الفصل الثاني

الثقافة: أهي كلمة يتعين إلقاؤها في البحر؟

من منحدرات بوجوليه حتى بلاد الباميليكة، ومن الجنوب الأمريكي «الجواني» حتى ليبيريا، ومن لوساكا إلى روما، ومن مقاطعة فو إلى بلاد الأوفيمبودو، أي باختصار من أرض تاريخية إلى أرض أخرى، تذكرنا عمليات تبادل الاختراعات في مجال التقاليد التي تشكل الحركة العامة للكوكبة منذ أكثر من قرن، بأنه لا توجد ثقافة إلا وتم خلقها، وأن هذا التخليق يعود عمومًا إلى عهد قريب. وفضلًا عن ذلك فإن تشكيل ثقافة أو تقليد ما بالضرورة من خلال الحوار، ويتحقق في تفاعل متبادل مع البيئة الإقليمية أو الدولية. وهذا ما يلزم أن نؤكده ونحن نترك الحقائق الملموسة لنخوض مجال المنهج.

ولقد سبق أن رأينا أن التفكير الثقافي الانغلاقي يعتبر ضمنيًّا أن التوافق بين مجتمع سياسي ما وبين تماسكه الثقافي مسألة مفروغ منها أو ضرورية على أي حال، سواء كان ذلك التماسك الثقافي أصيلًا أو متوارثًا (روح الشعب، على أساس المفهوم اللاحق لرأي هردر) أو رشيدًا ومختارًا حسب «الاستفتاء اليومي» الشهير عند رينان). وهذا ما يمكن أن يكون الوهم الذي أشاعته بعض الدول التي باتت أقدامها راسخةً اليوم، والتي حققت وحدتها السياسية من خلال بناء وحدتها الثقافية في وقت متأخر إلى حد أو آخر، على غرار اليابان والصين والدول-الأمم الأوروبية الغربية أو القوميات الاثنية اللغوية في أوروبا الشرقية، بما في ذلك تركيا.

ولكن يجب ألا نعتبر الاستثناء قاعدة عامة، ويتعين أيضًا ألا تخدعنا النزاعات الشرسة بسبب الهوية، والتي يتظاهر متزعموها بأنهم يعرفون من هم ومن يقتلون، وذلك لأن تلك الأحداث ليست سوى الثمار المتأخرة لحركة الانغلاق الثقافي في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويوفر لنا التاريخ والأنثروبولوجيا العديد من الأمثلة لمجتمعات ليست لديها ثقافة محددة، يقيم أعضاؤها هويتهم على التبادل والتهجين والاستعداد للتأقلم مع أي بلد ومع كل عادات قوية متنوعة (الكوزموبوليتية). وكانت أغلب الأصقاع البحرية مناطق تهجين تولدت منها حضارات تلفيقية تفاوتت درجات تألقها، وكانت بصفة عامة مفتتةً من وجهة النظر السياسية، ومن بينها مثلًا المناطق «السديمية» التي درسها س. ج. تامبياه في جنوب آسيا، وجنوبها الشرقي.1

ولا تسمح التعريفات الاثنية للثقافة بإدراك الجانب الإيجابي التاريخي لتلك المظاهر الخارجية التي نميل إلى الاعتقاد بأنها غير مستكملة. وفي هذا الصدد يشكل «ملتقى الطرق الجاوي» (نسبة إلى بحر جاوة المتصل ببحر الصين والمحيط الهادئ عن طريق عدة مضايق) حالة نموذجية، شأنه شأن البحر الأبيض المتوسط أو البحر الكاريبي:

«كانت آفاق التجارة محددة بالطبع: الصين، والهند، والبلاد العربية، وأفريقيا السوداء. ولكن التجار الذين كانوا يزاولونها انحدروا في الغالب من زيجات مختلطة ومتعددة اللغات بالطبع، وكانوا يشكلون وسطًا اجتماعيًّا شديد التنوع وتلفيقيًّا، منفتحًا على كل الثقافات ومتقبلًا للأيديولوجيات الكونية. ويتعين أن نتفهم على هذا الأساس الديانتين اللتين ترسختا على التوالي في جنوب شرق آسيا، ألا وهما البوذية والإسلام، علمًا بأن الغربيين يميلون إلى حد كبير أحيانًا، إلى تصورهما على التوالي كمفاهيم «هندية» أو «عربية»، مع إضفاء صبغة عنصرية عليهما. وقد تغلغلت هاتان الأيديولوجيتان الكبريان بقوة في أقاصي آسيا لأنهما كانتا تستبعدان العامل الاثني، على عكس ديانات أخرى مثل الهندوكية التي أججت النزعة الاثنية. وفي هذا المجال لم تكن الصين كتلةً طاردة، منطوية على «كونفوشيوسيتها»، إذ قامت بدور مركز توزيع بل ودور المحرك؛ فقد تأثرت بعمق بكلٍّ من البوذية والإسلام عن طريق آسيا الوسطى والبحار.»2
على أن القضية تتجاوز الأصقاع البحرية والتجارية. فليس من الممكن مثلًا تحديد هوية مجتمع أفريقي ما ليس على ما يبدو مجتمعًا «حاجزًا» «وهامشيًّا».3 فقد حطمت الأبحاث الأنثروبولوجية على مدى السنوات العشر الأخيرة، أسطورة «التقاليد السودانية»، إذ ظلت مجتمعات وادي النيل باستمرار متفاعلة بالتبادل مع الممالك الإسلامية التي تربطها بأسواق النخاسة في زنجبار ومصر والإمبراطورية العثمانية، مع تواجد مساحات شاسعة غير مطروقة بين مراكز السلطة الرئيسية تحول دون التوصل إلى «عالم قبلي متماسك، ونظام تخاطب متكامل وجامد التفكير، يتمشى مع الافتراضات القديمة للإثنولوجيا.4 ويميل الأنثروبولوجيون الآن إلى التخلي عن مفهوم الاثنية — وإن كانوا لا يتخلون بالضرورة عن الوعي الاثني (وهو ما سنعود إليه فيما بعد) — ويتحدثون عن «سلسلة من المجتمعات» كانت تتكون في نطاقات إقليمية تتفاوت مساحاتها وتعقيداتها: نطاقات تجارية، أو نقدية أو دينية أو سياسية تتناضد دون أن تتطابق بالضرورة. 5 وفي ظل هذه الأوضاع كان عدم الترابط بين النظام السياسي والتمثلات أو الممارسات الثقافية غير منتظم بالتأكيد. فالشعوب التي يتم إخضاعها كانت تواصل ممارسة طقوسها وعاداتها في الممالك، وأيضًا في المجتمعات ذات الترابطات الأسرية، علمًا بأن ملاحظة ذلك قد تكون مسألة صعبة.6
ولم يؤدِّ الاستعمار إلا إلى تأجيج تلك التعددية الثقافية بتجميد التقاليد، وتغيير طبيعة اللامساواة الاجتماعية، وإقحام التفرقة العنصرية. وهو لم يكتفِ بالقضاء على عدم التحديد النسبي للثقافة في الأزمنة الغابرة من خلال فرض «الحضارة» الرشيدة والقانونية، بل وزادها تعقيدًا بأن أضاف إليها أبعادًا ثقافية أخرى؛ فأفريقيا تعتمد اليوم على قالبين ثقافيين يُعتبران في آنٍ واحد ضروريين (بل وحيويين) ومتناقضين.7 وقد يختلف البعض حول الطابع المتناقض لهذين القالبين، وحول قدرة الأفارقة على التغلب على التناقض. وعلى أي حال فإن الأفارقة يميزون بينهما. فعلى سبيل المثال يواجه الباكونجو في زائير النظام الثقافي للبيض (الكيموندليه) بالنظام الثقافي للسود (الكيندوميه) اللذين يتطلبان استعدادات جسدية وعقائد مختلفة. وتتيح بالذات تقاليد الإيمان بالنبوءات إمكانية تجاوز ضروب التنافر بين هذين العالمين.8 وبالمثل يتحدث الأفارقة في توجو والكاميرون عن «بلاد البيض» للإشارة إلى المدينة وعن «عمل البيض» لوصف العمل بالأجر.9
غير أن هذه التباينات الثقافية لا تقتصر فقط على التراث الاستعماري، بل تشمل أيضًا المجتمعات غير المركزية أو «الأطراف» المهمشة من جانب المركز. كان صرح الإمبراطورية الرومانية الضخم يعتمد على بنية غير مباشرة وعلى سياسية التقسيم إلى مناطق؛ مما شجع على تباين المعتقدات والعادات.10 وفضلًا عن ذلك كادت هذه الإمبراطورية أن تتأغرق، وذلك على غرار ما جرى بعد ذلك بما يربو على ألف عام في اليابان في عهد عشيرة ميناموتو التي أضحت صينية بمعنى الكلمة.11 والثقافة الروسية التي تتصور أنها نابعة من أعماق الأراضي الروسية ظلت دومًا مرتبطة بقطب مرجعي أو طارد أجنبي، ألا وهو بيزنطة في العهد المسيحي، ثم بأوروبا في عصر التنوير من خلال إصلاحات بطرس الأكبر، والآن عن طريق «المستقبل المشرق» الذي يعد به اقتصاد السوق كما يفهمه جهابذة واشنطن.
وكانت الصفوة العثمانية تنتسب، من جانبها، إلى ثقافة عثمانلية منفتحة على التأثيرات البيزنطية أو العربية أو الفارسية أو اليهودية أو الأرمنية، وتتمايز بذلك عن الثقافات الشعبية في الريف، وبالأخص ثقافة الشعوب المتحدثة باللغة التركية. ونجد أيضًا هذا الاستعداد للانصهار في الإمبراطورية السلجوقية والدول التي أقامتها في سوريا ومصر.12 وهذا مما يدفع إلى التساؤل عما إذا كانت سياسية الاستعارة من الغرب، بدءًا بالتنظيمات (بالتركية) في مستهل القرن التاسع عشر، مجرد انبعاث لاستراتيجية أقدم، وليست ذلك الانقلاب المدهش الذي ينسبه الرواة عندنا فقط إلى صانعه أتاتورك. وهناك أيضًا ميل إلى تناسي أن الثقافة الفارسية المتنافذة مع الفكر الإغريقي، كانت بؤرة لحضارة كوزموبوليتية في آسيا الوسطى والهند حتى القرن الثامن عشر، وأثرت على الحداثة الغربية في العهد الكلاسيكي عن طريق التجارة مع الصين والمحيط الهندي.13 والحضارات الصينية والخمير، والهندية والإسلامية … إلخ التي حرص العلماء المستشرقون على إعادة بنائها انطلاقًا من تقاليدهم الراسخة، وفي ظل الأوضاع التي تعرضنا لها على مدى الفصل السابق، لم تكن أبدًا حضارات بمثل ذلك التماسك الذي ينسبه إليها التفكير الثقافي الضيق الأفق.

وأوروبا العصور الوسطى المسيحية، أو عصر التنوير أو الحلف المقدس، تقدم مثالًا جليًّا للتباين بين الثقافات المحلية ذات السمات الشديدة التفرد والثقافة عابرة القوميات التي اعتمدت على التوالي على اللغتين اللاتينية والفرنسية، وقد تغلبت الكوزموبوليتية بالطبع على حركة الانغلاق الثقافي بمعاصرتها لازدهار الروح القومية. ولم يؤمن سقوط الإمبراطورية النمساوية-المجرية والإمبراطورية العثمانية، الانتصار النهائي لاستراتيجيات ترسيخ الهوية. فقد لحقت الهزيمة بالاشتراكية-القومية وحلفائها، وأفلس المفهوم الحمائي المعتمد أساسًا على الاكتفاء الذاتي في مجال «الاقتصاد القومي»، وتبين أن مبدأ ويلسون المتعلق بتطابق حدود الدولة مع الحدود القومية واللغوية متعذرٌ تنفيذه، كما أن الإمبراطورية السوفييتية التي طبقت الانغلاقية الثقافية بكل ضراوة بدعوى الأممية البروليتارية، انهارت.

ومن الممكن أن يقلق المرء إزاء اصطدام المشاعر الاثنية-القومية وما يمكن أن يترتب عليها من مخاطر، على ضوء الحروب التي تمزق يوغسلافيا السابقة والقوقاز وآسيا الوسطى. ومع ذلك «يجب ألا يهتم المرء فقط بالكلب الذي ينبح، بل يجب أن يهتم أيضًا بالذي لا ينبح».14 غير أن أسوأ التوقعات ليست مؤكدة دائمًا. فقد تم الطلاق بين التشيك والسلوفاك بالتراضي، ويتخذ المجريون موقفًا معتدلًا في دفاعهم عن الأقليات المجرية المقيمة في البلدان المجاورة، هذا إن لم يظهروا لامبالاة غير خافية إزاءها، كما أن شبح التفسخ الدموي لروسيا يبتعد، على ما يبدو.
وفي الغرب، كثيرًا ما لا تكون المصاعب المتواترة المصاحبة لعملية بناء أوروبا الموحدة نتاجًا لتشنجات بخصوص وجهات النظر المرتبطة بالهوية، بقدر ما تكون خلافات بين الحكومات حول مضمون التوجه الاقتصادي للوحدة. وليس بوسع تلك العقبات أن تخفي التكامل القومي على صعيد الأقاليم والمؤسسات والأفراد، أو التقدم الذي أحرز في مجال الاعتراف بالخصائص الثقافية أو السياسية داخل بلدان تتميز بمركزيتها المسرفة، مثل إسبانيا. وبالرغم من الترويج المقلق للأطروحات العنصرية أو المعادية لما هو أجنبي، وما يصاحبها من عنف، ومن تصاعد المشاعر الحمائية في مجال الاقتصاد والثقافة، إلا أن أوروبا التي دمرتها حربان عالميتان تمكنت من إحياء تقاليدها متعددة الثقافات من جديد، ومن إرساء أساس اقتصادي لها، تعجز المعالجة الثقافية الانغلاقية عن تقديرها. ويتعين الآن على آفاق التوسع في الوحدة الأوروبية أن تتقبل مبدأ التنوع هذا، ويلاحظ كلٌّ من فرنسواز ديلاسير، وكريستيان ليكسن، وجاك روينيك أن «زوال الانقسام بين الشرق والغرب قد قضى على النماذج المؤسستية ذات البعد الواحد، وهو يسعى إلى إنجاز يكون لصالح تعدد التطورات، وتكون وظيفته الرئيسية من الآن فصاعدًا التغلب على التناقضات والتوصل إلى التوافق بين الاختلافات الناجمة عن الاختلالات التي أصابت القارة […] فالوحدة الأوروبية محكوم عليها بأن تظل مشروعًا اقتصاديًّا في حد ذاته، وغير مكتمل، يتطور حسب سلسلة من التسويات العملية».15 وتعاطف الرأي العام الأوروبي مع قضية البوسنة — الذي جعله ينسى هذيانه المعادي للإسلام — ليس إلا دليلًا، من بين أدلة أخرى، على العودة إلى الحلم الكوزموبوليتي أو الكوني، على غرار الحنين المرائي إلى حدٍّ ما إزاء الإمبراطورية النمساوية-المجرية، أو الافتتان بالتراث الأدبي لتريستا.
ويتعين على الولايات المتحدة أن تتعامل مع تباين بشري ليس جديدًا بالنسبة لها، ولكنه بات ينفر من الانصهار في وعاء واحد، وفضلًا عن ذلك فإنه لا يوجد ما يمكن أن يؤكد أن الاستراتيجيات الراديكالية الجارية بخصوص الهوية في البلدان العربية الإسلامية أو الأفريقية أو الآسيوية ستقضي على اختلافاتها، بينما يتساءل المتخصصون في الشئون الصينية كيف ستتمكن بكين من تعزيز سيطرتها السياسية على الاستقلال الذاتي والثقافي في مقاطعات جنوبها الشرقي. وأخيرًا تسعى جاليات مغتربة، وعواصم وأقاليم، بل وأيضًا مؤسسات وهيئات وكنائس وطوائف مختلفة إلى تحقيق أهداف خاصة بها في جوف النظام القائم بين الدول وتسهم في تفكيك الهويات الثقافية والتنظيم السياسي.16

وإذا أردنا أن نفهم كلًّا من استراتيجيات انغلاق الهوية وحالات التردد في تحديد الهوية، وعمليات التوسع الثقافي، وديناميكيات التجانس وكذلك ديناميكيات التنافر، فإن التوجه الانغلاقي لن يفيدنا هنا لأنه يرتكب ثلاثة أخطاء منهجية؛ فهو يعتقد أن أي ثقافة تشكل جمعًا من التمثلات الثابتة على مدى الزمن؛ وهو يرى أن هذا الجمع منغلق على نفسه؛ ويعتبر كذلك أن هذا الجمع يقرر توجهًا سياسيًّا محددًا. وقد آن الأوان لتفنيد كلٍّ من تلك المزاعم.

