقيا الجنوبية ورودسيا تقاليد عمالية طائفية تؤكد تميزهم عن العمال السود.
وفي الوقت نفسه حل التفسير الثقافي الانغلاقي للمجتمع المستعمَر محل الخطاب حول عاصمة الدولة المستعمِرة. ففي بداية القرن التاسع عشر شبه أفراد الإرساليات والرحالة البريطانيون بربرية الأفارقة بوحشية الفقراء في أحياء لندن المحرومة؛ فالمعركتان من أجل الحضارة (أو الخوف في الحالتين من بدائية السلوك) كانتا متساويتين.90 ولم يكن المستعمرون مجرد وكلاء مجردين لتحقيق التغير الاجتماعي، بل عناصر فاعلة من لحم ودم، منحدرة من مجتمعات تاريخية ملموسة، بعلاقاتها غير المتساوية، ومناقشاتها السياسية، وتصوراتها الذهنية، وهي مجتمعات كانوا يشغلون فيها مناصب معينة حققت لهم تطلعات أو ضروب حرمان أو قناعات، أو راودتهم أحلام.91 ومعنى ذلك أنهم لم يُشكلوا أبدًا فئة متجانسة، فأصولهم وقيمهم كانت متباينة، ومشاريعهم الاستعمارية متضاربة، ولم تكن ثقافتهم من نفس النوع. والنزاعات العنيفة التي نشبت في القرن التاسع عشر في جنوب أفريقيا بين المستعمرين البوير وقساوسة إرسالية لندن طرحت من قبلُ مشكلة الطابع النسبي للثقافة. كان بعضهم من أنصار ظهور الأجناس المختلفة في وقت واحد، ويبررون لجوءهم إلى الاستبعاد النهاب بحكم اقتناعهم بالتوراة التي تعتبر أن الكفار قوم من سلالة حام المحكوم عليها بالرق. وكان الآخرون لا يشكون في إمكانية تحسن الأفارقة، ويودون أن يرتفعوا بهم إلى مصاف الفردية البرجوازية والأسرة المكونة من زوجين وأطفالهما. وذلك من خلال إعادة الصياغة الشاملة لمجتمعهم.92
غير أن تلك التناقضات داخل عالم المستعمرين الصغير كانت تنعكس على المجتمع المحلي، بالأخص عن طريق المدرسة والإرسالية. وتعبر تمامًا حكاية المجتمع الريفي عن التداخل. فالتوسع الإمبراطوري الأوروبي معاصر للثورة الصناعية التي أدخلت العديد من التغيرات على الطبيعة، وعلى براءة الأرياف المهددة، وعلى فساد المدن. وقد شاركت حركة اختراع التقاليد في ذلك التطور، بالأخص في بلدان وسط أوروبا وشرقها. كما أن النقد التاريخي والأنثروبولوجي أوضح هو أيضًا مدى ارتباط مفاهيم الثقافة والعقائد الشعبية والفولكلور بروح العصر هذه وإسهامها في بناء اللامساواة الاجتماعية.93
والواقع أن الإرساليات المسيحية والأوساط التي كانت مرتبطة بها أولت أهمية كبرى لذلك التصوير المثالي للحياة الريفية. ففي ليبيريا مثلًا كانت جمعية الاستيطان الأمريكية المتشربة بآراء جفرسون، كانت تود أن يتمسك السود الذين أعيدوا إلى قارتهم الأصلية، بهدوء الريف، رغم أن هؤلاء مالوا إلى ربط النشاط الزراعي بالاستعباد المقيت، وجاءوا في الكثير من الأحوال من مدن شمال شرق الولايات المتحدة.94 وبالمثل، نقلت إرسالية بازل إلى جنوب القارة الأفريقية وشرقها صيغة «القرية النموذجية المسيحية» التي افتتحتها في مقاطعة ورتمبرج لحماية القرى من التلوث الحضري. وكان هدفها في أول الأمر البحث عن أراض بكر لكي تقيم مجتمعات فلاحية ألمانيا. ولما كانت تريد أن تكون «إرسالية القرية من أجل القرية»، فقد تصورت حياة جماعية سامية لم تتواجد أصلًا بالطبع، سواء في ألمانيا أو الموزمبيق. والواقع أن المحطات الأفريقية لإرسالية بازل لم تحافظ على «الثقافة التقليدية» عند أهالي البلاد الأصليين، بقدر ما يسَّرت التحكم فيهم وشجعت الابتكار الاقتصادي.95
وبصفة عامة كان موقف الإرساليات مضطربًا، ولم يكفَّ عن التأرجح بين موقعين: رفض العادات المتخلفة والخليعة في الكثير من الأحوال، ومن بينها الرقصات الليلية الشهوانية ذات الإيماءات التي ما كان يمكن أن تطيقها، والعزم بالتالي على تغيير عادات القرويين لاستدراجهم نحو عتبة الحضارة، وذلك عن طريق التجارة مثلًا؛ والموقف الآخر المتمثل في الاحترام الساذج للأصالة الأفريقية التي كان لا بد وأن تكون ريفية، وتستحق الدفاع عنها ضد جشع التجار وشراسة الحكام، والتأثير الخبيث للمال، والجاذبية البلهاء لزينات الحداثة الغربية التافهة، والتوسع الإسلامي، والمرامي البلشفية، وأهم من كل ذلك التبشير المفسد من جانب الإرساليات أو العقائد الأخرى.96
