الفصل الثالث

المدينة المتخيَّلة

تحقيق الرواج لمفهوم التخيل بفضل الأنثروبولوجيا بعد الحديثة، وغدت فكرة دراسة «التخيل كممارسة اجتماعية» مسألة معترفًا بها حاليًّا على نطاق واسع.1 فقد عرض كورنيليوس كاستورياديس مفهوم «الخيال الاجتماعي» منذ عام ١٩٦٤م، وقد عمَّق تفكيره في «مؤسسة التخيل» في المجتمع على مدى السنوات التالية لكي ينوه بأن «التاريخ مستحيل ولا يمكن تصوره خارج الخيال الإنتاجي أو الخلاق، لما أطلقنا عليه تسمية الخيال الجذري كما يظهر في آن واحد وبشكل دائم في الفعل التاريخي وفي إقامة عالم من الدلالات قبل أي عقلانية صريحة». وفي رأيه أن «ما يجمع أطراف مجتمع ما معًا، هو تماسك أطراف عالم دلالاته».2

ولاحظ بول فين هو أيضًا بعبارات خيالية بقدر أكبر أنه «بدلًا من الحديث عن معتقدات، يتعين في الواقع التحدث عن حقائق»، مع أن «الحقائق هي أيضًا تخيلات». إنها «تخيلات مركبة» لديها «تلك القدرة الإلهية على التأليف، أي القدرة على الخلق بدون نموذج سابق»:

«ومن الواضح أن ذلك الخيال ليس الاستعداد النفسي المعروف تاريخيًّا بهذا المسمى؛ فهو لا يوسع أبعاد الوعاء المغلق علينا بالأحلام أو بالتنبؤ، إنه يبني جوانبه الداخلية، ولا يوجد أي شيء خارج هذا الوعاء، بما في ذلك حتى حقائق المستقبل، إذ لا مجال إذن لإعطائه الكلمة. وتتشكل داخل تلك الأوعية الأديان أو الآداب، وكذلك أيضًا السياسات والسلوكيات والعلوم، وهذا الخيال استعداد ولكن بالمعنى الذي يقصده كانط؛ فهو استعلائي؛ ويشكل عالمنا بدلًا من أن يكون ضميره أو شيطانه. غير أن هذا الاستعلاء تاريخي لأن الثقافات تتعاقب دون أن تتشابه، الأمر الذي قد يتسبب في أن يغمى على أي مسئول كانطي من فرط ازدرائه لها. فالناس لا يعثرون على الحقيقة؛ فهم يصنعونها كما يصنعون تاريخهم، الذي يحسن رده إليهم.»3
وقد أحرز المؤرخون والأنثروبولوجيون، بل وإخصائيو السياسة أيضًا، تقدمًا كبيرًا في غضون ثلاثين سنة، في فهم تلك «الأوعية» الخيالية التي تحل بالنسبة لنا محل نظم التحرك التاريخي. غير أن هذه الإشكالية قد تكون كلاسيكية بقدر أكبر مما قد نتصور. ودون الرجوع إلى اسبينوزا أو مونتسيكو، ومع تفادي ماركس مؤقتًا، سنجد أن الفرد والجماعات عند ماكس فيبر لهم مصالح مادية ومُثُل تجد تعبيرها في «أساليب حياة»؛ أي في روح مشتركة متميزة.4 ويتضمن بالذات مفهوم المنفعة أبعاد التخيل هذه، ولا يمكن اختزال التحرك الاجتماعي في تعريف آلي للعقلانية: «فالمفهوم الفيبري للسوسيولوجيا الشاملة […] يربط الفردية المنهجية بأنثروبولوجيا مضادَّة للنفعية وبنقد للمفهوم العقلاني للذاتية، وهذه التركيبة المفارقة تفسر إلى حد كبير الطابع المتميز للسوسيولوجيا الفيبرية.» كما يلاحظ فيليب رينوه وهوينو مثلًا مدى […] ضرورة أن يكون التحليل الفيبري للبيروقراطية محل مراجعة عميقة تضع في الاعتبار في المقام الأول استحالة الاختصار الكامل للذاتية في العقلانية الأدواتية.5
ورغم التفسير الشائع، فإن ماكس فيبر يمنعنا من تعظيم الغرب باعتباره مانح العقلانية الكبير للرأسمالية. فهذا التخيل ليس ناجمًا عن ضرورة متأصلة — كما هو الحال عند ماركس — ولكن عن «سلسلة من الظروف». وفيما يتعلق بمغزى الظواهر الثقافية وقيمتها «الشاملة»(١) التي شكلت قالبها، يبدي فيبر تحفظًا، كثيرا يغفل ذكره، إذ يقول: «وهذا على الأقل ما نحب أن نعتقده» (ويقصد بذلك مغزى تلك الظواهر الثقافية وقيمتها الشاملة).6 وهو لا يحرم نفسه من التأكيد على «مدى لاعقلانية هذا المسلك حيث يتحقق وجود الإنسان حسبما يؤديه لا العكس». وهو يضيف في تعليق ساخر: «عندما تم توجيه خيال شعب بأسره نحو مقادير كمية بحتة، كما هو الحال في الولايات المتحدة، فإن رومانسية الأرقام تمارس سحرها القهار على رجال الأعمال، إذ إنهم «شعراء» أيضًا.»7 وبشكل أساسي «لا يستخلص رجل الأعمال شيئًا» من ثروته لنفسه خلافًا للإحساس اللاعقلاني بأنه أدى مهمته [Berufserfillung].8 ولم يتقادم مشروع ماكس فيبر الذهني، حتى بالنظر إلى المشاغل البعد-حديثة: «العقلانية مفهوم تاريخي يتضمن التعارضات. ويتعين علينا أن نبحث عن المنشأ العقلي لذلك الشكل الملموس من التفكير والحياة العقلانيين؛ فمن أين تطورت فكرة المهمة [Berufs-Gedanke] وفكرة التفاني في العمل المهني [Berufsarbeit]، وهي الفكرة اللاعقلانية تمامًا، كما رأينا، من وجهة نظر المصلحة الشخصية البحتة المحققة للسعادة، والتي كانت ولا تزال أحد العناصر المميزة لثقافتنا الرأسمالية. وما يهمنا هنا، يتمثل بالذات في أصل ذلك العنصر اللاعقلاني الذي تتضمنه هذه الفكرة شأنها في ذلك شأن كل مفهوم للمهمة.»9
ومن قبل كان تساؤل توكفيل حول المركزية والديمقراطية متقاربًا مع التفكير حول التخيلات. فقد أدرك كتابه عن الديمقراطية في أمريكا ما أقدم فيبر على تحليله في صفحات شهيرة: الدافع المنفعي في الولايات المتحدة — مبدأ المصلحة بالطبع — «المسلَّم به على نطاق العالم» يحل اليوم محل ما يمكننا أن نطلق عليه اسم التخيل الاجتماعي؛ وسيقال عن الفضيلة إنها «مفيدة» عوضًا عن القول إنها «جميلة».10 والمساواة التي يشيد بها الديمقراطي هي إحساس قبل أي شيء، بل يحسن أن نقول عنها إنها نشوة:11 «فالثراء والفقر، والقيادة والطاعة، يقيمان بلا طائل وبشكل عرضي مسافاتٍ كبيرةً بين رجلين، والرأي العام القائم على النظام الدارج للأمور يقربهما من مستوًى مشترك، ويخلق نوعًا من المساواة الخيالية بينهما رغم اللامساواة الحقيقية بين ظروفها. وهذا الرأي الطاغي يتغلل في النهاية في أرواح حتى أولئك الذين يمكن أن تسلحهم مصلحتهم ضده؛ فهو يغير حكمهم ويُخضع إرادتهم في الوقت نفسه.»12 وكثيرًا ما يتحول الإحساس في هذه الحالة إلى «هوًى»:
«الشعوب الديمقراطية تحب المساواة في كافة الأزمنة، ولكن هناك عهودًا معينة تتمادى فيها تلك الشعوب في الهوى الذي تُكنه للمساواة حتى الهذيان […] وعندئذٍ يرتمي الناس في أحضان المساواة، كما لو كانت فتحًا، ويتمسكون بها كما لو كانت مكسبًا ثمينًا يراد انتزاعه منهم. ويتغلغل الولع بالمساواة في قلب الإنسان من كافة الأنحاء، ويمتد هذا الولع في كل أرجائه ويملؤه بالكامل. ولا تقولوا للناس إن استسلامهم بلا تبصر لهوًى مانع يضر بأثمن مصالحهم؛ فهم مصابون بالصمم، ولا تشيروا إلى الحرية التي تتسرب من بين أيديهم بينما تتجه أنظارهم إلى موضع آخر؛ فقد غشيت أبصارهم أو أنهم لا يرون بالأحرى في العالم بأسره سوى جانب طيب واحد جدير بأن يثير حسد الآخرين.»13
وفي رأي توكفيل أن تأسيس مجال عام منبثق من الثورة ومن إقامة الديمقراطية هو في حد ذاته عملية تخيلية: «لقد أقيمَ شيئًا فشيئًا مجتمع خيالي فوق المجتمع الحقيقي الذي كان تركيبه لا يزال تقليديًّا ومضطربًا وغير منظم، وكانت القوانين لا تزال مختلفة ومتناقضة، والمراتب قاطعة، والظروف جامدة، أقيمَ مجتمع خيالي تبدو فيه كل الأمور بسيطة ومتسقة وموحدة ومنصفة ومتمشية مع الصواب. وبالتدريج هجر خيال الجماهير المجتمع الأول لينسحب نحو الثاني …»14
وإذا كان الوله والتخيل المفهومَين اللذين احتلا مركز الصدارة في أعمال المؤسسين الأوائل للسوسيولوجيا السياسية فذلك لأنهما يشيران إلى حقائق ملموسة. فالسلطة والاقتصاد والعلاقات بين صانعي التاريخ تشارك بأبعاد لا يمكن التقليل من شأنها في مجرد تجسيد هذه السلطة وإدارتها «العقلانية» المجردة. وبما أننا أعلنا ذلك، فلن يمكننا أن نقول مع مارشال ساهلين إن «الثقافة هي المنفعة».15 غير أنه يتعين علينا أن نتساءل حول ذلك الاستقلال الذاتي الجذري للرموز والتمثلات والمصطلحات والمشاعر السياسية التي ننتج تاريخنا من خلالها: «[…] ففي لحمة القرار التركيبي للوعي تظهر أحيانًا بعض البنى التي سنطلق عليها تعبير «ضروب من الوعي المصور». فهذا الوعي ينشأ ويتطور ويزول وفقًا لقوانين خاصة به […] ومن الخطأ الجسيم الخلط بين تلك الحياة الخاصة بالوعي المصور الذي يصمد وينتظم ويتفتت مع حياة موضوع ذلك الوعي الذي يمكن أن يظل ثابتًا طوال هذا الوقت.»16 وفي مقابل ذلك يمكن أن يتحول موضوع الوعي المصور دون أن يتغير بشكل ملموس، كما يشهد على ذلك جمود بعض التصورات الرمزية؛ ومنها مثلًا الفصل بين اليسار واليمين في الحياة السياسية الفرنسية، والذي نشأ بالمصادفة خلال اجتماع الجمعية التأسيسية في عام ۱۷۸۹م ولا يزال معمولًا به، بل وانتقل إلى الكثير من النظم السياسية الأجنبية.
وباختصار يجب أن نتفهم التخيل كبعد يعتمد عليه الحوار الدائم بين الموروث والابتكار، وهو الذي تبين لنا أنه سمة مميزة للتحرك السياسي فيما يتعلق بجانبه الثقافي. وعلى أساس هذا الفهم يكون المتخيل أولًا تفاعلًا «لأن الصورة ليست سوى علاقة».17 فهو تفاعل بين الماضي والحاضر وإسقاط للمستقبل، وتفاعل أيضًا بين العناصر الاجتماعية أو بين المجتمعات التي تمرُّ علاقاتها من خلال غربال «الوعي المصور» لكلٍّ منهما بالتبادل.

