الفصل الرابع

تجسيد الخيال السياسي

إن اللبس الملازم لعالم التخيل يكمن أيضًا في علاقته مع الحقيقة التي أهملها مؤلفو ما بعد الحداثة بكل فظاظة.1 وتلاحظ أرليت فارج، وهي تنتقد تحليل دنيس كروزيه لمذبحة السان-بارتليمي قائلة إنه «ليس هناك حدث تاريخي إلا وصنعه الخيال. فالرجال والنساء يعيشون دائمًا في تداخلات معقدة حيث تختلط معًا الإيماءات والاندفاعات والتصرفات والتصورات، ويستمد بعضها المعلومات من البعض الآخر. وحتى إذا كان القرن السادس عشر قد ساده القلق من جرَّاء هيمنة فكرة العقاب الذي سينزله الله بالبشر، إلا أنه كان أيضًا قرن الاهتمام بالجوانب الدنيوية، حيث كانت الضرورات الاقتصادية والسياسية ومشاكل السلطة والحقائق والخصومات اليومية ترشد البعض والبعض الآخر للقيام بتحركات محددة.»2
هناك حد أول للقدرة التفسيرية للتخيل، يتعلق بواقع الأحداث ذاتها. وهي أحداث لا يكون من السهل دائمًا إثباتها «فأيًّا كانت المبالغات المختلفة (حول الاتهامات الموجَّهة إلى بومييه بعد مقتله)، إلا أنها تتضمن بلا شك ولو ذرة من الحقيقة. ولكن أيها؟» هذا ما يتساءل حوله المؤرخ بخصوص كرنفال رومانز.3 والمحركون والمراقبون لمأساة رواندا لا يكفون عن المجادلة لمعرفة من الذي أسقط طائرة الرئيس هابياريمانا، في السادس من أبريل ١٩٩٤م، أو حول ما إذا كانت عملية الإبادة التي وقعت على أثر ذلك كانت مدبَّرة من قبل. وقد تم تجاوز دواعي القلق هذه بطريقه معينة؛ فقد مات بومييه وتم الفتك بأنصاره، وتم التخلص من التوتسي ومعهم الهوتو الذين حامت حولهم شُبه «التواطؤ معهم»، ثم استولت الجبهة الوطنية الرواندية على السلطة، وسواء كانت رواية المنتصرين صحيحة أو مزيفة إلا أنها سترسم الواقع، حتى وإن ظل الواقع لدى المنهزمين فعالًا في أعماق المجتمع.4 ومع ذلك فإن عملية التفسير أو الإسراف في التفسير بمنطق «التنبؤ الذي يتحقق ذاتيًّا» عالجت مادة متمثلة في الوقائع، فما كان من الممكن أن تكون الرواية متطابقة مع الأحداث لو كانت الأحداث نفسها مختلفة.
وفضلًا عن ذلك فإن التفسير في حد ذاته، وبصفة عامة أيضًا عمليات التخيل، لا بد وأن تكون مرتبطة ببعض الحقائق المادية. فمفهومنا مثلًا للزمان والمكان يرجع إلى حد كبير إلى الابتكارات التكنولوجية.5 فقد تغير تصورنا لفرنسا مع تطوير شبكة الطرق والسكك الحديدية، ومع تسيير القطارات الفائقة السرعة. و«ضغط الزمان والمكان» المميز لتخيل الكوكبة على صعيد العالم هو في المقام الأول نتاج ثورة صناعية قلبت النقل والمواصلات رأسًا على عقب.