أهي تراث أو منتج؟

عندما يفكر المرء في الثقافة، يتعين عليه أن يضع في اعتباره أمرًا بديهيًّا، ألا وهو الميراث الذي ينتقل إلينا من العهود السابقة ويلقن للأجيال اللاحقة. ولكننا لا نستطيع أن ننسى — بمجرد أننا «مثقفون» — ذلك المكتسب الذي حققه الفكر الهيجلي «عندما يتصور عمومًا الكائن في العالم كمنتج».17 وقد عبَّر ميشيل سرتو بشكل جيد عن تأرجح الثقافة «بين شكلين، لا يكف أيٌّ منهما عن الدفع إلى نسيان الشكل الآخر»:
«إنها (أي الثقافة) من ناحية، ما يدوم، ومن ناحية أخرى ما يُبتكر. فهناك من جهةٍ الجوانب الكامنة والتباطؤات والمعوقات التي تتكدس في أعماق العقليات، وهي بداهات وطقوس اجتماعية، وحياة معتمة وعنيدة مترسبة في السلوك اليومي المعاصر إلى أقصى درجة، والعائد في الوقت نفسه إلى آلاف السنين، وهناك من جهة أخرى انجرافات وانحرافات وكافة هوامش الاختراع التي ستستخلص منها أجيال قادمة على التوالي «ثقافتها المعتنى بها». والثقافة ليلٌ غامض تقبع في ظلماته ثورات الماضي — غير المرئية والمنطوية في الممارسات — ولكن تحلق فيه فراشات وأحيانًا طيور ليلية كبيرة في انبثاقات وابتكارات ترسم الفرصة ليوم آخر.»18
وهناك نزوع شديد إلى الاكتفاء فقط بالمعنى الأول للثقافة والتأكيد على النقل والنسخ والدوام والتواصل والبلادة. ذلك كان المنحدر الذي اتبعه تاريخ العقليات في ألمانيا فأضفى تدريجيًّا على عقلية العصر تماسكًا جامدًا عندما كان المفكرون الثوريون في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ومنهم بالأخص إرنست أرندت وهيجل، يعتبرونها قوة لا تقاوم تحقق التغيير.19 وهكذا تصبح الثقافة مبدأً يحدد المواقف ويقاوم التغيير. وقد كتب فرنان بروديل يقول: «لقد ظللت شخصيًّا دائم الاعتقاد والخوف من العبء الهائل للأصول البعيدة. إنها تسحقنا.» وهو لا يتردد في الحديث في هذا الصدد عن «السجن لأمد طويل».20 وهذا «الأمد الطويل» عند المؤرخ لا يعود بنا بالكامل إلى التمثلات الثقافية، ولكنه لا يستبعد مع ذلك التغيير. وهو يشير إلى «الإيقاع» الأصلي والبطيء.21 وانطلاقًا من هذه الملاحظة يُؤْثر بروديل في آنٍ واحدٍ تواصل الثقافات واستحالة تجزئتها، ويؤمن بعدم تجانس حضارات العالم وتنوعها، وبدوام وبقاء شخصياتها؛ مما يعني أن يوضع في المقام الأول الطابع الحالي لتلك الدراسة للانعكاسات المكتسبة وللمواقف المفتقدة للمرونة إلى حد كبير، وللعادات الجامدة والأذواق المتأصلة، وهو ما يفسره فقط تاريخ بطيء وقديم وقليل الوعي (ومنها تلك السوابق التي يسند إليها التحليل النفسي جذور سلوك الشخص البالغ).»22
وكل ذلك صحيح وجيد شريطة أن يظل ماثلًا في أذهاننا أن الثقافات تشكل في الوقت نفسه «تركيبات فعالة».23 والثقافات الشعبية والديانات الشعبية ليست ساكنة أبدًا. فهي تمر بتطورات وتغيرات بل وأيضًا بتحولات.24 وعليه ينوه ميشيل فوفل بأن «تاريخ العقليات لا يمتزج فقط بتاريخ ضروب المقاومة التي تتخذ شكل جمود أو فترات كمون، فهناك أيضًا إمكانات حقيقية للتحولات المفاجئة وللابتكارات، وعهود أو لحظات تتبلور فيها بقسوة حساسية جديدة».25 ومثال ذلك فترات الازدهار الثوري.
وقد واجهت دراسة المجتمعات السياسية في أفريقيا وآسيا هذه المعضلة منذ انسحاب الاستعمار. ولم تكفَّ هذه الدراسات عن التساؤل حول «فحوى العلاقات بين نوع السلوك الذي تتبعه الدول الجديدة وذلك الذي كان يتبعه التقليديون».26 وبوسعنا أن نتأكد من الأعمال الهامة للغاية لكليفورد جيرتس، النورماندي الصميم، فيما يتعلق ﺑ «تفسير الثقافات»، ساهمت إلى حد كبير في تقدم المناقشات بسعيها إلى «عدم السقوط في براثن أيٍّ من الصيغتين المخطئتين على حد سواء (وإن كانتا لا تزالان رائجتين حتى الآن)، وهما: أن الدول المعاصرة مجرد أسيرة لماضيها، تعرض مسرحياتها الدرامية القديمة في ملابس حديثة شفافة، أو أن هذه الدول تنصَّلت تمامًا من ماضيها، وباتت نتاجًا مطلقًا لعهد لا يدين بأي شيء إلا لنفسه».27
ويعود جزئيًّا هذا التناقض الجدلي بين دوام الحال والتغيير إلى العلاقة التي يقيمها كل مجتمع بالضرورة مع بيئته، وتوحي أسطورة المجتمع الريفي بأن الفكر الغربي ليس بالضرورة مستعدًّا للاعتراف بذلك، مع أن البرهنة الكلاسيكية التي قدمها إدموند ليش بخصوص الكاشين في بورما (ميانمار حاليًّا) تأكدت على نطاق واسع من خلال تحليل حالات أخرى، آسيوية أو أفريقية. فالمجتمعات القديمة لم تكن منعزلة بعضها عن بعض، بل كانت تشكل نظمًا للعلاقات السياسية والتجارية والثقافية، وتقيم علاقات عضوية مع الخارج.28 وما يكون صحيحًا بالنسبة للمجتمعات «البدائية» يكون كذلك بالأحرى بالنسبة للإمبراطوريات والممالك القديمة والدول المعاصرة. وعليه فإن «التحديث» لا يتمثل في تطور داخلي وعالمي من «التقليدي» إلى «الحديث» بل يستجيب لمنافسة إقليمية أو دولية.29 وهكذا اتفق قيام الدولة-الأمة في أوروبا الغربية في الكثير من الأحوال مع مبدأ تنافسي حيث يعتبر التناطح الفرنسي-البريطاني نموذجًا له، شملته دائمًا حركات عبر قومية.30
وفيما يتعلق بالظواهر الثقافية بمعناها الدقيق، يجب أن تكون المسألة في غاية الوضوح حتى إننا سنكتفي بعرض أمثلة مبتذلة. فالشعارات التي ترمز إلى هوية ثقافية كثيرًا ما تكون نتاج استعارة.31 وما القول في الأزوليخوس البرتغالي؟(١) إن التقنية المستخدمة في صنعه من أصل عربي، واللون الأزرق وافد من الصين التي أخذته من بلاد فارس. وما القول بالنسبة للطماطم التي يتميز بها مطبخ البحر الأبيض المتوسط، أهي أقل شأنًا من الزيتون والخبز والنبيذ؟ لقد جلبها الإسبان من الأمريكتين والكلمة نفسها من أصل آزتيك. والشاي الأخضر بالنعناع، وهو من تقاليد الضيافة المغربية؟ لقد أدخله الإنجليز في القرن الثامن عشر، وأصبح غذاءً بديلًا أثناء أزمة ١٨٧٤–١٨٨٤م الاقتصادية حتى إنه تحول إلى مشروب قومي!32
ولو تعرَّضنا للموضوع بقدر أكبر من الجدية لوجدنا أن الثقافات السياسية، مهما كان طابعها الفريد، إلا أنها تستخدم تمثلات ونظريات وممارسات أجنبية. كيف يمكن مثلًا أن يتطرق المرء إلى الروح القومية الألمانية، وخصوصية دعواها الثقافية باسم «روح الشعب» (volksgeist)، مع تجاهل النموذج العالمي للثورة الفرنسية وفترة الاحتلال النابوليونية؟ ومن الواضح على أي حال أن المهاجرين واللاجئين يقومون بدور أساسي في تكوين القوميات (أو القوميات الاثنية)، ويدفعون في الكثير من الأحوال إلى التشدد في هذا المجال. وينطبق ذلك على الأتراك خلال القرن التاسع عشر ومع بداية القرن العشرين، كما ينطبق على أزمنة أقرب، على الإيرلنديين، واللبنانيين، والإريرتريين، والسيخ، والتاميل، والهوتو والتوتسي.
وقد عولجت بشكل رائع تلك العلاقات المعقدة بين القديم والجديد وبين ما هو داخلي وخارجي من جانب مدرسة تارتو (إحدى مدن إستونيا) في علم الرموز والعلاقات، ومدرسة موسكو انطلاقًا من التعارض البنيوي في الثقافة الروسية بين «القديم» (starina) و«الجديد» (novizna). وقد توافق ذلك التمييز مع تفرعات ثنائية أخرى وخلط بينها إلى حد كبير: بين روسيا والغرب، أو بين المسيحية والوثنية، على سبيل المثال، دون أن تظل أي علاقات التعادل هذه مستمرة، وفضلًا عن ذلك فإن «الإصرار على أن الأرض الروسية جديدة» واكَب في الكثير من الأحوال «إضفاء الديناميكية على نماذج ثقافية موغلة في قِدمها»: «فمفهوم الحداثة يثبت هو نفسه أنه تحقيق لأفكار ترجع جذورها إلى الأزمنة القديمة للغاية». ففي القرن السادس عشر مثلًا طالبت مختلف تحركات السخط الشعبي بالعودة إلى الأزمنة القديمة التي «كانت صورتها […] شديدة التضاد مع التاريخ، وتريد أن تقطع صلتها بالتقاليد الحقيقية». ويستعيد المؤمنون القدامى، من جانبهم، الزمن التاريخي. فالمفاهيم الإيجابية — مثل الورع والتمسك بصحيح الدين — تنسب إليها صفة القدم، بينما يُنظر إلى الخطيئة على أنها ناجمة عن الحداثة، ويتم ربطها بالغرب الذي يشكل حيزًا «جديدًا» متجهًا هو أيضًا نحو اليسار؛ أي إنه «شيطاني». وفي رأيهم أن الإصلاحات التي أجراها بطرس الأكبر، ما كان يمكن إلا أن تكون رجسًا؛ إذ إنها كانت تنتسب إلى التحديث. كما أن صورة «روسيا الجديدة» و«الشعب الجديد»، التي أملتها سياسية الدولة تمثلت في الأذهان كعملية «أوربة» لروسيا القديمة. ولكن يجب ألا تخدعنا تلك الأوربة. فالثقافة الجديدة لم تُبنَ على نماذج غربية (وإن كان يُنظر إليها ذاتيًّا على أنها «غربية») بقدر ما أقيمت نماذج بنيوية «معكوسة» للثقافة الجديدة. ومن الممكن أن نلاحظ أن تلك الأوربة «كثيرًا ما عززت السمات القديمة للثقافة الروسية»، و«أنه على عكس الرأي الشائع والسطحي، يشكل القرن الثامن عشر، في هذا الصدد، جزءًا لا يتجزأ عضويًّا من الثقافة الروسية ذاتها».33
وقد سبق أن رأينا أن وضع حدود للثقافات الشعبية على يد المثقفين كان له أثر كبير في حركة انطواء الهوية على نفسها. ومع ذلك فإن هذه الثقافات لم تكن بهذا القدر من الاستقلال الذاتي الذي نسبه إليها منظرو اختراع التقاليد، وبالأخص القوميون في وسط أوروبا وشرقها. لقد أثبت المؤرخون على نطاق واسع أن «الديانة الشعبية» لا الكهنوتية، علمًا بأن الأخيرة كانت في الكثير من الأحوال اجتهادات من صنع رجال الدين من أجل الرعية. ومن الممكن بالأخص الشك في أنه كان هناك شكل أوحد للتدين في الريف الفرنسي في ظل العهد القديم، وحتى لو لم نتكلم عن الاختلافات الإقليمية، فإنه ليس من المؤكد أن العمال اليدويين والفلاحين والحرفيين وزراع الكروم والأعيان كانوا يلتزمون بنفس الممارسات الدينية. وفضلًا عن ذلك كان هناك مختلف «الوسطاء التثقيفيين» الذين كانوا يحققون قدرًا من تداول المعتقدات والطقوس بين المدينة والعالم الريفي، وبين الشعب والصفوة.34 وبصفة عامة. كان فرنسيو القرن الثامن عشر ينتمون إلى مساحات ثقافية متناقضة ومختلطة.35 وهكذا كانت مؤلفات روسو تُقرأ قبل الثورة من جانب عامة أهل المدن أو التجار البورجوازيين أو الأرستقراطيين.36 ومن الأفضل أن نتصور حدودًا مشتركة بين تلك «المساحات الثقافية» عوضًا عن اعتبارها فردية منفصلة عن بعضها.
وتتأكد المرونة الشعبية في الأوضاع التي يبدو فيها أن الاستقطاب الاجتماعي والتجزؤ الثقافي يجب أن يحولا دون ذلك. ففي الهند مثلًا تقيم الطوائف الدنيا شعائر مختلفة عن شعائر البراهمة. غير أنها كثيرًا ما تنقل عنهم ممارساتهم وتميل إلى تبني السنسكريتية (لغة البراهمة).37 وعلى نفس النحو، كان الفارق اللغوي بالأخص الذي يفصل بين الثقافة العثمانلية الخاصة بالنخبة والثقافة الشعبية المتحدثة باللغة التركية لا يحول دون تقاسم بعض التعبيرات الفنية. فقصائد الغزل التي كانت تخص بلا مراء آدابَ «الديوان» الرفيعة كانت تحظى بإعجاب جمهور أعرض من حلقة البلاط والأدباء، رغم أنها كانت تتضمن عددًا من الصيغ أو العبارات الفارسية أو العربية، كما طورت في آخر المطاف موضوعات غنائية قريبة للغاية من موضوعات القصائد الشعبية.38
ولذا لا يمكننا أن نتعامل بالمعنى الحرفي للكلمة بخصوص تأكيدات مثل تلك التي يسوقها مارك رائف (M. Raeff) عندما يتحدث عن «انعزال» الثقافة الشعبية الروسية بعد إصلاحات بطرس الأكبر: «فهي لم تتلاشَ ولكنها وجدت نفسها على هامش القوى الحية الديناميكية والخلاقة بتمترسهما في انعزالية ترتاب في أي ابتكار أجنبي، فتحجَّرت وتصلَّبت.»39 غير أن قراءة أعمال باختين ومدرسة تارتو لعلم الرموز ومدرسة موسكو تدل على الأرجح على أن «إيقاع» تحول هذه الثقافة الشعبية تباطأ، ولكنها ظلت على علاقة بقطاعات المجتمع الأخرى، وذلك عن طريق الأقنان مثلًا، علمًا بأن رائف يعترف هو بأنهم نقلوا عناصر من ثقافة الصفوة إلى الأوساط الشعبية.

ويتملص التفكير الانغلاقي، سواء كان سياسيًّا أو علميًّا، من جوانب الابتكار والاستعارة، مفترضًا أن هناك نواة صلبة من التمثلات المقدسة تتأيد على مر القرون وتظل منطوية على نفسها. وهو يدلل بذلك على أنه أكثر تعلقًا بالثبات بقدر أكبر مما تصوره بروديل «بسجونه طويلة المدى». ويمتنع هذا التفكير عن استخلاص العمليات الملموسة التي تنتج عن طريقها العناصر الاجتماعية تاريخها بشكل نزاعي بأن تُعرِّف نفسها في آن واحد بالنسبة لتفهمها للماضي وبالنسبة لتصورهما للمستقبل.

ومن بين هذه العمليات الثقافية هناك أربع منها تستحق بالذات أن تعالج بالتفصيل نظرًا لتواترها في المجال السياسي، وهي: تكتيكات أو استراتيجيات الانفتاح على الخارج؛ وممارسات التحول؛ وعمليات التأصيل؛ وعمليات تكوين هويات أولية.

الانفتاح على الخارج وتحويل المعاني

يتمثل الانفتاح على الخارج في تبني عناصر ثقافية أجنبية بإخضاعها لأهداف داخلية. وهو قد يكون تكتيكًا عرفه ميشل سيرتو على أنه «بناء جمل خاصة بواسطة مفردات وتراكيب تم تلقيها» أو استراتيجية إذا اكتسبت «إمكانية التزود بمشروع شامل وتجميع الخصم في حيز معين مرئي وقابل لأن يصبح هدفًا».40 ويبدو أن «التلفيقية» الهندوكية التي ترسخت عن طريق مختلف التيارات القومية تنتمي إلى تلك الفئة الأخيرة، وكريستوف جافريلُّو محقٌّ في قوله إنها تلفيقية «استراتيجية».
غير أن حالات الهيمنة، وبالأخص الاستعمارية منها، تفتح مجالًا واسعًا ﻟ «تكتيكات» الانفتاح على الخارج التي يؤثر تراكمها في نهاية الأمر على تكوين الدولة.41 وهذا النوع من التجارب التاريخية يوضحه تمامًا اعتناق هنود أمريكا الوسطى المسيحية. فقد واجه سكان البلاد الأصليون غير الرُّحل في إسبانيا الجديدة، واجهوا الرهبان الفرانسيسكان الذين أقدموا على نمط للتبشير ذي توجه انغلاقي صرف، وتمسكوا بإضفاء الشرعية على الحضارة الأصلية للبلاد حتى إنهم حرصوا على احترام المراتب الاجتماعية القائمة، فاختار هؤلاء السكان الخضوع والقبول بديانة الأوروبيين. غير أنهم تحولوا إلى المسيحية لكي يظلوا هنودًا. وقد أتاحت لهم الأصول الهندية ﻟ «جماعات الصدقة» (وهي جماعات دينية تعتمد أساسًا في تمويلها على التبرعات، ومنها الفرانسيسكان) فرصة الإفلات من عملية الأسبنة التي سعى إليها الفرنسيسكان الغزاة الإسبان، ووفرت لهم «نوعًا من الغطاء لإقامة شعائر ديانتهم القديمة بدعوى ممارسة الطقوس الخاصة بالقديسين» و«لذا يمكن التأكيد، دون الوقوع في أي مفارقة، بأن هنود المكسيك تنصروا بفضل «جماعات الصدقة»، ولكنهم ظلوا هنودًا بفضل هذه الجماعات».42 على أن هذه الحالة الجديدة من تبادل المواقع الثقافية أدت «في المكسيك خلال القرن السادس عشر إلى تحول أعضاء الإرساليات، المتمسكين بعقيدتهم، إلى الهوية الهندية حتى إنهم أصبحوا الذاكرة الثقافية لحضارتهم الوثنية، بينما تنصر الهنود، وظلوا في الوقت نفسه هنودًا في كيانهم وفي معتقداتهم».43 فكان ذلك أساسًا للفكرة القومية. فإخوة جماعات الصدقة كانوا أول من ساهموا في تأسيس الكيان المكسيكي بتجميعهم لتاريخها ووصفهم لثقافتها.44

وكانت الإرساليات المسيحية في أفريقيا، على نفس الغرار، قوالب متميزة للقومية الاستعمارية رغم اللجوء بالأحرى الآن إلى إبراز دورها في بلورة الهويات الاثنية وتوحيد أنماطها. وكان اعتناق ديانة البيض (أو الإسلام) أحد مراحل إشراك المحركين من سكان البلاد الأصليين في المجال السياسي وفي إدارة الدولة.

ومن الواضح من خلال هذه الأمثلة أن الانفتاح على الثقافات الأجنبية يفترض عملية أخرى، ألا وهي نقل مغزى ممارسة ما، أو مكان أو تمثل، أو رمز، أو نص إلى الطرف المتلقي، لأن الانفتاح يكون حسب تعريفه تقريبًا، إعادة تفسير واشتقاق. وينطبق ذلك على تنصير هنود العالم الجديد الذي انتهى بتأثر متبادل بين العقيدة الأجنبية والمعتقدات القديمة بطريقة أصبحت مألوفة لدينا تحت مسمى «سوء تفاهم عملي»؛ فقد عششت طقوس الموتى في أعماق المناسبات الكاثوليكية. ففي بوجوتا عاصمة كولومبيا يتيح الحج إلى مونسيرا للمؤمنين الفرصة لمخاطبة القوى فوق الطبيعية غير المرئية، كما أن يوم الجمعة المقدس محرم بالنسبة للبغاء، وفقًا لنفس العقلية التي تدفع أهالي العاصمة الكولومبية إلى زيارة بعض «المقابر المفضلة»، ومنها مقبرة مؤسس مصنع بافاريا لإنتاج الجعة، لجلب الحظ، أو إلى حمل حجاب مكون من قطع نقدية تم تمريرها فوق محرقة معدة لحرق جثث من لم يتم الاستدلال على أصحابها.45
ومما زاد من نقل المقدسات على نطاق واسع في أمريكا اللاتينية أن الكنيسة الكاثوليكية كثيرًا ما دبرتها بغية الاستفادة من قوة مواقع ورموز الديانة المحلية. ويبدو أن ذلك كان مصدرًا للورع الشديد في التضرع إلى عذراء جوادلوب.46 ففي بداية ثلاثينيات القرن السادس عشر، أقام المبشرون الأوائل ديرًا للنُّساك فوق تل تيبياك، حيث كان هناك معبد يعود إلى ما قبل التاريخ مكرس لتوسي، أم الأرباب، «أمنا». وواصل الهنود زيارتهم لهذا المعبد تبعًا لتقليد سابق على مجيء المسيحيين، وبدأ المولدون في التردد عليه منذ منتصف ذلك القرن إجلالًا لصورة عذراء ليست سوى سيدة جوادلوب العذراء. ويقال إن هذه الصورة من عمل فنان من أهل البلاد الأصليين، استوحى في ذلك نموذجًا أوروبيًّا بناءً على طلب أسقف مونتوفار. ولجأ هذا القس خلسةً إلى إحلال تمثال محل الصورة البدائية التي يعبدها الهنود، وأرجع ذلك الاستبدال إلى ما يشبه المعجزة. ولم تفت تلك الازدواجية على الفرانسيسكان، فأثارت سخطهم. وزمجر أسقف طائفتهم من فوق المنبر معلنًا: «أن يقال الآن لأهل البلاد إن صورة رسمها هندي يُدعى ماركوس تصنع معجزات يعني إثارة بلبلة واسعة النطاق.» وكان محقًّا في ذلك إذ إن حشود الهنود التي كانت تتردد على تيبيال راحت تطابق اسم سيدة جوادلوب العذراء مع اسم توناننزين، فانصهرت بالطبع طقوس القديستين معًا، في عبارة واحدة.
وعلى نفس الغرار كان اعتناق روسيا للمسيحية البيزنطية مصحوبًا بتغلغل الأفكار الوثنية في الثقافة المرجعية الجديدة. فتارةً تحول بعض الآلهة القدامى إلى شياطين فشغلوا بذلك مركزًا سلبيًّا في العقيدة الأرثوذكسية، وإن كانت مشروعة بحكم موقعها الأصلي، وتارة أخرى تم إدماجهم مع القديسين حيث اندثرت صورتهم، إذ تعرضوا في آن واحد لتحولين: فقد تحول فولوس إلى الشيطان ثولوسيك، وتحول أيضًا فلاس إلى القديس بليز وكذلك القديس نيقولا والقديس جورج، أما موكوس فقد ظل مقرونًا بالنجاسة (الجنسية بالأخص، فموكوسيا معناها بالروسية امرأة لعوب)، ولكنه ظل أيضًا يجسد يوم الجمعة المقدس، باراسيف-بياتينيتسا، بل والعذراء أيضًا.47
ومع أن الانفتاح الثقافي يتضمن نقل معانٍ، إلا أن هذا النقل يمكن أن يحدث بشكل مستقل عن مثل هذا المضمون الثقافي المغاير جذريًّا. ففي أثناء الثورة الفرنسية، تقولبت الطقوس الجمهورية مع تصورات الورع الكاثوليكي. فقد كتب نسَّاج من مدينة آفينيون يقول على أثر احتفال مدني بربَّة الحكمة: «لقد تم الطواف اليوم بأم الرب الحية.» ونظمت تلقائيًّا مناسك بخصوص القديسة باتود، بجناحيها ثلاثيي الألوان الرامزة إلى الثورة، وظهر أنبياء مثل مارا، وتم تمجيد شهداء، وتبنت أيديولوجية العامة الثورية مفردات الديانة المسيحية بلا أي تعقيدات.48 وعلى العكس من ذلك قوبل منظمو الاحتفالات الثورية الذين امتنعوا عن الاستعانة بتلك الذخيرة وتجاهلوا الجغرافيا القدسية لمدنهم، قوبلوا بعدم الفهم والإعراض عنهم بل والعداء من جانب مواطنيهم.49
ويبدو أن عملية نقل المعاني التي تصل الثقافة الموروثة بالثقافة المخترعة تلازم التغيير السياسي دون أن يكون ذلك التغيير دراميًّا بالضرورة. فعلى سبيل المثال، لجأت عملية ترسيخ أقدام المؤسسة الكنسية في القرن السادس إلى تحويل مراسم الخضوع التي كانت تمجد قناصل الإمبراطورية الرومانية إلى طقوس تراعى عند دخول الأسقف في مدينته. وكان يتعين على العامة «أن ينحنوا بكل تواضع» أمام الله ورجال الدين تمامًا كما كانوا يقدمون على ذلك أمام ملكهم وقاضيهم.50 وهذه التداعيات الرمزية أو الإدراكية من مجال اجتماعي إلى آخر تتم بانتظام، وهي من أسس العمليات الكبرى لإقامة الدولة، خاصةً فيما يخص تحقيق مركزيتها وترشيدها. ولن ندهش إذا ما وجدنا أنها (أي التداعيات) تُميز الاستراتيجيات المتعلقة بالهوية المفرطة التي تغالي في استخدام النسيان (أو الكذب) في إعادة قراءتها للماضي. فالاستناد إلى ابن تيمية (١٢٦٣–۱۳۲۹م) لتبرير اغتيال الرئيس السادات، واعتبار الرب رام، «الإله ذي القلب الحنون» عند الهندوكيين القدامى، البطل المناضل ضد المسلمين، والعثور في التوراة على إدانة ﻟ «إمبراطورية الشر» السوفيتيية، بل وأيضًا البنك الدولي، يعني بالطبع إضفاء مغزًى جديد على نصوص كُتبت منذ قرون أو آلاف السنين، وتجنيدها لخوض معارك ما كانت تخطر على بال أحد في زمنها. ولكن يجب أن نلاحظ أن عمليات تحويل المعاني ليست على الإطلاق خدعًا مميزة للتوجهات الراديكالية في مجال الهوية، فهي في الواقع سمة يومية للتحرك السياسي. ومن الصعب أن نتصور هذا التحرك دون اللجوء إلى تلك التحويلات.
ففي كينيا مثلًا بلغ الخلط بين الجانبين الديني والسياسي حدًّا جعل خطب السياسية أقرب إلى المواعظ، هذا إن لم تتحول المواعظ إلى خطب سياسية. فالرئيس أرب موى يبشر مرةً كل أسبوع باسمه وباسم الرب في معبد خاص بعقيدة مختلفة. وفي عام ١٩٨٣م أثار القس رونجيري حربًا كلامية سياسية-توراتية بالإشارة إلى حكاية الخروف الأعرج العاجز عن قيادة القطيع إلى المرعى الخصب دون أن يعرف أحد هل كان يقصد بذلك شارل نيونيو، نائب الدائرة، الذي تحوم حوله شبهات الخيانة، كما توجه إليه الاتهامات في وسائل الإعلام، أو يقصد بتلك القصة رئيس الدولة الذي تعرَّض حكمه للزعزعة من جراء محاولة انقلاب مدبَّرة ضده.51 واتخذت التراتيل بدءًا بالعشرينيات أشكال تعبير سياسي؛ إذ تغنَّت على التوالي بكاريزما هاري ثوكو المسيحية، أو جومو كنياتا، أو نضال الماوماو أو تعرضهم لقمع القوات البريطانية.52 كما أن واضعي اليد الكيكويو الذين استعمروا فيما بعدُ وادي الصدع، ورجال المقاومة المسلحة الذين لجئوا إلى الغابات، سيشبهون مسعاهم بالخروج الوارد في التوراة.53