استحالة تحجيم التخيلات السياسية

علينا أن نزيل أي لَبْس كلما استدعى الأمر ذلك. فالمجتمعات الصناعية «الرشيدة» و«المركزية» و«البيروقراطية» و«المتخلصة من الأوهام» لا تقل تخيلًا عن «المجتمعات القديمة التقليدية» المفترض فيها أنها تحت سيطرة فكرة سحرية أو دينية عن العالم. يذكرنا بنديكت أندرسون بأن القومية «جماعة متخيلة». وكانت الأممية البروليتارية كذلك. وتحتفل البلدان الرأسمالية والمؤسسات المتعددة الأطراف ﺑ «ديمقراطية السوق»، وهي أسطورة، مختلقة، على غرار الاكتفاء الذاتي عند الرومان،18 وبإمكانها أن تخلب الألباب أو أن تبث الطمأنينة في النفوس، وإن كانت لا تتفق حقًّا مع سير عمل الاقتصاد المعاصر. ففكرة السوق نفسها تعتمد على تخيلٍ مفاده أن العمل والأرض والنقد منتجات معدة للبيع تشكل سلعًا؛ «مما لا شك فيه أن أسواق العمل والأرض والنقد أساسية بالنسبة لاقتصاد السوق. غير أن أي مجتمع يتحمل، ولو لفترة وجيزة للغاية، تأثيرات نظام من هذا النوع يقوم على تخيلات تعوزها الدقة لو لم يكن جوهرها البشري والطبيعي وكذلك تنظيمها التجاري محميًّا من أضرار مصنع الشيطان».19 وأخيرًا ما هي وثنية السلعة التي حدثنا عنها ماركس، إن لم تكن تخيلًا؟ إن الاعتقادات والمذهلات والشائعات والطقوس تظل على أي حالٍ مقومات للحداثة الصناعية، لا يمكن إهمالها.20
وعليه فإن نشاف التخيل يمتص في مجموع المجتمعات حبر التحرك السياسي. ويصبح هذا التحرك في أقصى أحواله ضربًا من الهذيان بالمعنى الإكلينيكي للكلمة. وفي أيامنا هذه أدى اختراع تاريخ استيهامي على أيدي أيديولوجيي مختلف قوميات يوغسلافيا السابقة — عهد دوسان بالنسبة للصرب، وعهد توميسلاف بالنسبة للكروات، و«الحلم الممتد ألف سنة» بالنسبة للسلوفانيين، ورجوع الألبان إلى أسلافهم الإيليريين(٢) — أدى إلى نوع من «العجز المتأصل يحول دون التمييز بين ما يعود إلى الماضي، وما يعود إلى الحاضر».21 وعلى سبيل المثال لا يكف المتطرفون الصرب عن اجترار الكلام عن الفرصة التي ضاعت عليهم في عام ۱۹۱۸م، ويتصورون المواقف الدبلوماسية المعاصرة وفقًا لتحالفات الحرب العالمية الأولى، ويتخيلون الرئيس الكرواتي تودجمان وهو يمزق أوصال وطنهم بسكين الأوستاشي، ويدينون «المؤمرة الفاتيكانية-الكومنترنية» أو «الهتلرية-الفاتيكانية-الكومنترنية» أو «الإسلامية-الفاتيكانية-الكومنترنية»، وهم يلطخون صور البابا حنا-بولس الثاني بصلبان معقوفة، ويتهمون مديرة مستشفى فوكوفار بأنها «منجيلي مؤنث» (نسبة إلى السفاح النازي الشهير الذي كان يُجري تجاربه على المعتقلين).
ومن الممكن أن يقوم التحرك السياسي على الأحلام. ولا يزال الحلم في القرن العشرين وسيلة دارجة في اتخاذ القرار. ففي الفترة الواقعة بين الحربين، تأثرت بشدةٍ حركة كيكويو الوطنية والدينية في كينيا بالآروتي، الحالمين الذين كانوا يتلقون المعرفة من جانب الروح أثناء نومهم، وآمنوا بمسيحية الفقر والتنبؤ المزودة بطاقة ثورية كامنة.22 وفي أواخر الخمسينيات كان روبن أوم نيوبي، القائد القومي لاتحاد أهالي الكاميرون، يسجل بدقةٍ حوليات أحلامه التي استخلص منها أشيل مبمبه كل أهميتها السياسية وكل ثروتها الأنثروبولوجية.23 وفي زنجبار، كان جون أوكيللو الذي تولى قيادة الثورة في عام ١٩٦٤م، يتمتع بميزة عظيمة، ألا وهي تلقيه تعليماته من رسول إلهي، بل ومن الرب ذاته، وذلك عندما بلغ أوج نشاطه.24 وفي زمبابوي، اعتمد المناضلون من أجل الاستقلال في وادي نهر الزامبيز على الشونا، صانعي الأمطار الذين كانوا وسطاء لهم على صلة بالأسلاف.25 وفي ليبيريا، سمع الرئيس تولبرت صوت الأوحد يطلب منه أن يعين في منصب نائب رئيس الجمهورية الأسقف الميثودي الذي كان يقود حركة المعارضة المسيحية ضد نظامه.26
وهناك العديد من الأمثلة التي قد تدفع إلى الابتسام أو تثير الحيرة. ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن هذا النشاط السياسي المقرون بالأحلام ليس سوى رواسب تقاليد مآلها الزوال. فالحلم كان ولا يزال تاريخيًّا وسيلة لإحداث التحرك الاجتماعي. ومنذ بداية القرن السابع عشر كانت كتب الاستخارة وتفسير الأحلام الجاوية والمالوية (نسبة إلى مالي) تتصور الطبيعة «كآلية مترامية الأطراف معقدة، لكن متلاحمة ويمكن التنبؤ بها». وكانت تنتمي إلى تيار عقلاني ذي مضمون إسلامي قطع الصلة بنظام الممالك ذات المركز الموحد في أعماق البلاد.27 وحتى الآن كثيرًا ما يقرر العديد من الشابات المسلمات اختيار الحجاب، فيتباعدن بذلك بشكل نزاعي بقدر كبير أو قليل عن ورع أهاليهن المسالم، ويعتنقن تفسيرًا لإيمانهم يدعو إلى الجهاد.28 وهكذا يكون عالم الليل في خدمة الابتكار العقائدي، والالتزام الاجتماعي، بل وأيضًا في تغيير الإدراك، هذا إذا ما قبلنا، مثل أغلب الإخصائيين، بأن التأسلم يُدخل على الحضارة الإسلامية مقولات فكرية جديدة تحت ستار العودة إلى التقاليد والأصالة. وفي الغرب أيضًا كانت الأحلام «أحد السبل الرئيسية التي أكد الفرد ذاته من خلالها».29
وتظل الأحلام نشاطًا حديثًا، وتتجسد تمامًا حاليًّا في تجربة العولمة. فعندما يشير أوجين وونيو، الكادر باتحاد أهالي الكاميرون، في نهاية الخمسينيات إلى أنه: «سعيًا من جانبي إلى سبيل لخلاص البسَّاعة، الذين تم إبعادهم بسبب راعيهم الزائف، زارني ذات ليلة في المنام رجلٌ دعاني إلى الذهاب لمقابلة أهيدجو لكي أوضح له أن البساعة ليسوا ماي وجماعته.» فإنه يسجل بذلك تطلعه كأحد الأعيان إلى تعيينه، وذلك في ظل وضع تختلط فيه التصورات المحلية في مجال الأحلام بالمطالب الوطنية وبمخاطر الحرب الباردة.30 غير أن ما أورده ليس له أي صدًى خارج حدود بلده. وعلى العكس، أثار السيد مبوما، رئيس برلمان الجابون انفعالات قوية، تردد صداها فورًا في وسائل الإعلام الأجنبية عندما اختفى فجأة بينما أزمة مايو ١٩٩٠م في أوجها؛ فهل تمت تصفيته على يد أعوان الرئيس بونجو، الذي نسب إليه من قبلُ موت أحد معارضيه في فندق في ظروف غامضة؟ ليس الأمر كذلك كما أوضحت زوجته الطيبة: لقد هرب عندما وجد أمامه عسكريين مكلفين بحمايته، إذ إنه رأى في المنام في الليلة السابقة الجيش يحاصر مسكنه ويلقي القبض عليه.31 والأحلام السياسية تلف من الآن فصاعدًا كل الكرة الأرضية بسرعة الحاسوب، كما حبس العالم أنفاسه في أكتوبر ۱۹۹۰م عندما باح صدام حسين بأن النبي طلب منه، في الوقت المناسب تمامًا، أن ينسحب من الكويت، ولكن على ما يبدو دون أن يكون هناك تواصل في الأفكار آنذاك.32
ومن الواضح أن الجانب السياسي في الأحلام له أبعاد عبر قومية. وهكذا ظل الرئيس كاوندا في زامبيا معتمدًا لمدة طويلة على استشارات العرَّاف الهندي الدكتور م. أ. رانجاناتان. كان هذا الأخير قد مر في شبيبته بتجربة تأملية نقلته إلى شاطئ نهر مجهول، حيث طيب خاطره رجل أسود عطوف قال له: «سأكون أخاك ذات يوم.» وقد انتقل هذا الشاب إلى زامبيا في ١٩٧٤م على أثر رده على عرض للتشغيل، فاكتشف أن النهر الذي ظهر له في الحلم لم يكن سوى نهر الزامبيز. ولما كان فكر الرئيس كاوندا الإنساني النزعة قد خلب لب الدكتور رانجاناتان فقد حظي باستقباله له، وتعرف وهو في غاية التأثر في شخص رئيس الدولة على الرجل الذي شاهده في رحلته التأملية. وبينما كان يبوح بأحواله للرئيس، قال له الأخير «أنت أخ لي. ابقَ معي وسنعمل معًا.» واكتسب الدكتور رانجاناتان نفوذًا كبيرًا لدى قائد كان تجسيدًا جديدًا لإبراهام لينكولن، وتبعًا لذلك لم تكن الطبقة السياسية الزامبية هي وحدها التي تستشيره، بل لجأ إلى ذلك أيضًا قادة أفارقة آخرون كان يزورهم بوصفه رسول «أخيه».33
وقد يصبح الحلم في نهاية المطاف إحدى عمليات العولمة الأساسية، التي يتم من خلالها تهجين التصورات الثقافية. فمن قبل، في عهود العصور الوسطى الأولى، أدخلت في المدونات المسيحية أفكارًا وافدة من الشرق أو تخيلات كيلتية وهمجية، على يد الفئات الرهبانية التي «اكتنزت» الأحلام الواردة من جهات أخرى، وذلك طوال عدة قرون قبل الثورة الحضرية والإصلاح الجريجوري، والتحولات التي طرأت على الإكليروس المنظم، وبالأخص نشأة طوائف المتسولين،(٣) مما أتاح إمكانية رواج نفس ذخيرة الأحلام هذه.34
وقد يختلط عالم الصور مع قضايا المجتمع الكبرى إلى حد تجسيدها. ومن وجهة النظر هذه فإن الانطلاقة الجارفة للتسويق الانتخابي، والمواجهات بين لاصقي الإعلانات الدعائية لمختلف المرشحين في الديمقراطيات الغربية تستعيد دون أن تدري الصراعات الأيقونية القديمة. والنزاع البيزنطي بين أعداء الأيقونات والمؤيدين لها في القرن الثامن، خلاف شهير. وتعود حدة ذلك النزاع إلى التحذلق المفرط في التقنين اللاهوتي للأيقونة في المذهب الأرثوذكسي الشرقي. وبطريقة مشابهة تعارك الإصلاحيون والكاثوليك بكل قسوة في فرنسا في القرن السادس عشر على مسرح الصور. ولم تكن تلك «الثورة الرمزية الحقيقية» عائدة إلى جنون جماعي أو عقلانية اجتماعية أو اقتصادية، بل كانت تشكل بالأحرى «دراما سياسية معقدة» و«أحد الأشكال المتميزة للتحرك التنبئي».35 والاستقلال الذاتي للأيقونات كرهان خاص بالنزاعات يكون أقوى بلا شك عندما تحل الصورة محل النص حيثما تتغلب الأمية. «التوراة بالنسبة لمن يعرفون القراءة، مثل الأيقونة بالنسبة للأميين» (يوحنا الدمشقي) De Imaginibus.
والصور القدسية عند الكاثوليك والأرثوذكس واللوثريين أول أداة لنشر العقيدة بين الجماهير الشعبية، وهي كذلك منذ القرن الخامس عشر بين شعوب ما وراء البحار. وقد حلل سيرج جروزنسكي على نحو رائع «حرب الصور» هذه التي امتدت طوال خمسة قرون من تاريخ المكسيك.36 فعندما احتل الإسبان العالم الجديد وزعوا على نطاق واسع صورَ القديسين أو العذراء، وحطموا الأصنام الهندية. وتمثلت أساسًا عمليات الانفتاح على الخارج وتحويل المعاني في عمليات استبدال للصور الدينية وفي تبادلات ملتبسة تولدت عنها «وحدة مصورة» للوطنية، فكانت بذلك «حربًا» وأيضًا مشاركة أو على الأقل تقاسمًا للصور. وبلغ الأمر بهذه الصور حد تقرير الحدود بين الحياة والموت. ولما وجد الهنود أنه لا مناص من أن يسلموا أصنامهم بلا أي تحفظ، فقد صنعوا أصنامًا أخرى زائفة لتهدئة خواطر معذبيهم، وذلك في عهد كان يكفي فيه تسريب قطعة من هذا النوع لدى شخص يراد التخلص منه وإبلاغ محكمة التفتيش بذلك. وإذا كانت حيازة صورة تعني الهرطقة، أو الاهتداء، فذلك لأن هذه الصورة تجسد رؤية حقيقية للعالم. غير أن الغزو سرعان ما أسفر عن تسويات وحالات سوء تفاهم مهَّدت الطريق نحو «سلسلة لا نهائية من التلفيقات المذهبية»؛37 أي نحو صراعات أيقونية، ومنها قضية عذراء جواديلوب التي تقدم حالة نموذجية في هذا الصدد. ففي عام ١٥٥٥م، رأى أول مجمع ديني مكسيكي أن من واجبه انتقاد «الإسراف في التصوير وفي بذاءة الصور»: «في هذا المجال، أكثر من أي مجالات أخرى، يجب اتخاذ تدابير، لأن كل الهنود يريدون بلا تمييز أن يرسموا صورًا دون أن يجيدوا التصوير أو أن يفهموا ما يقدمون عليه، مما يؤدي إلى احتقار عقيدتنا المقدسة.»38 وجاءت في أعقاب تلك المناقشات بعد بضع سنوات الاندفاعات الجنونية ضد الأيقونية في العالم القديم. وقد مهد صدور المرسوم الخاص بالاستخدام المشروع للصور في عام ١٥٦٣م، وكذلك ظهور القوميات الأمريكية، لصحوة القوميات الأوروبية.
ربما لم يكن ذلك التمثال مجرد ثمرة للمصادفات لأن المصورات المسيحية — والصور ذات الطراز الباروكي بوجه خاص — ساهمت بشكل حاسم في التوحيد التدريجي للمجال الاجتماعي والتمثلات السياسية والتمثلات الدينية التي لم تكف عن التراكب.39 ولقد اندمج الهنود الحمر في النظام الإسباني بالأخص عن طريق إفراطهم في استهلاك الصور المقدسة، بموافقة المستعمر، رغم سرعة إعادة تفسيرها وخلقها من جديد، والبدء في إعادة صياغتها لتصبح ملكًا لهم، بيد أن «تلك الأشكال اليومية لقيام الدولة»40 زادت من الوزن الذاتي للصورة، التي غدت متواجدة بشكل دائم واكتسبت طابعًا إنسانيًّا، حيث أحاطها الإجلال، وإن كان ذلك لم يحل دون مخاصمتها إثر خيبة الأمل أو الغضب أو الإسراف في تعاطي الخمور. «فهي تتعرض للإهانات والجلد وتُصفع وتُخدش بالأظافر، وتُحرق بشمعة موقدة، وتُحطَّم وتُنزَع، وتداس بالأقدام وتُطعن بخنجر، وتُمزَّق وتُقطع بالمقص، وتُعلَّق في ذيل حصان، وتُلطَّخ باللون الأحمر أو بالبراز، وتُمسح بها المؤخرة.»41 ويكون الطريق قصيرًا بين تقديس الصورة ومحاربتها خاصة إذا مر الشخص بتجارب هذيانية ناجمة عن تعاطي المخدرات، أو الجنون الفردي، أو الانحراف الجماعي المنتهك للحرمات. وفضلًا عن ذلك، يمكن أيضًا أن تصبح الصورة الدينية وسيلة للمقارنة السياسية بل وللتمرد، كما حدث في حالة «العذراء المتكلمة» في كانكوك لدى هنود شياباس في ١٧۱۲م أو نوتردام دي جادلوب لدى الثوار المطالبين بالاستقلال.42

ويذكرنا بذلك مثال المكسيك حيث قد يختلط أحيانًا «قيام» دولة مع النضال الأيقوني، بل وأيضًا مع النظام الدولي. والغيرة التي يُبديها قادة المملكة العربية السعودية وإيران في محاولة سد الطريق أمام التأثير الضار للبث التلفزيوني عن طريق الأقمار الصناعية معروفة؛ كما أن المتأسلمين في الجزائر جعلوا من إدانة الأطباق الهوائية أحد مواضيع تجنيد الأنصار. وعلى نقيض ذلك يبدي بعض المنتخبين الفرنسيين قلقهم إزاء استقبال الصور العربية في الضواحي التي يمثلونها. ومع أن هذه النزاعات المعاصرة المرتبطة بالعولمة ليست جديدة، إلا أن طابعها لا يختلف عن نشر الصور الغربية، وبالأخص المسيحية من بينها، وذلك منذ عدة قرون. والتقابل بين التقاليد الذي نشأ خلاله عالمنا «المعولم» كثيرًا ما كان تقابلًا بين صور لم يكف المستعمَرون (بفتح الميم) عن أن يكونوا مبدعيها. فالتمثلات الوافدة من الخارج والمفروضة من جانبه في الكثير من الأحوال، أعيد تفسيرها حسب «الوعي التصويري» المحلي.