كما أن «تخيل الإرهاب»، خلال الثورة الفرنسية، كان لصيق الصلة بآلاف المشاكل التقنية التي أثارتها المقصلة6 (المسماة في فرنسا الجيوتين باسم مبتكرها الدكتور جيوتان)؛ فقد قضت الجمعية العامة في الثالث من يونيو ١٧٩١م بأن «تقطع رأس كل من يحكم عليه بالإعدام»، فحققت بذلك اختيارًا رمزيًّا من بين مجموعة من الاختيارات، وهكذا استبعدت عملية الإعدام شنقًا المعتبرة تقليديًّا عملًا يسيء إلى سمعة أسرة من ينفذ فيه حكم الإعدام، وأتاحت بذلك لمجموع المواطنين المساواة التامة إزاء «كبرياء القرمة» التي يضرب فوقها عنق المحكوم عليه بالإعدام». وتطلب الأمر معرفة الوسيلة التي سيتم بها ذلك. وكانت السخرية قد انهالت على الدكتور جيوتان قبل ذلك بسنتين عندما اقترح أن يضرب عنق المجرم «بواسطة حركة ميكانيكية بسيطة»، فتصدى بذلك بعنف للتمثلات الاجتماعية للموت. غير أن استخدام السيف كان مكلفًا نظرًا لأنه يتعين أن يكون ممتازًا، كما أنه يفترض شجاعة المحكوم عليه بالإعدام وعزة نفسه، وهو تشريف لا يمكن أن يتاح أصلًا للعامة. وإذا أضفنا إلى ذلك ضرورة أن يكون الجلاد ماهرًا، وهو الأمر الذي لم يتوفر دائمًا، لتبين لنا بسرعة أن تقنية فصل الرأس عن الجسد هذه لم تكن مضمونه إطلاقًا، مع أنه كان مطلوبًا أن تكون متساوية من الآن فصاعدًا بالنسبة للجميع عملًا بمبدأ المساواة الثوري. وهكذا تعين اللجوء إلى «الحركة الميكانيكية البسيطة» بعد أن تلاشت سخرية عام ١٧٨٩م، خاصة وأنها تميزت بتوافقها مع موضة استخدام الآلات.
وسرعان ما جسدت المقصلة في الوقت نفسه تصورًا آخر للثورة التي يجب أن تكون عدالتها «سريعة مثل وميض البرق»، وأن يخضع الساسة لعملية «التطهير». لقد أعلن كاميي ديمولان بأعلى صوته: «إن التمثيل الوطني يتطهر في كل سنة […] ولا شك في أن الاقتراع الرابع التطهيري سيوفر للجمعية (المجلس النيابي) أغلبية دائمة لن تتبدل، لأنصار الحرية والمساواة […] والتخلص من السم بهجرة دومورييه ورجاله، قد أنقذ أكثر نصف الهيئة السياسية؛ وعمليات البتر التي قضت بها محكمة الثورة […] ولفظ البريسوتيين(١) خارج الجمعية التأسيسية، كل ذلك سيؤدي إلى صدور دستور سوي». لماذا لا يتم إذن تصميم مقصلات «منجزة» لتسريع وتيرة «التطهير» كما كان يطالب بذلك «الشعب» على أي حال؟ ووفقًا لرأي مهندس من لونز-لي-سونييه، فإن «إنجاز المهمة بسرعة يتطلب إقامة مقصلة مزوَّدة بالماء، يكون موقعها بالقرب من الكوبري الجديد (بون نوف) في نهاية شارع نوف، مع بئر عمقها ستة أقدام لتلقي الدم».7 وجرى التفكير تقنيًّا في تشغيل مقصلة ذات عدة فتحات، حتى بعض العناصر المغالية في حماسها اقترحت ثلاثين فتحة! غير أن ذلك الابتكار بدا فكرةً غير مشروعة في نظر التخيل الجمهوري، ورفضت لجنة الرقابة بمدينة بوردو أن التصريح بالمقصلة ذات الأربع فتحات، نظرًا لأنها تتعارض في رأيها «مع كافة القوانين الثورية»، ولأنها «تتحدى مفاهيم العدالة والإنسانية» بإنكارها فردية المحكوم عليه بالإعدام. ويلاحظ دانيال آراس «أن قطع رءوس المحكوم عليهم واحدًا بعد واحد وصعودهم واحدًا بعد واحد فوق منصة الإعدام، وتكرار كل مرحلة من مراحل التنفيذ لكل واحد منهم، يعني أن المقصلة تشير هي أيضًا إلى أن العدو المطلوب التخلص منه فضَّل إرادته الخاصة على الإرادة العامة».8 ولم يبقَ إلا أن يثبت الجلادون حذقهم وهو ما لم يكونوا في حاجة إليه. وكان ذلك بمثابة أول تصور مسبق ﻟ «ضغط الزمان والمكان» والاحتفال بالسرعة كسمةٍ سياسية، إذ تم إعدام الجيرونديين الواحد والعشرين «في ست وعشرين دقيقة» …