ولم يتقبل الأفارقة، باشتقاقهم الخلاق لأشكال الثقافة الأوروبية، لأيٍّ من التوجهين الرعويين، اللذين كان مآلهما الفشل؛ فمع أنهم ظلوا مخلصين للعقيدة المسيحية، إلا أنهم أقاموا مؤسسات كنسية وطقوسًا لم تكن معروفة من قبل، وأرادوا ارتداء الشورتات، والأدهى من ذلك أنهم ارتدوا السراويل وانتقلوا إلى المدينة حيث خالطوا الأوباش! ومع ذلك لم تمت الأسطورة المسيحية المتعلقة بالمجتمع الريفي. غير أنها انبعثت من جديد بقلم رجال لاهوت وجمعيات دينية تناضل من أجل «مجتمعات مسيحية قاعدية» من منظور يريد أن يكون اجتماعيًّا، بل وسياسيًّا وتعبويًّا يرتبط بالمسيحية الشعبية التي ترجع إلى عصر التبشير البطولي.97 ويجدر بنا أن نوضح أن الإدارة الاستعمارية، وبالأخص الإدارة البريطانية المسلحة ببيروقراطية النبلاء الصغار والمقتنعة بمزايا الحكم غير المباشر، طابت لها تلك النظرة إلى المجتمعات الأفريقية، حتى إنها راحت تؤمن التناسق العضوي للقرى الكينية بتجميع الأهالي، في قرًى استراتيجية لحمايتهم من تمرد الماوماو،98 مع ملاحظة أن أنصار «التنشيط الريفي» أو «الاشتراكية الأفريقية» لم يفكروا في غير ذلك غداة بلوغ الاستقلال.99
وفي آسيا أيضًا لا ينفصل الاختراع المشترك للتقاليد من جانب المستعمِر والمستعمَر عن المفهوم الأساسي للمجتمع الريفي، الذي أضفت عليه الصفحات التي كتبها ماركس عن الهند والصين قدرًا عظيمًا من دواعي الاحترام الذهني. ففي الهند الهولندية مثلًا اعتمدت الإدارة على شيوخ القرى في نفس الوقت الذي امتنعت فيه عن إدماج الأهالي، وشجعت نوعًا من القومية الاستيطانية، وقد أدى ذلك في جاوة بالأخص إلى «تطور زراعي عكسي» و«ابتكار للتقاليد» وصفهما على التوالي كليفورد جيرتز وبنديكت أندرسون.100 غير أن الفكرة القائلة بتواجد قرية جاوية نمطية ليست سوى وهمٍ صرف يعتمد على جهلنا بالتاريخ وعلى الإبقاء على ذلك الوهم من خلال النقاش الأيديولوجي حول المشكلة الزراعية، بين القوميين أولًا ثم بين المستعمرين، وفيما بعدُ بين الشيوعيين واليمين.101 وبالمثل كان الحكام البريطانيون الأوائل في شبه القارة الهندية مقتنعين بأن القرى كانت تطبق نظامًا شيوعيًّا بدائيًّا، وتجهل نظام الطبقات المنغلقة على نفسها، وتعيش عن طريق الاكتفاء الذاتي. وقد اعتمد القوميون فيما بعدُ هذه اليوتوبيا الرومانسية، واهتم غاندي بمفهوم البانشايات (مجلس من خمسة أعضاء مكلفين حسب التقاليد بحل النزاعات في داخل الطائفة، وهذه التسمية تشير في الهند المعاصرة إلى المؤسسات المنتخبة في الريف) حتى إنه كان يحلم بقيام جمهورية القرية. وقد استعاد الفكرةَ تلميذه فينوبا بهاف في الخمسينيات، وراح حزب يانا سانج يؤكد أن «القرى كانت وحدات مكتفية ذاتيًّا في معيشتها […] وأنها تحكم نفسها بنفسها، وأن بانشايات القرية تعود إلى عهد الفيدا».102
ولم يتمكن أبدًا الأنثروبولوجيون الذي عالجوا «التنظيم الأخلاقي» عند الفلاحين الآسيويين، من التخلي تمامًا عن ذلك الإدراك العضوي للمجتمع الريفي رغم أن رائدهم جيمس سكوت طعن منذ البداية في رومانتيكية هذا المجتمع برفضه الخلط بين «أخلاقيات الكفاف» — وهي نفور متعقل إزاء المخاطر في ظل هشاشة الأحوال الاقتصادية — وبين مثل العدالة الاجتماعية. ووفقًا لهذا التحليل لا يعبر تقويم التعامل المتبادل، والدفاع عن الالتزامات والحقوق التقليدية، والمطالبة بإصلاح الوضع القائم، أي باختصار «التنظيم الأخلاقي» عند الفلاحين، لا يعبر عن مقاومة التصورات المشتركة الماضوية في مواجهة التقدم، بقدر ما يعبر عن تطور الصراعات الاجتماعية في ظل التحول الرأسمالي الحديث في الأرياف.103