ومن وجهة النظر هذه فإن الحيوية التأليفية العجيبة الخاصة بأمريكا اللاتينية، والتي أتاحت لنا إمكانية البرهنة على عمليات الانفتاح الثقافي على الخارج وعلى المعاني، لا تشكل استثناءً. ومن الملاحظ أيضا أن نشر الأيقونات الكاثوليكية واللوثرية في مجتمع مدغشقر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر أثار اهتمامًا كبيرًا بمجرد تجاوز «الدهشة الصريحة»43 في الأزمنة الأولى. والواقع أن مصورات القلب المقدس كانت تمثل في نظر أهالي مدغشقر «أرواح الذين أكلناهم»، وهي قناعة شعبية محلية تعود إلى الصدمات النفسية المترتبة على النخاسة. فوفقًا للمعتقدات الشعبية، كان البيض يفترسون الأسرى المرحلين إلى أرجيل مسكارينج بالمحيط الهندي، كما أن قول المبشرين لرعيتهم إنهم «لا يريدون أخذ أجسام أبنائهم، بل مجرد قلوبهم فقط»، لم يكن ليُطمئنهم بالقدر الذي كانوا يقصدونه. ولنفس تلك الأسباب كان معلمو الدين المسيحي يتحاشون إنشاد مقطع من ترتيل خاص بالقلب المقدس يقول: «فليمُتْ قلبي حبًّا لكم.» وكانت الجماعات البروتستانتية لا تتوانى عن نشر الشائعة القائلة بأن القساوسة الكاثوليك يقتلون الناس لكي «ينتزعوا قلوبهم»، حرصًا منهم على فضح «أعمالهم الشائنة» مع الاكتفاء بنبذ الصور البابوية عن طريق استخدام الفانوس السحري في عرض اللوحات الملونة الكبيرة لجمعية المنشور الديني المستوحاة في الكثير من الأحوال من كتاب رحلة الحاج، وهو المؤلَّف القائم على العديد من الرؤى المنامية الورعة. غير أن الإصلاحيين لم يفلتوا دائمًا من الأحداث المزعجة التي صادفها إخوتهم الأعداء في المسيحية. ففي نهاية ذلك القرن، وُجه الاتهام لجمعية بروتستانتية تأسست في تاناناريف لرعاية اليتامى بأنها ستار لشبكة متخصصة في تصدير أطفال تحولوا إلى عبيد. وقد اتسع مدى تداخل التصورات بشكل غير متوقع في عام ١٨٩١م عندما أدان الأسقف الكاثوليكي من أعلى المنبر إقامة محفل ماسوني بعبارات حافلة بمعانٍ متوارية غير مقصودة أكدت مخاوف السكان الميرينا في مدغشقر من أكل البيض لحوم البشر.
وهكذا يغدو دور التخيلات واضحًا في تشكيل المجتمعات السياسية. ويبقى بعد ذلك تحديد وضع تلك التخيلات. ولا يكفي أن نعتبرها دائمًا «لا وعي سياسي» على غرار «الرواية العائلية» مثلًا، التي يستدل عليها لين هانت «تحت سطح خطاب سياسي واعٍ»، شأنه شأن العديد من «الصور غير الواعية والجماعية عن النظام العائلي المتضمنة في السياسة الثورية».44 فكثيرًا ما يحتل المتخيل مقدمة المسرح ويعود إلى المحركين دون أن ندرك بالطبع طبيعة اللاوعي الذي يرجعنا إليه. وعلى سبيل المثال «توجد السينما في كل مكان» في مادوراي بجنوب الهند، وهناك عشرات الآلاف من أندية المعجبين بالممثلين موزعة في أنحاء المدينة؛ وتزين صور الممثلين كل حيز؛ وتذاع موسيقى الأفلام عن طريق شرائط التسجيل وتصحب حفلات الزواج، وطقوس البلوغ، والمهرجانات الدينية؛ وتُسمع تسجيلات الحوارات في الحانات والمطاعم، ولا يتردد أصحاب تلك الحانات والمطاعم في المشاركة في تلك الحوارات؛ ويحاكي الشباب نجومهم في أنواع ملبسهم وطريقتهم في تصفيف شعورهم، ويقلد الأولاد المعارك المتواترة في أفلامهم المفضلة.45 ومن الممكن أن يقال إن السينما تهيئ إطارًا لتجربة «أسلوب حياة، وروح مشتركة يتم التفاوض» حولها باستمرار بين المتفرجين والمنتجين والممثلين. ومن الجدير بالذكر أن الفن السابع الذي عُرف في الهند منذ ١٨٩٦م كان في أول الأمر مجال «تفاوض» بين المستعمِر والمجتمع المستعمَر، لأن المخرجين الهنود أدمجوا فيه فورًا مصطلحات جمالية مستخلصة من الثقافة الشعبية والمسرح الكلاسيكي، وأوجدوا بذلك نوعًا من الملودراما الملحمية والأسطورية لم يُعرف أبدًا من قبل.
وإذا كانت السينما موجودة «في كل مكان» في مادوراي، فهي متواجدة أيضًا في المجال السياسي. وربما يكون من الأفضل القول بأن السياسة نفسها متواجدة في السينما. كما غدت الديمقراطية الهندية بسرعة في بعض المقاطعات على الأقل «ديمقراطية سينمائية». فقد بذلت مختلف الأحزاب جهودها لكي تكسب لصالح مواقفها نجوم السينما القادرين على اجتذاب أصوات المعجبين بهم. واستخدام أداة الصيت مسألة دارجة في حد ذاتها في فرنسا، فالتجمع من أجل الجمهورية أو الحزب الاشتراكي لا يتصرفان على نحو مختلف عندما يدرجان في قوائم الترشيح أسماء رياضيين أو فنانين مشهورين. غير أن هذه الأمور تذهب إلى مدًى أبعد في الهند. فالممثلون-المرشحون يجسدون في حملاتهم الانتخابية أدوارهم السينمائية ويتم انتخابهم على هذا الأساس. ففي ولاية أندرا براديش خاض ن. ت. راما راو (۱۹۲۳–١٩٩٦م) الذي أدى دور الأرباب المنقذة في حوالي مائة من الأفلام الناطقة بالتلوجو لغة أهل هذه الولاية، خاض المعركة الانتخابية في عام ١٩٨٣م وهو يرتدي زيًّا بلون الزعفران، ويستقل سيارة أشبه بمركبة حربية، ونجح في الانتخابات بوصفه أحد الشخصيات الأسطورية في كتاب المهابهاراتا المقدس.46 وفي ولاية تاميل نادو المجاورة حول شيفايي جانسان، وبالأخص م. ج. راماشاندران (١٩١٥–۱۹۸۷م)، حولا شبكات أندية المعجبين بكل منهما ورصيدهما السينمائي إلى رأسمال سياسي باعتبارهما من المهتمين بشئون الفقراء وفحلين بدآ من الصفر. وقد أحييا بذلك «طقوس التعاون»47 في مخيلة الرأي العام ومن واقع أعمالهما الخيرية، أيًّا كان اللبس الكامن وراء ذلك. فالأمر يتعلق هنا بقدر من المساعدات المتبادلة أو بإعادة التوزيع، يقل عن السعي إلى القيادة والإصلاح ورد الاعتبار المعنوي في مجتمع يشكل فيه كلٌّ من الكرم الحاتمي والسخاء مكونات تعريف الفرد.48 فالممثل الحاتمي أو رجل السياسة، الممثل يرشد جمهوره وناخبيه، وهو يقترح نموذجًا للنجاح الأخلاقي والمادي يمكن أن يعثر فيه المحرومون على هويتم. ومما لا شك فيه أن راماشاندران كان الممثل الذي حقق تحول شخصيته على خير وجه إلى أدواره، وحول أدواره إلى شخصيته السياسية؛ فقد كان معجبوه من الشباب مقتنعين بأن حياته كانت على غرار ما شاهدوه في أفلامه، وأنه ما كان يمكن أن يقبل أدوارًا لا تتفق مع قيمه. وعندما أصبح راماشاندران الوزير الأول في ولاية تاميل نادو، تكلف نفس البساطة، وظل يُنظر إليه كقريب، وأخ كبير يمنح حمايته، وأب بل عشيق بالنسبة لبعضهن، فمن المفترض فيه أنه يهتم بكل شخص على انفراد. ومع أن الأداء الحكومي للوزير الأول لم يكن على مستوى مشاعره الطيبة، إلا أن ذلك لم يغير شيئًا في الأمر، ولم يحل دون أن تخلفه الممثلة جايالاليها، زميلته في التمثيل وصديقته.49
وهكذا كانت القومية الشعبية الدرافيدية إلى حدٍّ ما نوعًا من المثالية السينمائية الخيالية.50 ولكن أليس الأمر كذلك اليوم بالنسبة للقومية الراديكالية الهندية؟ لقد نُظمت الحملة من أجل بناء معبد أيودهيا مسقط رأس الإله رام المفترض على أوسع نطاق بفضل الوسائل السمعية-المرئية، في وقت كان التلفزيون يحقق فيه معدلات مشاهدة مدهشة لملحمتَي الرامايانا والمهابهاراتا في مسلسلين، ويساهم بذلك في التنميط القومي للملحمتين. وفي عام ١٩٩٠م قام رئيس حزب بهارتيا جاناتا(٤) بجولةٍ طولها ١٠ آلاف كيلومتر في سيارة اتخذت شكل مركبة أرجون (رامي السهام المؤازر للإله كريشنا) ملتزمًا في ذلك بالصورة المعهودة في الراث ياترا،(٥) فاستُقبل فعلًا بمظاهر الورع الديني الحار، بينما النساء يؤدين رقصة الراس-جاربا الخاصة بالإله كريشنا، والأنصار يلوحون بحرابهم الثلاثية الأسنَّة، أو يقدمون جرارًا مملوءة بدمائهم. أما انتماء رام السياسي للقومية الهندوكية، فهو مستقًى مباشرة من مواضيع أفلامه من الدرجة الثانية التي يعشقها شبان المدن لكونها لا تقدم لهم كنموذج «الرب الرحيم» المألوف في العهود القديمة، بل بديله المفتول العضلات.51
والواقع أن الحالات التي يقال بخصوصها عن حق إن الممثلين السياسيين ليسوا سوى ممثلين يؤدون أدوارًا أو مواقف مسرحية منمطة إلى حد ما وفقًا لمختلف الثقافات، شائعة على نطاق واسع في نهاية الأمر. «فالمسرحيات التلفزيونية» الأمريكية، ومنها جلسات مجلس الشيوخ في ۱۹۹۱م للاستماع للقاضي كلارنس توماس وأنيتا هيل التي وجهت إليه الاتهامات، وكذلك شهادات أوليفر نورث، بطل فضيحة إيران جيت، والمبارزة بين نكسون وكيندي في ١٩٦٠م، أو قضية أ. ج. سيمبسون في ١٩٩٦م مثيرة حقًّا.52 ومن وجهة النظر هذه تضخم السينما والتلفزيونات ما كانت تحققه الملاحم والمسارح بفضل سحر الصورة. وقد برهن كريستيان ماير في دراساته الكلاسيكية أن «الترجيديات الإغريقية كانت ضرورية بالنسبة للديمقراطية الأثينية».53 وفي القرن التاسع عشر تشبَّع القوميون في البلقان بالملاحم. ويستلهم إرهابيو الجيش السري الأرمني لتحرير أرمينيا (ASALA) قصائد فارتان الملحمية.54 وعلى نفس المنوال كان مناضلو أقصى اليسار وأقصى اليمين الذين جرت بينهم في تركيا مواجهات بالسلاح في السبعينيات يتماهون بطلين في الأدب الشفهي الشعبي، وهما على التوالي كاراوجولان وطارخان. كما أن بولنت إسيفيت، قائد حزب الشعب الجمهوري كان معتبرًا تجسيدًا لكاراوجولان من جانب أنصاره الذين كانوا ينشدون في ذلك العهد العديد من القصائد الغنائية الملتزمة إلى حد ما والمعروفة بتأثيرها على كل تلميذ.55 وفي سيري لانكا يستلهم السنهاليون أو التاميل في نضالهما شخصيات أسطورية، بينما لجأ الإمبراطور بوكاسا في أفريقيا الوسطى إلى الاغتراف من الأسطورة النابوليونية حتى إنه حاول أن تتم عودته عن طريق جزيرة إلب.56 أما سوكارنو، الهاوي الكبير لمسرح العرائس الجاوي الكلاسيكي المسمى وايانج كوليت، فقد اتخذ من بيما، وهو من شخصيات ذلك المسرح، اسمًا مستعارًا له، كما أنه وصف المناضلة الأولى في الكفاح من أجل «تحرير» إيريان بارات (الاسم الإندونيسي لغينيا الجديدة التي تشكل جزءًا من هذه الدولة) في ١٩٦٢م بأنها سريكاندي حقيقية، وهي من بطلات ذلك المسرح.57
وفي النهاية، وكمثلٍ أخير ليس أقل شأنًا، كثيرًا ما لوحظ أن الثورة الإيرانية في عام ۱۹۷۹م استعادت شعائر التعزية وتأثيرها، في شعائر إحياء ذكرى مقتل الحسين وأصحابه في سنه ٦٨٠م بكربلاء. ولا يعني ذلك أن سكان المدن الكبرى الذين ثاروا ضد النظام القديم كانوا يستجيبون بذلك لمشاعر دينية فقط. كان اختيارهم سياسيًّا وواعيًا. فعلى سبيل المثال، في يومَي ١٠ و۱۱ ديسمبر ١٩٧٨م، وبمناسبة التاسوعة والعاشورة، أهم يومين في الحداد على الحسين، واجه المؤمنون خيارًا عمليًّا بين المشاركة في أحيائهم في الموكب المعتاد لذكرى شفيعهم الحسين أو الانضمام إلى المسيرات الهائلة في وسط المدينة التي كانت تشيد بالحسين ذاته كمثال يُحتذى، حيث كان المتظاهرون يطالبون برحيل الشاه مجازفين في ذلك بحياتهم. بيد أن أهالي طهران الذين فضلوا الخيار الثاني كانوا يشعرون بأنهم يؤدون من جديدٍ المشهد المأساوي الذي جرى في كربلاء. كانوا يستلهمون مثال الحسين الصامد أمام الظلم وشقيقته زينب الشاهدة على استشهاده؛ وكانوا يرون في الشاه شخص القائد الخائن شمير خادم يزيد، المجسد ﻟ «الشيطان الأكبر» الأمريكي.58

وقد سيق أحيانًا مفهوم مسرحة السياسة لتحليل هذا النوع من الظواهر، بالرجوع إلى الضمانات التي كتبها كليفورد جيرتز عن «الدولة المسرح» في بالي:

«كان ملوك وأمراء الدولة-المسرح هم المديرون الفنيون، والكهنة والرؤساء، والفلاحون الكومبارس والخدم والجمهور. فعمليات حرق أجداث الموتى المثيرة للاندهاش، وبرد الأسنان، وتكريس المعابد، والحج، والتضحيات الدموية التي تعبئ مئات بل وآلاف الأشخاص وتخصص لها ثروات طائلة، لم تكن وسائل ترمي إلى أهداف سياسية، بل كانت أهدافًا في حد ذاتها، ومبرر وجود الدولة. فمراسم البلاط كانت القوة التي تحكم سياسة البلاط. ولم تكن الطقوس الجماهيرية اختراعًا لدعم السلطة؛ إذ كانت الدولة ابتكارًا لتحقيق الطقوس الجماهيرية. ولم يكن الحكم اختيارًا بقدر ما كان تمثيلًا. ولم تكن الاحتفالات الشكل بل الجوهر. وكانت السلطة تخدم الأبهة في حد ذاتها لا أبهة الحكم.»59
والواقع أن فكرة المسرح، كما ندركها الآن في الغرب، تفترض علاقة تمثيل نظَّرها بريخت وهو يتحدث بالذات عن «التباعد» (Verfremdungseffekt) لكي «ينتزع هذا الفن الحاجات اليومية من مجال الحاجات المفهومة من تلقاء نفسها».60 غير أن مجال السياسة لا يدخلنا في نطاق التباعد والتعبير بقدر ما يدخلنا في نطاق الاحتفال باعتباره تصرفًا فعالًا؛ فالمعجبون براما سندران في مادوراي، والمشاركون في مواكب مملكة مرينا في منتصف القرن التاسع عشر، وأهالي فلورينسيا المشاركون في الاحتفالات المدنية التي كانت تحدد إيقاع حياة مدينتهم في عصر النهضة، وأهالي طهران الذين حولوا مظاهرات الشوارع في ١٩٧٨م إلى تعزية ضخمة، لا يشاهدون بالطبع عروضًا يقيمون معها علاقات خارجية.61 إنهم ينسجون تاريخهم من خلال طقوس أدرك هيجل أهميتها في تعليق له على الثورة الفرنسية. وبهذا المفهوم تكون لدى كل مدينة، سواء كانت حديثة وحضرية، طقوسها. وتلك نقطة جوهرية سيتعين أن نعود إليها في الختام.
ومفهوم التباعد غير متواجد في السجلات الثقافية المؤسسة للممارسات السياسة التي تعرضنا لها آنفًا. فالتطابق بين «الممثلين» و«المشاهدين» قوي للغاية؛ إذ إن الأخيرين يشاركون في حبكة المشهد بهتافاتهم أو ردودهم، وضحكاتهم أو بكائهم، بالانضمام بكل أفئدتهم إلى سحر «الوهم» الذي تكلم عنه الكاتب المسرحي كورناي في القرن السابع عشر. وربما تعين علينا أن نعيد إلى الأذهان هنا أن النقاد الإنجليز يرون أن ارتداء الممثلين ملابس نسائية ينتقص من ذكورتهم، ويهدد بالنيل أيضًا من ذكورة جمهورهم!62 ومع أن الأوضاع الحقيقية للتمثيليات في أثينا لا تزال غامضة، «إلا أنه يحق لنا أن نعتقد أن […] المواطنين لم يحضروا هذه التراجيديات كمشاهدين فقط، بل وأيضًا كمواطنين».63 والتفاعل المتبادل بين الجمهور والمشهد في اللودروك الجاوي قوي، وهو يبلغ أقصى مداه في التعزية الإيرانية حتى إن الإخصائيين يرفضون من جانبهم الحديث عن مسرح في الحالة الأخيرة، إذ يصل تأثير مأساة كربلاء مدًى يستدعي أحيانًا ضرورة حماية البائس الذي قبل ارتداء ملابس الخائن شمير الحمراء اللون، من الغضب الشعبي.64 ويجد مثل هذا الاستثمار في البعد الخيالي امتداده في النوع الميلودرامي الواسع الانتشار حاليًّا في آسيا، أو في المسلسلات التلفزيونية الأمريكية واليابانية Soap operas، التي حقق عرضها معدلات مشاهدة مدهشة؛ فالمتفرجون لا يكتفون بتقمص شخصياتها، بل ويعيدون تفسير مواقفهم حسب الأوضاع الخاصة بالمجتمع الذي ينتمون إليه ويعيدون صياغة علاقاتهم الأسرية عن هذا الطريق.65
وهناك أيضًا أشكال ثقافية حياتية شديدة الفعالية من وجهة نظر النشاط الاجتماعي دون أن تقرر مع ذلك هذا النشاط. وقد أدرك ميشيل فوكو ذلك جيدًا عندما تحدث عن «الروحانية السياسية» بخصوص الثورة الإيرانية، وذلك في صفحات سرعان ما تعرضت للتفنيد: «كان [الدين] حقًّا المفردات والمراسم والمأساة اللازمنية التي يمكن أن تودع داخلها المأساة التاريخية لشعب وضع وجوده في الميزان مع وجود عاهلها.»66 وبينما كان المتظاهرون يقدمون على الخيار الثوري، كانت مرجعيتهم بنية سردية تدور حول فكرة الاستشهاد والإصرار على الحق، وهو مفهوم له مغزًى أكثر تعقيدًا مما هو بالفرنسية، يعود بنا إلى العلاقة الجدلية بين الباطن والظاهر.67 والشعارات التي رُفعت خلال أحداث ١٩٧٨م للتدليل على إنكار الذات من جانب المحتجين، تعبر عن الإحساس بالزهد لدى من كانوا مستعدين للموت من أجل العدالة، اقتداءً بالاستشهاد في كربلاء.68 ومع ذلك فإن فعالية ملحمة الحسين كانت متفقة مع المناسبة. ولنذكر بهذا الصدد أن المحركين الاجتماعيين يمكنهم تفسير هذه الملحمة بنغمة هادئة. ففي الأحوال العادية كان احتفال تجار البازار بهذين اليومين يبدو أساسًا كأداة لصنع الثقة التجارية والمالية، وذلك على غرار معتقدات الطوائف البروتستانتية الأمريكية الشمالية التي درسها ماكس فيبر، وجمعيات التأمين التكافلية الأفريقية.69
والطابع الفوري للطقوس السياسية بوميضها الخاطف يرتبط بما تُحركه من أحاسيس وانفعالات وتأثيرات. ولقد سبق أن صادفنا على مدى الصفحات السابقة الكثير من حالات الحقد والخوف، حتى إنه لا حاجة لنا للتأكيد عليها. ولكن نطاق المجال المحرك للمشاعر أوسع فيما يتعلق بالسياسة؛ إذ كثيرًا ما يسيل دموعًا لا يفسرها بالضرورة الفزع أو الأسى. ففي مدغشقر في عام ١٨٦١م، عندما عاد الأوروبيون بكى رامادا الثاني وهو يستمع إلى القداس المرتل بمناسبة عيد الصعود، وكان المؤمنون الكاثوليك الأوائل ينتحبون وهم يتأملون صورة القلب المقدس.70 وعندما تحررت باريس في أغسطس ١٩٤٤م، انهمرت دموع أهاليها، وكان انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام مناسبة لفيض من المشاعر الجياشة. وفي تركيا ترقرقت الدموع في عيون فلاحي الأناضول الأشداء عند ذكر اسم الحزب الديمقراطي الذي حقق الكثير بالنسبة للريف، وأقدم العسكريون على شنق زعيمه عدنان مندريس ظلمًا وجورًا.71 وفي المعبد الإنجليكاني الميثودي، بدا التأثر على الرئيس كلينتون أثناء تقلده منصبه.72 ومن المعروف عن الشيعة أن نحيبهم يرتفع عند ذكر الله.
ويجب ألا نتعامل مع ردود الفعل العاطفية هذه باستخفاف.73 وكان اسبينوزا محقًّا عندما اعتبر أن المشاعر تشكل «أسباب وأسس» المجتمع السياسي ومؤسساته واضطراباته.74 ولم يتقادم الزمن على ذلك القول بالقدر الذي قد نتصوره، ويتعين أن نعترف أن الجانب الذاتي في السياسة يجب أن يحتل مركز الصدارة في اهتمامات العلم السياسي، على الأقل لأنه كثيرًا ما يشكل هو نفسه قضية سياسية. وهكذا نوقشت بكل جدية قضيةُ الدموع التي تسيل تقليديًّا في ذكرى استشهاد الحسين؛ هل هي مضادة للثورة أو على العكس مقاومة سلبية حافظت على مر العصور على ذكرى شهيدها؟75 وقد هيمنت على التاريخ القومي الكيني أزمة الختان الشهيرة التي أثارت المواجهة بين الصفوة الكيكويو والإرساليات المسيحية في سنوات ۱۹۲۸–١٩٣٠م.76 وفي الولايات المتحدة تحتدم المناقشات حول الأخلاق و«الاستقامة السياسية» والعودة إلى «القيم الأمريكية».77 وبالمناسبة يذكرنا بول فين بأن «الثقافة مسألة تفاخر وعلاقة الشخص بشخصه أيضًا، ويمكننا أن نقول إنها مسألة كيان الكائن البشري»، وإن الذاتية «كانت عبر القرون رهانًا تاريخيًّا يجري التنازع عليه كما هو الحال مع الاعتبارات الاقتصادية أو تقاسم السلطة».78
والنظر إلى السياسة من هذه الزاوية ليس أقل أو أكثر من الرجوع إلى أفكار الآباء المؤسسين للعلوم الاجتماعية، وليس من المؤكد أنه يتعين من أجل ذلك إعادة تنصيب الذات بكل أبهة، بعد أن هزأ بها شطط الفلسفة الحديثة. وعلى العكس، هناك تواصل كبير في التفكير من توكفيل إلى فيبر وفوكو يبرز تاريخ كل ذاتية ويبذل الجهود للتفكير في «تأريخية أشكال التجربة نفسها».79 وعليه فإن المسألة ليست مسألة الذات ولا مسألة الفردية؛ لأن هذين المفهومين عاجزان، من خلال عموميتهما، عن تحليل تأريخية التجربة. فهي بالأحرى تأريخية إنتاج الذاتية، وبعبارة أخرى تأريخية إضفاء الذاتية التي عرفها جيل دولوز — وهو يعلق على أعمال فوكو — بعبارات فيبرية إلى حد تحولها إلى عبارات تكاد تكون محتشمة في نظر المتخصصين في العلوم السياسية. «إن إضفاء الذاتية يعني إنتاج طريق التواجد وأسلوب الحياة».80 ومن المناسب التأكيد على أن إضفاء الذاتية أو الفردية ليسا مرادفين للفردانية. فعند التاميل مثلًا، تتحقق «الفردية المتميزة» أو «الفردية المدنية» من خلال علاقة الفرد بأسرته وطائفته والحي الذي يعيش فيه. وهي تسفر في نظر الغربي عن تلك المفارقة المتمثلة في «إحساس شديد بالفردية دون أن يكون هناك مفهوم مجرد للشخص».81 وعلى النقيض من ذلك يمكن الاستدلال على «روح عامة» وأسلوب حياة له قيمته الاجتماعية، تقوم عليه ذاتية الأفراد. كما أن مفهوم الفرد «الراقي» و«المتحضر» و«المهذب» في جاوة أو «الرجل الخير» أو «الفارس» أو «الإنسان الاجتماعي» (آدم اجتماعي) في إيران، يرسم العلاقة مع الذات التي لا يمكن فصلها عن الآخرين.82
بيد أن المجال السياسي (أو مجال الدولة) يتفاعل بالتبادل وباستمرار مع عمليات إضفاء الذاتية هذه، بما في ذلك عندما تتجلى في صميم الحياة الخاصة. ويقول فوكو بخصوص البحث الذي قام به بالتعاون مع أرليت فارج حول «تفسخ العائلات»: «[…] إنه لشيء مثير أن يرى المرء كيف أن الدولة والحياة الخاصة يتداخلان، ويتصادمان ويندمجان في الوقت نفسه.»83 وكان توكفيل قد وجد من قبلُ أن سلطان الدولة المطلق والاستقلال الذاتي للفرد كانا مترابطين، وأن عملية التفرد تمرُّ عبر ترشيد الأسرة.84 وحتى «إذا تعين التخلص من الصورة المبسطة التي ترى أن الفردية تنمو مع نمو الدولة»،85 فإن المفهوم الرعوي للسطلة القادم من مصر وآشور ويهوذا قد تبنته المسيحية التي أدخلت عليه تعديلًا وجعلته علاقة فردية بين الراعي وقطيعه، وأشركته، مع الخروج من العصور الوسطى، في تنظيم سياسي جديد، ألا وهو الدولة الحديثة. وقد أوضح ذلك فوكو قائلًا: «لا أعتقد أنه يتعين اعتبار الدولة الحديثة كيانًا تطور بالرغم من الأفراد بتجاهل أشخاصهم، وتجاهل حتى وجودهم، بل يجب اعتبارها (أي الدولة) على العكس بنية متكاملة إلى حد كبير يمكن أن يندمج فيها الأفراد بشرط واحد، ألا وهو إضفاء شكل جديد على تلك الفردية وإخضاعها لمجموع من الآليات المعينة. ومعنى ذلك أن الدولة قد تبدو قالبًا للفردية، أو شكلًا جديدًا للسطلة الرعوية.»86 وقد برهنت الأبحاث الملموسة للمؤرخين الفرنسيين، وأيضًا الأبحاث العقلانية النقدية الألمانية من خلال أعمال كاسيرير وإلياس وبانوفسكي، أن ذلك لم يكن مجرد تجريدات فلسفية. فقد ساهم نشاط الدولة فعلًا في تحديد الفارق بين ما هو عاطفي وما هو عقلاني، وبين الظاهر والطوية، وبين الممارسات الثقافية الشعبية وأساليب الحياة المهذبة بقدر أكبر.87 ومن الممكن أن تغذي بالتبادل نواحي إضفاء الذاتية هذه المختلفة لغة السياسة ورموزها.
ومع أننا لا نعرف حتى الآن تفسيرًا جيدًا لربط الجنس بالعلاقات في إطار السلطة، إلا أنه ربط متواتر مثلًا في العديد المجتمعات، وهو ليس أقل عمليات التجريد الأهلية شأنًا، أو أنه على العكس، مصدر للتثمين الضمني للممسكين بزمام السلطة. ولسنا في حاجة إلى الرجوع إلى الأدب الإباحي الذي تهجَّم على سمعة ماري-أنطوانيت؛ إذ يكفي أن نستمع إلى بعض الأقوال البذيئة لمناضلين أو منتخبين فرنسيين88 لكي ندرك أن الشعبوية في فرنسا التسعينيات لها علاقة بفهم معين للفحولة. وفي ظروف مختلفة، أثارت فزعَ المحافظين الإنجليز الاستقلاليةُ الاقتصادية للنساء اللاتي يعملن في المصانع والنشاط الديني والخيري للناسكات الميثوديات، فلم يتورعوا عن إهانة تلك «المخلوقات اللقيطة» (وكانت لغة هذا العصر تقصد بذلك المومسات) اللاتي تنضم إلى صفوف الراديكالية العمالية.89
وهذه العلاقة بين مفهوم الذاتية والتحرك السياسي دائمة وجوهرية. والسياسة هي نوع، بشكل ما، من المتعة والجمالية. وما يسمى بنبرة تفخيم «ثقافة سياسية» هو قبل كل شيء، وربما فقط، أسلوب سياسي يعطي الإحساس بأنه متلائم مع التخيل الأخلاقي.90 ونحن نتوقع من قادتنا، دون أن نكون واعين بالضرورة بذلك، أن تتوفر لديهم مزايا محددة، ويزعم هؤلاء أنهم يتقيدون بها. كان الإغريق يريدون أن يكون القادة وسيمين، وأن يحسنوا الحديث، وأن يؤدوا أدوارًا جنسية نشطة.91 وربط الرومان بدورهم السلبية في المتعة بالعجز السياسي، على الأقل طالما لم ينكر أباطرتهم جهارًا ذلك الرأي غير المبني على استدلال صريح.92 غير أن العامة كانت ترجو أيضًا أن يمارس الإمبراطور الكرم الحاتمي الضروري بلا تفاخر، وأن يتخذ وجهًا شعبيًّا حتى وإن أغضب ذلك الشخصيات الرزينة والصارمة المنتمية إلى المجتمع الراقي، التي ما كانت تكف عن إبداء أسفها الشديد إزاء ذلك الشعب، المناقض للرزانة والصرامة التي كانوا يتوقعونها منها. وتلك هي الأسباب التي رفعت الناس البسطاء إلى التعلق بيوليوس قيصر، وأغسطس، وجرمانيكوس، ونيرون، بل وحتى كاليجولا في بداية حكمة، وإلى مقت تيبريوس بشدة.93
ويتبنى حاليًّا معاصرونا بنفس الطريقة مفهومًا أخلاقيًّا لبلدهم — «اقتصاد أخلاقي» كما كتب يقول جون لوندسيل94 — يفرض نفسه على المواطنين وإن كان لا يحظى بالإجماع، ويظل مع موضع نقاش بل ومجال حرب كلامية. ففي أفريقيا مثلًا، كثيرًا ما يعتبر الثراء «مؤشرًا خارجيًّا لفضيلة داخلية».95 وعليه، يستطيع السادة أن يستعرضوه.96 غير أنه يبدو مثارًا للاشتباه بشكل متزايد بتأثير الكشف عن الفساد. وربما كانت إحدى المصاعب في قيام الديمقراطية في أفريقيا جنوب الصحراء ناجمة عن مطالبة الرأي العام لهم بكل شيء وبعكسه في هذا المجال؛ الحسنات التي تعيد التوزيع من خلال «سياسة ملء البطون»، والتقشف المناسب لحسن الإدارة.
ويعرقل هذا الطابع المراوغ للصفات السياسية الحميدة عمل المحلل؛ لأنه يجد مشقة في تحويلها إلى أشياء وهو يسجلها على الورق. فبوسعه أن يذكر أن فليكس هوفوية بوانيي الرئيس السابق لكوت ديفوار كان يعاني من صغر حجمه بالمقارنة مع موديبو وكيتا وسيكوتوري، وهو وضع ليس في صالحه إلى حد كبير اعتاد أن يعوضه بخطب حققت أرقامًا قياسية. ويقول شاعر الحزب الأوحد وهو يتملقه في عام ١٩٨٥م: «لقد تكلم الشيخ طوال خمس ساعات ونصف دون الرجوع إلى مذكرة أو تجرع كوب ماء أو إعطاء نفسه فترة راحة أمام مستمعيه.»97 وكانت هذه الإنجازات هي الوسيلة الرئيسية لتذكير العالم بأن رئيس الدولة لا يزال حيًّا، مهما كانت معاناة الدبلوماسيين الذين يتعين عليهم المشاركة في تلك المناسبات. ولكن هل نحن متأكدون مع ذلك أن المشاركين في مؤتمر الحزب لم يكونوا يشاركونه خفية ما يعانيه من إرهاق للتدليل على طاقة «الزعيم» في فن الخطابة؟ وفضلًا عن ذاك، يبدو أن بول بيا، في الكاميرون، لم يتمكن أبدًا من التغلب على عيب رهيب يرجع إلى صوته «المسرسع» في مجتمع يعتبر أن الفصاحة، جنبًا إلى جنب مع النشاط الجنسي، من خصائص ممارسة الحكم، ودليلًا على امتلاك مبدأ الأيفو98 (وهو أداة السحر عند البيتي). ومع ذلك فقد تمكن من الحفاظ على سيطرته على الدولة في ظل ظروف دقيقة للغاية.
وإذا كان المقصود هو التنازل عن التفكير الثقافي الانغلاقي، فإن كل التعقيد ينجم عن كون الصفات السياسية مركزية وشاردة في آن واحد. فمن المناسب في جاوه أن يتباهى المرء بتألقه. فعندما غدا عزل أمنجكورات الثالث وشيكًا (۱۷۰۳–۱۷۰۸م) كان يبدو «شاحب الوجه كالصيني المعاني من المغص»، بينما تغير وجه سلفه أمنجكورات الثاني (١٦٧٧–۱۷۰۳م) عندما كان ذاهبًا للحرب. فهل هي مبالغات من جانب كتاب الحوليات في الأزمنة القديمة؟ وهناك ما يدفع إلى الاعتقاد بأن سوكارنو لم يهمل أبدًا هذا الجانب، وأنه استمد نوعًا من الشرعية من نزواته الماجنة في بلد يعتبر قوة الأمير الجنسية ضمانًا لازدهار مملكته.99 بيد أن جعل التألق صفة ملموسة وضرورية يعني التقدم خطوة لا يسمح لنا بالطبع بحثنا باجتيازها.
وفي مواقع أخرى توجد عادات أخرى (أو أفكار أخرى على أي حل). فالسنغاليون الذين لا يناصبون الحب العداء، يُبرزون مع ذلك الخصال السياسية المتمثلة في الجوم والكرسا والمون. وقد أوضح ذلك ليوبولد سيدار سنجور أمام مؤتمر حزبه في عام ١٩٧٦م.100

«الواقع أن نزعتنا الإنسانية في السنغال تقوم على ثلاث قيم كبرى، ألا وهي الجوم والكرسا والمون. والجوم […] هو الإحساس النفسي بالشرف والكرامة لدى إنسان مستقيم يحظى باحترام الآخرين ويتمثل في الأدب. الكرسا يمكن ترجمتها إلى «التحكم في النفس». إنها قوة الروح التي تمكننا من التحكم في غرائزنا وانفعالاتنا وعواطفنا لتوجيهها وإرشادها. وهي أيضًا ذلك الإدراك والذكاء الذي يدفعنا إلى تطبيق المعيار الصحيح بالنسبة لكل مشكلة. وهي أخيرًا التحفظ والاحتشام الذي يدفع إلى تجنب أي شطط، وأي نيل من الشخص، ولو بقدر ضئيل للغاية. أما المون فهو أبعد من أن يعني الاستسلام، إنه ذلك الصبر الفلاحي […] الذي يعني التماسك والدأب في العمل كما في الأفكار والمشاعر والفعالية.»