وفي زائير أيضًا بدت شخصيات استثنائية مثل سيمون كيمبانجو، وباتريس لومومبا، وبيير موليله، وجوزيف كازافوبو، والمارشال موبوتو، واتيين تشيسكيدي قابلة لأن يطلق عليها بالتبادل تقريبًا صفات «المسيح» و«المحرر» و«المخلص» و«المنقذ» و«الشهيد». وأخيرًا فإن تاريخ هذا البلد يمتزج بتاريخ إسرائيل:

«وتُستخدم الصور الدينية في توضيح المضامين السياسية. وتبدو الشيوعية «ديانة» مزودة ﺑ «أخلاقيات» و«طقوس» و«شعائر» و«قرابين» و«تضحيات». وتقارن النصوص الدستورية ﺑ «التوراة» و«كتاب الصلوات» الروماني و«كتاب القداس»، وتقارن الأيديولوجيات بكتاب التعليم الديني، والأنصار السياسيين ﺑ «مساعدي الكاهن في القداس». وتفتح الاختيارات السياسية أبواب «الجنة» أو «النار» حسب الأحوال. وتُصب بعض التعاليم السياسية في صور وأحداث وحكم واردة في الأناجيل، وتطلق على بعض الساسة تسمية «كبش الفداء»، وتتداول الديماجوجيا على نطاق واسع بين الساسة، وتزخر فترات التأزم في البلاد بمختلف أنواع «المسيخ الدجال»، ويطلق على القادة والجماعات والمناطق المنشقة تسمية «النعاج الضالة» التي يجب إعادتها إلى «الطريق القويم» الذي تسلكه الحكومة، وتستوحي الأحداث التاريخية حكاية «السامرائي الصالح» وغير ذلك من الصور الواردة في العهدين القديم والجديد.»54

وفي يونيو ۱۹۸۲م، ظهر خلال محاكمة ثلاثة عشر من المفوضين السياسيين كانوا قد أسسوا الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي عدد من الأغاني الدينية بلغة الكيسواحيلي كان صداها السياسي واضحًا:

«يسوع المسيح واقف، ومُقدِم على محاربة الشيطان،
ونحن واقفون صامدون؛
فكلمة الله أقوى من الشيطان.
يا مريم العذراء احمي من يضحون بأنفسهم من أجل الشعب.
لقد اختارك الرب لكي تعبديه بجسمه وقلبه كاملًا.»
وارتفع صوت قس فجأةً وسط الجمهور: «لقد تربَّى موسى في بلاط فرعون، وكان صاحب سلطة، ويُسمونه ابن فرعون، ولكن عندما اكتشف بؤس شعبه غادر [مصر].(٢) وموسى هو الديمقراطي الحقيقي، وهو يقود شعبه ولكنه لن يدخل أرض المعاد، وسيموت معه في الطريق. وهذا ما يحدث اليوم، هللويا، هللويا.»55

ففي بلد كانت فيه الكنائس الوكالات الرئيسية لكسب الصفوة، وحيث يعود إضفاء القدسية على السلطة إلى أزمنة سحيقة، فرض الكتاب المقدس نفسه بكل يسر كصيغة مجازية تعضد التحرك السياسي. وعلى سبيل المثال دار المتظاهرون المدغشقريون سبع مرات حول قصر الرئاسة لكي تنهار جدرانه … (على غرار سقوط جدران أريحا كما جاء في العهد القديم).

تصنيع الأصالة

يشكل تحويل المعنى عملية يومية في الحياة الاجتماعية تعتمد على اللبس والحيل. وادعاء الأصالة وصنعها إذا لزم الأمر عزيزان على أصحاب التوجه الثقافي الانغلاقي الذين يزعمون أنهم يحافظون على النقاء الأصلي لهويتهم من ضروب التلوث الخارجي ومن اعتداءات الآخرين، بإعادة بناء ثقافتهم إذا لزم الأمر من خلال مساعٍ ارتدادية؛ فالمبشرون بالإنجيل يبذلون قصارى جهودهم لحماية البراءة المحلية المحببة للنفس التي ينتهكها الغزاة والمولدون والمستوطنون وغيرهم من المتسببين في التوسع الحضري؛ ويعتبر القوميون في أوروبا الوسطى والشرقية الثقافة الشعبية مَكمن الهوية القومية؛ ويستند أنصار الهندوكية المناضلة إلى عهد الفيدا الذهبي؛ وتشن الجمهورية الإسلامية الإيرانية حربها ضد «الفساد» الغربي؛ وينوي فلاديمير جيرينوفسكي فتح كلٍّ من تركيا وإيران وباكستان حيث سيُستقبل كمنقذ ويترك كل شيء على الحال الذي يريده السكان المحليون: القطعان وأسياخ اللحم المشوي، والهواء النقي، والحج إلى بيت الله الحرام، سيرًا على الأقدام، لا بطائرات البوينج؛56 ويعمل المارشال موبوتو بالأخص من أجل ترسيخ «الأصالة».
وهل هناك حاجة للتذكير بأن ما يعتبر «أصيلًا» (أو غير أصيل) مسألة مشكوك في أمرها؟ فالأصالة لا تفرض نفسها إطلاقًا بالصفات الملازمة للظاهرة أو للشيء المعني. إنها تنجم عن النظرة — العامرة بالرغبات والأحكام — التي تُلقى على الماضي في ظل وضع معاصر للغاية؛ التلميح بأن زعيم الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي كان أصلًا المسئول عن منطقة في الحزب الأوحد. «فالأمر يتعلق في الواقع ببناء اجتماعي، ومصطلح يشوه الماضي جزئيًّا».57 والشركات الصناعية تقيم منشآت كبيرة ﻟ «الأصالة» من خلال مشارب النبيذ، والحانات الباريسية، والخمارات اللندنية، وموضة المنتجات الريفية، وتجارة العاديات، والسوق العقارية للمزارع الصغيرة النورماندية، والكمرات البارزة في مباني حي ألمارية بباريس.
وهذا الخطاب الاستيهامي المتعلق بالماضي الذي يعاد إحياؤه بالكامل يمثل أولًا فعلًا انتقاديًّا للحاضر.58 ذلك أنه مثار نزاعات حادَّة. فترميم الآثار الفنية يثير مناقشات حامية وسط الجمهور، كما حدث مؤخرًا بخصوص الأعمال التي تتم في كنيسة سكستين بالفاتيكان. والإخصائيون أنفسهم منقسمون في الرأي. والورش الشهيرة التابعة للفاتيكان لا تسعى إلى تحقيق الكمال والتوصل إلى صميم العمل الفني، وهو مسألة مفترضة بالضرورة، بقدر ما تسعى إلى الحفاظ عليه، كما أن الترميم يخضع لضرورات الصيانة. وهذا المفهوم الذي نشأ في إيطاليا ينتصر في البلدان الأوروبية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، ولكنه يصطدم بمعالجة الحرفيين الإنجليز والألمان الطموحة. وعلى أي حال فإن عمليات الترميم تخضع لذوق ومعارف الحقبة التي تجري فيها. فالألوان الداكنة كانت مفضلة في القرن التاسع عشر، تحت تأثير الرومانسية، وكانت التباينات الشديدة بين الألوان تمحى عمدًا. وتستدعي الحساسية المعاصرة إعادة النظر في تلك القراءة الفنية. وبات الاهتمام ﺑ «ترميم الترميمات» شديدًا بما يكفي لكي يحرص المرممون الحاليون على قلب تدخلاتهم نفسها لكي يسهلوا مهمة من سيخلفونهم عندما يكون مفهومَا الجمال والتقنيات قد تطوَّرا من جديد.
كما أن أداء الموسيقى الباروك أثار مناقشات مكثفة بين المولعين بالموسيقى الذين يقبلون بتغيير البنية الصوتية التي صممها باخ، وتوازنها، والذين يرون أن معنى هذا العمل الموسيقي لا يمكن فصله عن التمسك اليقظ والحذر بنسيجه الصوتي لقاء الصقل الجاد لأساليب الأداء التي شاعت منذ بداية القرن التاسع عشر.59
وعلى هذا الأساس يكون من المناسب دائمًا تحليل نوعية الأصالة التي ننسبها لممارسة معينة أو لمنتج ثقافي ما. وقد درس برايان سبونر بمزيد من العناية مثال السجاد التركماني.60 كان السجاد ينسج في المجتمع القديم في البيوت حيث كان احترام المعايير التقنية بكل دقة يضمن جودته. وكانت نساجة السجاد تتجنب بالأخص شراء الصوف من السوق لكي تتأكد تمامًا من نوعية خيوطه. وفي نهاية القرن التاسع عشر أدى ظهور الأصباغ الصناعية إلى انتقال إنتاج السجاد التركماني إلى مدار الاقتصاد العالمي، وشجعت تكاليف إنتاجه على تسويقه على ما يبدو. كان الأهالي الرُّحل يستخدمون السجاد التركماني لحاجتهم الشخصية، وجرى تسويقه في مدن آسيا الوسطى والشرق الأوسط، ثم راح يتغلغل في الأسواق الغربية دون أن يفقد مع ذلك قيمته الرمزية المباشرة في نظر منتجيه (على عكس السجاد الذي يتم صنعه في المراكز الحضرية الكبيرة في بلاد فارس). وكان يحظى بالتقدير حسب معيارين ثقافيين متميزين: أحدهما محلي تمامًا يعتمد على صيت الحرفيات وعلى ما يرمز إليه الغرض الأصلي لاستعماله، والآخر أدخله المستهلك في السوق العالمية، وكان يتوقف على مختلف الموضات الشرقية، ومنها مثلًا الولع بالفن الصيني، والتحف الصينية واليابانية. غير أن تفسير الرموز وتثمين الجودة كان بوسعه أن يخلط بين المعيارين، حتى إن المنتجين التركمانيين حرصوا على تلبية حد نسخ طلبات زبائنهم الجدد بتغيير حجم السجاد وزخارفه وألوانه حتى وصل الأمر إلى العلم الأمريكي بنجومه، كما هو محفوظ في متحف جامعة بنسيلفانيا.

ونتيجةً للفتوحات الروسية والضغوط العسكرية الفارسية والأفغانية وانتشار النظام السوفييتي في آسيا الوسطى في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين، تعرَّض المجتمع التركماني لقلب أوضاعه تمامًا، مما تسبب في العديد من الهجرات، وأدى في نهاية الأمر إلى وقف إنتاج هذا النوع من السجاد تقريبًا في السنوات الأخيرة من الثلاثينيات. ولم يستأنف هذا الإنتاج إلا في الستينيات في المصانع السوفييتية والبيوت والمحارف الصغيرة في أفغانستان. ومع ظهور أساليب تنظيم الإنتاج الجديدة، أصبح النساجون من الرجال والأطفال (بالأخص اليتامى واللاجئون بعد المجاعة الكبرى في ۱۹۷۲-۱۹۷۱م). وبالطبع نجحت أفغانستان في تغيير اقتصاد السجاد هذا. وعليه يبدو أن المعيار الثاني قد تغلب. فأيًّا كانت الجودة الحقيقية المميزة للسجاد التركماني المعاصر ونوعية صناعته، إلا أنه مختلف تمامًا عن سجاد منتصف القرن التاسع عشر، حتى وإن كان من الممكن التعرف عليه كسجاد تركماني. كما تلاشت على أي حال رقابة الروابط القبلية التي كانت تحدد هامش الابتكار المسموح به للمبدعين. ومهما كانت خبرة المستهلك الغربي المجرب، إلا أنه حث على توحيد الطراز الفني الذي كان موزعًا على نطاق أوسع نظرًا لتباين النظامين العائلي والقبلي التركماني. كما أن الطلب في السوق العالمية تغير هو أيضًا؛ فهو مهتم بالأخص برسومات السجاد الشرقي قبل ظهور الأنوال الميكانيكية، فأصبح يفضل التقنية الحرفية التي تحولت بدورها إلى معيار للتمايز. ومع تغلغل هذه التقنية شيئًا فشيئًا اتجهت الأنظار نحو سجاد القبائل الذي كان محتقرًا في الماضي، مثل سجاد البالوتشي.

وباختصار فإن تعريف الأصالة فيما يتعلق بالسجاد مسألة يتم تجنبها ولا يمكن فصلها عن تدخلات السوق العالمية، حتى وإن كان الأمر لا يخص فقط تطورًا ثقافيًّا بحتًا، بل وماديًّا أيضًا. ومما لا شك فيه في الوقت نفسه أن التركماني أو الأفغاني أو الإيراني قليل الاهتمام بأصالة سجاده، بل يبحث عن السراويل الجينز الزرقاء الأصلية، الليفيز-٥٠١؛ إذ إنه يضفي عليها قيمة رمزية أكبر مما نوليها نحن لها. وسيجد فلادمير جيرونوفسكي بعض المشقة في الاهتداء إلى طريقه عندما سيغسل جنوده أحذيتهم الغليظة في مياه المحيط الهندي الساخنة.