ومع ذلك فقد واتى الحظ صامويل بوبكين الناقد المرموق لتلك المعالجة الأنثروبولوجية في هجومه على حجر الزاوية في تلك المعالجة، ألا وهي «المجتمع الفئوي المغلق» لصاحبها إريك وولف؛ إذ إنها تتجاهل وضع الخارجين، على مشارف القرية، وافتقاد المساواة في نفس الوقت بين المقيمين فيها.104 وفضلًا عن ذلك فإن تدعيم بنية القرية يعود إلى حد كبير إلى تصرف البيروقراطية الاستعمارية التي وقع اختيارها على أعيان القرية ليكونوا وسطاءها، وتوسعت في مهامهم الإدارية.105 وكان لويس دومون قد نوَّه قبل ذلك بعشرين سنة بأن القرى الهندية كانت تترك على الأقل سدس محاصيلها للممالك، وأن وحدتها الظاهرية كانت تشمل مختلف الطوائف أو الجاتى التي كانت تتخطى المجال الخاص بكلٍّ منها.106
و«المجتمع الجماعي الريفي» أسطورة. ولكن الحكام الاستعماريين، والقوميين ورجال الدين، و«التطويريين»، والمثقفين، وأيضًا النشطاء في المجال الاقتصادي والسلاح، تعرَّضوا لنشأة الحداثة، وهي العملية التي شاركوا فيها واختلفوا حولها بشدة فيما بينهم باسم مصالح القرية بالطبع! وقد حرص الحكام الأوروبيون في السنوات الأخيرة للاستعمار على الدفاع عن الفلاحين المؤتمنين على روح الثقافة الأفريقية أو الآسيوية الخالدة ضد التجار واللصوص والموظفين الكسالى والمثقفين الشيوعيين، وسعى القادة الوطنيون، الراغبون حقًّا من تحقيق التنمية إلى استمالة الفائض الزراعي بطرح برامج لتدعيم القرى. ولم يتخلف رجال الدين، إذ كانوا يحلمون بالقرية الأسطورية في شكل رعية متينة ملتفة حول كنيسة يرأسها خوري، أو بمجتمع قاعدي ديناميكي. وتعامل أرباب الصناعات والغابات والمزارع مع شيوخ القرى ليتملقوا أهل القرية حول أراضيها التي يستثمرونها. ولجأ الأنثروبولوجيون بدورهم إلى الصيغة الشهيرة «فتش عن الرأس»، وكتبوا بفضلها دراسات عن قرًى، وتغنَّى المتعاونون وفيالق السلام والمنظمات غير الحكومية بمزايا «المشاريع الصغيرة» باعتبار أن «الصغر جميل» (Small is beautiful)، والتقط السواح صورًا لأهالي القرى. أما أعضاء جمعية نبيذ البوجوليه الجديد فقد عادوا بعد احتفالهم «وفقًا لطقوس طائفتهم التليدة»، وقد حملوا معهم «ذكرى قرية لطيفة وسط منظر طبيعي جميل في ظل جو معتدل».
وسرعان ما يصبح الحوار بين مختلف المتحدثين عن حكاية المجتمع القروي سورياليًّا وعبثيًّا.107 غير أن ذلك ليس الجانب الأساسي؛ فالتوجه الثقافي الصرف بمختلف صيغه العديدة ذات المفاهيم العنصرية أو النسبية أو الجوهرية، يوفر حقًّا أحد المصطلحات التي يتفاعل بخصوصها عدد متزايد من العناصر الفاعلة في النظام العالمي، ولو في شكل سوء تفاهم أو تنازع.

المسيحية والكونية في أفريقيا

توضح جيدًا الاتجاهات الراهنة للمسيحية في أفريقيا السوداء تلك العلاقة الدقيقة بين تأكيد التفرد المحلي وكونية العالم، وهما تطوران يبدوان متناقضين، وإن كانت أوهام التوجه الثقافي الصرف تتوصل إلى الربط بينهما في تركيب واحد.

وقد أشرنا من قبل في بداية هذا الفصل إلى أن التبشير على يد الإرساليات المسيحية، منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية، أتاح في آنٍ واحد نشْرَ الفكر المسيحي في جنوب الصحراء وتقنين التفردات الثقافية بمقتضى مصطلحات الاثنية، خاصة عن طريق ترجمة الكتاب المقدس إلى لغات أهالي البلاد الأصليين، والتي ساهم الدعاة في تنميطها لكي تصبح همزة وصل بين مختلف اللغات المحلية. وعلى سبيل المثال فإن الهوية اليوروبا في نيجيريا جاءت حصيلة لتلك التوليفة. وفي إطار تلك الديانة المستوردة التي يهيمن عليها الأوروبيون بلا منازع — رغم جهود البروتستانت لإشراك كادر محلي — سرعان ما عمد المقاولون المحليون إلى «اختراع اختلافهم»، وذلك بخلق عدد كبير من الكنائس «المستقلة» التي تدين بالمسيحية وتحافظ على البنية الكنائسية، ولكن طقوسها من وحي «أفريقي».