وقد استخلص من ذلك انتقادًا للمدينة وبالأخص للموظفين ورجال الأعمال الذين ينقصهم الجوم بفرط حبهم للمال، ويؤكد طيشهم افتقادهم للمون.101 ولكن يجب ألا نكتفي بقراءة سريعة لتلك الأقوال. فالكرسا في ذهن السنغاليين صفةٌ تخص الفرد الكريم المحتد. ولا غرابة في أن يكون هذا الوزير أو ذاك، المنتمي أصلًا إلى طائفة، فظًّا ونزقًا، على غرار ما تقوله الشائعات بخصوص السيد حبيب صيام أو السيد إيبا در صيام. وعلى العكس فإن «تحفظ» الرئيس عبده ضيوف يلهم كتاب السير الممجدة.102 ومع ذلك، فمن المناسب ألا نتغاضى عن استخدام المحركين لذلك السجل، وبالتالي التفاوض الدائم الذي يواصلونه مع «الاقتصاد الأخلاقي» في بلدهم. فالسيد عبده ضيوف يحرص على اختيار رئيس وزرائه من بين «أرباب الطوائف»، ولو من أجل ألا يثير تخوفه منه أو أن يسعى من أجل أن يخلفه في منصبه؛ كما أن تنديد سنجور بشطط المدينة يقصد به التذكير بأنه بطل ثورة اجتماعية سلمية ضمنت سيادة مناطق البلاد الداخلية والطرق الدينية على الصفوة المكونة من المولدين البيض في الخمسينيات.
والشعبوية التي انتقدنا أيديولوجيتها الثقافية الانغلاقية — ومنها على سبيل المثال الحركات الإسلاموية والحزب القومي الهندوكي — تستخدم على نطاق واسع المزايا المرتبطة بممارسات الكرم الحاتمي، وذلك باللجوء إلى «استراتيجيات خيرية»103 فعلية. ولعلهم يستمدون جانبًا كبيرًا من قوتهم من سجل إضفاء الذاتية هذا، الذي سيكون من الخطأ اعتباره مجرد إعادة توزيع مادية لصالح ناخبيهم؛ فهو أيضًا إكرامية رمزية أو أخلاقية تستجيب لتوقعات ذات طابع معنوي أو ثقافي، ومرتبطة بالجانب التخيلي، الذي يصعب تحديده بدقة لهذا السبب.
والمجتمعات الديمقراطية والبيروقراطية لها هي أيضًا أسلوبها السياسي المكوَّن من خليط عجيب من التمثلات الموروثة من التاريخ ومن تأثيرات الموضة. فهناك من جانب «القوة الهادئة» للذاكرة والواقع المحلي، وهناك من جانب آخر عنفوان وديناميكية الشباب وممارسة الرياضية أيضًا إذا أمكن. ويتعين على السياسي المحنك ترأس المآدب الجمهورية، والمواظبة على حضور الحفلات التشريفية، ولكن الظهور أيضًا في زي يبدو مسترخيًا، مصحوبًا بالأسنان المشرقة، والتظاهر بأنه فوجئ بتصويره بلباس البحر، ولماذا لا؟ والذهاب لاجتماع عام باستيقاف صاحب سيارة في الطريق العام مثل إدوار بلادور(٦) في ١٩٩٥م. والتصريحات التي أدلى بها بعض الشباب المناصر لجاك شيراك عشية انتخابه لرئاسة الجمهورية تؤكد أن الزعيم المنتخب بالاقتراع العام يتم اختياره أيضًا وفقًا لبعض المزايا التي تُنسب إليه:

«انتخبت شيراك لأنني أحبه؛ فهو جميل وله هيبة، وهو يبدو مثاليًّا في صوره عندما كان شابًّا. كان من الممكن أن أضاجعه في هذه السن، بل وحتى الآن على أي حال.»

«شيراك لطيف، له رأس مهرج، وأنا أحب ذلك. إنه الحرية وشرعية الحشيش. ألا تعتقد؟ إنه يجعل الإنسان يحلم على أي حال.»

«الأسرة، هذا هو المهم. من الواضح تمامًا أن زوجة شيراك مهووسة تمامًا وفقدت نضارتها إلى حد ما. رجل آخر غيره بوسعه أن يطلب الطلاق. شيراك، لا. لم يتخلَّ عنها. وحتى ابنته، لقد عثر لها على عمل.»104
وتؤكد هذه التعليقات مرة أخرى بتنوعها المثير للضحك الطابع المتناقض بل والنزاعي للمعالجة الذاتية في المجال السياسي. فهي ليست تعبيرًا عن ثقافة متأصلة في أعماق المجتمع بقدر ما هي إنتاج مستمر ومتذبذب، يشتد الخلاف حوله، خاصة وأن المبادرة تعود في الكثير من الأحوال إلى جماعات تابعة مثل العبيد المعتوقين في الإمبراطورية الرومانية، والحرفيين والعمال «الراديكاليين» في إنجلترا في عهد الثورة الصناعية، والمنقبين عن الماس في زائير موبوتو، وبروليتاريا ميناء سورابايا في جاوة والطوائف الدنيا في الهند.105
وفضلًا عن ذلك فإن سجلات المعالجة الذاتية متناقضة أساسًا وإن تدثرت جميعًا برداء «التقاليد» و«الثقافة»؛ إذ إن هذه الخاصية ليست سوى انعكاس لطابعها الزائل. فالجافانمرد (الفرسان) في طهران، بدءًا بغلام حسين كرباشتي عمدة المدينة، يحظون بالاحترام بوصفهم من الكرماء، كما أنهم مهابون ﻟ «غلظة رقابهم»، واللجوء المعاصر لهذا الأسلوب غدا من أبرع ما يمكن.106 وفي اللودرك الجاوي، يجسد الدور المحظور للممثل المتنكر في زي نسائي القواعد التقليدية للكياسة والذوق الرفيع التي تزدريها إلى حد ما بروليتاريا سورابايا المتمسكة بالقيم البوهيمية والرجولة، وإن كانت ترجو أن يقتدي شباب حيها بذلك في علاقاتهم مع من يكبرونهم في السن.107 كما أن روح الانضباط، والزهد في المأكل والمشرب، والتعاون المتبادل التي كانت تنشرها الميثودية، و«طقوس التضامن» الخاصة بالراديكالية العمالية، لم تكن تحظى بإجماع العمال الإنجليز، إذ كانت لدى الحرفيين تطلعات أكثر «أرستقراطية»، كما أن كلًّا من الفسق والإسراف في تعاطي الخمور والإجرام، يطرح معايير أخلاقية مختلفة.108 وأوضحت أيضًا الدراسات الكلاسيكية لجون بيت-ريفرز أن اللبس في الصفات الأخلاقية ناجم عن أنها تقول طواعية إن جوهرها ديني مع اعتمادها على التفاعل المتبادل بين الشركاء الاجتماعيين؛ فكرامة رب العمل هي قبل كل شيء من فعل العملاء الذين يحترمونه. و«الحَسينة» عند المرينا، أي القوة والبأس والخصوبة بل والقداسة التي تشكل معًا فضيلة الملوك الأبطال، ليست واقعًا في حد ذاته بقدر ما هي ثمرة ممارسات الرعية وخدعة ثقافية: «ما ينجم عن اللبس المتضمن في مصطلح الحسينة هو إمكانية تصويره على أنه صفة طبيعية يمتلكها من هم أرفع منزلة، وميزة مفيدة لمن هم أقل شأنًا: والواقع أن هذا الوهم ناتج عن تصرف عكسي: إنه الهبة […] المقدمة من الأقل شأنًا للأرفع منزلة.»109
وتلقى تلك المعالجات الذاتية المزيد من الصدى على النسيج الاجتماعي مما يستدعي إعادة تعريف الدولة وأتباعها، بل وحتى إعادة تصور تأسيسها. والواقع أن هذه المعالجات الذاتية تطلق العنان لتماثلات تزعم أنها الأصل بالرجوع إلى الدم، والمني، والأرض، والهوية، والأصالة. وهي بهذا المعنى عمليات إضفاء للذاتية تتشابك مع التقاليد، وتعتمد عليها استراتيجيات الهوية في المجال السياسي. وهي تصبح شديدة التأثير عاطفيًّا بل واستيهامية ومثيرة للهلع المرضي، وتنتهي بتخيلات مشئومة عن النقاء. وعندئذٍ يلوث الآخر طهارة الجماعة والسلالة والأمة والطائفة والإيمان. والإحساس بهذا الخطر يتم من خلال خفايا الجنس وكذلك خفايا الموت. والتماس نقاء الهوية بلا طائل يتم في ظروف اجتماعية محددة ومعقدة. غير أن هذا السعي يمكن أن يتحول إلى معادلة تبسيطية مفجعة تظهر تفوق وكمال الذات عن طريق الحط الجسدي للآخر وتحطيمه رمزيًّا. وذلك هو مغزى التعذيب الحديث الذي لا يهدف إلى استخلاص معلومات أو اعترافات، بل إلى خلق العدو وتطهير المجتمع من عناصره الدنسة وتحطيم إنسانية الهدام.110
ولما كنا قد توصلنا إلى تلك الحدود القصوى لسياسة الهوية، فإننا ندرك على نحو أفضل كيف ينساق المحركون في تخيل يشكل «عنصرًا مستقلًّا ذاتيًّا في الحياة الاجتماعية».111 وكثيرًا ما يتم إبراز قيام عناصر محركة عقلانية باستخدام التخيل كأداة. غير أن الفكرة التي عرضها مثلًا بيير أنسار حول «إدارة الانفعالات السياسية» تقليصية. فلا يكفي التساؤل حول «إنتاج إشارات محركة للمشاعر ترمي إلى استهواء أحاسيس ملائمة»، ولا إثبات كيف تحافظ السلطة على بقائها «بالحفاظ على الانفعالات المناسبة».112 ولا يعني ذلك أن هذه الجوانب تشكل كمًّا يمكن إهماله. فالنظم الملكية المطلقة في أوروبا والحكومات الشمولية في القرن العشرين تملقت وكثيرًا ما تلاعبت بالمؤثرات السياسية لدعم مراكزها. وقد حرص جان-ماري لوبن على تعيين «مسئول للتظاهرات الكبرى مكلف بالإخراج والجانب الجمالي»، عكف على تغيير أسلوب الاجتماعات العامة للجبهة القومية باستلهام تقنية المبشرين التلفزيونيين الأمريكيين، وذلك برفع أعلام الأقاليم الثماني والثلاثين في ظل العهد الملكي القديم «كرمز لتأكيد وترسيخ معارضة الجبهة القومية للتقسيم الإداري الحالي للمناطق» في فرنسا، وبوضع محاربين قدامى أسفل المنصات «تكريمًا لمن ناضلوا من أجل فرنسا، ولإنكار الخطاب الذي يصورنا على أننا حزب التعاون مع الأعداء»، وبتزويد القاعة بمكبرات للصوت تصدح بموسيقات هاندل وبيتهوفن وفردي: «هناك بعدٌ مقدس في السياسة نسيته الأحزاب الأخرى. إننا نحاول العودة إلى تلك الأبهة في الاحتفالات، ومن هنا اللجوء إلى اللون الأبيض المعبر عن النقاء. الناس في حاجة إلى ذلك. يجب تزويد السياسة بالأحلام.»113 وليس هناك ما هو أفصح. وعلى أي حال فإن استراتيجيي الأحزاب الأخرى لا يتصرفون على نحو آخر، ويستعينون بمستشارين في مجال الانطباعات الذهنية، الذين قد يكونون أقل موهبة أو أكثر تحفظًا بخصوص هذا النوع من التأثيرات والأحاسيس والرموز السياسية التي يودون تحريكها.
على أن كل ذلك لا يفسر على أي حال لماذا يستجيب الأفراد والناخبون والمناضلون لتلك المؤثرات السياسية التي تُعرَض عليهم. وفضلًا عن ذلك، فإن المسئولين السياسيين وخبراءهم يخضعون بدورهم للتخيلات التي يبذلون الجهود لاستخدامها بهدف تأكيد الانتساب. والقادة الإيرانيون الذين استخدموا اللون الأحمر، لون يزيد للبطاقات الانتخابية المعارضة، واللون الأسود، لون الشيعة، بمناسبة الاستفتاء الدستوري في عام ١٩٧٩م، هل كانوا بعيدين عن نموذج كربلاء؟ هل كانوا من الوقاحة أو الغباء بحيث يتصورون أن الذي حقق منذ فترة وجيزة إحدى أعجب الثورات على مدى التارخ سيقبل الانقياد بتلك الطريقة الفظة؟ والأرجح أن اللون الأحمر عند المعارضة كانت له قوة البداهة بالنسبة لهم. ونجد هنا من جديدٍ النقاش الذي صادفناه بخصوص الهويات الأولية، ومنها بالأخص الطائفية في الهند. ولنفترض أن القادة القوميين لجئوا عمدًا إلى صنع الوعي الإسلامي أو الهندوكي لكسب المزيد من المؤيدين اعتمادًا على إدخال نظام الاقتراع العام. ولكن يتعين أيضًا أن يستجيب الناخبون لمسعاهم … وقد تجاوز مارك بلوخ بشكل جيد تلك المعضلة الزائفة بدراسة أصول «اللمسة الملكية» في فرنسا وإنجلترا؛ فلكي تفرض نفسها مؤسسة ما على شعب بأسره، يجب أن تكون مدفوعة من جانب تيارات عميقة للوعي الجماعي؛ وفي المقابل فإن تمكن عقيدة غامضة إلى حد ما من التحول إلى طقوس منتظمة، يحتاج إلى بعض الإرادات النيرة التي تساعدها على التشكل.114
وهكذا يتعين «تحليل حالات الانفعال في حد ذاتها»،115 وفهم لماذا وكيف ينقاد أناس طيبون في رواندا، ومؤمنون بالمسيحية، ويقيمون علاقات حسنة مع جيرانهم، كيف ينقادون وراء ما توعز به إذاعة راديو الألف تل، لكي «يشوفوا شغلهم» حسب هذا التعبير الفريد، والمفهوم على ما يبدو بالنسبة لكل فرد، والذي استخدمه محركو عملية إبادة الجنس، فيقطعوا بالسواطير معارفهم وزملاءهم في موجة عاتية من الضراوة غير المعقولة، أو يعرضوا عليهم موتًا «فاخرًا» بإطلاق الرصاص إذا كان بوسع هؤلاء شراؤه، ويلقوا الأجسام، الحية أحيانًا، في المراحيض أو يتركوها لتنهشها الكلاب. فهذا هو التخيل السياسي في منطقة البحيرات العظمى، الذي تجاوز بعض مرامى سادة كيجالي الجدد، مهزومي سلطة الهوتو التي قد تكون مؤقتة، أو قلوب المنظمات الإنسانية الرحيمة؛ كلاب متخمة بلحم البشر، وجيران تكتشف لديهم (أو يظن أنها اكتشفت) حاجيات الأقارب الذين ذبحوا، ومن بقوا على قيد الحياة الذين ستحوم دائمًا حولهم الشبهات، ومنتصرون خبلتهم الآلام يقودون شاحناتهم وهم مخمورون، ويتامى من نوع خاص.116 وباختصار، قدر كبير من الانفعالات يتم إدارته، ولكنه بالطبع ما هو أكثر من ذلك إلى حد ما.
والواقع أن ما يجب أن يلفت أنظارنا ليس قيام صدام حسين بتوجيه تحيته مثلًا ﻟ «انتصار العراق المعنوي» في ٢٦ فبراير ١٩٩١م، ودفعه المسئولين عن الدعاية إلى إعلان أن «الحرس الجمهوري حطم العمود الفقري للمعتدين وألقى بهم خارج الحدود».117 كما أنه ليس أيضًا احتمالًا لتصديق العراقيين لما جاء في هذا الخطاب، لأن عددًا منهم لم يقبل ذلك وأعلن تمرده. إنه بالأحرى استمرار مساندة هؤلاء العراقيين إن لم يكن لصدام حسين فعلى الأقل لنظامه، وقبولهم هذا الكلام الرنان، وهم يعلمون تمامًا أن بلدهم هُزم فعلًا بأفظع طريقة على أثر رهان مجنون.
لقد تظاهر بول فين بالتساؤل حول إيمان الإغريق بأساطيرهم، فأوضح أن ذلك لم يكن القضية لأن «الثقافة، ليست زائفة، وإن لم تكن صحيحة أيضًا».118 والطفل البالغ من العمر اثنتي عشرة سنة، والذي كان يؤدي دور جورج بوش في داكا وسقط على أثر إصابته بالحجر الذي قذفه به زميله في التمثيل المتقمص شخص صدام حسين، كان يعلم تمامًا أنه ليس جورج بوش. وينطبق ذلك أيضًا على الكبار الذين كانوا يتابعون المشهد ويطلقون بالطبع صيحاتهم، ولم يحُلْ ذلك دون موت الصبي.119 وينتمي التخيل إلى منطقة الظل الواقعة بين الصحيح والزائف التي يكشف عنها «التأثير المزدوج» (مارك بلوخ) لاستخدام الأداة والقبول بها. وبعبارة أخرى يقوم التخيل على مبدأ اللبس الذي يرعاه عند الاقتضاء المحركون السياسيون. فالكاتب المسرحي بالجبهة القومية يصيح بمكر لا يخلو من ذكاء: «إنهم يشبهوننا بالنازي لأننا نضع فوق منصاتنا أواني مشتعلة. هذه حماقة، هل تهاجمون الألعاب الأولمبية لنفس السبب؟»120

التخيل – مبدأ اللبس

فلنعد مرة أخرى لتلك النقاط حيث إنها حاسمة. التخيل مركز للانفعالات والجماليات والأخلاق والنشاط الرمزي، وهو بحكم تعريفه مجال لبس وتعريف فوري. وبما أنه يتم الاعتراف بوضعه المركزي في الممارسات السياسية، فإننا ندرك أن تلك الممارسات تكون هي أيضًا ملتبسة.