لقد أفادتنا من قبلُ عمليات «اختراع التقاليد» بأن الاهتمام بالأصالة يرتبط في الكثير من الأحوال بالتحولات التي يشهدها المجتمع وبتغير معايير مجال مرجعيته. وهي، أي عمليات اختراع التقاليد، أحد التعبيرات عن الحداثة والعولمة، وعليه فإنها ليست مقصورة فقط على المجتمعات التابعة المضطرة إلى إعادة النظر في وضعها بالنسبة للتحولات المفروضة من الخارج أو التي تعوض انفتاحها الجامح على الخارج، وكانت الموسيقى الريفية (country music) في الولايات المتحدة — وهي مثال رائع لصنع الأصالة في مجال الثقافة الشعبية — بمثابة رد فعل إزاء زحف الحداثة عن طريق الحفاظ على القيم الأصولية أو ابتكارها، وذلك في وقت راح فيه جزء من الرأي العام الأمريكي يبدي قلقه إزاء استفحال الإباحية في المجتمع وتراجع هيمنة البروتستانت البيض الأنجلوساكسونيين (WASP)61 وهي من هذه الزاوية، على علاقة مع تصاعد الأصولية في الجنوب «الجواني»، خاصة وأن هدفها الأيديولوجي الرئيسي موجَّه نحو تلك الهيمنة «البروتستانتية، البيضاء والانجلو-سكسونية» في الساحل الشرقي. غير أن الموسيقى الريفية ترتبط أيضًا بأداء القوميين من أوروبا الوسطى والشرقية للموسيقى الشعبية. وكان قائد الأوركسترا لامار سترينجفيلد يشيد في عام ١٩٣١م «بازدهار شكل من الروح القومية الأمريكية» ما كان يمكن أن ينبع إلا من خلال «أحاسيس متأصلة لدى الشعب»، علمًا بأنه كان يعتقد أنه اهتدى إليه من خلال الموسيقى «الريترو» (المستوحاة من موسيقى الماضي): «وبالطبع فإن الموسيقى الشعبية الأمريكية الأقل تأثرًا بغيرها هي تلك التي يحافظ عليها سكان المناطق الجبلية والسهول المترامية الأطراف. فقد حافظ بالكامل عدم توفر وسائل النقل الحديثة على حساسية هؤلاء القوم كبشر وحمى موسيقاهم من أي تصنع.»62
وقد أيَّد هذا المفهوم بكل قوة هنري فورد، وهو من الشخصيات البارزة في مجال كوكبة عالمنا.63 فمع أن سيارته من «طراز T» التي بيعت على أوسع نطاق بفضل انخفاض تكلفة إنتاجها، زادت من سرعة فك الحصار عن الريف، ومن انتشار أسلوب المعيشة الحضري، إلا أنه كان يعتبر المدن «أورامًا موبوءة»، ويشيد بعادات الريف «السوية» والمتميزة ﺑ «نزاهتها المنيعة». وكان يرى أن «الولايات المتحدة الحقيقية توجد خارج المدن». ويغزو بالطبع انحطاط الأخلاق إلى تعاطي الخمور والتدخين والإباحية الجنسية وموسيقى الجاز، وإلى السود والمهاجرين الجدد و«اليهود الدوليين»، حتى إنه نشر في صحيفته المسماة ديربورن إندبندنت مقتطفات من بروتوكولات حكماء صهيون، وقدم مساعدات مالية للرابطة الألمانية الأمريكية التي كان يرأسها نصير للنازية معروف، منحه الرايخ الثالث وسام الصليب الأكبر للنسر الجرماني في عام ١٩٣٨م. وكان هذا الصانع العبقري للسيارات يدعو، بلا أي قدر من الابتكار، إلى العودة إلى العادات الفلاحية، لمقاومة تطور المجتمع الأمريكي الوخيم العواقب. وقد نظم في عام ١٩٢٥م حملة من أجل الرقصات القديمة: الرقصة الدائرية، وتلك التي يؤديها أربعة أزواج من الراقصين، ونشر كتيبًا معنونًا: «صباح الخير» بعد خمس وعشرين سنة من السكون تعود الرقصات التقليدية إلى الحياة بفضل السيد هنري فورد وقرينته، أدان فيه رقصة الشارلستون الضارة، ونصح الراقصين بأن لا يمس خصر شريكة كلٍّ منهم في الرقص سوى إبهام وسبابة يده اليمنى. وقد أحضر إلى ديربورن عازفي كمان لكي يتم تنميط عملية إحياء الرقصات التقليدية من جديد (وتشبه هذه الإدارة التيلورية للثقافة الشعبية عمليات «معايرة» أخرى جرت في أوروبا الوسطى والاتحاد السوفييتي وتركيا بخلق ثقافات اثنية وتحويل الممارسات الشعبية إلى فولكلور). وقد نظم هنري فورد أيضًا جولات لعازفي كمان «ريترو» عن طريق شبكة وكلائه.
غير أن أهم ما يسترعي الأنظار في حكاية الموسيقى الريفية هذه يتمثل في موقف الجمهور منها الذي فرض تعريفه الخاص لأصالة الثقافة الشعبية. فالفائزون في المسابقات التي كان يُمولها فورد كثيرًا ما كانوا يتصرفون بشكل مؤسف، ولا يراعون إطلاقًا مسألة الامتناع عن تعاطي الخمور التي كان يدعو لها منظم المسابقات. ولم يتوصل أليسون ميلين دونهام، العجوز الذي حاول فورد إحلاله محلهم، إلى تحقيق ذلك الهدف. وتلاشت في آخر المطاف شخصية العازف «الرترو» لصالح ملحنَين اثنين مختلفين للموسيقى الريفية قدَّما معزوفات «الفلاح» و«راعي البقر المغني»، وجميعها من إنتاج وسائل الإعلام الحديثة. وكانت أغلب معزوفات الفلاح الناجحة من إبداع سكان حضريين من الجنوب الشرقي وكاليفورنيا، ولم تكن من صنع جبليين يقيمون في سلسلة جبال الآباش، مع أنه المفترض فيهم أنهم أصحاب الموسيقى الشعبية الأمريكية الحقيقية. وبعبارة أخرى فإن «الأصالة كما كان يتصورها أنصار الموسيقى الريفية لا تعني التبني الملزم لموسيقى تقليدية مثالية»، وأنها ليست «المرادف للحقيقة التاريخية»، بل مبنية ثقافيًّا في آن واحد من جانب باعثيها — منظري القومية الموسيقية، وهنري فورد ومقدمي البرامج الإذاعية — ومن جانب الجمهور. ومن الممكن أن نستخلص من ذلك أن «الذاكرة الجماعية غير مخلصة بانتظام للماضي لكي تلبي احتياجات الحاضر»،64 عوضًا عن الاضطلاع بعملية النقل الميكانيكي لثقافة أو هوية ما.
وحيثما يقضي المفهوم الثقافي الانغلاقي بتواجد نواة صلبة تخص كل ثقافة وتضفي عليها مصداقية تتحكم في الحاضر، نجد أن التحليل يستخلص في الواقع تطورًا ثقافيًّا في مجال الأيديولوجية والحساسية، يحدثنا عن الحاضر بتوظيف الماضي. وذلك هو الدافع الحميم ﻟ «العرض السينمائي» الذي ابتكره فيليب دي فيلييه(٣) في بوي دي فو.65 فإعادة البناء الاجتماعية والقروية للعهد القديم تشكل جزءًا من استراتيجية شاملة خاصة بمقاطعة الفاندية،(٤) توصلت إلى ابتكار حداثة حقيقية فعلًا — خاصة فيما يتعلق بالزراعة والصناعة — وذلك من خلال تقاليد المعاداة الملكية للثورة، ردًّا على صدمة أحداث عام ۱۷۹۳م الدامية.66 وهذه الثقافة «المتمردة» حسب تعبير جان-كليمان مارتان وشارل سويو، تشبه من نواحٍ عديدة الجنوب «الجواني» الأمريكي بعد الحرب الأهلية (التي أثارتها مشكلة العبودية، عماد زراعة القطن في الجنوب، وما ترتب على ذلك من مصاعب اقتصادية). وتستخلص تلك الثقافة من تاريخ منطقة ذات أوضاع خاصة رسالةً لها أبعاد عامة وحالية. وهكذا فإن الفاندية تصبح بذلك أرض اليمين المسيحي والتقدمي، بل والمعني بالشئون الاجتماعية، وذلك من خلال الحركات الكاثوليكية النشطة. وبذلك تجسد الفاندية طريقًا ثالثًا للتغيير يتصدى للمادية الليبرالية والإلحاد الماركسي. وهكذا يعرض علينا فيليب دي فيلييه أيديولوجية الرفض من خلال المبارزات النارية التي يخوضها عالم فلاحي ذو تقاليد جماعية ضد التحضر الذي عمد إلى زعزعة استقرار هذا العالم. وهو ينسب نفسه إلى كاثلينو (أحد زعماء التمرد في الفاندية) وكليمانصو والمارشال دي لاتر دي تاسينيي، ويشيد بالفاندية التي تعرف كيف تقول «لا».67 وعليه فقد استقال من منصبه كنائب للمحافظ في عام ١٩٨١م لكيلا يكون في خدمة «حكومة اشتراكية-شيوعية». وعلى عكس ما قد يبدو ظاهريًّا، فإن فيليب دي فيلييه ليس ماضويًّا؛ إذ أصبح رئيسًا للمجالس العامة لمقاطعة الفاندية في عام ١٩٨٧م في ظل الشرعية الجمهورية، وعن طريق الانتخاب.68
ويتضح من النتيجة التي أحرزتها القائمة التي تزعمها فيليب دي فيلييه في الانتخابات الأوروبية في عام ١٩٩٤م أن هذا الموقف «المتمرد» لم يكن بلا صدًى؛ إذ إنه يقدم لنسبة لا يستهان بها من المواطنين الفرنسيين مشروعًا مفسرًا للتصنيع وعواقبه، وقراءة للأزمة الاقتصادية وللاندماج في الوحدة الأوروبية أو السوق العالمية، وموقفًا إزاء الهجرة. ويدافع دي فيلييه عن هويته الفرنسية اعتمادًا على هويته الفاندية. ولا يهمه بالطبع أن تكون هوية فرنسا هذه قد تشكلت تاريخيًّا من خلال تلاقي وتلاحم عوامل مادية وثقافية، كما أوضح ذلك فرنان بروديل، وأنها جاءت متأخرةً حسب تحليل أوجين فيبر، وأنها لا تزال غير مكتملة إذا ما وضعنا في اعتبارنا بقاء اختلافات اجتماعية حقيقية في مجال البنى الأسرية مثلًا.69 ولكن أنصار الانغلاق الثقافي يؤمنون بوجود آلهة للهوية، وهويات تواجدت منذ الأزمنة الأولى وشقت طريقها بلا وجل عبر القرون، كلٌّ منها مزودة بنواتها الأصيلة. غير أننا لا نرى من جانبنا سوى عمليات تشكيل للهويات الثقافية أو السياسية كثيرًا ما تكون قد تبلورت منذ عهد قريب، ويمكن أن يحدد تاريخ ظهورها بدقة نسبيًّا على أي حال.

نشأة الهويات الأولية

إن تحليل الأوضاع السياسية التي يبدو أنها خاضعة للنزاعات المرتبطة بالهوية، والتي يتعين منطقيًّا أن تؤكد صحة مفهوم الهوية الأولية، تكذب بالذات دور هذا المفهوم. فالتوتر المتزايد بين القوميين الهندوكيين والمسلمين في الهند يبدو مثلًا نموذجًا لتضادٍّ متوارث بين تلك الهويتين الأوليين؛ لأنه صراع بين ديانتين كانتا في آن واحد منبعَ حضارتين كبيرتين. غير أن المواجهة بين الهندوكية والإسلام تكتفي بترديد الخطاب الأيديولوجي الخاص بالمنظمات المناضلة دون أن تضع في الاعتبار حقيقة الأمور. فهي تُغالي في تقدير القدم وفي وحدة كلٍّ من الطرفين المحركين للأمور وتغضُّ الطرف في الوقت نفسه التبادلات بينهما.

فالهندوكية لا تتجسد في أي كتاب مقدس يزودها بمرجعية موحدة على عكس اليهودية والمسيحية والإسلام. فقد كانت نصوصها الدينية موجهة إلى طوائف خاصة، وتتمثل تاريخيًّا بالذات في شكل «جمع من الطوائف»،70 حتى إن المتخصصين في الدراسات الهندية ساورتهم الشكوك حول طابع الهندوكية الديني، وأدركوا أنها «تجمع لديانات» يعتمد علي بنًى ضعيفة.71 وقد اقتضى الأمر الانتظار حتى القرن التاسع عشر لكي تظهر حركات إصلاح اجتماعي ديني تحاول ترشيد الهندوكية بأن اكتشفت لها كتابات مقدسة بالمعنى التوحيدي للكلمة، واتخذت نوعًا من التنظيم الكنسي، وطهرت العبادات بمضاهاة التعاليم الفيدية بالمعرفة العلمية الغربية، وبمحاولة إيجاد دراسة «اجتماعية» للتدرج الهرمي للطوائف. وبكل وضوح كان منطق حركات الإصلاح منطق «التلفيقية الاستراتيجية». أما الخصم الذي كانت تستعير منه «السمات الثقافية الرائعة والفعالة»، فقد تمثل في التوحيدية المسيحية التي كانت تشكل تهديدًا لحركات الإصلاح الهندوكية من خلال تبشير الإرساليات.

غير أن الإسلام سرعان ما أصبح نموذجًا ثانيًا للمرجعية والرفض بمجرد إقدام الاستعمار على محاباة الصفوة المسلمة منذ بداية القرن العشرين، لتحجيم التوجه القومي للنخبة الهندوكية وإبعاد شبح التقسيم. وتحولت التعبئة السياسية الإسلامية خلال حركة الخلافة في العشرينيات إلى قلاقل مناهضة للهندوكية. ومرةً أخرى، تمثل رد فعل المسئولين الهندوكيين إزاء هذا الخطر في تبني المزايا المنسوبة إلى مناهضيهم، بدعوى إحياء العصر الذهبي للفيدية من جديد، وهي القوة البدنية، والتضامن، والوحدة، بل وأيضًا أكل اللحوم عند بعضهم! وتعبر آخر تجسيدات «التلفيقية الاستراتيجية» عن تلك الهوجة القومية الهندوكية التي تتصدر أخبارها وسائل الإعلام بمناسبة الانتخابات، وتحتل مركز الصدارة في إثارة الفتن.

فمن الملاحظ إذَن أن «الهوية القومية الهندوكية التي تولدت من التلفيقية الاستراتيجية قليلة الوفاء للقيم الهندوكية التقليدية، ألا وهي مذهب تعدد الآلهة، والتدرج الهرمي، وغياب التنظيم الكنسي».72 وقد أدى صنع أصالة فيدية عن طريق استيعاب قيم الآخرين إلى تحول جذري في الهوية الثقافية الهندوكية، وإلى تسييسها عن طريق المشاعر القومية. وفي المقابل لم يثبت الإسلام في شبه القارة الهندية أنه أمتن وحدة وأكثر استقرارًا من الهندوكية رغم تصورات القوميين الهندوكيين في هذا الصدد. والطائفية في الهند لا تعتمد على التماسك الداخلي لكلٍّ من الطائفتين الدينيتين، بل على العلاقات القائمة بينهما والناجمة عن النزاعات في ظل أوضاع ومرحلة تاريخية معينة. على أنه يجب أن نلاحظ أن هذا التضاد غير ملازم لعقيدة أيٍّ منهما، ولا إلى قيام العلاقات بينهما في مجتمع سياسي موسع أقامه المستعمرون. فقد كانت الإمبراطورية المنغولية قائمة، خاصة في عهد الإمبراطور المنغولي جلال الدين أكبر (١٥٥٦–١٦٠٥م) على تفاهم بين المسلمين والهندوكيين، رغم أنه لم يكن متساويًا بالطبع، وكانت التبادلات والتلفيقات عديدة بينهما، بما في ذلك في المجال الديني. وبالطبع كان لا بد وأن يثير رفض الفاتحين المسلمين لاستيعابهم من جانب الثقافة الهندوكية — على غرار ما ارتضاه من قبلُ الكثيرون الآخرون — مقاومة من جانب سكان البلاد الأصليين. ومنذ القرنين السادس عشر والسابع عشر، حاربت إمبراطورية شيفاي والكونفدرالية الماراتية الإمبراطورية المنغولية. غير أن تبلور الهوية الطائفية الهندوكية لم يتم قبل ستينيات القرن التاسع عشر.73
ولم يكن تزامن ترسب الطائفية — بالمعنى الكيميائي للكلمة — مع إقامة الدولة البيروقراطية على يد الاستعمار مجردَ مصادفة. فنشأة الهويات الخاصة في ظل المجال السياسي الجديد ليست رفضًا للدولة أو إنكارًا لها، بل تأقلمًا إبداعيًّا مع التغيرات الجذرية التي تأتي بها الدولة، من خلال التوافق مع مؤسساتها وتقاسم مواردها. وتلك مسألة معروفة تمامًا لدى المتخصصين في الشئون الأفريقية. وكان بوسع ر. ﻫ. بتيس أن يؤكد بصفته ليبراليًّا جيدًا ومُقلًّا أن «الجماعات الاثنية تمثل شكلًا للتحالف المريح جزئيًّا وعريضًا بما فيه الكفاية من ذلك لضمان مكاسب في الصراع من أجل تقاسم الأسلاب، ومحدودًا بما فيه الكفاية أيضًا لتحقيق أقصى عائد من تلك الأرباح لكل فرد».74 وسيتبين لنا أن المسائل أعقد بكل أسف. بيد أن تأكيد الهوية والعلاقة العضوية بين قيام الدول واستراتيجيات التراكم المادي في ظل اقتصاد متوسع، فجأة، متواجد في العديد من الحالات.
ففي أوروبا ذاتها، كثيرًا ما كان المبشرون بالقومية اللغوية في القرن التاسع عشر من المنتمين إلى الفئات الاجتماعية المتعلمة أو شبه المتعلمة التي كانت تعتبر أن من أهم وسائل تحقيق صعودها الاجتماعي اعتراف الدولة بلغتها المحلية، فضلًا عن إقامة دولة تتفق حدودها مع الحيز الذي تستخدم فيه تلك اللغة المحلية.75 وقد تشابهت في هذا الصدد دوافع المناضلين السنهاليين الذين فرضوا لسانهم كلغة قومية رسمية في عام ١٩٥٦م، مع دوافع المثقفين المتكلمين باللغة العربية في الجزائر الذين حققوا نفس ذلك النصر الانتحاري خلال الثمانينيات.
ولم يكن اشتراكيو القرن التاسع عشر غير مصيبين عندما تحدثوا عن «العقليات القومية البرجوازية الصغيرة». وعوضًا عن التعبير عن عبقرية «الشعوب» المنطوية في أعماق «ثقافتها الشعبية»، تكشف استراتيجيات الهوية عن تعطش النخب الجديدة إلى تحقيق النفوذ والجاه. وكثيرًا ما تكون مسئولية الطبقات المتوسطة، والبيروقراطيين والمثقفين والطلبة (أو من تخلوا عن الدراسة) أفدح من مسئولية الطبقات الشعبية في تأجيج النزاعات المتعلقة بالهوية، كما هو الحال في سيري لانكا والناتال ورواندا.76
على أنه يتعين علينا ألا نقع في الخطأ. فهذه النخب لا تكتفي بتنشيط الطوائف القائمة أصلًا والتي خبت هويتها نوعًا. فلم تتواجد أصلًا تلك الجماعات الأصلية أو الدينية أو الاثنية قبل نشأة الدولة، وهي تشكل في الواقع الثمرة السامَّة إلى حد متفاوت لهذه الدولة. وتُعتبر مسارات الاثنية في أفريقيا جنوب الصحراء أو الطائفية في الهند القاعدة التي تؤكدها العديد من الأمثلة، ومنها القومية الاثنية في بورما، والطائفية الدينية في لبنان، والقومية في وسط آسيا والقوقاز.77 ففي كل تلك الحالات تحقق تبلور الهويات الخاصة، كما نعرفها اليوم، أثناء الحكم الاستعماري، من خلال التحرك المتضافر (والنزاعي أحيانًا) لكلٍّ من المحتلين الأجانب والمتعاونين معهم من أهل البلاد، وخصومهم.
بيد أن الاستعمار لم يكن سوى عامل جانبي في ذلك التطور، أيًّا كان موقف الأيديولوجيين القوميين الأفارقة. فقد نشأ مثل هذا المنطق المتعلق بالهوية عن مركزية الدولة والتحولات الاقتصادية، وذلك في ظل أوضاع من الشطط أو المفارقة التاريخية أن تنسب إلى الاستعمار. فالبالوتشي في إيران مثلًا يشكلون بوعيهم وتنظيماتهم الحالية خلف الإجراءات السياسية والإدارية التي اتخذتها أسرة الكاجار الحاكمة في القرن التاسع عشر.78 كما أن التحالفات القبلية الكردية في إقليم خراسان أسستها هي أيضًا الدولة المركزية عندما لجأ الشاه عباس الأول إلى ترحيل تلك القبائل الكردية في القرن السادس عشر.79
أما «الهوية الكردية» الشهيرة في تركيا والعراق، فصادرة هي أيضًا عن عملية توالد اثني ترجع أصلًا إلى التنافس الإقليمي بين الإمبراطورية العثمانية وفارس. ولنعد إلى الأذهان أولًا أن الأكراد في مجموعهم غير مرتبطين بشكل مباشر بالتركيبة القبلية. فقد انضافت تلك التركيبة إلى علاقات اجتماعية أخرى، وعززت شأن أرستقراطية عسكرية تشيع لها طواعية أو قسرًا أهالٍ، لا من باب الإخلاص لقبيلة معينة بقدر حرصهم على الانضواء حسب الأحوال تحت لواء زعيم موفق.80 وهكذا يكون الوعي القبلي الكردي بلا شك، متغيرًا ونسبيًّا بنفس القدر مثل الوعي الاثني في أفريقيا السوداء. وفضلًا عن ذلك فقد سجل التنظيم الداخلي للقبائل تفاعلات متبادلة بين المجتمع الكردي والدولتين المجاورتين؛ الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية التركية، اللتين حوَّلتا الجبال الواقعة شرقيَّ الأناضول إلى منطقة حاجزة بين أطماع كلٍّ منهما. وتمثلت بالأخص إصلاحات الباب العالي في القرن التاسع عشر في إلغاء مؤسسة الإمارات الكردية، دون أن يوفر ذلك إدارة مباشرة لهذا الجزء من الإمبراطورية. وهكذا تحوَّل رؤساء القبائل إلى وسطاء مفضلين للسلطة المركزية، ومال الهيكل القبلي إلى التفتت، وأصبحت تعقيداته متناسبة عكسيًّا مع كثافة النسيج الإداري. وعلاوةً على ذلك أدى قانون عقاري جديد في عام ١٨٥٨م إلى بزوغ فئة جديدة من مُلاك الأراضي غيَّرت قواعد علاقات التبعية، وفي عام ۱۸٩١م ترتَّب على تشكيل حرس الحميدية المستوحى من القوازاق الروس تغير في ميزان القوى بين القبائل، هذا إن لم يؤدِّ إلى نشأة جماعات اجتماعية جانبية أو شبه قبلية كما لجأ إلى ذلك الشاه عباس الأول في إيران في القرن السادس عشر الذي جنَّد حرس شاه-سيفان.
وأخيرًا قلب انهيار الإمبراطورية العثمانية إطار التفاعل المتبادل بين الدولة والنظام القبلي، ولم يكن رسم حدود بين تركيا وسوريا والعراق، المواتي للتهريب على أوسع نطاق، من بين أبسط عواقبه.81 وفي ظل الأوضاع التي خلقتها القوميات البلقانية والقوقازية والعربية، وإبادة الأرمن، وتبادل السكان بين اليونان وتركيا، راحت أحلام إقامة دولة-أمة اثنية تداعب مخيلة الصفوة الكردية التي شجعتها المبادئ الويلسونية. ومع ذلك لم تُسفِر مشاعرهم القديمة عن التخلي عن الهوية القبلية، وكذلك وعيهم الديني الذي أثرت عليه تلك المشاعر جزئيًّا. وقد تولى قيادة أغلبية التمردات الشيوخ وزعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوسلان، الذي تصور أن بإمكانه شن الحرب ضد الدين باسم الماركسية اللينينية، ثم اضطر إلى اتخاذ موقف معتدل وراح يتحدث عن تحرير كردستان «مهد الأممية الإسلامية».82 غير أن الانتماء الديني أو السياسي لا ينفصل عن الانتماء القبلي. وقد تواكب زمنيًّا ظهور الطريقتين النقشبندية والقادرية، ثم نشأة طريقة النورسو، مع شيوع القبلية في الإقليم، وبدا كردِّ فعل مرتبط بالفراغ الذي نجم عن سقوط الإمارات وبخطر تبشير الإرساليات المسيحية.83 ويتحقق الولاء للمشايخ في أغلب الأحوال على صعيد القبيلة، وهو جماعي، كما أن الانتفاضات القومية تأقلمت مع الانقسامات القبلية، وساهمت بذلك في توالدها على حساب فعاليتها العسكرية.