وقد أكَّد لأمدٍ طويل محللو ذلك التباين في المجال الديني على هذه النقاط الأخيرة، ورأوا أن تلك الحركات تمثل انتقامًا من جانب «الثقافة الأفريقية» ضد عملية الأقلمة الثقافية. بيد أنه بوسع المرء أن يلاحظ ذلك التواصل الذي يربط الكنائس المستقلة بالإرساليات وبالمسيحية الشعبية في القرن التاسع عشر. فهناك العديد من سمات هذه الكنائس المفترض فيها أنها تعبر عن طابعها «الأفريقي» — مثل الإيمان بالغيب والتعزيم ومس الشيطان — مأخوذة عن الأحاسيس الدينية الغربية في القرن التاسع عشر.108 والحاصل أن الكنائس المستقلة نقلت على ما يبدو قدرًا أقل من الاستيعاب الجذري للتوراة بالمقارنة مع ترسيخها للتنظيم البيروقراطي الديني في شبه القارة. وقد تأكد على أي حال، منذ حوالي خمس عشرة سنة، أنها (أي الكنائس المستقلة) ليست قالبًا لمسيحية أفريقية بنوع خاص، بقدر ما غدت خاضعة لتحولات سياسية واقتصادية ودينية عالمية. وهي تتطور بالأخص في ظل الارتياب الشديد من جانب الكرسي البابوي تجاه كافة أشكال اللاهوتية أو التسييس للإكليروس الذي يمكن أن يُذكِّر بلاهوتية التحرير اللاتينية الأمريكية، في ظل التشكك العميق من جاب الغرب إزاء الإسلام، وتصاعد الحقوق الدينية في الولايات المتحدة، وتورط البروتستانتية الأصولية في حملة رونالد ريجان الصليبية ضد «إمبراطورية الشر»، وفي مختلف النزاعات ذات «الكثافة الأدنى».
وتأثير الأصولية الأمريكية في جنوب الصحراء مثير للانتباه بشكل خاص. ويعود هذا التيار إلى العشرينيات كرد فعل حديث للابتكارات الدينية التي أدخلتها الكنائس الكبرى. ويعرض هذا التيار الأصولي على أتباعه ابتكارات مضادة بدعوى العودة إلى عصر ذهبي ولَّى، ومن بينها رواج موضة المبشرين التليفزيونيين (Telévangélistes) التي باتت ظاهرة ملفتة حقًّا للأنظار. ومع أن الأصولية الأمريكية ليست تمسكًا بتقاليد قديمة أو بالروح المحافظة، إلا أنها عامل للتغيير الاجتماعي بطريقتها الخاصة، أو على الأقل في شكل تأقلم مع التغيير. ويمكن مقارنتها من هذا المنظور بالقومية الهندوكية أو الأصولية الإسلامية أو «العودة إلى اليهودية» في إسرائيل. غير أنها قريبة أيضًا من تلك التوجهات السياسية-الدينية من زاوية استراتيجيتها المتعلقة بالهوية ذات الميول الثقافية الانغلاقية والذاتية، إنها أصولية الجنوب «الجواني» (Deep South) في الولايات المتحدة الذي أدمته حرب الانفصال، وأذله انتصار الرأسمالية الليبرالية ونكبته الأزمة الاقتصادية الكبرى، وحُرم من نمط حياته السابق، واضطُر في نهاية المطاف إلى الخضوع لغطرسة واشنطن والاستسلام للقضاء على الحواجز العنصرية. وتُواصل الأصولية «التوراتية» تعلقها بهذا الماضي الذي أضفت عليه طابعًا مثاليًّا: «الماضي باعتباره حلمًا قوامه النقاء، والماضي بوصفه سببًا للألم، والماضي كعقيدة «دينية» على حد قول نايبول.»109 غير أن تحرك هذه الأصولية يتوافق جيدًا مع الحاضر عندما يستخلص مثلًا دعاته من قراءتهم للتوراة التي تبشر حسب رأيهم بملك المسيح على الأرض مدة ألف سنة قبل يوم القيامة، وضرورة مساندة عصابات الكونترا في نيكاراجوا، والرينامو في الموزمبيق، والأونيتا في أنجولا.110
وأغلبية الوعاظ في بلد مثل ليبيريا المنتمية إلى الكنيسة الإنجيلية أو إلى حركة الإيمان «التوراتي» تتبنى هذا الاتجاه وتروج لتقاليد توراة سكوفيلد المرجعية. كما أن تبعية هؤلاء الوعاظ المادية واللاهوتية والأيديولوجية لكنائس الجنوب «الجواني» تزايدت طوال الثمانينيات، الأمر الذي لم يلحق الضرر بنفوذهم. ويبدو من القراءة الأولى أن هذا العنف من جانب المنظمات الدينية يشكل عامل «أمركة» أكثر مما هو عامل «أفرقة». وعلى سبيل المثال كانت الرابطة الإنجيلية العابرة للقارات، وهي الكنيسة التي نجحت في هداية أكبر عدد من المؤمنين في مونروفيا في عام ١٩٨٩م قد حرَّمت قرع الطبول والرقصات في احتفالاتها بذريعة الطابع الأفريقي لتلك الممارسات، وأحلت المزمار والنفير محل الطبول باعتبار أنها آلاتٌ ورد ذكرها في التوراة. وبصفة عامة فإن الدعاة المتأثرين بالأصولية البروتستانتية