بيد أن خاصية السياسة هذه غير معترف بها، سواء من جانب المحركين — فهم يدعون في أغلب الأحوال أن دافعهم مثل أعلى، حتى وإن كان عقلانيًّا أو مفيدًا — أو من جانب العلم السياسي الوضعي والنفعي أساسًا.121 فالناخبون الذين يهزءون من انتهازية قادتهم ويستاءون من فسادهم ليسوا أكثر استنارة؛ إذ إنهم يأملون تحقيق الطهارة عن طريق هؤلاء رغم كل الحقائق. والواقع أن ملحمات العالم الحديث الرئيسية بلغت حدًّا من اللبس تاه معاصرونا وسطها عن طيب خاطر. وتشهد على ذلك المناقشات الموجعة في أوروبا واليابان والولايات المتحدة حول المسئولية عن الجرائم ضد البشرية التي ارتُكبت أثناء الحرب العالمية الثانية.
غير أن المعارك ضد الاستعمار في آسيا وأفريقيا لم تكن أوضح. فمقاومة أهالي هذه البلاد لم تستبعد أبدًا تعاونهم؛ إذ تحولت بعض الشخصيات أو المجتمعات بسرعة من موقف إلى موقف آخر. وقد رأينا من قبلُ أن النظام الاستعماري يعتمد على حالات «سوء التفاهم الفعالة» التي تؤدي إلى «صيغة تفاوض حول الواقع» بين الحكام (أو المبشرين) وسكان البلاد.122 وهكذا يحقق كل طرف من الأطراف تخيله الخاص، في أغلب الأحوال عن طريق الاحتفال الضمني بتسوية تتم أحيانًا بعد مواجهة كان من الممكن أن تؤدي إلى اضطرابات حقيقية طويلة الأمد. وقد سبق أن لاحظنا أن تلك التفاعلات اليومية المتبادلة ناشئة عن تخيلات مشتركة جزئيًّا على الأقل — تخيلات التنمية والتقاليد والقومية — بما في ذلك عندما كفت ضروب سوء التفاهم الاستعمارية عن أن تكون فعالة وتردت في حروب بشعة. وهكذا تظل الذاكرة التاريخية تحكم العلاقات بين فرنسا والجزائر أو فيتنام بعد عدة عقود من إعلان الاستقلال. والواقع أن المطلب الوطني كان ملتبسًا بقدر ما كان الاستعمار نفسه؛ فهو في آن واحد سعى إلى الحرية والكرامة، وعزم على الإثراء وعلى الارتقاء الاجتماعي، وإقامة نظام لامساواة وظلم من جديد، بل وتبني مشروع إمبريالي مأخوذ عن البلد المستعمر على حساب الشعوب المجاورة. فقد تعاونت في أفريقيا نفس الحركة التاريخية مع المحتل، ونالت تدريجيًّا من نفوذه في الفترة الواقعة بين الحربين، وتغلبت عليه في نهاية الأمر، وحوَّلت موارد البلاد الاقتصادية لصالحها، أولًا تحت ستار التأميم، ثم من خلال التحرر الاقتصادي والخصخصة التي طالب بها مقدمو القروض الدوليون. والاستقرار الواضح للنخب السياسية يشهد في العديد من الحالات على تواصل مختلف مراحل قيام الدولة.123 وحتى المسلك في النضال ضد الأبارثيد لم يتخلص من شكل من أشكال أفلام رعاة البقر العنصرية التي حرص الأدب التقليدي على تقديمها. وقد حللت شولا ماركس في دراسة لها متعمقة «التباسات التبعية» في أفريقيا الجنوبية: التباس الدولة، والتباس القومية، والتباس الطبقات والوعي الطبقي، ومن بينها «سياسة إنارة التوتر» التي يتبعها الزعيم بوتلويزي ليستخلص منها نتيجة محفوفة بالمخاطر.124 وهناك إحساس غامض في بعض أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء بذلك التواصل المقلق من الاستعمار إلى مرحلة ما بعد الاستعمار.125
أما الثورة فهي أيضًا مملكة الوضوح والغموض. ويتجلى ذلك في المصاعب التي يصادفها المؤرخون والمتخصصون في العلوم السياسية لتبين أنصبة كلٍّ من التواصل والتصدع. وفي رأي توكفيل أن الثورة الفرنسية تحولٌ طرأ على المركزية الملكية، ويمكن قول نفس الشيء بالنسبة للنظام السوفيتي في روسيا وجمهورية الصين الشعبية والجمهورية الإسلامية في إيران أو الجمهورية الأتاتوركية في تركيا.126 وفي عام ١٩٦٤م، أسرف المتمردون الكونغوليون في اتباع الطقوس البيروقراطية للنظام الذي كانوا يريدون إسقاطه، وذلك رغم إيمانهم بقيام الآخرة بعد ألف عام من عودة مملكة المسيح ونزعتهم الهدامة. فقد نبه ماليمبي، رئيس «حكومة مانييما-كيفو الثورية»، نبه الموظفين إلى أنه لن يستقبلهم إلا «مزوَّدين بتصريحٍ تسلموه من رئيسهم المباشر، بناءً على موافقة السكرتير العام الإقليمي والسكرتير العام». وأضاف إلى ذلك أنه «إذا لم يكف من الآن فصاعدًا هؤلاء الموظفون ذوو النزوة الحماسية عن تخطي حقوق الرؤساء، فستُتخذ ضدهم إجراءات رادعة».127 وقد بيَّن لنا تحليل القومية والإسلام عامة أن التضاد والرقص يمكن أن يكونا وسيلة لتملك مفاهيم الخصم وقيمه ومؤسساته.
لقد آن الأوان إذن للإقرار بأن اللبس سمة جوهرية ملازمة للسياسة. وربما لا تساعدنا في ذلك المفاهيم الرائجة في الجامعات الغربية. غير أن بعض السجلات الثقافية في المجال السياسي تفوح منها تلك الخاصية التي نعتبرها مشكوكًا في أمرها. فالمواطن الإسبارطي اليافع كان عليه أن يتعلم خلال تدريب قاسٍ ألا يراه أحد، وأن يسرق خلسة، وأن يتسلل دون أن يلاحَظ إلى الحدائق والولائم، وأن يلبد في النهار ليهاجم أثناء الليل، وألا يمكِّن أحدًا أبدًا من إلقاء القبض عليه، وأن يفضل الموت على الاعتراف بالسرقة، حتى وإن كانت السرقة جزءًا من الواجب المفروض عليه. كما أن ترقيته إلى مرتبة المواطن كانت تقضي، بشكل مفارق إلى جلده بلا حدود، مع أنه عقوبة مُخلة بالشرف يُعفى منها الرجال الأحرار وتخصص للآخرين. وكان الفتيان من الإسبرطيين يُجلدون بشكل خاص عندما تتم مفاجأتهم وهم يسرقون أشياء تافهة؛ وذلك عقابًا لهم، لا على السرقة ولكن لعدم مهارتهم.128 وعلى غرار القنص والصيد، كان ما يُسمى الميتس métis عند الإغريق القدامى «يأتي في مقدمة النشاطات التي تقتضي أن يتعلم كل إنسان كيفية التصرف في مواجهة القوى المعادية الشديدة البأس التي تستعصي السيطرة عليها، ولكن يمكن استخدامها رغمًا عنها، دون مواجهتها بشكل مباشر، وذلك لتحقيق المشروع الذي جرى التفكير فيه مليًّا، بطريقه غير محسوبة أصلًا.
«في كل حالات المواجهة أو التنافس […] يمكن تحقيق النجاح بطريقتين؛ إما بتفوق القوة في المجال الذي يدور فيه الصراع، حيث يحقق الأقوى النصر، وإما باستخدام وسائل من نوع آخر، يتمثل أثرها بالذات في قلب نتائج المباراة وجعل النصر من نصيب من كان من المفترض أن يهزم بالتأكيد. وهكذا فإن النجاح الذي يحققه الميتس يكتسب معنًى مزدوجًا؛ إذ يمكن أن يثير ردود فعل عكسية، حسب الأحوال. فقد يُنظر إليه على أنه نتاج تزوير لعدم احترام قواعد اللعبة، كما أنه قد يثير الإعجاب، خاصة وأنه كان مفاجأة شديدة لأن الأضعف وجد في ذاته، على عكس ما هو متوقع، ما يكفي من الموارد لجعل الأقوى تحت رحمته. بيد أن الميتس تتجه من خلال بعض أوجهها نحو المكر المعتمد على الغش والكذب الغادر والخيانة، وهي أسلحة محتقرة يلجأ إليها النساء والجبناء. ولكنها تبدو من جوانب أخرى أثمن من القوة، فهي بطريقة أخرى السلاح المطلق، والوحيد القادر على ضمان الانتصار والسيطرة على الآخر في كل الحالات، وأيًّا كانت ظروف الصراع.»129
وتعقد دينيز بولم مقارنة بين الميتس الإغريقي وما يقوم به مخيِّب الأمل (trickster) عند الباحثين الإنجليز في مجال الفولكور، حيث يؤدي مخيب الأمل هذا في الحكايات الأفريقية الدور الرئيسي، رغم تنوع تجسيداته التي تكتسب معنى كونه أرنبًا بريًّا أو عنكبوتًا أو ولدًا ماكرًا. وتتمثل تلك الشخصية في صور مفارقة «لمخلوق فاقد المهارة لا ينجز المهمة المستحيلة إلا ليفشل في اللحظة الأخيرة». «فالخدعة لا تنتصر، في الحكايات على الأقل، إلا إذا أدت إلى إنقاذ البريء، أو فضح الجاني أو رد اعتداء». ويتميز مخيب الأمل «بمهارته في استغلال الظروف، وبالأخص عن طريق إحلال غيره محله، ليقلب الوضع لصالحه»، وذلك بفضل «مرونته» و«ريائه» و«كيده» و«تنكره»، وهو يحظى بإعجاب الجمهور، وإن كان يثير مع ذلك «مشاعر معقدة» تجمع بين الاستحسان وإثارة لبسه، وإن كان يثير مع وسلوكه الكريه في الكثير من الحالات.130 وكثيرًا ما يتخذ الشخص المؤثر سياسيًّا أو اقتصاديًّا في أفريقيا المعاصرة مسلك مخيب الأمل — سواء كان رئيسًا للجمهورية أو وزيرًا أو متنبيًا، أو تاجرًا، أو قاطع طريق، أو نصابًا، أو تاجر مخدرات أو مهاجرًا — فيقلب تحالفاته ويخدع الخصم، ويستغل الساذج، ويلجأ إلى التهرب من الجمارك ويعبر الحدود خلسة.131
وعلى نفس المنوال، تقضي عقلية تاجر البازار الإيراني أن يكون حساسًا، وأن يجيد التصرف، وأن يتقن أناقه الملبس، إذ كيف يتصرف الجافانمارد (الفارس) عندما يرى رجلًا يمر وبيده سيف، يأخذ منه وعدًا بألا يقول شيئًا لمطارديه، سوى أن يغير مكانه حتى يمكنه أن يعلن لهؤلاء أنه لم يرَ أحدًا «منذ أن جلس في مكانه هذا».132 كما أن المذهب الشيعي يسلم للمؤمن بإمكانية كتم إيمانه عند الضرورة، وتلك هي التقية أو الكتمان الذي أفزع المخبر السري الذي تعرضنا له باستفاضة في بداية هذا الكتاب. والدبلوماسيون ورجال الأعمال الغربيون يتخبطون في مفاهيمهم المتعلقة بالاستقامة والثقة، والتي تدفعهم إلى النفاق والكذب والإحساس بالخطأ. فالمتعاملون معهم رضعوا لبن الخداع والتضليل منذ نعومة أظافرهم، ويعتبرون ذلك خصالًا طيبة أو أسلوبًا لا غنى عنه في مجال الأعمال وشئون المجتمع. وهكذا تستعين اللغة الجارية في إندونيسيا باستعارات مسرح العرائس والقناع الشائع في الدراما الجاوية التقليدية (الوايانج) للحديث عن التصرفات السياسية والطابع العادل لتبديل الموقف، وهو ما نعتبره في عُرفنا خيانة أو تراجعًا فاضحًا.133 ووفقًا للفكر الصيني الكلاسيكي يبرر البرود ما نسميه الانتهازية. وتنصح حكمة طاوية: «اترك قلبك يتحرك في حدد البرود والتجرد، واربط أنفاسك الجياشة باللامبالاة العامة. ولو تابعت حركة الأشياء التلقائية دون أن تسمح بتفضيل فردي فسيكون العالم بأسره في سلام.» علمًا بأن هذا «الدرس في مجال انعدام الطعم» يصلح للسياسة، كما جاء بوضوح: «بفضل بروده […] يكون للحكيم نصيب في كل الفضائل دون التورط في أيٍّ منها، ويكون مستعدًّا لمواجهة طوارئ الزمن في هدوء، على غرار السماء التي يبدو أنها تتغير كثيرًا، ولكنها لا تعدل أبدًا عن صفائها.»134
وسيكون رجل الأعمال عندنا وكذلك الدبلوماسي الغربي مستعدًّا للتحدث بإسهاب وبمساعدة وطأة التفكير الثقافي المنغلق عن روح الأصفر والأسود التي يستحيل سبر أغوارها. وسيذكرون بهذا الصدد كتاب المكائد الذي لا مفر منه حول هؤلاء العرب المخادعين والفرس المرائين. وبوسعهم، مع ذلك، الرجوع إلى تقاليدهم الفكرية. فالفلسفة الأفلاطونية الحديثة التي تحيي «الرياء الشريف» و«المداهنة» لم تكن مستنكرة دائمًا في أوروبا.135 ولكن ها نحن بصدد العقلية الثقافية المتشددة التي نرفضها؛ إذ تفترض بالذات إنكار اللبس كخاصية مؤسسة للسياسة، اللهم بالطبع إلا إذا تعلق الأمر بإسباغها على بعض «الثقافات» التي تلقى إلى حد ما الازدراء (أو تثير الانبهار). وقد بينت لنا الفصول السابقة كيف كانت الدوافع الثقافية للسياسة تلجأ إلى الاستعارات. بيد جرعة كافية من اللبس، فبدونها لن تكون هناك استراتيجيات انفتاح ثقافي خارجي أو تحويل للمعاني، أو إجراءات تأصيل، أو إقامة هويات أولية، كما لن يكون هناك أيضًا تعدد للمعاني في الخطاب السياسي. فهذه الجرعة تشبه الوقود بالنسبة لما تذكره السياسة.
ويغذي اللبس بالأخص البيان السياسي الأكثر شيوعًا في العالم في الظاهر على الأقل، ألا وهو البيان الذي يستخدم القرابة في علاقات السلطة. والواقع أن هذا الطابع العام ليس سوى سراب؛ فكلمة «القرابة» خادعة إذن، بلا شك ومعيار خاطئ في المقارنة بين الوقائع الاجتماعية. فهي لا تشير إلى نوع محدد من الظواهر ولا إلى طراز معين من النظريات.136 ومن باب أولى فإن التدبيرات الأيديولوجية والسياسية للعلاقات الاجتماعية التي تنسب نفسها ﻟ «القرابة» ملفقة. فأين هو الجانب المشترك بين ميثولوجيا الدولة والمنشأة العائلية في اليابان، بعد ثورة المنجي؛ وبين تمثلات الدولة-الأم أو الوطن الأب في تركيا، وبين اختلاف القرابة في المبادلات التجارية في أفريقيا جنوب الصحراء، وبين تخيل الوحدة الأسرية عن طريق منظمات البيع المباشر في الولايات المتحدة؟ ليس هناك احتمال لوجود علاقة هامة بالنظر إلى أن علاقات القرابة التي تستند إليها الاستعارات تختلف من مجتمع إلى آخر، وأيضًا من مجموعة إلى مجموعة أخرى في نفس المجتمع، حيث إن الأسرة تشكل موقعًا بارزًا في مجال التغيرات الاجتماعية.
وفضلًا عن ذلك، نادرًا ما يكون الوعي العائلي بالسياسة صافيًا دون أن يختلط بأنواع استطرادية أخرى تؤدي في نهاية الأمر إلى تنويع طريقة العرض هذه. فعندما يعلن الرئيس بيا في الكاميرون: «أنا أبو الأمة، أفكر في الجميع، في كل أبنائي»، فإنه يتخذ لحسابه صورة رئيس أهل البيت، مع إضفاء صبغة مسيحية عليها لكي يجعل نفسه ضمنًا الإله الأب وفقًا لمفهوم دارج في النظم التسلطية بالمنطقة.137 والأسلوب الأبوي للقادة في آسيا الشرقية رائج هناك بفضل «القيم الآسيوية». ورغم أن هذا الأسلوب ينهل من مخزون مختلف من التمثلات «الكونفوشيوسية الجديدة» المزعومة، إلا أنه يتطعم بحكم الأوضاع بمصادر أخرى.
ونحن نعلم أيضًا، منذ فرويد، أن المشاعر بين الآباء والأبناء متشابكة على أقل تقدير. وهكذا فإن هذا النوع من الخطاب السياسي يمكن أن يصوغ توجهات متناقضة في ظل وضع معين، وأن يغذي ازدواجية وجدانية حقيقية تجاه المتولين زمام السلطة. فالعلاقات بين الحكام والمحكومين في غاية الغموض والتحول، ويسجل الواقع بغزارة انقلابات مفاجئة يتم من خلالها التحول من فيض التعبيرات عن الولاء إلى الرفض القاطع بل والمصحوب بأعمال العنف. فالاستعدادات لا تكون بسيطة أبدًا ومن الصعب التحكم فيها في كل الأحوال.138 «فالمسافر بلا مصدر ضوء يجب أن يسير بجوار من يمتلك مصباحًا. والصبي الذي يطيع والده يحظى دائمًا بالقبول، وينعم بالمساعدة والتعضيد في حدود الإمكانات»، وفقًا لما أعلنه في الخمسينيات أحد الأعيان من الكاميرون حرصًا منه على تبرير تعاونه مع السلطات الاستعمارية الفرنسية بينما كانت الحركة القومية تتعرض للقمع الشديد.139 كما أن جان بيدل بوكاسا صوَّر تصفيته لزميله العقيد بانزا بطريقة بشعة على أنها مجرد مسألة عائلية كان يتوجب عليه أن يحلها بإنزال العقاب به، كما يلجأ إلى ذلك كل أب عندما يقتضي الأمر اتباع هذا المسلك. وكان يحلو له التباهي بأنه الأب العطوف، بين عمليتَي ضرب لصَّين علنًا بالعصا قائلًا: «أنا الرجل العسكري أب طيب أيضًا […] ويجب أن يقول الأبناء كل شيء لأبيهم، ولا يجوز أن يخفوا عنه شيئًا […] ومن الأمور الطبيعية أن يقدم الأب هدايا لأبنائه وأن يطعمهم.»140