وبعبارة أخرى، كانت استراتيجيات الهوية عند الأكراد، على تنوعها، انعكاسًا لفترة تاريخية امتدت طوال قرن نشأت خلاله العديد من الابتكارات الاجتماعية والسياسية مثل مركزية الدولة، وتطور النظام القبلي، وحركة الطرق الصوفية، وتمليك الأراضي، والهجرة، والانتقال إلى الحضر، وتشكيل حزب ثوري مسلح، ثم حرب العصابات وقمعها على يد البيروقراطية العسكرية المتمرسة في استخدام التقنيات الدولية لمكافحة «المبادئ الهدَّامة». ومن المؤكد أن جميع هذه الابتكارات لا يمكن أن تكون أولية.

ويتعين أن نعود إلى الإشكالية الفيبرية التي كانت تعتبر القبيلة «حدثًا سياسيًّا مصطنعًا» تشرف الدولة عمومًا على إيجاده، وهو تفرع لها كان ينكر الفائدة التحليلية لمفهوم الاثنية؛ «فمفهوم التحرك الاجتماعي المحدد «اثنيًّا» يشكل ظواهر يجب أن يميز بينها بجدية التحليل السوسيولوجي الدقيق».84 غير أن فيبر يتوقف في الطريق ويجعل الانتماء الاثني، وهو «الهوية المفترضة»، في تعارض مع علاقات القرابة ذات «التحرك الاجتماعي الملموس»، والتي يعترف مع ذلك بطابعها التاريخي.85 والواقع أن القراية هي أيضًا حدث مصطنع، و«اصطلاح تعبيري بالأحرى وليس نظامًا» تتعامل بواسطته دائمًا العناصر الفاعلة حول انتماءاتها ومصاهراتها الاجتماعية.86 وهكذا تكون القرابة أولًا مجالًا للتنازع — ومثال ذلك الموقع المتميز للسحر في أفريقيا السوداء — قبل أن تصبح أحيانًا مجالًا للتضامن والتحرك الجماعي.87
ويكون التواصل التوالدي من الأسرة إلى الاثنية فالدولة أمرًا واضحًا على ضوء ذلك. ففي بلاد الإغريق القديمة لم تكن العشيرة أو البطن أو القبيلة «هويات أولية» خاصة بالمجتمع السابق على المدينة، إذ إنها ازدهرت كمؤسسات للمدينة لتوفر لأعضائها التماسك الذي كان يوحد صفوفها.88 وعلى سبيل المثال فإن مفهوم العصبية الذي يستخدمه بعض إخصائيي العالم الإسلامي للإشارة إلى «الجماعة […] التي تربط بينها وشائج الدم أو مجرد وحدة المصير» لم يعد يثير اليوم أي بلبلة. فهو يعود حسب ما جاء في أعمال ابن خلدون إلى «أمر لا حقيقة له» (باللغة العربية في النص الفرنسي).89 وقد كتب ميشيل سوراه يقول، مستعينًا بهذا المفهوم في دراسته لحي باب تبان بطرابلس (لبنان):90 «إن المدينة كائنة في الرأس.» وربما كانت العصبية، وفقًا لهذا التعريف، «بغضاء أساسًا» أكثر منها «تضامنًا أساسيًّا». فالتعصب إزاء الآخرين هو الأول، أما التضامن مع الأقربين فتابع، وذلك وفقًا للقول الشهير: «أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.»91
وفي ظل أوضاع مختلفة تمامًا بالطبع في مقاطعة ليون الفرنسية، «يتم تداول حالات الأهلية في الانتخاب منذ أمد طويل في حدود شبكات تتدخل فيها بشكل وثيق صلات القرابة واستراتيجيات الزواج». بيد أن هذه الشبكات «ليست كيانات جامدة»، ولا جدوى مثلًا في محاولة إجراء جرد لها؛ «إذ إننا نكون هنا بصدد مجموعة من الاحتمالات التي يمكن تحديدها وفقًا لحالات ملموسة، لا بصدد نوع من الجماعات التي يمكن التحقق من تواجدها حسب الظروف. وتشكل عملية التصويت إحدى الحالات التي تتيح تجديد نظام العلاقات هذا».92 ووفقًا لهذا الإدراك تذكرنا العصبية عند العرب (أو أهالي بورجونيا) بذلك الأمر الجلي الذي يرفضه بكل عناد أنصارُ الانغلاق الثقافي، ألا وهو أنه ليست هويات ولكن مجرد عمليات تماهٍ (أي تعرف على الهوية). فالهويات التي نتشدق بها، كما لو كانت متواجدة بشكل مستقل عن المتكلمين باسمها، تنعقد (أو تنحل) عن طريق مثل عمليات التماهي هذه؛ أي باختصار عن طريق ذكرها.93

ولكن الخبرة التاريخية تثبت أن هوية الفرد مرتبطة بالأوضاع، ومتعددة الجوانب ونسبية. فالشخص المقيم، في سان مالو سيُعرِّف نفسه على أنه مالوني (نسبة إلى سان مالو) في مواجهة آخر من رين، وكمواطن من مقاطعة بريتانيا في مواجهة مواطن من باريس، وكفرنسي في مواجهة مواطن ألماني، وكأوروبي في مواجهة أمريكي، وكأبيض في مواجهة مواطن أفريقي، وكعامل في مواجهة صاحب العمل، وككاثوليكي في مواجهة البروتستانتي، وكزوج في مواجهة زوجته، وكمريض في مواجهة طبيبه. وكل هوية من هذه الهويات «مفترضة ضمنيًّا» كما يقول ماكس فيبر عن الاثنية، ومن الممكن أن تيسر الاندماج في جماعة اجتماعية، في المجال السياسي مثلًا، دون أن تؤسس في حد ذاتها مثل هذه الجماعة. وبالطبع فإن أيًّا من تلك الهويات لا تستنفد على أي حال تلك التشكيلة الكبيرة من الهويات. والتفكير الثقافي الانغلاقي أخرق لأنه لا يكتفي بتحويل الهويات المتغيرة باستمرار إلى مسألة لا ترتبط بالزمن، بل وتتستر على العمليات الملموسة التي يعرف أنفسهم بها مجموعة من الأفراد أو فرد واحد في لحظة تاريخية معينة، وفي ظروف محددة ولفترة محدودة. ولنكرر مرة أخرى أنه الواضح تمامًا أن جماعات من الهوتو قتلت جماعات من التوتسي في رواندا باسم الهوية الاثنية لكلٍّ من الطرفين، وسيتعين تحليل ذلك عندما يحين الوقت. ولكن إذا كان كلٌّ من الطرفين لا ينساق إلا وراء هذا البرنامج الخاص بالهوية، لما استطعنا أن نفهم لماذا انتظرا طويلًا قبل أن يتقاتلا، ولماذا لم يعمد بعض الهوتو إلى القتل، وذلك بالاستناد إلى خطوط أخرى تتعلق بالهوية خلافًا لانتمائهم الاثني (إيمانهم بالمسيحية، أو بالمثل الديمقراطية أو بالقومية الرواندية)، كما أننا سنجد بعض المشقة لنفهم لماذا أقلع الكاثوليك عن مقاطعة البروتستانت، وكيف تصالح الفرنسيون مع الألمان.

ويصادف باستمرارٍ كل من يدرس مجتمعًا ملموسًا مثل هذه التحولات بل وتلك القفزات من وضع متعلق بالهوية إلى وضع آخر. ويحكي ضابط من زائير كان يهرب من المتمردين في كيفو خلال الستينيات وفاجأته عاصفةٌ وسط بحيرة ألبرت، فيقول: «لقد ألمَّ بنا الأسى لأننا سنموت غرقًا بالتأكيد. وكان الجميع قد عادوا من جديد إلى المسيحية.»94 والمقطع الخاص بتغير الهوية في هذا المثال قصير للغاية، غير أنه يفصح عن مسارات حقيقية متعلقة بالهوية على المدى الطويل، ومنها مثلًا ما يتعلق بالصينيين، في جنوب شرق آسيا. كان التجار القادمون من فوجيان وجوانجدونج من القرن الثالث عشر حتى الخامس عشر قد اعتنقوا الدين الإسلامي نظرًا لهيمنة الإسلام ثقافيًّا وتجاريًّا في المنطقة، ومالوا إلى الاندماج في المجتمع الجاوي. ورغم تشجيع الهولنديين لهم لكي يكونوا طوائف متميزة إلا أن عددًا كبيرًا منهم ظل مخلصًا لرسالة الرسول ولعادات وتقاليد الماليين والجاويين حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر. ونتيجة لتدفق موجات المهاجرين الفقراء والنساء الصينيات في القرن التاسع عشر، والمساندة السياسية من جانب إمبراطورية المانشو، وقيام النظام الجمهوري في عام ١٩١١م، وبالأخص نتيجة لتطبيق المادة ١٠٩ من اللائحة التأسيسية للهند الهولندية ١٨٥٤م التي ميزت بين «الأجانب الشرقيين» و«السكان الأصليين»، عاد أهالي جاوه الصينيون تدريجيًّا إلى أصولهم القومية، وتحولوا تدريجيًّا إلى أقلية اثنية.95 ومن سخريات التاريخ أن أبناء عمومتهم من الهُوِي في الصين الذين ظلوا مسلمين يواجهون مصيرًا مشابهًا إلى حد كبير في ظل أوضاع سياسية واقتصادية مختلفة جذريًّا.96
ولا يمكن فهم تطور أعمال العنف بين الطوائف إذا تم تجاهل التغيرات في مجال الهوية. فالتاجر الذي يتم التعامل معه وتقام معه علاقات اجتماعية في إطار الحي أو القرية يتحول فجأةً إلى العدو المشتبه في شر نواياه، الذي يغتصب أو يقتل.97 وتثير مثل هذه الانزلاقات القاتلة المفاجئة سخط المراقبين الأجانب؛ لأنهم يعتبرون مبدأ وحدة الهوية مسألة مفروغًا منها. ويكون هذا التطور مفهومًا إذا ما اعترفنا بأن كل طرف يعكف على تشكيل الهوية حسب كيمياء الظروف. وهنا تكون فكرة الجماعة عُرضة للأخذ والرد. فهي توحي إلى حد كبير بأننا ننتسب إلى نوع واحد من الهوية يملي علينا مصالحنا وانفعالاتنا، بينما نحن متواجدون في الواقع إزاء «جماعات متعددة متفرقة جزئيًّا، ومتراكبة جزئيًّا».98 ولكن ما جدوى الحفاظ إذن على اصطلاح خادع بالتأكيد؟ وليس المقصود هنا إنكار التأثير الرهيب للهويات التي يستشعرها الناس كأمر جوهري. فبقدر ما يجب أن نقتنع «بالأصل المصطنع للاعتقاد بالانتماء إلى اثنية مشتركة»، بقدر ما يجب أن نعترف أيضًا بأن هذا الاعتقاد فعال، وأن «الترابط العقلاني» يمكن أن يتحول إلى «علاقات شخصية» أو «وعي جماعي».99 والهويات الأولية متواجدة بطريقه ما، كصنائع للوعي وكنظم للذاتية، لا كبنًى. وهي ليست عوامل مفسرة، بل تتطلب إيجاد تفسير لها؛ فالإقرار بأن «الهوية تظل دائمًا مختلطة ومرتبطة بالعلاقات وابتكارية من وجهة النظر الإثنوجرافية» وبأنها «مرتهنة بالظروف وليست جوهرية»100 يتطلب أن نفهم الظروف التي تدفع الجماعة من الناس إلى إدراكها في شكل نواة صلبة وأولية لكي تنساق وراء السحرة الذين يستغلون هذا الوهم لصالحهم.
ويتجلى لنا الآن استنتاج أول يتناقض مع التفكير الانغلاقي؛ فنحن لا ننسب أنفسنا إلى الجوانب الإيجابية للجماعة التي ننتمي إليها أو لثقافتنا إلا من خلال الجماعات والثقافات التي توجد لدينا علاقات معها. وهذه الظاهرة المعروفة جيدًا عند منظري الاثنية أو القومية،101 عامة على نطاق واسع. فالهويتان الكاثوليكية والبروتستانتية في منطقة السيفين مثلًا بفرنسا تتحددان كلٌّ منهما بقدر أكبر بالنسبة للأخرى، بالمقارنة مع ذات كلٍّ منهما وبالنسبة لعقيدة كلٍّ منهما.102 والجمع بين تأكيد الهوية وحدودها يلقي الضوء في آنٍ واحد على نمو الهويات الخاصة في كنف الدولة وعلى تراجع الهوية المواكب للعولمة؛ ففي كلتا الحالتين يعني التوسع في حيز مرجعية العناصر الاجتماعية الفاعلة أن تصبح على علاقة جماعات أخرى، وعادات ثقافية أخرى.
وهكذا يعاد إلى الأذهان، ومن زاوية مختلفة، أن «الثقافة» التي يجري الانتساب إليها والتشبع بها تتكون هي نفسها من استعارات ولا تتواجد إلا من خلال علاقتها مع الآخرين، وهي علاقة ليست نزاعية بالضرورة وإن كانت كذلك في بعض الأحيان. فإنتاج الهويات، أي إنتاج الثقافات، يعكس أيضًا العلاقة مع الآخرين، كما يعكس العلاقة الذات. وعليه فإن هذا الإنتاج يصدر بلا شك عن حواشيهما وتجاويفهما التي تتجه إليها أنظار أنثروبولوجيا ما بعد الحداثة.103

لوائح الفكر أم لوحات الوصايا العشر؟

وعليه فإن «الثقافة» ليست الامتثال أو التماثل بقدر ما هي العمل؛ عمل الجديد باستخدام القديم، وأحيانًا أيضًا عمل القديم باستخدام الجديد، وعمل ما هو ذاتي عن طريق الآخر. وأخيرًا تسوق النزعة الثقافية الانغلاقية تفسيرًا خاطئًا بأن تنسب إلى مثل تلك العمليات الثقافية، التي لا تفهم منطقها، توجهات سياسية محدَّدة بدقة. فالرأي العام الفرنسي الذي يفزعه الإسلام بربطه بممارسات ومعتقدات معينة — عزل النساء، والجهاد المقدس، وقطع يد السارق، والإيمان بالقضاء والقدر — قد يصبح تفكيره أقل آليةً لو أنه تذكر أن المسيحية أضفت الشرعية على الأحمر والأسود، وفي آن واحد في الكثير من الأحوال. وكان الأمر على هذا النحو في المجال الاجتماعي؛ فقد رأينا الكاثوليكية البريتانية المناهضة للثورة وللجمهورية والمساندة للسلطة المطلقة للكنيسة، تتحول إلى عامل تحديث وتقيم الحركة النقابية الزراعية الأشد تقدمية في عصرها، وتنشئ صحافة مستقلة وتفتح الطريق أخيرًا للتصويت لصالح اليسار.104
وعلى الصعيد السياسي البحت دون الرجوع إلى الحروب الدينية التي أباد فيها الفرنسيون بعضهم البعض باسم نفس الإله القدير، تجسدت العقيدة المسيحية في اختيارات متنافرة ومتصارعة أحيانًا. وعلى سبيل المثال تداخلت قراءتان متضاربتان للكاثوليكية في ظل نظام فيشي المتعاون مع الألمان خلال الحرب العالمية الثانية؛ فالهزيمة التي لحقت بفرنسا كانت من وجهة نظر المارشال بيتان جزاء تدهور الأخلاق في البلاد: «لقد دمر التطلع إلى الملذات ما أقامته روح التضحية […] لقد تعذبتم، وستتعذبون أيضًا!» وقد حظيت «لغة الاستتابة» هذه بترحاب الكنيسة وأغلبية المؤمنين، خاصة وأن الجمهورية أفلست في نظرهم في إثبات شرعيتها وأن الحكومة الجديدة لا تطالبهم بشيء.105 ومع ذلك فإن عددًا من رجال الدين والمثقفين الملتفين حول مجلتَي إسبري وكابيه دوتيموانياج كريتيان، وبعض الشباب الذين تدربوا في منظمات العمل الكاثوليكي، سرعان ما نأوا بأنفسهم عن أيديولوجية النظام «الفاضل» الجديد وانحرافه العنصري الذي اعتبروه «هجمة وثنية رهيبة». وتمكنت حركة المقاومة من اللجوء إلى لغة العقيدة وسط جماهير المؤمنين، حتى وإن عانت من ذلك روح التراحم كما يتبين لنا من هذين المنشورين المخطوطين اللذين تم توزيعهما في بيزانسون في عام ١٩٤٣م:106

إخوتي الأعزاء

لن نحتفل هذا العام بعيد الميلاد. فقد تم ترحيل العذراء والطفل يسوع. والقديس يوسف في معسكر الاعتقال، والمذوذ صودر، والملوك في إنجلترا، والحمار في روما، والبقرة في برلين، والملائكة أسقطتهم المدافع المضادة للطائرات، والنجوم معتقلة بقرار من رئيس الدولة، ولنصل الآن …

أبانا ديجول الذي في إنجلترا، المجد لِاسمك، والنصر لك في البر والبحر والأجواء. أعطهم اليوم حصتهم اليومية من الغارات، ولترد العذابات التي ساموها للفرنسيين مائة مرة، ولا تتركنا تحت رحمتهم، وخلصنا في الألمان.

آمين.