يميلون إلى النظر إلى الديانات الأفريقية التقليدية باعتبارها من ظلمات الوثنية.111 كما يتعين التأكيد أيضًا على أن التمثلات الدينية المصدرة إلى جنوب الصحراء واردة هي أيضًا من الجنوب «الجواني» الأمريكي، وأن علاقاتها مع الكونية و«النظام العالمي الجديد» معقدة بالطبع. وإذا كان الأصوليون «التوراتيون» لم يترددوا في الانضمام إلى «المناضلين من أجل الحرية» في العديد من النزاعات الأقل شأنًا خلال الثمانينيات، وأثبتوا أنهم صهيونيون متشددون، فإنهم ينتقدون أيضًا بقوةٍ المنظمات المتعددة التخصصات التي تعد العدة لقيام «الحكومة العالمية» مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، أو اليونسكو أو الجات، ويرون أن «المؤمنين الحقيقيين لا شأن لهم» بتلك الهيئات التي تنذر بدنو نهاية العالم.112 وهذا النوع من الخطاب يكتسب بالطبع مغزًى خاصًّا في شبه قارة تخضع اقتصادياتها المدمرة لضغوط شديدة من جانب مؤسسات بريتون وودز لكي تقدم على «تعديل مسارها الاقتصادي». والواقع أن تضاعف عدد تلك الحركات «التوراتية» المرتبطة بالأصولية الأمريكية في أفريقيا يعود إلى أسباب محلية. فهذه الكنائس تتيح الفرصة للمقاولين لاستخلاص موارد من الأوساط الدولية، بل وأيضًا من جماعات المؤمنين في ظل تردي الأوضاع. وهي تقدم في الوقت نفسه، في أحسن الأحوال، بعض الخدمات الملموسة في المجالين التعليمي والصحي مثلًا عن طريق المساعدات الأجنبية التي تحصل عليها، وكذلك مجرد دعم معنوي أو روحي في الغالب تعود قيمته مع ذلك إلى تردي أحوال هذه المجتمعات.113
وهكذا تقدم الحركات التوراتية نفسها ﮐ «تجمعات بديلة» تحد من صدمة الأزمة بتوفير وضع اجتماعي للمحرومين، وتسهم بالأخص في إعادة بناء المجتمع، وتزاحم بذلك النموذج الفاشل للدولة التي جاءت في أعقاب الاستعمار. فهي من وجهة النظر هذه أحد مفردات التيار التنبُّئي العارم الذي يبدو أنه يشكل بالتأكيد القالب المفضل للحداثة في أفريقيا.114 وهي ليست، بهذا المعنى، مجرد أدوات للأمركة، لأنها لا تقيم علاقة تبعية مع «صحيح الدين»، بل هي اشتقاق خلاق وفقًا لنفس الترسيمة التي سبق وأن صادفناها مرات عديدة في مجال العلاقات بين أفريقيا والغرب. ولذا فإن الطابع السياسي لعمليات التعبئة الدينية يتجاوز بالأخص مسألة انعدام العلاقة بالسياسة التي تعلنها أغلبية منظمات المؤمنين. ويبدو أن السلطات الاستبدادية تستفيد في المدى القصير بهذا التحفظ، خاصة وأنها كثيرًا ما تعاونت مع «الأنبياء» بالإغداق عليهم بسخاء.115 بيد أن سقوط صامويل دو المأساوي في عام ۱۹۹۰م يبين حدود تلك الممارسة: فعدم اهتمام الوعاظ «التوراتيين» بالقضايا العامة وتواطؤهم مع النظام لم يحلْ دون سقوط تلك النظم أو دون جعل الحرب أمرًا دارجًا كمنفذ يتيح للشباب التوصل إلى الحداثة «الشاملة» وكطريقة لتقاسم السلطة.116
والصلة بين المجال الديني والمجال السياسي ليست جلية أو وظيفية صرفًا. وهي تتكون من تبادلات دقيقة. فعلى سبيل المثال تركز جماعات الروح القدس في نيجيريا جهودها لمكافحة إبليس الذي تنسب إليه تنظيمًا من النوع البيروقراطي. وهي تصور النظام الهرمي الشيطاني على شكل «حكومة» لها «وزراؤها» الذين قد يكونون وزراء اتحاديين ولها «جيشها الكبير»، وتقر بأن «الشيطان حاكم ممتاز»، وأنه بطل تقسيم العمل.117 وبالطبع فإن وصف الشيطان على هذا النحو مع كون وسطائه المفضلين مسلمين معروفين ليس بالأمر المحجب في نظر المسئولين العسكريين المهيمنين على المسرح السياسي القومي، والمعروفين بعلاقاتهم الوثيقة الطبقة الحاكمة المسلمة في الشمال. وحركات الروح القدس النيجيرية تُضمر، رغم عدم اشتغالها الظاهر بالسياسة، طاقةً نقدية شديدة ضد النظام وقابلة لأن تسيس مقاومتها الدينية ذات يوم في مواجهة تقدم الإسلام في البلاد.118 ولكن يتعين على المرء أن يتساءل عما إذا كانوا لا يشاركون في آن واحد في نشر التصور البيروقراطي وفي تملك الدولة ذات الصبغة الغربية التي يمكن أن تزودهم في الأجل البعيد بشرعية جديدة من خلال إلحاحهم على الأخلاقيات وإدراكهم لأهمية الجانب الجماعي.