ويتضمن هذا النوع من الأقوال ازدواجية ذات حدين. فهناك أولًا المتعاون مع المستعمر المتمسك بإخلاص بما يقوم به هذا المستعمر، ولكنه ينفر من كافة ضروب الإهانة التي يتعرض لها من جانبه، والدكتاتور الذي لا يكف عن القتل والسرقة، ولكنه يوزع القليل أو الكثير، ويعزف في آنٍ واحد على لحن قائد السلام وقائد الحرب. وهناك في المقام الثاني ازدواجية متلقي هاتين الرسالتين: الإدارة الاستعمارية التي ترتاح لانضواء الأعيان تحت لوائها مع احتقارها لهم في الوقت نفسه ولو لمجرد دوافع عنصرية، مع مواصلة الاحتراس منهم على الصعيد السياسي، والتخلي عنهم أحيانًا عندما ينتصر عدوهم المشترك، على غرار ما جرى لأنصار فرنسا في الهند الصينية والجزائر، وشعب جمهورية وسط أفريقيا الذي كان يمقت الإمبراطور النهاب في أواخر أيام حكمه، وخرج عن بكرة أبيه في صفوف متراصة لإسقاطه، وتسامح معه مع ذلك بعد أن تم إسقاطه، وأقام خلفاؤه الدليل على أن وضاعتهم بلغت أقصى الحدود.

ويتجاوز هذا النوع من التمثلات السياسية بشكل آلي الاستخدام الأحادي المعنى الذي تميل بعض العناصر الفاعلة إلى اللجوء إليه، نتيجة لازدواجية تلك التمثلات. وتستغل بعض هذه العناصر المتميزة بمواهبها في هذا المجال هامش عدم التحديد. فجان ماري لين الحريص على تأكيد سلطته على عمد الجبهة القومية الذين تم انتخابهم مؤخرًا وإن كان مضطرًّا إلى الاعتراف باستقلالهم الذاتي يعتبر نفسه «ملهمهم» و«أخاهم الكبير».141 ويردد الجمهور التركي أغنية «بابا يعود» على نغمة لحن شعبي قديم وهو يستقبل سليمان ديمريل في اجتماعات حزب الطريق الصحيح في عام ١٩٩١م. ويعتبر نفسه هذا السياسي المحنك الذي لم يرزق أبناءً، «أب كل الأتراك» على غرار كمال أتاتورك، مع أنه يناصب العداء لورثته الأيديولوجيين المباشرين، ويؤكد أن قيادة الدولة يجب أن تكون «حازمة وعطوفًا». ورغم كونه الخلف السياسي لعدنان مندريس الذي أعدمته الحكومة العسكرية في عام ١٩٦١م، من حقوقه المدنية على أثر انقلاب ١٩٨٠م، إلا أنه يتبنى في أحاديثه مفهوم «الدولة الأب» (دفلت بابا) التي يعتبر الجيش نفسه الوصي الشرعي عليها. وحزبه المسمى حزب الطريق الصحيح الذي يستعيد ما يكاد يكون تقريبًا الاسم المطابق لحزبه القديم — حزب العدالة، المحظور — هو ضمنيًّا حزب الطريق القويم الذي يمكِّن أبا الأمة من إرشاد الناس، دون أن يخلو مع ذلك من صبغة إسلامية حذرة في مواجهة الجيش. وتشير هذه الرسائل نصف الصريحة لا إلى إدارة رشيدة للأهواء، بقدر ما تشير إلى مجال انفعالي معقد لا يمكن أن يدعي أحد أنه يتحكم فيه، ويكون القابضون على زمام السلطة أنفسهم أسرى له.

لقد أعلن كوناريه، رئيس مالي بكل حذق في يوم تنصيبه في عام ١٩٩٢م: «أنا لست أبا الأمة، ولكن مجرد واحد من أبنائها، أوكلت إليه مهمة الاضطلاع بدور الابن البكر.» حرصًا منه على أن ينأى بنفسه عن أسلوب موسى تراوريه الدكتاتوري، مع التمسك بأولوية ذات طابع ديمقراطي. على أن فكرة البكورة هذه لها فحوى زاخر في أفريقيا، حتى إن المنتخب الجديد لتولي منصب الدولة الأسمى يكون واثقًا من أنه قادر على استيعاب كل أصدائها لدى المستمعين. وعلى أي حال فإن الأخ البكر ينتظر الطاعة من جانب أخيه الأصغر وإن كان يتعين عليه أن يحميه ويمد له يد المساعدة. وهو يستغل تلقائيًّا قدرته على العمل، ويقدم له في مقابل ذلك مختلف أنواع المخصصات. وتلك مبادلة غير متساوية بلا شك، ولكنها على أي حال وسيلة للحصول على شيء من صاحب السلطة مقابل الاعتراف بحقه في البكورة. وهناك ولاءات يتم الإعلان عنها بشكل صارخ باسم علاقات قرابة وهمية من الممكن الاستغناء عنها، خاصة وأن الأخ البكر الذي لا يفي بالتزاماته يضع نفسه في موقف من تحوم حوله الشكوك بأنه يلجأ إلى الشعوذة.

وهناك واقعة ذات مغزى في الحياة السياسية الكينية تعطي صورة واضحة عن إمكانات استغلال صفة القرابة في العلاقات مع السلطة وتحويلها إلى أداة رمزية بفضل منطقها الخاص. ففي عام ١٩٨١م، أكَّد أودينجا أوجينجا، زعيم المعارضة السابق، أن الرئيس آراب موي دعاه إلى الانضمام إلى الحكومة على النحو التالي: «هيا بنا يا بابا، انضم إليَّ، ولنعمل معًا من أجل هذا البلد.» وقال إنه مستعد للإقدام على تلك الخطوة، لأن رئيس الدولة يعمل، على عكس سلفه جومو كينياتا، من أجل الواناشي، أي أولاد البلد، وليس لنفسه. غير أن السيد آراب ما كان يمكن بالطبع أن يقبل أن يضح أودينجا أوجينجا نفسه بهذه الطريقة في مركز أعلى بالنسبة له. وقد استنكر ذلك بشدة مؤكدًا أنه لم يطلق أبدًا على أودينجا لقب «بابا»، وأنه لا مجال على أي حال لأن ينسب نفسه إليه في نفس الوقت الذي ينتقد فيه كينياتا. وفي اليوم التالي خاض هذه المعركةَ الكلامية نائب طالَب شيخ المعارضة الجليل الذي يعتبره «أباه في السن والسياسية» بأن يترك كينياتا وشأنه. وانتهت الحرب الكلامية بعد ذلك بأسبوع عندما أعلن آراب موي في اجتماع عام وفي حضور أودينجا أوجينجا قائلًا: «أنا «الأب» الوحيد، والرئيس الوحيد لحكومة هذا البلد.»142 وبهذا الأسلوب التلميحي المميز للحياة السياسية الكينية اتخذ حوالي ثلاثين عامًا من الخصومات الشخصية والخلافات الأيديولوجية والمنافسات الاثنية أو الإقليمية والنزاعات المتراكمة شكل تبادل للحجج والردود اللاذعة التي تدور حول صورة الأب. غير أن هذه الصورة وغيرها من الجوانب المرتبطة بها تثير مشاعر وانفعالات لها قوتها الخاصة بها التي تتجاوز مقاصد المحركين؛ فصورة «بابا» المستعارة تجد معناها بإسهاب في كل ذلك «الاقتصاد الأخلاقي» الذي كان تعريفه المتناقض أحد مواقع المواجهة في التاريخ السياسي الكيني منذ الفترة الواقعة بين الحربين.143
والواقع أن منح الاستقلال الذاتي لمصطلح القرابة باعتباره مصطلحًا ملتبسًا بالنسبة للسياسة، يكشف عن قضية أهم بكثير من «إدارة الانفعالات» التي تكون دائمًا مسألة غير مؤكدة، إذ إنها تتعلق بالتناظرات الكامنة بين التحولات داخل الأسرة والتغيرات في التخيلات السياسية، أي «ذلك التشابك بين المشاعر الخاصة والسياسة العامة» الذي حلله مثلًا لين هنت فيما يتعلق بالثورة الفرنسية.144 وكان بورك قد اشتكى أصلًا من أن الإهانة التي تعرض لها من الملك والملكة في أيام أكتوبر ۱۷۸٩م مسَّت «كل الروايات الخيالية الطريفة التي كانت تخفف وطأة السلطة وتضفي المرونة على الطاعة، مما كان يؤكد الانسجام بين مختلف جوانب الحياة، ويحقق السيادة في الحياة السياسية بنفس المشاعر التي تجمل الحياة الخاصة وتلطفها، من خلال الاستيعاب غير الملحوظ».145

ويجب ألا تتمثل معالجة التصور الأسري الملازم لشكل سياسي ما في دراسة الاستخدام السياسي للنماذج الأسرية من أجل إضفاء المشروعية أو تبرير المعارضة السياسية، ولا بالطبع أيضًا من أجل تقدير تأثير تمثلات القرابة على النشاط السياسي، من زاوية المفاهيم الثقافية أو النفسية البحتة، بل يجب أن تتمثل بالأحرى في تبين مسار المناهج الانفعالية الرمزية أو المعرفية بين المجالين. فبوسع التخيل السياسي أن يغذى من جهة التخيل الأسري بالإسهام مثلًا في «مقرطة» ممارسة السلطة الأبوية. ومن جهة أخرى فإن التخيل الأسري يستطيع أن يغذي التخيل السياسي خاصة بإمداده بمبادئ الثقة والأمانة الزوجية التي تشكل واجبات الحياة الاجتماعية وروابطها (على غرار ما يقوله بورك): فبوسعنا أن نرى الآن في فرنسا كيف أن الرئيس جاك شيراك الذي يتظاهر بالاستخفاف بالكشافات الدوارة فوق السيارات وسائقي الدراجات النارية، يستعيد بعض جوانب البساطة المميزة للأب العصري، فيصحب ابنته في الحفل الذي أحيته مادونا.