والواقع أن كل عقيدة دينية وكل تصور ثقافي، وكل خطاب أيديولوجي، وكل نص أدبي وكل رمز، يمكن أن يفسر بشكل مختلف أو معاكس من جانب الأفراد أو الجماعات التي تستند إليه. وقد سبق أن أشرنا إلى أن أعمال جان جاك روسو، عشية الثورة كانت تقرأ في شتى الأوساط، ولم يكن أنصار الجمهورية المتحمسون والأرستقراطيون يستخلصون منها على الأرجح نفس الدروس … وقد لاحظ بعض المؤرخين أن النبلاء المهاجرين ومن صدرت ضدهم أحكام كانوا يملكون في مكتباتهم المؤلفات التي تحظى بتقدير الثوريين. وكان ضدهم المارشال دي بروجلي يدرس الإنسيكلوبيديا في السجن، كما كان لويس السادس عشر يدرس مونتسكيو وفولتير.107 وقد كتب توكفيل يقول: «والواقع أن كل الأشخاص الذين يوجدون أعلى من الشعب يتشابهون؛ فأفكارهم وعاداتهم وأذواقهم كانت واحدة، وكانوا في وضع يكبون على نفس الملذات ويقرءون نفس الكتب ويتحدثون بنفس الطريقة.»108 ومع ذلك فقد تقاتلوا بضراوة.
ويؤكد عصر النهضة مدى المرونة السياسية للأشكال الثقافية. فعندما دخلت إليزابث الأولى لندن مظفرةً في عام ١٥٥٩م بعد عودة السلطة الدينية إلى الكنيسة الإنجليكانية، احتفظ هذا الاحتفال بطرازه القوطي بعد أن تجرد بالكاد من أبهته الكاثوليكية. ولما كان الإصلاح البروتستانتي يدين التصوير الديني والاحتفاليات الدينية، فقد استعانت الملكية بكل يسر باحتفالات القرون الوسطى لتمجيد الملكية البروتستانتية، فنظمت العروض لتكريم الملكة العذراء (أُطلقت هذه التسمية على إليزابث الأولى لأنها لم تتزوج ولم تترك وليًّا للعرش) خلال زياراتها لمملكتها.109 والواقع أن هذا العصر المتشبع بالفلسفة الأفلاطونية الجديدة كان مواتيًا لعمليات تحويل المعاني: «ففي جميع أنحاء أوروبا استخدم دارسو الآداب القديمة والمؤلفون نفس المصادر والصور للتعبير عن مثلٍ عليا مختلفة تمامًا عن بعضها، حسب الأزمنة والأماكن والظروف. وهكذا غدا بإمكان نفس الشخصيات الأسطورية ونفس الصور الرمزية أن تغير مغزاها تمامًا، وتعين عليها أن تتلاءم باستمرار مع مختلف المناسبات.»110
كما أن تحليل العالم المعاصر لا يتيح هو أيضًا التوصل إلى الاستنتاج القائل بوحدة المعاني السياسية ﻟ «الأديان» أو «الثقافات» أو «الحضارات» التي يؤكد هانتينجتون أن تصادمها حتمي. ولنحاول مثلًا أن نطمئن أجهزتنا الغربية الخاصة بالاستخبارات المقتنعة بالتهديد الذي يشكله «الإسلام الثوري» الإيراني بالنسبة لبقية العالم. لقد ألهمت العقيدة الشيعية دائمًا أنواعًا عديدة من المواقف السياسية التي لا تتلخص إطلاقًا في ذلك الارتياب المتوارث تجاه السلطة الزمنية.111 وبعبارة أخرى لم يكن لدى العقيدة الشيعية استعداد خاص أو متميز للقيام بالثورة الشعبية في عام ١٩٧٨م. فقبل هذه الثورة ببضع سنوات، كان الفيلسوف علي شريعاتي — الذي كان يحاول التوفيق بين الإسلام وبين التزام أصيل من الطراز الخاص بالعالم الثالث — لا يرى أنه من المهم أن يدين التوجهات «الشيعية الصفوية» لدى مواطني بلده الذين كانوا يتواطئون مع النظام الملكي. غير أنه دخل أيضًا في نزاع مع آية الله مطهري الذي كان يفزع من تطرفه، وأصبح فيما بعدُ أحد المفكرين الرئيسيين للثورة الإسلامية القادمة، وذلك قبل أن يسقط طلقات رصاص ثوريين مسلمين آخرين.112 وبمجرد قيام النظام الجديد، اختلف قادته، رغم كونهم جميعًا من الشيعة، ليس فقط حول القضايا المتعلقة بالسياسية الاقتصادية أو الخارجية، بل وأيضًا حول مبادئ الشرعية الإسلامية التي ينادون بها؛ فما كان يمكن أن يرحب الفريق المحافظ أو الداعي للطمأنة من بين رجال الدين بالابتكار الخوميني المسمى ولاية الفقيه. وقد عبر كلٌّ من آيات الله خوي وقومي وشريعات مداري عن تحفظاتهم، فدفع الأخيران حريتهما ثمنًا لموقفهما، كما أن الحوجاتية، وهي جمعية دينية ذات نفوذ تأسست في عام ١٩٥٣م لمكافحة البدعة البهائية ونشر الإسلام الشيعي والدفاع عنه بطريقة علمية، رفضت الاعتراف بآية الله كإمام حتى أجبرت على الاعتذار علنًا، والتوقف رسميًّا عن مزاولة نشاطاتها في عام ١٩٨٣م. وقد أملت تحفظات هذا التيار إزاء ولاية الفقيه اعتبارات دينية قبل كل شيء، حتى وإن كانت مصحوبة برفض تأميم الاقتصاد وتحقيق الإصلاح الزراعي، وتعدي السلطة السياسية على المجال الخاص باسم الحقوق المقدسة للأسرة والملكية الخاصة.113
وسيتعين بالطبع التوصل إلى تقدير لتعقيدات فكر الإمام الخوميني. ولا تعنينا من أعماله سوى نصوصه السياسية، وهي بالأساس تعاليم شفوية دوَّنها تلاميذ في عام ١٩٧٠م في النجف، ثم تم نشرها باللغتين الفارسية والعربية مع استبعاد مؤلفاته الفلسفية والفقهية ذات التوجهات الأفلاطونية الحديثة والأرسطوطالية، وقصائده الصوفية وفقًا للتقاليد الشيعية العرفانية والباطنية.114 وفضلًا عن ذلك فقد اتخذ الخوميني القائد مسلك الجافنمرد، أي «الفارس المرافق»، جنبًا إلى جنب وضع الإمام المرسل. فأسلوبه في ممارسة السلطة، في خلفية مسرح الأحداث، مع الاعتماد على «بيت» الأوفياء الذين ينقلون عنه ويلجئون إلى التحكيم بين الفرق المتنافسة، يعيد إلى الأذهان تقاليد جماعات الفتوة التي لا تتعارض بالطبع مع الإسلام وإن كانت لا تعني أنه يقتصر عليها.115
وقد تميَّز مسلك الخوميني بصلابته المفرطة حتى سقوط النظام الملكي، ثم أعطى البرجماتية نصيبها الوافر — فيما عدا مسألة وقف إطلاق النار مع العراق — وامتثل على الأقل للوضوح الساطع للعقيدة الشيعية (أو «الإسلام الثوري») وكذلك للضرورات التي تفرضها الظروف. وقد تظاهر في مرحلة أولى بأنه يظل «فوق السياسية»، ومنع آية الله بهشيتي، قائد حزب الجمهورية الإسلامية من ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة في يناير ١٩٨٠م، وطلب من كبار رجال الدين الآخرين بألا يشغلوا أي مناصب رسمية بارزة. ولم يصبح تولي رجال الدين زمام السلطة، وبالأخص تولي آية الله خاميني رئاسة الجمهورية ممكنًا إلا بعد موجة الاغتيالات التي قضت على قيادة حزب الجمهورية الإسلامية والحكومة في صيف ۱۹۸۱م. وفي الفترة التي تلت ذلك تم فرض ولاية الفقيه كعقيدة أيديولوجية ومبدأ دستوري، وتم قمع رجال الدين الذين أصروا على رفض هذا المبدأ مقتفين بذلك أثر آية الله شريعات مداري، فتم قمعهم بلا رحمة. غير أن الإمام الخميني لجأ إلى تراجع أخير، فأعاد النظر جزئيًّا في المبدأ الدستوري لولاية الفقيه عشية وفاته، على أمل الحيلولة دون وقوع مصير الجمهورية في أيدي فصيل رجال الدين المحافظ.116
وعليه، هناك قدر من التعسف في تصوير قيام الجمهورية الإسلامية كانتصار آلي للإسلام على الدولة في ختام معركة تواصلت طوال عدة قرون. لقد تسببت الثورة الإيرانية في إخضاع الدين للسلطة بقدر أكبر من استيلاء الدين على السلطة، نظرًا لأن المجال الإسلامي يخضع فضلًا عن ذلك لبيروقراطية الدولة ومركزيتها.117 كما أن المذهب الشيعي الذي ساهم في التوحيد الثوري للمؤمنين في سنتَي ۱۹۷۹-۱۹۷۸م بفضل توفر ظروف عارضة، قسمهم سياسيًّا. والواقع أن صورة الإمام الحسين الذي استشهد في كربلاء في عام ٦٨٠ ميلادية ويحتفل كل عام بهذه الذكرى بكل ورع في يوم عاشوراء ملتبسة، فقد هيأت لمتظاهري عام ١٩٧٨م وللشباب المناضل في الحرب ضد العراق رمزًا تعبويًّا لقدرهم. ومع ذلك تظل صورة الحسين أيضًا نموذجًا وشاهدًا على التصدي للظلم ومن أجل الحق، كما يمكن أن ينظر إلى الحسين كمجرد شفيع، في إطار إيمان صوفي. والتفسير الأول يبرر الالتزام النضالي، بينما يتوافق التفسير الثاني مع المقتضيات الكلاسيكية لعلاقات التبعية.118 ولن نقاوم من جانبنا الرغبة في استكمال خلط أوراق أصدقائنا أصحاب المفاهيم الثقافية الانغلاقية بأن نشير إلى أن السنيين من غير الإيرانيين بل والمعادين ﻟ «الثقافة الشيعية» يتشفعون إلى الحسين. وقد تمت الاستعانة به في تركيا المجاورة ليتوافق مع انضمام الأقلية العلوية إلى علمانية كمال أتاتورك، بل وأيضًا مع النقد الماركسي-اللينيني للدولة الرأسمالية، كما جرى في السبعينيات، وهو لم يحل أخيرًا دون أن تتصارع الميليشيتان الشيعيتان الرئيسيتان في لبنان: أمل وحزب الله.119
وعلى أي حال فإن الإمام الحسين ليس النموذج الوحيد الذي يعرضه المذهب الشيعي على المؤمنين به. فقد كان مهدي بازرجان، الزعيم التاريخي لحركة التحرر الوطني الذي تولى رئاسة الوزارة لفترة قصيرة بعد ثورة ١٩٧٩م، يعتب على شريعاتي تناسيه للحسن، الابن البكر للإمام علي بن أبي طالب الذي تصالح مع الخليفة الأموي بعد مقتل والده، وانتقل إلى المدينة وفضَّل السلام (وربما ملذات الحياة أيضًا) على الاستشهاد.120 كما أن آية الله شريعات مداري الذي أخذ عليه موقفه المعتدل إزاء النظام الملكي، استند هو أيضًا جزئيًّا إلى مثال الحسن المتسامح.121
وتُجرى المناقشات حول «اللغة السياسية للإسلام»122 في مجموعها، وينطبق ذلك مثلًا على مفهوم الجهاد الذي يثير لدى الرأي العام الفرنسي رد فعل بافلوفيًّا. وحتى لو تركنا جانبًا أغلبية علماء الأزهر والجماهير المصرية التي ترفض التطرف الإسلامي، فإن الجماعات المتشددة التي أنكرت شرعية النظام الناصري وما بعده لا تتفق معًا حول مفهوم الشرعية والاستنتاجات العملية التي يمكن استخلاصها من ذلك. فالجهاد في مفهوم سيد قطب المفكر الكبير الذي أُعدم في ١٩٦٦م، يشمل طائفة من الممارسات التي تسمح للمؤمن الحقيقي بأن يخرج على الجاهلية الكافرة، بدءًا بالجهد الفردي بالاحتكام إلى القرآن حتى حمل السلاح ضد هذه الجاهلية:
«وقيام مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء قوانين البشرية، كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان؛ لأن المتسلطين على رقاب العباد والمغتصبين لسلطان الله في الأرض لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض!»123،  (٥)
وكان يتعين على ورثة سيد قطب أن يقرروا كيف يكون التطبيق العملي لمعالم الطريق هذه. فقد اختار مثلًا شكري مصطفى، زعيم الجماعات الإسلامية، استراتيجية التفكير والهجرة، في التصدي للدولة الكافرة، ورفض، على عكس الإخوان المسلمين أن الأولوية في الجهاد نحو استعادة الأراضي التي تحتلها إسرائيل؛ إذ أعلن أمام القضاء العسكري الذي حاكمه: «إذا جاء اليهود أو غيرهم فلن تسعى حركتنا للحرب في صفوف الجيش، بل بالعكس ربما قد نلجأ إلى الهرب لموقع آمن. وبشكل عام فإن خطنا هو تجنب العدو الخارجي والداخلي المتشابهين، وليس مقاومتهما.»124 وفي المقابل فإن عبد السلام فرج، منظر المجموعة التي دبرت اغتيال أنور السادات، كان يعتبر الجهاد «الفريضة الغائبة»، مستمسكًا في ذلك حرفيا بأفكار ابن تيمية؛ فالجهاد هو العصيان المسلح ضد الجاهلية، وقتل الفرعون. وقد طعن مؤلَّفه في التعريفات التي كانت تفضلها المنظمات الإسلاموية الأخرى لخروجها بالأخص على الطريق الذي رسمه مؤلَّف سيد قطب الأساسي.125
ويُفضي تعدد معاني اللغة السياسية الإسلامية إلى عدم تحديد فحواها. وهو يتيح بذلك الاشتقاقات والانزلاقات والتوافقات والتحولات في المعاني نظرًا لأن المسلمات الثقافية المتحجرة تحول دون التشكك فيها، كما أن التراكيب التي اعتدنا التفكير من خلالها تجهلها. وعلى سبيل المثال يبدو لنا أنه ليس هناك ما هو أوضح من المعركة بين الإسلام والعلمانية في تركيا. ومع ذلك لا يمكن إنكار خطوط التواصل بين الإمبراطورية العثمانية والجمهورية. وهناك «التفاهمات العميقة» بين الأخلاقيات الإسلامية والكمالية (نسبةً إلى كمال أتاتورك). فبفضل هذه الجسور، وأيضا بفضل إرساء قواعد الديمقراطية وقيام المجتمع الجديد، تمت صياغة العلاقة بين الإسلام والجمهورية. فقد تبنَّى الإسلام هناك جانبًا كبيرًا من الفكر الوضعي للجمهورية ونشط من خلال جمعيات سياسية مشروعة، بينما راحت الدولة «تتأسلم» تدريجيًّا، وإن ظلت «جمهورية» مع ذلك. ويتم التفاوض من جديد حول العلاقات بين السلطة والدين في ظل التوترات، بينما يتزايد نفوذ حزب الرفاه والجمعيات الدينية، في إطار النظام البرلماني.126
ويبدو أن مصر تشهد تطورًا يمكن مقارنته بما سبق من حيث إنه يؤكد الجمع بين المفاهيم الإسلامية والأيديولوجيات العلمانية، ويختلف عنه من حيث إن هذا الجمع أدى، في اتجاه آخر، إلى توجه سياسي يجعل مقرطة النظام فيما بعدُ مسألة مشكوكًا فيها إلى حد كبير؛ فقد تولى عبد الناصر السلطة بمساندة الإخوان المسلمين، ونشر أيديولوجية حنبلية جديدة وتيمية لإضفاء الشرعية على عروبته وعلى نظامه المهيمن على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، مع قمعه لحلفاء الأمس، وهكذا نشر بذور التشدد الإسلامي في السبعينيات الذي تجد حكومة السيد مبارك، الضعيفة سياسيًّا، مشقة في تحجيمه.127 ومن المعروف أن النظام الجزائري متهم هو أيضًا باحتضانه بيضة الأفعى قبل أن ترتد ضده.128
ويساعدنا ماكس فيبر على تحاشي أي تفسير خاطئ عندما يتحدث عن «الغموض الشائع في المعايير الدينية أو صمتها بخصوص القضايا الجديدة». وتتمثل النتيجة المنطقية في «التراكم المباشر لقوالب جاهزة، لا تتغير أبدًا، ومتعسفة بشكل مدهش، يضاف إليها عدم التوقع الكامل لما هو سارٍ فعلًا». وقد عرض فيبر بالذات مثال الشريعة لتوضيح قوله: «إنه من المستحيل تقديريًّا أن نقول ما لا يزال معمولًا به الآن في الحالات الخاصة.»129 وليس للإسلام في حد ذاته توجه سياسي. والتشدد المميز لبعض تياراته لا يشكل ظاهرة متجانسة لا على صعيد الأمة الإسلامية ولا داخل كل الدول الإسلامية، كما أنه ظاهرة عارضة تاريخيًّا، تكشف عن «آداب الاقتناع» التي تمنهج الواجب الديني و«تفجر بذلك المعايير الخاصة المقولبة بتوجيه العلاقة الكاملة «والهامة» في مسار الحياة نحو هدف محدد، ألا وهو الخلاص الديني:
«إنها (يقصد الشريعة) لا تقرر «قوانين مقدسه»، ولكن «استعداد داخلي مقدس» يمكن أن تقره مختلف الأقوال المأثورة حسب الظروف. وعليه فإن هذا الاستعداد الداخلي يكون مرنًا وقابلًا للتأقلم. ومن الممكن أن يكون أثره ثوريًّا نابعًا من الفرد، وذلك وفقًا للاتجاه الذي يحدده المسلك في الحياة، بدلًا من أن يكون تأثيره جامدًا وواحدًا في كافة الأحوال. غير أن هذا الاستعداد يكتسب تلك الملكة على حساب جمع من القضايا المكثفة أساسًا والمستنبطة. والواقع أن التوتر الداخلي بين المسلَّمات الدينية وواقع الحياة لا يقل، بل يتزايد على العكس […]، والتوتر الذي يشيعه في العلاقات مع العالم يشكل عاملًا ديناميكيًّا هامًّا للتطور.»130
والإسلام الذي ينتسب إلى «أخلاقيات الاقتناع» هذه، لا يتقيد بالأعراف بحكم الانضباط الاجتماعي أو القهر السياسي، وهو لا يقبل ﺑ «قالب منمط». فهو انشقاق ومصدر للتفرد، يجعل كفة ميزان المجتمع تميل نحو الابتكار لا الموروث. وهو يحث على التغيير بدلًا من أن يؤمن فقط بنقل القيم الماضوية و«العودة إلى القرون الوسطى» التي سئمنا تكرار الحديث عنها. وذلك هو الدرس المستفاد مثلًا من التحليل الدقيق للتحولات الاجتماعية الجارية في إيران منذ عام ١٩٧٩م، أو من خليط الحركات الإسلامية في تركيا، أو من المنظمات الإسلامية في الجزائر.131 أما إذا كان هذا الرد الابتكاري على تحديات العالم المعاصر في شكل ارتداد خاص بالهوية، غير جذاب أو مآله «الفشل»،132 فتلك قضية أخرى ليست قاصرة على المسلمين وحدهم.
وعلى أي حال، لا يمكننا أن نكتفي بصياغة القضية على هذا النحو، كما لو كانت العناصر السياسية الفاعلة تتفاوض مع ثقافتها وحدها. فعندما ندرس مجتمعًا معينًا، نجد أن هناك عدة سجلات ثقافية. وما نسميه «ثقافة سياسية» يكون المحصلة المختلطة بقدر أو آخر لتلك العناصر المتنافرة و«تفاهماتها العميقة» المتبادلة. وعلى سبيل المثال، تتسلط فكرة التضحية على الحياة السياسية النيجيرية، وهي تهيمن على جانب كبير من العلاقات بين العناصر السياسية الفاعلة؛ فالجنرال مرتضى محمد، رئيس الدولة العابر الذي اغتيل في ١٩٧٦م بعد أيام مائتين من الحكم كرَّسها لمكافحة الفساد، يظل المرجع الحتمي بالنسبة للفرق المتعاقبة على السلطة، واستشهاده يشكل صدًى لمقتل القادة الرئيسيين للاتحاد الفدرالي النيجيري في يناير ١٩٦٦م، ولمقتل قاتلهم الجنرال إيرونسي، بعد ذلك ببضعة شهور؛ وصورت حرب منطقة بيافرا على أنها تضحية بشعب إيجبو (وهم أغلبية سكان المنطقة)؛ وتتعرض مدن الشمال دوريًّا لسفك الدماء وإشعال النيران بتحريض من المهدويين الذين يؤمنون لأتباعهم حظوة الانتقال المؤكد إلى جنة الشهداء؛ وعمليات القتل أو الرجم الشعائرية للصوص والسياسيين الفاسدين والسحرة شائعةٌ حسب ما يتردد في الصحف. على أن تلك الممارسات والخطابات تستند إلى التضحية، وهي مهيمنة في التمثلات الثقافية المتنوعة بل والمتعارضة؛ فهناك الأساطير حول أصول أغلب الجماعات الاثنية التي يروج لها العديد من السلفيين، وأعداد لا تحصى من الجمعيات الثقافية بل وأيضًا كُتاب ذائعي الصيت؛ والمسيحية والإسلام يحتفلان بعيد الأضحى وبآلام المسيح؛ وكذلك الحركات الدينية المنشقة التي تسير بقدر قليل أو كبير في ركبهما.133 والابتكار الثقافي المتمثل في إشكالية التضحية يكون مترابطًا في هذه الحالة؛ إذ يسجل التفاعل المتبادل بين خليط من التصورات لا التحول إلى إحداها.
ومن الواضح تمامًا أن العولمة كثفت تلك التراكبات والتنافذات ومنهجتها. غير أن هذه الظاهرة متواجدة من قبل، ويبدو لنا مرةً أخرى أنها ملازمة لواقع الثقافة ذاتها. والإسلام بالأخص ليس عالمًا حضاريًّا موحدًا. ومع أن شعائره تُمارَس باللغة العربية، إلا أنه من الممكن أن يعاش في إطار ثقافة أدبية رفيعة، ومن باب أولى في الحياة اليومية، عن طريق العديد من اللغات الأخرى، وفي مقدمتها اللغتان الفارسية والتركية. ومع حلول القرن الثامن الميلادي أثَّرت ترجمة المؤلفات الفارسية حول فن الحكم وآداب البلاط، وكذلك المؤلفات الفلسفية الإغريقية أثرت على الفكر السياسي ومفرداته عند المسلمين، كما أن الإمبراطوريات الرومانية$$ والفارسية والبيزنطية نقلت إلى العالم الإسلامي العديد من الممارسات الخاصة بالحكم قبل أن تتوصل مرة أخرى الفتوحات التركية والمنغولية من القرن الحادي عشر حتى القرن الرابع عشر، إلى قلب تلك الثقافة السياسية رأسًا على عقب. بل إن المجتمعات الإسلامية وقعت بعد ذلك في براثن التبعية الغربية، واستوعبت طوعًا أو كرهًا العديد من مقولاتها العقلانية.134
وقد ازدهر الإسلام المعاصر فوق ترسبات العديد من تلك الإسهامات رغم تفاخره الكلاسيكي ﺑ «الأصالة». وقد أسرف جمال الدين الأفغاني، وهو من الرواد، في الاستعارة من الفكر الأوروبي حتى إن الشكوك جامت حول إيمانه.135 وعلى أي حال فإن التيارات المتشددة المعاصرة أدخلت في اللغة السياسية عند المسلمين العديد من المفاهيم التي كانت غربية، بدءًا بمفهومَي «الجمهورية» و«الاقتصاد».136 وهكذا نجد أن الأيديولوجية الخومينية مطبوعة بتمثلات العالم الثالث، هذا إن لم تكن تمثلات ماركسية، اكتشفها الإمام بلا شك عن طريق مخالطة الأوساط الفلسطينية أثناء منفاه في مدينة النجف، وتعلمها مريدوه من آية الله شريعاتي.137 ويكون الإسلام من وجهة النظر هذه المتمم للقومية،138 وهو يكافح الغرب شأنه شأن القومية وإن لم يحل ذلك دون انتحاله أفكاره ومؤسساته.
وعليه، يتعين على من يريد فهم «ثقافة سياسية» ما أن يرجع إلى تسلسل المعارف من حقبة إلى حقبة، علمًا بأن هذا التسلسل يتمثل في الكثير من الأحوال في تبادلات بين حضارة وحضارة أخرى. ولا تكون هذه المهمة سهلة دائمًا؛ لأن منطق الانغلاق الثقافي، الملازم لابتكار التقاليد، أدى إلى طمس تلك التسلسلات إن لم يكن قد ساهم بنفسه في تحقيق ذلك. وهكذا أسفر صنع الهوية الهندوكية على يد المستشرقين الأوروبيين ومنافسيهم من سكان البلاد الأصليين إلى عملية إبعاد حقيقية للإسلام من الهند،139 وكانت شبه القارة هذه تُعتبر في نظر المسافرين الغربيين حتى بداية القرن التاسع عشر أرضًا إسلامية، وذلك لسبب واضح، إذ إن الفتوحات المغولية نقلت مركز الحضارة الإسلامية في القرن الثالث عشر من بلاد ما بين النهرين والهضبة الإيرانية إلى دلهي. وكانت شركة الهند الشرقية قد اعترفت بالهيمنة الثقافية للعقيدة الإسلامية بأن تبنَّت في معاملاتها اللغة الفارسية، لغة المثقفين والبيروقراطية في الإمبراطورية المغولية. وعلى أثر سقوط هذه الإمبراطورية في عام ١٨٥٧م عادت الهند تدريجيًّا إلى ماضيها البوذي والهندوسي بإعادة قراءته على ضوء الطائفية تحت وطأة استراتيجيات الهوية. غير أن الراسب الإسلامي الكامن في ذاكرة البلد ما كان يمكن إسدال ستار الصمت عليه. ولا يزال التراث الإسلامي ملحوظًا خلف الموروثات «الفيدية» والبريطانية في لغة السياسية وفي التقنية الإدارية وفي تصميم مجالات السيادة، وفي اندماجه في الاقتصاد التسويقي الآسيوي. ومما له مغزاه أن أسرة نهرو منحدرة من سلالة موظفين تابعين للإمبراطورية المغولية، أو أن المغزل، الرمز المتميز للغاندية، والمسمى باللغة الهندية (وهي اللغة الرئيسية في الهند) بكلمة كارخا الفارسية، كان المسلمون قد أدخلوه في المنطقة. والواقع أن الهند تأسست من القرن الثالث عشر حتى القرن التاسع عشر انطلاقًا من التوافق والتنافذ بين التمثلات الاجتماعية للهندوسية والإسلام، مع أنه يقال عنها اليوم إنها متضادة. ففي هذا العالم السابق على الاستعمار البريطاني والأشبه ﺑ «مجرة». لم يكن لاختلاف وجهات النظر الدينية الأهمية التي اكتسبتها من خلال الإشكالية القومية، وعبر إضفاء التصور الأيديولوجي على الهويات الدينية: «فقد كان لكلا التراثين مفاهيم متماثلة بخصوص الحياة الدنيوية تعتبر الشخصية المعنوية للإنسان والمجتمع كلًّا عضويًّا متدرجًا هرميًّا.»140
وتنعقد بالأخص العلاقات المتشابكة بين التحرك السياسي والسجلات الثقافية في غبش المياه المختلطة ببعضها، والتي لن تكفي أبدًا كافة التطهيرات الاثنية لتحويلها إلى مياه رائقة. لقد تخلى الجيولوجيون من جانبهم عن افتراض وجود نواة ملتهبة في جوف كوكب الأرض. أما أنصار الفكر الثقافي الانغلاقي فيؤمنون بقوة بوجود مثل تلك النويات المتوهجة في صميم أعماق الثقافات. والواقع أن هذا المفهوم هو المثير للقضية، وهو يستحق بلا شك أن يتم التخلص منه، لو كانت المفردات قابلة للتحلل، فهو يرسخ في أذهان من يريدون أن يقطعوا المفهوم الثقافي المتشدد، وأوهام الكليات والاتساقات الثقافية، بينما يتوجب التعبير عن عدم القطع وعدم الكمال والتعدد. ويلاحظ بول فين «أن حياتنا اليومية مكوَّنة من عدد كبير من البرامج المختلفة»، وأننا «ننتقل باستمرار من برنامج إلى برنامج آخر، كما نغير أطوال موجة المذياع، غير أننا نفعل ذلك دون أن ندري».141 وقد آن الأوان لاقتراح مسعًى يتيح التوصل بأقل تكلفة إلى الموجة الملائمة في حلبة السياسة.