ومن الواضح على أي حال أن تعريف النواحي الذاتية في سياسات جنوب الصحراء يتم أكثر من أي وقت مضى عن طريق عمليات التعبئة الدينية، وأن العلاقات بين المجتمعات المحلية وعملية «العولمة» تكون باستمرار موضوعًا لإعادة التفاوض حولها من خلال ذلك التأرجح بين «الثقافة الأفريقية» و«الثقافة الغربية».119
وآخر الأمثلة في هذا المجال يخص نيافة مطران لوساكا السيد ميلينجو، المداوي الشافي الذي أجبره الفاتيكان على الاستقالة من منصبه في عام ١٩٨٣م، وهو مثل ليس هينًا يؤكد أن مساهمة الانغلاقية الثقافية في «العولمة» تتم بالتبادل بين طرفين.120 فالمطران يؤكد من جانبه انتسابه إلى «الأفرقة»، وهو يؤمن بوجود عالم الأرواح القائم بين مجال الخير والإنسان، وهو لا يعتبر ذلك إيمانًا بالوثنية، على عكس وجهة نظر الكنائس المستقلة، ويعتقد أن لأفريقيا هويتها الروحية الخاصة. واحترام الهوية هو الذي يتيح إشراك شعوب أفريقيا في تجربة الوحي الإلهي. وعلى الصعيد السياسي يدين نيافة المطران ميلينجو الاضطهاد الذي تعاني منه قارته، وهو قريب إلى النظرية اللاهوتية التي تربط النص بالظروف القائمة في جنوب القارة الأفريقية. ومن هنا يأتي خلافه مع روما. فعلاوة على الخلافات العادية بين أفراد الإرساليات الوافدين من الخارج والإكليروس المحلي في مجال إدارة شئون المطرانية، هناك أيضًا توجس الفايتكان إزاء احتمالات تسييس الكاثوليكية في زامبيا. فشعبية المطران ميلينجو المتزايدة، وقدرته على استهواء عالم الأرواح جعلتاه في وضع المنافس الضمني لرئيس الجمهورية، كينيث كواندا، في وقت راحت تتآكل فيه ثقة الرأي العام في هذا الرئيس.
ومن جانب آخر، يستند مطران لوساكا في معتقداته على قراءة مدققة للتوراة، ويظل متمسكًا بإيمانه بالكاثوليكية التي يأخذ عنها التناقض المطلق بين الخير والشر، وقد لقي في مسعاه هذا تأييدًا حارًّا من جانب حركة التجديد الكاريزمي الأمريكي التي زادت من إيمانه بالأبعاد الكونية لموهبته في المداواة من الأمراض. ومع أن البابا يوحنا-بطرس الثاني صدق على إقالة المطران ميلينجو في عام ١٩٨٣م، إلا أنه شجَّعه على تكريس جهوده في خدمة المداواة. وقد تم تعيينه مسئولًا في روما عن اللجنة البابوية الخاصة بالهجرة والسياحة، وهو يكرس من الآن فصاعدًا فترات بعد الظهر للمرضى، ويقيم قداسًا مرةً كل شهر يحضره عددٌ هائل من المؤمنين من كافة الأصول والأوضاع الاجتماعية. وكثيرًا ما يجوب أنحاء العالم ولا يتحاشى الانتقالات المتكررة والمحاطة بدعاية واسعة النطاق في أفريقيا. ولم يكفَّ صيته عن الذيوع في الغرب بفضل التجديد الكاريزمي، والظاهرة ملتبسة وليست بالطبع ضمانًا للعولمة. ومما لا شك فيه أن جانبًا من المتعاطفين الجدد معه يُقدرون في شخصه طابعه غير المألوف، ويرون في ذلك دليلًا إضافيًّا على أن «أفريقيا تؤمن بشكل مغاير» حسب تعبير إحدى الصحف الهولندية.121 ومع ذلك فإنه يبدو في نظر الكاريزماتيين مجرد أحد أتباع المسيح من بين العديد من مريديه، يتمتع بروحانيته المكثفة التي تستجيب لاحتياجاتهم الدينية كرجال حديثين، يعيشون في مجتمعات صناعية.
وهكذا يتضح لنا أن رفع المطران ميلينجو لقيمة تراثه الثقافي الأفريقي يعود إلى الكونية، وأيضًا إلى تميز توجهه الثقافي عن توجه تيارات مسيحية أخرى. ويُعرِّف مطران لوساكا السابق «بث التثقيف» الكاثوليكي بأنه عملية «تجسيد» «تحمي هوية طرف في نفس الوقت الذي يستعير فيه من الطرف الآخر دون أن يفقد أيٌّ من الطرفين شيئًا».122 وهو ينأى بنفسه عن استخدام مصطلح «الأفرقة» الذي يميل إلى جعل الأفارقة منطويين في إطارها وإلى الحيلولة دون التطلع إلى الكونية. ويناقض هذا التفكير تمامًا تفكير المبشرين الليبريين الذين لا يرون الكونية إلا في الخصوصية التوراتية للجنوب «الجواني». وقد توصَّل السيد ميلينجو إلى مراميه لأن إيمانه «الأفريقي» بوجود عالم للأرواح يسمح له، لا بعلاج دواعي القلق المجهولة في العالم الصناعي فحسب، بل وأيضًا الحالات التي يكون فيها المريض «ملبوسًا»، وهو ما يُذكر بالحالات المشابهة في جنوب إيطاليا.