بيد أن التفكير السليم يقنعنا فورًا بأن التفاعل المتبادل بين المجالين لا ينحصر في علاقات تقابل (أي يصل بينهما نظام موحد للعلاقات). وعلى سبيل المثال فإن أغلب حركات الإصلاح الاقتصادي ذات الطابع الليبرالي تتخذ على ما يبدو شكل إعادة التفاوض بين المجالين العام والخاص. غير أن عملية إعادة التفاوض هذه تكشف عن علاقات القوى القائمة، وتفتح مجالًا للابتكار الاجتماعي لا يقتصر على البعد العائلي ولا على البعد السياسي، ولا حتى على التفاعل بينهما فقط. فظاهرة الجاوجان زيدي، أي «أبناء الكوادر» في الصين الذين يستفيدون من تحرير الاقتصاد، لا يمكن تفسيرها على أنها مجرد إعادة إحياء لبنية أسرية أصلية تمكنت من مقاومة الشيوعية وباتت تهيئ مقدمًا السبيل للتملك الخاص للملكية العامة، وللطاعة السياسية في الوقت نفسه. فهذه الظاهرة تفصح على الأرجح عن عملية إعادة تشكيل للمؤسسة الأسرية، في نقطة الالتقاء بين المال والسلطة التي أشار إليها منذ عهد مبكر جان-لوك دوميناك وهوا شانج-مينج،146 والتي باتت سارية من الآن فصاعدًا في ظل وضع إقليمي يتميز بنموه الاقتصادي السريع، إن لم يكن في ظل العولمة. كما أن الأسرة التي تحرص الجمهورية الإسلامية في إيران على أن تكون الأمينة عليها ويدافع عنها بكل حماس المحافظون القريبون من البازار، باتت تتعرض لتحولات كبيرة. فالنظام الأخلاقي الذي يبذل النظام القائم الجهود لحمايته، والذي يشكل بالتأكيد مع الروح القومية المنبع الأساسي لشرعيته، ليس الحفاظ على الوضع القائم. ففي ظل التفاعل النزاعي على الوضع القائم.147 بين مجال القرابة ومجال السياسة أو الاقتصاد، لا يكون أيٌّ من تلك الفروع ثابتًا بشكل خاص أو يسير في اتجاه واحد، كما أن أيًّا منها لا يكون قادرًا على الانعزال عن العوامل الأخرى التي يقيم علاقات معها.
فطريق التحليل ضيق إذن. فمن جهة يجب أن يوضع في الاعتبار ما كان ميشيل فوكوه يسميه «عدم تجانس السلطة» الذي «ينشأ دائمًا عن شيء آخر خلافًا لنفسها».148 وعندما سئل بخصوص إيران، أشار إلى كتاب تصور الثورة الفرنسية (Penser la révolution française) لمؤلفه فرنسوا فوريه، لكي يستعير منه «تمييزه بين مجموع عمليات التحول الاقتصادي والاجتماعي التي بدأت قبل ثورة ١٧٨٩م بفترة كبيرة لكي تنتهى بعد ذلك بمدة طويلة، وبين الطابع الخاص بالحدث الثوري».149 فالتخيل السياسي يستعير على نطاق واسع من الأبعاد الأخرى للتخيل الاجتماعي، فهو يلجأ إلى التخيل العائلي وأيضًا إلى العقيدة الدينية وعالم المشروعات والتنافس الرياضي والمناخ الدولي … إلخ.
على أنه من المناسب، من جانب آخر، أن يكون ماثلًا في الأذهان أن أيًّا من قطاعات المجتمع هذه له إيقاعه الخاص في التغير، وأنه عامر بصور كثيرًا ما تكون متناقضة وخاضعة على أي حال لتفسيرات متنوعة. وهكذا فإن سريان البنيات المعرفية أو الانفعالية أو الرمزية من مجال إلى مجال آخر يخضع بالضرورة لقانون الالتباس، ويتضح من خلال إمكانات الحدوث الصرفة. وعندئذٍ يتحدث فوكوه عن ضرورة ربط الظاهرة التي تدرس بالأحداث القادرة هي وحدها على إحداث «انقطاع للوضوح»: «فحيثما يحاول المرء الرجوع إلى ثابتة تاريخية أو إلى سمة مباشرة خاصة بعلم الإنسان، أو إلى أمر واضح يفرض نفسه على الجميع بنفس الطريقة، يكون المطلوب إبراز سمة متميزة.» وبشكل أدق «يكون تحديد سمة الحدث متمثلًا في التوصل إلى الروابط، واللقاءات، والمساندات، والعوائق، وعلاقات القوى، والاستراتيجيات التي شكلت في لحظة معينة ما سيعمل بعد ذلك كشيء واضح وعام وضروري». وتتمثل الأسباب المتعددة التي تفرض نفسها لربط الظاهرة المعينة بالأحداث، ولإدراك احتمالات وقوعها، وطابعها الفريد، «تتمثل في تحليل الحدث وفقًا للعمليات العديدة التي يتكون منها […] وفي بناء «شكل متعدد الأضلاع المستقيمة» حول الحدث الفريد الذي يتم تحليله، أو بالأحرى بناء «شكل تحدده الأضلاع العديدة التي يمكن إدراكها». ولا يكون عدد أضلاعه محددًا مقدمًا، ولا يمكن اعتباره أبدًا مسألة محسومة تمامًا»؛ أي القبول باختصار «بتعدد الأشكال التي تتزايد مع تقدم التحليل».150
ونكون هنا مرة أخرى قريبين للغاية من مشروع ماكس فيبر العقلاني عندما كان يرفض أن يرى أي علاقة سببية بين التخيل الرأسمالي والتخيل الإصلاحي البروتستانتي، وعندما كان يصر على «التداخل الهائل بين التأثيرات المتبادلة بين الأسس المادية وأشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي والمضمون الروحي لعهود الإصلاح».151 وإذا كانت التحليلات السيكولوجية حول التخيل السياسي قد أثبتت في العديد من الحالات أنها مخيبة للآمال، أفلا يعود ذلك بالذات لكونها تحصر هذه «التداخلات» في عدد من المعادلات النمطية للاوعي؟ وألا يعود ذلك — بشكل مفارق إذا ما استندنا إلى فرويد — إلى إغفالها استعادة الالتباس الراديكالي لتلك «الصلات المتبادلة التي ليست أشكالًا متماثلة»؟152
ويفترض سريان التصورات المعرفية والانفعالية والرمزية من مجال المعنى المجرد إلى مجال الإدراك في المجتمع أن يعاد تفسير هذه التصورات على يد محركين جدد، وعلى ضوء الظروف الجديدة التي تقع فيها، وذلك بفضل أحد إجراءات الإنتاج الثقافي هذه التي درسناها في الفصل السابق. والواقع أن التباس هذه التصورات وتعدد معانيها هو الذي يجعل من الممكن إعادة تفسيرها ويسمح بتنوع قراءتها. غير أن إعادة التفسير تنتج بدورها تعدد المعاني بالتبادل. وهناك بالطبع «حدود لذلك» (أمبرتو إكو). ومع ذلك فهي، أي إعادة التفسير، أساس السياسة وأشبه في نهاية المطاف «بمسرح يضع في اعتباره ليس فقط تصرفات الناس (وكذلك النوايا والمبادئ وإن كان بقدر أقل)، ولكن أيضًا صدى هذه التصرفات والطريقة التي يتم بها فهمها وإدراكها وتفسيرها».153
وفي الكثير من الأحوال يكون الأمر متعلقًا بالتوسع في التفسيرات. وتلك سمة معاودة مثلًا في المذابح الكبرى. فلنقتل قبل أن يقتلنا الآخر! ففي عام ١٥٨٠م في مدينة رومانس، أبدت زمرة جيران (Guérin) قلقها إزاء احتمال أن يطالب كرنفال الفقراء الأغنياء بأن يعيدوا للمدينة الأموال التي سلبوها: «إن الفقراء يريدون الاستيلاء على أموالنا […] بل وأيضًا على نسائنا، إنهم يريدون قتلنا، بل والتهامنا.» وإذا تنكر بومييه، الزعيم الشعبي في لباس على شكل دب عيد الشموع (الذي يتم الاحتفال به في ۲ فبراير من كل عام، إحياءً لذكرى تقديم السيد المسيح في المعبد)، وحاول أن يشغل مركزًا ليس مسموحًا له باحتلاله، فإنه سرعان ما ينظر إلى ذلك على أنه ليس مجرد دعابة في حدود الكرنفال، بل دليلًا على تطلعات شخصية منذرة بالخطر، هذا إن لم يكن مؤامرة بروتستانتية. وإذا حمل راقصو الاحتفال بذكرى القديس بليز مكانس ومحشات وارتدوا أكفاتًا، يكون ذلك قرينة على انتوائهم طرد الشرفاء وضربهم ودفنهم. وفضلًا عن ذلك فإنهم يصيحون قائلين: «لحم المسيحي بستة فلسات.» وهو ما يغني عن أي تعليق. وعليه فقد فضَّل رجال جيران استباق الأحداث، وأجهزوا على من كانوا يعتقدون أنهم يعرضون للخطر النظام القائم ووجودهم أيضًا.154 وقبل ذلك بثماني سنوات، حسب ما قاله دنيس كروزيه، تم التخلي فجأة عن المشروع الأفلاطوني الحديث القاضي، وذلك بإرساء قواعد الانسجام في أرجاء المملكة، والذي دبَّرته كاترين دي مديسيس مع شارل التاسع لقاء القضاء «الإنساني» الانتقائي والوقائي على الأميرال كولينيي وحاشيته في مذبحة السان بارتلمي(٧) نتيجةً لتفجر إنذارات الكاثوليك بقرب حلول نهاية العالم، وذلك في ظل أوضاع «يهيمن عليها تسلط فكرة أولية، فحواها الشك الذي يوحي دائمًا وبلا نهاية، بشك آخر». «وهكذا تروح وتغدو، وتتصادم وتتلاطم بلا انقطاع تخيلات بوقوع اغتيالات وسقوط قتلى وتحركات خفيه ومخادعة ترمي إلى إضعاف الخصم المفترض أو القضاء عليه سواء في زمن السلم أو الحرب».155
واستراتيجيات الهوية المعاصرة لا تعمل بشكل آخر من خلال دوافعها الاستيهامية. وهكذا كان بإمكان فريق تابع لمركز تحليل النزاعات التوصية بإقامة «نظام جماعي للرقابة على الإشاعات»،156 وذلك بعد تحقيقات دقيقة حول العنف في مراكز الإيواء بجمهورية جنوب أفريقيا. ولو كانت هذه التوصية قابلة للتنفيذ لصلحت أيضًا بالنسبة لمنطقة البحيرات الكبرى. ففي رواندا وبوروندي يعمل التوصيف الاثني للاختلافات السياسية كما لو كان «نبوءة تحقق نفسها بنفسها»؛ فكلٌّ من المعسكرين القائمين يقدر أن خصمه قد خطط لإبادته وأنه يتصرف بناءً على ذلك.157

ومع أننا بصدد حالات قصوى، إلا أنها تذكرنا مع ذلك بأن أوهام التآمر صورة قوية وعامة للتخيلات السياسية. فتلميحات وزير الداخلية الفرنسي ريمون مارسلان حول الأصول اليهودية لدانيال كوهن بنديت أثناء أحداث مايو ١٩٦٨م، والأسطورة المتواصلة في الصحافة الفرنسية حول «الأممية الإسلامية» التي ينكر كافة الإخصائيين أي وجود لها، تثبت أن الديمقراطيات الأشد رصانة ليست أبدًا بمنأًى عن تلك الشطحات. وفي يوليو ١٩٩٥م، نسب جاك شيراك إلى نفس هذا الكوهين-بنديت تنظيم عاصفة الضجيج والتشويش ضده في حرم البرلمان الأوروبي، ردًّا على قراره المتعلق باستئناف التجارب النووية الفرنسية؟

على أنه يتعين أن نعترف بأن بعض التخيلات الاجتماعية موسومة أكثر من غيرها بتسلط فكرة التآمر عليها، إما بسبب طبيعتها السياسية — إذ إن النظم الشمولية والمراحل الثورية تنمي هذه الأحاسيس — وإما بسبب السجلات الثقافية التي بلورها التاريخ في صفوف هذه النظم. فقد سبق أن رأينا أن هاجس الاجتماعات الليلية التي يعقدها السحرة في أفريقيا تضفي صبغة خاصة على شجب الأعمال الهدامة، من جانب الممسكين بزمام الحكم الاستبدادي. وتقدم إيران حالة نموذجية في هذا المجال. فنتيجةً لتعاقب الغزوات الأجنبية ومحاولات تقسيم البلاد بين البريطانيين والروس، والوصاية الأمريكية الجائرة، ترسخت في ذهن الرأي العام فكرة التآمر الدولي ضد البلاد، ومنها الحصار التجاري الذي فرضه الرئيس كلينتون في مايو ١٩٩٥م، واستفحل أثره بالتصويت على قانون داماتو في أغسطس ١٩٩٦م. ومما يزيد من توطد ذلك في العقيدة الشعبية أن كل ما هو وارد في الخارج وأجنبي يشكل مصدرًا للفساد، وذلك في إطار مبدأ التواجد الثنائي للباطن والظاهر؛ فالوسواس الخناس متوطن في الظاهر لينفذ منه إلى الباطن. ووفقًا للتصورات السابقة على ظهور الإسلام، فإن الشر كان مقيمًا خارج البلاد أو على حواف الحضارة، وعليه فإن مكافحة «العدوان الثقافي» الذي نادى به مرشد الثورة يلقى صدًى لدى التخيل الاجتماعي حتى وإن استخفت بذلك أغلبية الإيرانيين عندما تتخذ إجراءات ملموسة لقطع الطريق أمام هذا العدوان، وحتى إن ظل هذا الغرب، ناقل «الفساد»، السبيل الذي لا مفر منه للحصول على المعرفة والتوصل إلى «الحداثة».158 ومن الملاحظ أيضًا أن تعريف الولايات المتحدة في ١٩٧٨-١٩٧٩م بأنها «الشيطان الأعظم»، كان له مغزًى أقوى من الترديد السخيف لعبارة الراديكالية الإسلامية، إذ إن هذا التعريف فرض نفسه من خلال التلاقي بين الوعي التاريخي لدى الإيرانيين وبين تخيلاتهم الاثنية.159

وفي إطار هذا النزاع وغيره من النزاعات، يشكل اختلاف التعبير عن الممارسات الاجتماعية — بين العناصر الفاعلة، وبين العصور، وبين مجالات المجتمع المختلفة — ما يشبه الآلة التي تصنع الالتباس وكافة الانفعالات المرتبطة بها: الأمل والابتهاج والقلق والتوجس والحقد. ولو أفردنا لتلك الأحاسيس المكانة التي تستحقها، وقبلنا بالفكرة القائلة بأن أي منطوق سياسي يكون ملتبس المعنى على أقل تقدير، فإن تفوق مفهوم التخيل بالمقارنة مع مفهوم الثقافة يبدو واضحًا إلى حد كبير، فهو يلقي الضوء فورًا على خاصية الالتباس التي يتميز بها الإنتاج الرمزي والعاطفي.

وقد يكون من المفيد، لكي نقتنع بذلك، أن نرجع إلى تحليل تكوين الأحلام وإلى «القوة الخلاقة للرموز» عند فرويد، الذي يؤكد أن «الحلم لا يقبل البديل، وإذا ظهر افتراضان فإنه يدخل كليهما في ترابط واحد بين الأفكار»: «فالتمثلات المتناقضة يعبر عنها في الحلم عنصر أوحد في كل الحالات تقريبًا. ويبدو أن كلمة «لا» ليس لها وجود. فالتعارض بين فكرتين والتناقض بينهما يتم التعبير عنهما في الحلم بشكل متميز تمامًا، إذ يتحول عنصر آخر فيه فيما بعد إلى نقيضه.»160 ويشبه النشاط الذهني أثناء النوم من وجهة النظر هذه، منطق بعض اللغات القديمة، حيث يعبر جذر واحد لكلمة ما عن عكسها. وينجم ذلك عن آثار عملية تكوين الحلم، نتيجة للتكاثف الذي يجعل «مضمون الحلم الظاهر أصغر من مضمونه الكامن […] ويقدم بذلك نوعًا من الترجمة الملخصة له»، أو نتيجة تعويض لا يحل فيه عنصر كامن محل أي العناصر المكونة له، ولكن «شيئًا آخر أبعد، أي تلميح»، أو أن «يتحول التعبير النفساني من عنصر عام إلى عنصر آخر أقل أهمية بحيث يصبح للحلم مركز آخر ويبدو غريبًا»، وأخيرًا أن تتحول الأفكار إلى صور مرئية.161

بالطبع تتواجد في عملية تكوين التخيلات الاجتماعية العديد من جوانب تلك الآثار التي يتكون من خلالها الحلم عند الفرد. ومن هنا ينبع الطابع «العبثي» لتلك التخيلات، بالمعنى الفرويدي للكلمة. ولعل أهم ما في ذلك يتعلق بوظيفة التركيز التي يتم عن طريقها استبعاد بعض العناصر الكامنة أو صهرها معًا. والتخيلات السياسية الواضحة التي صادفناها في طيات تلك الصفحات تمثل أنواعًا من «الترجمات المقتضبة» التعسفية والمضحكة في الكثير من الأحوال، لتخيلات اجتماعية أوسع نطاقًا وثراءً وتعقيدًا بكل تأكيد.

ويصبح التحليل السياسي بالضرورة، من وجهة النظر هذه، تأويلًا يتوقف سداده «على مهارة وخبرة وذكاء المفسر».162 ولكن يتعين على هذا المفسر، قبل أن يتطلع إلى سبر تلك الأغوار، أن يكون على علم بالمنطق الخاص بآثار تكوين تلك التخيلات الواضحة التي ستؤجج هذه الظاهرة أو تلك غير الهامة «عقلانيًّا»، والتي تتعامل مع المتناقضات بنفس طريقة التعامل مع المتشابهات، لتعرضها بنفس الصورة. وهكذا يمكننا أن نعلن مؤقتًا أن «التخيل محرك التاريخ»،163 علمًا بأن آليته تكون حتمية في الكثير من الأحوال. ومع ذلك فإن الاعتراف بدور «التخيل التأسيسي» في الحياة السياسية وفي قيام الدول، يجب ألا يدفعنا إلى الانغماس في المثالية السحرية.

الملاحظات

  • (١)
    المقصود هنا بكلمة «الشاملة» (universal) أنها عامة تخص الجميع، دون أن يكون هناك أي ارتباط بينها وبين «الشمولية»؛ أي اﻟ totalitarism.
  • (٢)

    كان أباطرة روما في القرن الثالث من إيليريا، ومنهم أورليوس وديوقليسيوس وكونستانتين، وأصبحت إيريليا في القرن السادس خاضعة للصقالبة.

  • (٣)

    عدة طوائف مسيحية تدعو إلى التقشف المفرط وتعتمد في الحياة على التسول، وفي أبرز قادتها القديس أوغستان، والقديس دومينيك، والقديس فرنسوا داسيز.

  • (٤)

    حصل هذا الحزب على ٤٠٪ من الأصوات في انتخابات عام ١٩٩٥م، وهو الذي أثار مشكلة المطالبة ببناء معبد في المكان المفترض فيه أنه مسقط رأس الإله رام.

  • (٥)

    موكب ديني يشمل مركبة يوضع فوقها تمثال لمعبود يتم إخراجه بهذه المناسبة من معبده.

  • (٦)

    رئيس حزب التجمع الجمهوري من أجل الديمقراطية، الحزب الذي كان يحظى بالأغلبية قبل وصول الاشتراكيين للسلطة.

  • (٧)

    في ٢٤ أغسطس ١٥٧٢م يوم الاحتفال بذكرى هذا القديس، وقعت مذبحة كبرى في تاريخ فرنسا في باريس، وكذلك في عدة مدن أخرى حتى أكتوبر من نفس العام ضد البروتستانت الذين كانوا قد حصلوا قبل ذلك بعامين على وضع اجتماعي شبه كامل في هذا البلد الكاثوليكي. وكان على رأس البروتستانت الأميرال كولينيي، عضو المجلس الخاص بالمملكة الفرنسية الذي كان يتمتع بنفوذ كبير على الملك شارل التاسع، حتى إنه ترك له إدارة الدولة نظرًا لضعف شخصيته، وذلك ضد إرادة والدته كاترين دي مديسيس المعارضة لمشروع كولينيي للوقوف في صف الإصلاحيين في هولندا ضد نظام الملك فيليب الثاني الإسباني الذي لجأ إلى محاكم التفتيش للقضاء على البروتستانتية في بلاده والبلاد التابعة للملكة. ولما فشلت مؤامرة كاترين دي مديسيس لاغتيال الأميرال كولينيي التي أصيب فيها بجراح فقط، أقنعت ابنها شارل التاسع بخطورة نفوذ البروتستانت، ورضخ الأخير لإرادتها، وسمح بتدبير تلك المذبحة التي اتسع نطاقها نظرًا لعدم ارتياح الأغلبية الكاثوليكية لتزايد نفوذ الأقلية البروتستانتية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