العرض السياسي

نحن نعلم بفضل علم اللغويات، في أعقاب فردينان دي سوسور، أن قراءة النص تكون بمثابة إنتاجه، وينطبق ذلك أيضًا على الاستماع. ويتحدث الإخصائيون من الآن فصاعدًا عن «القياس الموسيقي» لكي يشيروا إلى أن المستمع يتفاعل. وربما يتعين علينا أن نذكر «القياسات السياسية» لكي نبرز أن استقبال الظواهر الثقافية، والأيديولوجيات، والمؤسسات لا يكون سلبيًّا أبدًا، ويساهم في تكوينها. فمما لا شك فيه أن العلم السياسي متأخر بالنسبة لعلوم أخرى — ومنها بالأخص التاريخ والأنثروبولوجيا — في استكشاف هذه المعالجة، حتى وإن كان فهم الأوضاع التسلطية قد تجدد إلى حدٍّ ما خلال الثمانينيات.142 فلنقبل إذَن الفكرة القائلة بأن المجال السياسي هو قبل كل شيء مجال عرض، وأن التعامل مع الجانب السياسي، ودراسة «الأساليب الشعبية للتحرك السياسي»، والتمييز بين «بناء» الدولة و«قيامها» كلها ضرورات نابعة من تلك البداهة، وليس من مفهوم شعبوي للعلوم الاجتماعية.143
والخضوع هو في حد ذاته نوع من التحرك. ففي عنابر النوم بجنوب أفريقيا، وهي أشبه بمعتقلات كدَّس أرباب العمل البيض داخلها اليد العاملة — بالمعنى الحرفي للكلمة: ۲٫۸ فرد للسرير الواحد في عنبر بإقليم الكاب الغربية — يلجأ المقيمون في هذا الحيز الأشبه بالسجن إلى إعادة تنظيم أماكن الأسرَّة والدواليب لتوفير الحد الأدنى من الخصوصية وتهيئة أماكن لإعداد الطعام.144 كما أن المحتجزين في السجون يبذلون الجهد لتحسين ظروف معيشتهم في نطاق أسرهم.145 والواقع أن الأمر ينطبق على الثقافة لو أننا تمسكنا بتعريفها كموروث، و«كسجن أبدي» لا فكاك منه. فالممارسات المعبرة لا تكف عن إعادة صياغة هذا الغُل الذي يقيد الحركة. وتبني تصور ثقافي ما يعني في الواقع إحياءه من جديد. وعليه فإن فكرة «مخلفات الماضي» الثقافية أو فكرة «التبعية» الثقافية، مثلًا، غير صالحة على وجه الإطلاق. فالواقع أن استخراج نص أو رمز من طيات الماضي السحيق، أو استيراد أيديولوجية أو مؤسسه معناه إحياؤها من جديد. وقد أفادنا أصلًا مسار الهند بالكثير حول هاتين النقطتين؛ فقد أعاد القوميون الهندوس تفسير عصر الفيدا الذهبي، الذي يحظى بتقديرهم، على نطاق واسع. ولم يعد هناك سوى قدر مشترك ضئيل بين نظامهم البرلماني وبين نموذج وستمنستر الذي تلقوه من البريطانيين. ويتعين أن نتقدم في هذا الاتجاه لتوضيح العلاقة بين الثقافة والسياسة بالاستعانة أساسًا بأعمال ميخائيل باختين.146
ولنضع في اعتبارنا أولًا ونهائيًّا تباين طبيعة الجوانب الثقافية في المجتمعات السياسية. فهذه الجوانب لا تشكل كلًّا ثقافيًّا برمَّته؛ إذ تضم في طياتها عدة «أنواع استدلالية» للسياسة، ليست لا نهائية، ولكنها لا تقبل نظريًّا أن تحل إحداها محل الأخرى. فالنوع الاستدلالي في السياسة يقابله طراز مستقر نسبيًّا من الصيغ المتجانسة بقدر كبير أو قليل، ومنها مثلًا الصيغ الإسلامية والمسيحية والهندوسية والكونفوشيوسية والقومية والليبرالية والماركسية-اللينينية … إلخ. «كل صيغة فارقة تكون مفردة، ولكن كل مجال لاستخدام الكلام يهيئ أنماطًا من الصيغ المستقرة نسبيًّا، وهي ما نسميه الأنواع الاستدلالية.»147 وهناك ملحوظة أساسية، ألا وهي أن الأنواع الاستدلالية لا تقتصر في مفهومنا على التعبيرات الصريحة الشفوية أو المدونة، بل تمتد أيضًا لتشمل طرقًا أخرى للاتصال، الإيمائية منها مثلًا والموسيقية والثيابية (المتعلقة بالثياب).
ويعتمد تغير البنية المؤسسة لأي مجتمع على تعدد الأنواع الاستدلالية التي لا يمكن اختزالها؛ أي على عدم التجانس الجذري الذي يستبسل في إخفائه التوجه الثقافي الانغلاقي هو وغيره من تيارات العلوم الإنسانية. لكن وجود عدد محدود من الأنواع الاستدلالية يميل في الوقت نفسه إلى الحد من هذا التغيير في البنية بأن يقترح على العناصر الاجتماعية تشكيلة من تلك الأنواع. وقد كتب باختين يقول: «كل نوع، لو كان فقط نوعًا أساسيًّا، يكون نظامًا مركبًا من وسائل وطرق للتوصل إلى الواقع لإتمامه وفهمه في الوقت نفسه. فالنوع هو مجموع وسائل توجه جماعي في الواقع وبنظرة اكتمال.» وقد التقط تودوروف هذا التعريف بطريقة موفقة بشكل خاص فيما يتعلق بنا: «فالنوع يشكل إذن نظامًا مُقَولبًا يقترح «صورة متخيلة للعالم».»148 على غرار الماركسية مثلًا، وكل الأيديولوجيات المتعلقة بعوالم محدودة.
ومن جهة أخرى، تتدخل عوامل التهجين بين الأنواع، بالأخص بين الأنواع الأصيلة وتلك المستوردة: «نحن نطلق تسمية البناء المهجن على النص الذي يخص بسماته النحوية والتكوينية متكلمًا ما، وإن كان يختلط فيه في الواقع نصان، وطريقتان في الحديث، وأسلوبان و«لغتان» وأفقان ودلاليان وتقديريان.»149

وهكذا يتعين على المحلل أن يحاول وضع قائمة ﺑ «الأنواع الأساسية» في السياسة التي تتعايش معًا في مجتمع معين بالاستدلال على أصولها — الأصلية أو المستوردة — والظروف التاريخية التي أدت إلى تبلورها أو تهجينها. ويتيح مثلًا هذا النوع من المعالجة إمكانية تبيان أن «الثقافات الأفريقية» عبارة عن تجميعات مختلفة لأنواع سياسية غير متجانسة، لا يمكن إدخال جزئياتها في تصور عام مثالي للثقافة الأفريقية؛ فالأنواع الأساسية ليست واحدة في كل مكان (السجلات القومية والبيروقراطية في الكاميرون، والماركسية والسحر في الكونغو، والنبوئية في زائير؛ والسجل المسيحي في كينيا … إلخ)، والميراث الاستعماري الدخيل متباين هو أيضًا (اليعقوبية الفرنسية، والإدارة الإنجليزية، ونظام الطوائف الحرفية في ظل حكم سالازار بالبرتغال)، وقد اغتنى بأنواع جديدة (النموذج الفدرالي الأمريكي في نيجيريا، والماركسية اللينينية في أثيوبيا وأنجولا والموزمبيق والكونغو وبنين)، والسجلات الأصلية ليست متجانسة بقدر أكبر، وإمكانات التهجين عديدة (فالغيب متعايش اليوم في الكونغو مع الديمقراطية الليبرالية، كما كان متعايشًا بالأمس مع الماركسية التي كانت هي أيضًا على صلة قوية بالسجل المسيحي للكنيسة القبطية في أثيوبيا. وفضلًا عن ذلك، يبين تحليل الأنواع أن الثقافة السياسية تتطور، وتعيد للأنواع ديناميكيتها؛ فبعض السجلات يتراجع (الماركسية في نهاية الثمانينيات)، والبعض الآخر يستعيد اعتباره (الديمقراطية المتعددة الأحزاب، والقومية الاثنية)، أو يظهر لأول مرة (مسألة المجتمع المدني و«الحكم الصالح» القريب من السجل الديمقراطي الليبرالي وإن تميز عنه، وهو على صلة تهجينية، في رأينا، مع السجل المسيحي للإرساليات البروتستانتية).

وبعد الاستدلال على الأنواع الأساسية للسياسة، يجب أن يهتم التحليل بالعلاقة الحوارية»؛ أي الصلة بين تلك الأنواع من وجهتَي نظر التزامن والتطور اللغوي؛ فبالنسبة للتزامن اللغوي «لا يمكن بصفة عامة أن ينسب أي نص للمتكلم وحده»؛ «فهو نتاج التفاعل المتبادل بين المتكلمين، وبقدر أوسع نتاج كل ذلك للوضع الاجتماعي المعقد الذي نشأ فيه».150 فهو مرتبط باختصار بالنص كما رأينا من قبل بخصوص التعبيرات المتعلقة بالهوية. واختيار الهوية التي نبرزها لا يتوقف فقط على الظرف الذي نتواجد فيه، وعلى المتحدث الذي نكلمه، بل إن ذكر الهوية يتنوع وفقًا لاستقباله بشكل ودي أو عدائي. ومن جهة أخرى، يستند النص في أي تطور لغوي إلى نصوص سابقة؛ فلا يمكن التحدث في نهاية القرن العشرين عن دكتاتورية البروليتاريا أو التطهير العرقي دون أن يكون هذان الاصطلاحان محمَّلين فورًا بالمعنى المشئوم الذي أضفاه عليهما على التوالي كلٌّ من الستالينية والنازية، كما أن معنى هويتَي الهوتو والتوتسي لا تكفُّ عن التغير من عملية إبادة إلى أخرى.

وما نسميه «الثقافة السياسية» يكون الحصيلة المتغيرة دائمًا، وإن ظلت مستمرة نسبيًّا، للتأثيرات العديدة للتفاعل المتبادل بين الكلمات. وهذا هو السبب الذي يجعل الكلمات المتشابهة تكتسب رنينًا مختلفًا بل ومناقضًا أحيانًا من فرد لآخر أو من مجتمع إلى مجتمع آخر؛ فقد سبق أن رأينا أن شخصية الحسين لا تصور بنفس الطريقة في إيران وتركيا، أو في إيران في ظل أسرة بهلوي، وفي ظل الخوميني، هذا عدا اختلاف نظرة فرد أو فريق، بالنسبة لفرد أو فريق آخر. ومن المناسب أن نركز على تلك النقطة لأنها ترسم حدود التفسير الثقافي للسياسة. فمن الواضح تمامًا أن السياق هو الذي يقرر معنى الكلمة؛ أي «كل ذلك الوضع الاجتماعي المعقد الذي نشأ فيه المعنى»، والذي لا يعود بنا إلى البعد التصوري وحده.

ولنعالج حالة النوع الاستدلالي المسيحي، لقد لاحظنا أنه مشبع بمفردات اللغة والأجرومية السياسية في عدد كبير من البلاد الأفريقية، وهو قابل أولًا للتشابك مع تشكيلة من السجلات. وهكذا جمع بيانٌ صدر عن المتمردين خلال الستينيات في كونغو ليوبولدفيل، جمع في جملة واحدة كلًّا من المفردات الماركسية والإدراكات العنصرية والتدين المسيحي التنبئي، بل والمؤمن بحلول الألفية؛ أي مملكة المسيح قبل ألف عام من يوم القيامة، إذ جاء فيه: «إن نظريتنا الثورية تحقق فعلًا التطبيق الصحيح والسليم للماركسية-اللينينية في زمن فكر ماوتسي تونج مع الظروف الملموسة لمجتمع البشر المنتمين للجنس الأسود، ومع روحهم. وهي مع ذلك (أي تلك النظرية) أكثر من هذا؛ لأننا نعيش في ظل بناء الأخوة البرولتارية بالتطبيق العملي والفعال لوصية يسوع المسيح الكبيرة: أحب أخاك كما تحب نفسك.»151 كما تضمَّنت بقية النص سجلات أخرى، منها مثلًا سجل الشعوذة (إن أعداءنا، وهم من الشياطين والأبالسة المفترسين قد أصبحوا في غاية الوحشية) أو سجل الدولة البيروقراطية (استخدام ورق معنون للبيان، واختيار عاصمة، ومشروع بنك للسلام).
وفي مراحل أخرى من تاريخ زائير، وفي ظل ظروف أخرى، نجد أن النوع التنبُّئي — الذي يحيلنا أصله التاريخي في آن واحد إلى أحد التقاليد الأصلية وإلى الإسهام المسيحي — ينصهر في نسق آخر من السجلات. لقد حاول المارشال موبوتو أن يستغل لصالحه تراث باتريس لومومبا، وبيير موللـه، وجوزيف كازافوبو، وصور نفسه عن طريق التلفزيون أو أيديولوجيي حزبه، كمسيح أرسلته العناية الإلهية.152 فقد ندَّد مثلًا في السبعينيات ﺑ «الضربات العشر» التي فتكت بالبلاد، على أن يتكفل هو بتخليصها منها. غير أن طلبة جامعة كينشاسا سارعوا بقلب هذا النعت الديني للنظام للطعن فيه، إذ تحدثوا بازدراء عن إقليم خط الاستواء، مسقط رأس الرئيس، كما لو كان الناصرة أو بيت لحم أو أرض الميعاد، لكي يدينوا عمليات النهب السفيهة التي أكب عليها الحرس المقرب للمارشال موبوتو.153 وفيما بعدُ مارَس إتيين تشيسكيدي بعد تمرده تركيبة عنيدة من السجل التنبئي والمطالب الديمقراطية. ولم تُفقده إنجازاته الضحلة صيته كزعيم للمعارضة ورئيس للوزراء من عام ۱۹۹۱ حتى ١٩٩٤م.

فالتنبئية في زائير «نوع أساسي» متعدد المعاني غير أن سلسلة المعاني السياسية التي تعبر عنها تختلف حسب مستخدميها من المتكلمين، وحسب الحقبة والمكان: القصر الجمهوري أو الحرم الجامعي. وستختلف عن المعاني التي ستكتسبها تلك التنبئية في ظل وضع تاريخي آخر؛ لأن الوضع الاجتماعي المعقد سيكون مختلفًا، ولأن المجال الديني الذي سيرتبط بها بعلاقة حوارية ستكون له خصوصيته، ولأن المتحدثين ستكون لهم شخصيتهم المتميزة التي صقلها تاريخ متميز هو أيضًا.