غير أن رواج خطابه على نطاق عالمي لا يعود فقط إلى النجاح الذي يلقاه في الغرب. ففي زامبيا ينتمى التسييس الضمني لكاريزما المطران ميلينجو إلى تاريخ فريد، ألا وهو تاريخ كبار المطببين الذين كان يمكن أن تنتقل إليهم الزعامة السياسية. وفضلًا عن ذلك، فإن صورة المطران السابق للوساكا كانت تعيد إلى الأذهان بطل النضال الوطني سيمون كابْوِيبه الذي تصدى لكينيث كاوندا بعد الاستقلال، ومات في ظروف تحوم حولها الشبهات. ومع ذلك فإن الافتراض الذي تسوقه عاصمة زامبيا لتفسير زوال تأثير الناجانجا، المطببين القدماء لصالح شخصية مثل المطران ميلينجو، هو أن رجل الدين الكاثوليكي أقدر على محاربة الجني عند الملبوسين.123 وعلى نفس هذا النحو في السنغال، انسحب الأوفان — وهو جني عند الباديارانكه قبل دخول الإسلام في البلاد مولع باحتساء نبيذ النخيل ولا يطيق رائحة احتراق الوقود الذي تطلقه الشاحنات — انسحب في أعماق الغابة عندما وصلت إلى البلاد الزراعات المعدة للتصدير.124
واستنادًا إلى تأثير تلك الالتباسات، أصبح التصور الثقافي للنظام الدولي صيغة رئيسية في الحوار السياسي، سواء على الصعيد الداخلي لمختلف الدول، أو على صعيد العلاقات القائمة بينها، أو على نطاق الأبعاد العابرة للقوميات في العالم المعاصر. ورغم تعقد هذه المبادلات إلا أنها لا تؤدي إلى «صدام بين الحضارات». فعندما يرفض محمد مهاتير، رئيس وزراء ماليزيا، أو حسن الترابي، الزعيم الإسلامي السوداني، أو الزعماء والرؤساء الأفارقة، أو الشخصيات المرموقة الكونفوشيوسية الجديدة الحريصة على الأداء الاقتصادي ﻟ «نمورها»، عندما يرفض هؤلاء صلاحية المفهوم الليبرالي للديمقراطية ولحقوق الإنسان في مجتمعاتهم، ويحولون ذلك إلى سمة ثقافية غربية بحتة، فإنهم لا ينأون بأنفسهم عن ذلك الغرب بالقدر الذي يزعمونه. وهناك قطاع لا يستهان به من وجهات النظر الأوروبية يؤيد تلك النسبية. ومع أن هذا القطاع نفسه يدافع عن الهويات الخاصة بقوميات أوروبا إلا أنه ليس مقتنعًا بأن الديمقراطية الليبرالية ليست في حد ذاتها تعبيرًا ثقافيًّا لا يمكن إنكاره. فجان — ماري ليبن — زعيم الجبهة القومية الفرنسية ذو النزعة اليمينية المتطرفة، لا يسوءه التيار الإسلامي المتطرف؛ فهو يؤكد له، من جهة، أن العرب قوم لا يرجى تهذيبهم، وبالتالي لا يمكن إدماجهم. كما أن الجبهة القومية تنتهج استراتيجية من نفس الطراز في مجال الهوية، وتحول «هوية فرنسا» إلى هوية لا تُكتسب إلا بالوراثة. وعلى نفس هذه الوتيرة، يعلن فلاديمير جيرينوفسكي، زعيم الحزب الليبرالي — الديمقراطي الروسي أنه «يجب ألا نخشى الأصولية الإسلامية؛ «فالأصولية هي فرض النظام والتقاليد المميزة لشعوب الجنوب. ماذا يسوءنا نحن الروس في تعدد الزوجات، واحترام الكبار، والخضوع، والحِرف التقليدية، والقرآن؟ وعلى العكس فإن الطريق «الديمقراطي» التركي الذي سمح للأتراك بالانتشار في أوروبا بأسرها أسوأ من ذلك بكثير بالنسبة لنا نحن الروس؛ فهي الأممية الخفية بينما الأصولية نزعة قومية».125

وهكذا يذكرنا الطابع النسبي لمعاداة ما هو أجنبي، بالرغم منه وبنفسه، بأنه لا توجد إطلاقًا في العالم المعاصر أي قيم تقتصر على حضارات دون غيرها أو نطاقات ثقافية معينة أو ديانات محكوم عليها بأن يكون التجاهل متبادلًا فيما بينها في أحسن الأحوال، وبأن تصطدم ببعضها في أسوأ الأحوال. ويفضل بعض المسلمين «الطريق التركي الديمقراطي». وإذا كان المتمردون الصينيون أو التايلانديون قد ظلوا متمسكين، على ما يبدو، ببعض «قيم» مجتمعاتهم في سنوات ١٩٨٩–١٩٩٢م، إلا أنها ليست قيمًا «آسيوية» بالقدر الذي يحاول أن يقنعنا بذلك أنصار التفسير «الكونفوشيوسي الجديد» للمعجزات الاقتصادية في المنطقة. فوفقًا لاستطلاعات الرأي، أيَّد ٥٣٪ من الأمريكيين العقوبة الجسدية التي فرضها القضاء السنغافوري على مايكل ٥٣٪ بيتر فاي في ١٩٩٤م لقيامه بتحطيم ممتلكات عامة، بينما أثار بعد ذلك بسنةٍ تنفيذ حكم الإعدام في مستخدمة فليبينية صدمةً شديدة في مانيللا، التي لا تعنيها بالمناسبة حسنات ما يُسمى «القيم الآسيوية». فمن جهة، دفعت جاذبية النموذج الليبرالي إلى الشارع جموعًا متراصَّة من المتظاهرين في أفريقيا وآسيا، ومن جهة أخرى فإن كلًّا من مفهوم السلطة المتوارث، والحرص على الأداء الجيد للعمل والانضباط، ورفض ترك الشباب يتمرغ في الإباحية، والتشكك في فوضى الديمقراطية، والميل إلى وضع حد لتجاوزات حق الإضراب، يُلقي بالتأكيد أذنًا صاغية في الغرب. وكما كان يقال في هذا الصدد في عهد موسوليني كانت القطارات تصل على الأقل في مواعيدها!

وقد سبق أن نوَّهنا بأن المجتمعات الغربية لم تصدر قيم «التقدم» و«الحرية» فحسب. ففي القرن التاسع عشر وجد الشباب العثماني في تعاليمهم أفكارًا ونظريات تبرر مقاومتهم للإفراط في التغييرات.126 وفي إيران كان مهدي بزرجان، زعيم حركة التحرر الوطني، وعلي شريعاتي، وهو من الدعاة الرئيسيين لثورة ١٩٧٩م، يقيمان وزنًا كبيرًا لأعمال ألكسيس كاريل.127 ويجب أن نعترف حتى دون التطرق إلى التعاطف الذي حظي به هتلر لدى بعض قادة آسيا والعالم العربي، بأن عملية إبادة الجنس في رواندا كانت من تصميم أفارقة من خريجي جامعات أوروبية وأمريكية حصلوا من دراساتهم على مفهوم للنقاء العنصري غريب تمامًا عن تاريخ بلادهم.128
ففي أول مايو ١٩٩١م، سلَّم هنري ريبن، الأستاذ بجامعة لوزان، والقريب من الحزب الراديكالي في مقاطعة فو، دبلوم الدكتوراه بمرتبة الشرف لتلميذه السابق جوناس سافيمبي، الذي كان يجسد الاثنية القومية بل والإقليمية المتركزة في أعماق أنجولا، في مواجهة اللاقومية الجشعة المميزة للصفوة الخلاسية والكومبرادورية في العاصمة لواندا، والتي كانت تحظى بتعاطف الحق الديني في الولايات المتحدة. وتسلم زعيم الأونيتا، وهو يحمل في يده عصا القيادة التقليدية الجديدة، دون أن تعيق حركته، وتحت وابل التصفيق المتشنج من جانب وزير خارجيته (الساحر) هدية عبارة عن مجلدات موسوعة فو، وهي مؤلف مكرس لتمجيد ثقافة مقاطعة فو التي تم اختراعها في نهاية القرن الماضي.129 ولم يكن هذا الحفل المثير خاليًا من المغزى، شأنه شأن حفل نبيذ البوجوليه الجديد في بايانجام، أو حفل تسليم خوذة لوهنجرين لزعيم قبيلة الشاجا. وتختلف بالكاد الاستراتيجيات الأوفيمبودو والسويسرية المتعلقة بالهوية في توقيتهما. فقد نشأت القومية السويسرية في عام ١٨٩١م، بمناسبة «يوبيل إحياء الذكرى الستمائة» لقيام الكونفدرالية في عام ١٢٩١م، وهي في الواقع الكونفدرالية المعقودة بين مقاطعة شويز وكلٍّ من أوبفالدن (النصف الغربي من مقاطعة أونتر فالد، أي في ظلال الغابات) ونيدفالدن (النصف الشرقي من نفس المقاطعة).130 وعليه فإن مساندة الأستاذ ريبن لجوناس سافيمبي تنم عن ترابط أيديولوجي، وتُفصح عن الانغلاق الثقافي والتوحيد الزائف المميزين لعولمة العالم المعاصر، بنفس القدر مثل كوكبة العالم المعاصر.

الملاحظات

  • (١)

    هو نفس الشبح الذي أفلتت منه فرنسا، كما هو معروف للعالم قاطبة، وهي البلد الصناعي المتمسك بالمنطق الديكارتي!

  • (٢)

    من سخريات التاريخ أن هؤلاء المتطرفين الذين يستخدمون اللغة الإنجليزية في التعريف بتنظيمهم يعتبرون أنفسهم مع ذلك ممثلي الفرانكوية التي حرص فرنسوا ميتران على الدفاع عنها.

  • (٣)

    لفظ صوتي، كناية عن توجيه ضربة شديدة بالرأس.

  • (٤)
    الإصلاح الديني (La Réforme): الحركة الدينية التي نشأت في القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية، وبالأخص ضد البابوية بسبب تعسفها ومفاسدها وما كانت تفرضه من ضرائب. ومن أهم تيارات الإصلاح الديني البروتستانتية والكالفينية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