وفي كوت ديفوار، عمد الرئيس هوفويه بوانيي هو أيضًا إلى تقمص شخص المسيح ولو ببعض التروي. وقد رد ذات يوم على كادر حزبه لتبرير رفضه كتابة مذكراته: «لقد أجبت عليكم دائمًا بدعابة وأنا مبتسم: هناك شخصيتان عظيمتان في العالم لم تكتبا كلمة واحدة، ولا حتى حرفًا واحدًا، وإن كانتا ذلك أكثر الشخصيات المقروءة، محمد ويسوع المسيح (تصفيق). ولكنكم مجتمعون هنا اليوم، شبابًا وكبارًا، أنصارًا لما أقوم به من أعمال» (تصفيق).154 وكان يرى أن خصمه القديم نيكروما كان على أي حال «نبيًّا زائفًا» و«مسيحًا دجالًا».155 والتقاليد التنبئية حية في مجتمع كوت ديفوار، فلم تتوانَ الدولة عن محاولة ربط أهم قساوسة هذا التيار الديني بأجهزتها، كما أن الرأي العام هو أيضًا متأثر بدوره بنقل مفهوم خلاص البشر إلى المجال السياسي. وعلى سبيل المثال، أعلن مضربو فندق إيفوار توبتهم بعبارات مسيحية تمامًا في عام ١٩٨٥م:
«على أثر العديد من النزاعات التي قامت بيننا وبين رب عملنا، قطعنا الحوار برعونة في ۲۳ ديسمبر۱۹۸۲م، فقضينا بذلك على كل إمكانات التفاوض. وبناءً على ذلك اتخذ الحزب والحكومة، الحريصان على الحفاظ على النظام العام والاستقرار الذي تقع مسئوليته على عاتقهما، القرار الذي فرض نفسه. وهكذا فقدَ مئتان وسبعون من زملائنا وظائفهم […] ولكن أيًّا كانت آثار هذا القرار الذي أصابنا، فإننا نظل مدركين بأنه اتُّخذ من أجل المصلحة العليا للأمة، وبالتالي مصلحتنا نحن، وفقًا للمُثل العليا لحزبنا، الحزب الديمقراطي لكوت ديفوار، وزعيمه المبجل […] وعليه فإننا نلتمس العفو من جانب كل أشقائنا، وبالتالي من جانب الرئيس والحكومة، للأخطاء المرتكبة حتى تتاح لنا الفرصة لاستعادة السعادة المفقودة …»156
ومع ذلك، كانت زيارة قصيرة لكوت ديفوار كافية لإدراك أن السجل التنبئي المسيحي كان لا يقول بالضبط نفس الشيء الذي يقال في زائير. وربما كان ذلك راجعًا إلى أنه رغم مغالاة هوفويه بوانيي في إبراز أصوله الملكية، إلا أنه كان سليل أسرة، كما أنه تصنع دائمًا بساطة طبيعية تجاه المسائل المتعلقة بالسلطة، فهو القائل: «أنا لم أصبح زعيمًا بتقلدي أعلى منصب في بلدي. أنا وُلدت زعيمًا.»157 بينما تعيَّن على المارشال موبوتو أن يتصرف كلقيط الطراز السارتري. وربما أيضًا لأن الصفة الرسولية عند رئيس الكوت ديفوار حتى وإن اتسمت إلى حد ما بالتفخيم، إلا أنه كان بوسعه أن يتباهى على الأقل بدوره التاريخي في إلغاء السُّخرة وتحرير شعب بلاده حقًّا في عام ١٩٤٦م، بينما ينجح موبوتو في إشاعة الارتباك بجهره بنبوءته، خاصة وأن مهمة إضفاء الشرعية على تقمص صورة المسيح تجري في زائير في ظل القهر السياسي والخراب الاقتصادي، الأمر الذي يختلف بشدة عن الوضع في كوت ديفوار. وعليه فإن القول لا يكفي دائمًا للعمل.158 فاستخدام نفس المنطوق يكون متغيرًا للغاية لأنه تاريخي، أي فريد. وكان بول فين يقول عنه إنه «طرفة سياسية تخص عهدها، تشكل زخارفها غير المتوقعة مفتاح اللغز».159
في عام ١٩٧٤م قرر الرئيس ماسياس نجيما أنه: «لا إله سوى ماسياس» (No hoy ma’s Dios que Macieas). وفرض على الإكليروس الكاثوليكي الاعتراف من أعلى منابر الكنائس بأن «الله خلق غينيا الاستوائية بفضل ماسياسي»، واستغل في ذلك بالطبع تماثل الصوت بين اسمه ماسياسي وماسياه (المسيح بالإسبانية).160 والحق أنه لم يكن يقول شيئًا مختلفًا عما كان يحرص الرئيس أياديما على أن يقال عنه في توجو، عندما كان يسمى بانتظام «يوشع»، فاتح كنعان، وموسى؛ و«المخلص»؛ وعندما كان نيافة الأب دوسيه، مطران لوميه، يقارنه بالمسيح، وعندما كان يظهر كل مساء على شاشة التلفزيون في هيئة كائن أثيري، يقف فوق سحابة نزلت من السماء وحطت تحت أقدامه..161 ومع أن الرقابة الأيديولوجية والقمع كانا فظيعين في توجو، إلا أنهما كانا مريعين في غينيا الاستوائية، حيث تم الفتك بكل الحاصلين على الدبلومات تقريبًا، وفرض ما يشبه العبودية على كل سكان البلد. وقد اختلفت «اللعبة» السياسية-النبوئية في البلدين. وبالطبع فإن هذا التمايز التاريخي من الطراز المسيحي في كل دولة أفريقية سيكون مادة للحوار بالنسبة للأجيال القادمة، كما أن تماسكه الرمزي سيقل أيضًا. وإذا كان هذا الطراز من البيانات الثابت نسبيًّا لا يتفق مع مفهوم عام للحكم (أو للمعارضة) في أفريقيا جنوب الصحراء، فإنه يمكن أن نتصور أنه سيتخذ في حالات أخرى مسارات سياسية مختلفة؛ ففي المكسيك مثلًا لم تكفَّ النخب الليبرالية، سواء كانت محافظة أو مناهضة للإكليروس، عن اللجوء إلى الخطاب الديني حول الثورة ومصير العالم، المدعوم بأسانيد من التوراة، حيث يبدو الشعب المكسيكي هو أيضًا بملامح شعب إسرائيل المختار، الساعي إلى أرض الميعاد، أرض الديمقراطية والحرية والإخيدو (الأراضي التي تم توزيعها بمقتضى الإصلاح الزراعي).162
والتأويل الثقافي للسياسة ضروري لأن التحرك السياسي ثقافي، كما سنتطرق إلى ذلك فيما بعد. غير أن ذلك التأويل يجب أن يكون مرتبطًا بتاريخ شامل، كما لاحظنا ذلك فورًا فيما يتعلق بالأسطورة الكونفوشيوسية الجديدة في شرق آسيا. ولذا فإن «سياسة ملء البطون» في أفريقيا مثلًا ليست «ثقافة سياسية» وليست من باب أولى أيضًا ثقافة سياسية للفساد.163 إنها نظام تحرك تاريخي يتميز بتفرده من خلال تشابهاته الزائفة.164 فعندما كنت أعد هذا الكتاب، عثرت وسط مجموع بطاقاتي على كلمة نسبتها بالبديهة لأحد الأيديولوجيين الأفارقة المنتمين إلى الحزب الأوحد كلما واصلت قراءتها: «نحن في حاجة إلى كبش، وإلا اجتاحت البلاد قطعان الخراف الماضية أينما وجدت مساعدة ترعى.» والواقع أن ليش فالسا هو الذي تفوه بهذا الكلام في أكتوبر ١٩٨١م.165 فهو كلام يربط المفهوم المسيحي والعبري بالسلطة الرعوية، ويستخدم في ذلك رمز «الكبش» الذي صادفناه في كينيا وكوت ديفوار، من خلال الفكرة الأفريقية للغاية، المتعلقة بأكل المعونة الأجنبية. على أن هذا التقارب في الألفاظ بل وفي المعاني في الخطب السياسية يخفي مسارات تاريخية مختلفة بالطبع حتى وإن كان هدف الاستعارة قابلًا للمقارنة بشكل مثير للدهشة، ألا وهو تبرير الترشيح الأوحد للزعيم وجعله ساحرًا.
والاستخدام المجازي للبطون في السياسة لا يخص أفريقيا وحدها. وكان الشاعر الفرنسي رونسار يسمي الأسياد الإقطاعيين الطغاة «أكلة الرعايا»، وكان أهل توسكانيا يقولون بالمثل في القرن السابع عشر عن آمر منطقتهم بأنه كان «يأكل من كل ما يمر بين يديه».166 وفي كتابه البلوط والعجل، لينين في زيوريخ، كتب سولجينتسين يقول إن أعضاء النومنكلاتورا (القيادة) «يقضمون»، وفي ١٩٩١م كان جورباتشوف يبث شكواه قائلًا: «إنهم يقطعون البلد إلى شرائح كما لو كان كعكة […] وجاءوا ليتقاسوا ويشربوا ويأكلوا، أو ليأكلوا ويشربوا.»167 وفي البرازيل أبدى لولا، القائد النقابي الشهير، دهشته لانغماس الرئيس كولور في الفساد «بنهم غير معقول».168 والكل يعلم في الصين، منذ عهد كونفوشيوس، أن الحكومة الطاغية أفظع من النمر المفترس، والدخول في مكتب مسئول معناه الارتماء بين فكَّي وحش كاسر، وأن المسألة تتلخص في أن الشخص سيأكل أو يؤكل.169 ولم يؤدِّ قيام النظام الجمهوري إلى تحسن الأحوال؛ ففي بداية العشرينيات وصفت الصحف أعضاء البرلمان الذين كانوا يترددون بين بكين وشنغاي للحصول على مكافآت المعسكرين المتنافسين على رئاسة الجمهورية،170 قائلةً إنهم «خنازير تبحث عن غذائها». وبعد قيام الثورة، تساءل مسئول عن سياسة الحزب في الريف أثناء القفزة الكبرى إلى الأمام: «ما معنى الشيوعية؟ طعام طيب أولًا، وليس فقط بقدر كافٍ.»171 والواقع أن الولائم الكبيرة وجلسات الإفراط في احتساء الخمور لا تزال تقليدًا سياسيًّا أساسيًّا في الصين في عهد دنج سياو بنج.172 وكانت استعارة الغذاء، بالإنضاج والأكل، تعبر أحيانًا عن تقلد وظيفة عامة. وكان الحاصل على مرتب من الدولة العثمانية يسمى «أكال العمل» (وظيفهور)، وكانوا يطلقون على مآمير الإنكشارية تسمية مُعدي الحساء، والطباخين، إذ كانوا يرفضون رمزيًّا قبول الأكل الذي يحصلون عليه من السلطان عندما كانوا يزمعون الإعلان عن استعدادهم للتمرد، بدلق محتوى القدر التي أصبحت المعبرة عن هوية فيلقهم ورمزًا لإخلاصهم.173 بل إن جاك شيراك كان يشكو في عام ١٩٨٩م من أن «المجددين» في حزبه لا يعترفون ﺑ «قيمة البطن».174

ويجب ألا يخدعنا تردد هذا الرمز حتى وإن كان مصحوبًا بالتصور الرعوي للسلطة. فنحن نصادف في كل حالة من تلك الحالات ممارسات مختلفة وعلاقات فريدة مرتبطة بالنصوص المستخدمة لأننا نواجه حكايات شاملة مختلفة. فمن جهة يكون لنفس النص صدًى حسب ما يدل عليه من حالة إلى أخرى؛ ففي أفريقيا ترتبط «سياسة ملء البطون» ليس فقط بالإشكالية الرعوية للسلطة كان نيكروما «الأوساجييفو» أي المخلص يقول: «ابحث أولًا عن المملكة السياسية، وستحصل على الباقي تباعًا.» وذلك في حكمة تنبئية حقًّا، بل وترتبط أيضًا وبالأخص بالسحر، وهو الممارسة التي تتركز في فحص الأحشاء لمعرفة الغيب.

ومن جهة أخرى «يتحاور» السجل الرعوي-الجوفي مع تطورات تاريخية متفردة؛ فالتربية العقائدية في جنوب الصحراء ساعدت على نشر التصورات الدينية للسلطة، علمًا بأن هذه التربية كانت أحد مكونات القومية؛ فسرعان ما انكبَّت الإرساليات المسيحية على مباهج التكدس الاقتصادي، وتم تقاسم الكعكة الكنسية شأنها في ذلك شأن «الكعكة القومية» التي يتكلم عنها النيجيريون، وتنقل الأشكال الحديثة للسحر — ومنها الإيكونج في ساحل أفريقيا الوسطى — الذكرى التاريخية للنخاسة … إلخ. وتشكل «سياسة ملء البطون» التي تدفع عنزة الكاتب الهازل في جريدة كاميرون تريبيون إلى القول: «أنا أرعى، إذن أنا موجودة.» تشكل نظام تحرك تاريخي يمارس بأساليب ثقافية خاصة. وهو نظام لا يقتصر على ثقافة معينة. وترتبط تلك السياسة بوضعية تاريخية سيطلق عليها ميشيل فوكو في نهاية المطاف صفة «القابلية للحكم»، وإن كان قد عرفها من قبل في مؤلفه أثريات المعرفة: «إن الوضعيات التي حاولت إقرارها لا يجب أن تُفهم على أنها كم من التحديدات مفروضة من الخارج، وسابقة على تفكير الأفراد أو المواطن، وهي تشكل بالأحرى مجموع الشروط التي تتم معها ممارسة ما، وتؤدي إلى منطوقات جديدة جزئيًّا أو كليًّا، كما يمكن أن تؤدي أخيرًا إلى تغيير تلك الممارسة؛ فالأمر لا يتعلق بحدود تفرض على مبادرة الأفراد، بقدر ما يتعلق بالمجال الذي تتمفصل فيه الممارسة (دون أن تحتل مركزه)، وبالقواعد التي تعمل بها (دون أن تكون قد ابتكرتها أو صاغتها) وبالعلاقات التي يمكن أن تكون سندًا لها (دون أن تكون النتيجة الأخيرة أو نقطة الالتقاء).175

وعوضًا عن السعي إلى إقامة صلات سببية ثابتة بين الظواهر الثقافية عمومًا والتحرك السياسي، يتعين تحليل عمليات تعبير أدائية لتمثلات ثقافية، في ظل أوضاع محددة. ومما لا شك فيه أن إمكانات تأويل التعبيرات الاستطرادية في المجال السياسي ليست لا نهائية، لأنها تعبيرات لها علاقات «حوار» مع عدد محدود من المنطوقات السابقة التي لم تكن تفسيراتها لا نهائية. لقد ارتبطت النزعة القومية الاشتراكية في روسيا بفظائع الحرب العالمية الثانية التي ارتكبها النازيون، والتعريف الذي يقترحه فلاديمير جيروفسكي بخصوصها هو: فلسفة القومية الاشتراكية هي فلسفة الإنسان العادي، البورجوازي الصغير […] الذي يريد أن يحيا في مسكنه في هدوء. وتظل الاشتراكية مرتبطة في أوروبا الوسطى بالإحساس بأن الأحوال المادية دون المتوسط، وبأن الحريات مقيدة والسيادة الوطنية مسلوبة، حتى وإن كان الناخبون يتجهون اليوم نحو «الشيوعيين السابقين». ويجد المعاصرون من المسلمين مشقة على ما يبدو اليوم في التعبير عن ميول ديمقراطية، رغم أنه لا يوجد في الإسلام نفسه ما يجبرهم على كبت تلك الميول، وذلك لأنه لم تتوفر لهم في الماضي خبرات سياسية تعددية يمكنهم الرجوع إليها. والمسيحية توفر للمؤمنين بها تصورًا للتحرر — ألا وهو الخروج — الذي يمكن أن يُستخدم كمبرر للخضوع السياسي، نظرًا لأنه يمجد فضيلتَي الطاعة والصبر التي يمليها المخلص. غير أن تلك النزعات إلى استخدام مختلف الأنواع الاستطرادية ليست إلا تاريخية فقط. وهي تعكس نوعًا من الترسب ومن العلاقة التي تربط بين النصوص، مع كون استقرارها نسبيًّا ومعرَّضًا للتخلي عنه من خلال عمليات الابتكار الثقافي أو السياسي، والتحولات السوسيولوجية والسياسية، وإنتاج مفردات جديدة أو إعادة تفسير مفردات قديمة.

ويحتم علينا بالطبع الإدراك السليم أن نسلم مع أمبرتو إيكو بأن مفردات اللغة لها معنًى أصلي «تسجله المعاجم في المقام الأول، ويستخدمه الشخص في الشارع أولًا، إذا ما سأله أحد عن معنى كلمة معينة»، «ولا توجد نظرية استقبال تستطيع أن تتغاضى عن هذا القيد الأولي. فكل تصرف حر من جانب القارئ يأتي «بعد» تطبيق هذا القيد لا قبله».176 ولا يحول ذلك دون أن يكون مجال هذا «البعد» واسعًا بقدر كافٍ لكي يلحق البطلان بالاستدلال الثقافي الانغلاقي. فقد حرف أحيانًا النص القائل: «لا تقتل أبدًا.» بطريقة عجيبة من جانب المسيحيين وبمباركة الكنيسة. وقد تبين لنا أيضًا أن مفاهيم أساسية وبسيطة نسبيًّا مثل الهجرة والجهاد في المجتمعات الإسلامية تكون موضع قراءات متنوعة أيًّا كان الوزن الجلي للمعنى الأصلي (فالجهاد يمكن أن يكون أحيانًا نضالًا سلميًّا، والهجرة قد تكون انتقالًا داخليًّا). بل إنه ليس من المؤكد أن بيانًا له معنًى أصلي واضح، مثل الآيات التي تعهد إلى الرجل أن يكون قوامًا على المرأة، أن يتحول إلى «سجن مقدس»177 غير قابل للأخذ والرد، حتى وإن أوحت بذلك قراءة هذا البيان. فالمسلمات المعاصرات يفهمن القرآن من زاوية ممارساتهن الاجتماعية الجديدة كحضريات، وعلى ضوء العقلانية العالمية، ومن خلال المراجع المنافسة والمعارضة التي تعرضها شاشة التلفزيون أو السفريات. ومما له مغزاه أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، سواء كانت «سجنًا مقدسًا» أو غير ذلك، تعين عليها أن تتأقلم مع عزمهن على المشاركة، في المجال العام والحياة في المجتمع دون أن يكون هذا التطلع متناقضًا مع إيمانهم الديني، ومن وجهة النظر هذه كان الحجاب تعبيرًا ثيابيًّا ملتبسًا بقدر أكبر مما يتصوره الناس في فرنسا في الكثير من الأحوال.178
وعلى أي حال فإن الأبعاد الثقافية للتحرك السياسي أكثر تعقدًا من ذلك. ولقد سبق أن قلنا إن التبيان السياسي للثقافة لا يستخدم تعدد معاني سجل أوحد، فهو يعالج جمعًا من الأصناف الأساسية التي ترسبت تاريخيًّا وتهجَّنت.(٦) وقد تضاعفت تأثيرات تفسير النصوص. وها نحن نرى الآن بشكل أفضل أين يمكن أن نوجه تفكيرنا. فتعدد معاني التصورات الثقافية المحددة تاريخيًّا يدفعنا إلى إحلال دراسة الدوافع الثقافية للتحرك السياسي محل تحليل الثقافات السياسية. ويدفعنا اللَّبس الناجم عن تغيرات النصوص إلى الاعتقاد بأن البواعث الثقافية للتحرك السياسي تسهم في المقام الأول في التخيلات.

الملاحظات

  • (١)

    بلاط من الخزف يغلب عليه اللون الأزرق ومطلي بالميناء يستخدم في كسوة الجدران. ومع أن الكلمة مشتقة من الإسبانية (أزول = أزرق) إلا أن هذا البلاط شائع على نطاق أوسع في البرتغال.

  • (٢)

    التلميح بأن زعيم الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي كان أصلًا المسئول عن منطقة في الحزب الأوحد.

  • (٣)

    نائب حالي بالبرلمان الأوروبي ونائب في الجمعية العامة الفرنسية عن مقاطعة فانديه، كان يشغل حتى عام ١٩٩٤م منصب المندوب الوطني لحزب الوحدة الديمقراطية الفرنسية المكلف بالعلاقات مع الأوساط الثقافية والشباب. وقد استقال من الحزب في تلك السنة، وهو صاحب عرض سينمائي مسرحي خاص بمنطقة بوي دي فو.

  • (٤)

    اشتهرت مقاطعة فانديه الواقعة غرب فرنسا والمطلة على المحيط الأطلسي بطابعها الفلاحي المحافظ والمشابه للكنيسة. وقد تمرد فلاحو هذه المقاطعة في عام ١٧٩٣م ضد الثورة الفرنسية نتيجة لقرار تجنيد ألف فرد، وخاصة بسبب الجوع والفقر والسياسية الدينية الثورية (اعتبار القساوسة أفرادًا مدنيين). وسرعان ما ساند النبلاء هذا التمرد وتولوا قيادته وشكلوا الجيش الكاثوليكي الذي ألحق الهزيمة بجيش الثورة. وأعدت لجنة الإنقاذ الوطني جيشًا سحق المتمردين، ولم يحل ذلك دون انفجار هبات أخرى في هذه المقاطعة في سنتَي ١٧٩٥ و١٧٩٦م، وكذلك في عام ١٨١٥م.

  • (٥)

    معالم في الطريق، دار الشروق، بيروت-القاهرة، طبعة سنة ١٩٨٠م.

  • (٦)

    يجدر بنا أن نذكر أنه يقال إن نباتًا ما تهجَّن عندما يتخصب بشكل طبيعي بحبوب لقاح نبات آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