وتؤكد طقوس هذه الآلة المشئومة أثناء عهد الإرهاب أن التخيل السياسي يتواكب زمنيًّا مع الأسانيد المادية. ويرى بنديكت أندرسون مثلًا أن المطبعة و«الحج الإداري» كانا من وسائل نشر «وحدة الأمة المتخيلة». والجالية الإيرانية المستقرة في الولايات المتحدة تتأسس اليوم عن طريق إنتاجها السمعي-المرئي لعدم توفر إيران صغيرة أو مدينة إيرانية.9 ويتعين أن يكون ذلك التخيل فعالًا للبقاء والاطمئنان والابتهاج، غير أن هذه الخاصية تتوقف جزئيًّا على الأقل على علاقتها بجوانب مادية مسلَّم بها. وربما كان فشل «المستقبل الباهر» في الاتحاد السوفيتي أو «حلم التصنيع» في الجزائر مرتبطين بالأخص بمشكلة المساكن المكدسة بالأفراد وسوء توصيل المياه لهم، بل إن هناك تخيلات مفجعة حتى إنها تكون انتحارية بمعنى الكلمة. ففي سنتَي ١٨٥٦-١٨٥٧م في إقليم الكاب أبادت قبائل الإكسوزا ماشيتها استجابة لنداء إحدى المتنبيات، فسهلت بذلك دخول المستعمرين البريطانيين. أما أنور خودجا، فقد كرَّس موارد الاقتصاد الألباني الضعيفة لبناء نصف مليون مخبأ حصين بُغية القضاء على الغزو المشترك ﻟ «الإمبرياليين» و«المراجعين».10
ومع أن الأحلام (أو الكوابيس) السياسية تترتب عليها عواقب مادية تمامًا، إلا أن الظواهر المادية تتحقق، على العكس وبشكل حاسم جزئيًّا، من خلال التخيل أيًّا كان دور الحقائق الملموسة التي تعتمد عليها، ومثال ذلك تحديد قيمة المال، وكوكبة العالم، ونشأة مجال عام في الديمقراطيات المتعددة الأحزاب أو التكامل القومي وإقامة اقتصاد سوق في مختلف بلدان أفريقيا بتنميط تمثلات اللامرئي من إقليم إلى إقليم آخر.11 والعلاقات التي يقيمها كل فرد مع جسده ووظائفه الفسيولوجية تتم باللجوء إلى عمليات إضفاء الذاتية على الجوانب الاجتماعية، التي تميز بين المشروع وغير المشروع، وبين المحترم والسوقي. وعليه فإن السمات السياسية بتنوعاتها تتضح في الكثير من الأحوال عن طريق رموز جسدية وتركزات مادية تحول أهميتها وحدها دون قصر أنواع التحرك على الخطب والأفكار. فهناك بعض الممارسات المتعلقة بالشعر والطهي والملبس يمكن أن تساعد على توضيح هذه النقطة.

رموز تصفيف الشعر في المجال السياسي

تظل رموز تصفيف الشعر في المجال السياسي تقليديًّا موضوعًا لاستثمار مكثَّف من جانب الأفراد في أغلب المجتمعات حيث تقيم علاقة وثيقة مع ممارسات التخيل السياسي. وقد كتب دانيال روش يقول وهو يشير إلى العلاقة التي تربط بالتعارض بين الشعور الطويلة والوجه الأمرد حتى بداية القرن السادس عشر: «يشكل كلٌّ من اللحية والشارب وشعر البدن وشعر الرأس، محركات غير متوقعة على المسرح الاجتماعي.» فعلى سبيل المثال أثارت لحية الرئيس أوليفييه موجة من الاستنكار في برلمان باريس في عهد الملك فرنسوا الأول، وطلبت الكنيسة من أساقفتها أن يحلقوا ذقونهم.12 وحتى عهد قريب، خلال الستينيات والسبعينيات خلقت الشعور الطويلة انقسامًا في صفوف العائلات الفرنسية التي كان بوسعها أن تتأسى لو علمت أن الشبان الأميش (المنتمين إلى طائفة دينية أمريكية بولاية بنسيلفانيا تتميز بشدة تقشفها ورفضها لكل إسهامات الحضارة الحديثة) الرافضين لسلطة كنيستهم، يحلقون شعورهم تحديًا لها.13
والتاريخ السياسي عامر بنزاعات مماثلة بخصوص الشعر وإشكاليات أخرى مشروعة تتعلق بشعر الجسم. ففي فلورنسا، كان ضم الجيوفاني (الفتيان) إلى الميليشيا، أي إلى مرتبة المواطنة، حتى عاد ۱۹۹۳م، من النواب من يتحدد بقص شعورهم الأنثوية إلى حد كبير أنها كانت تعرضهم للاغتصاب في حالة الانهزام.14 وفي روسيا كان بطرس الأكبر يأمر بحلق لحى الأتقياء الذين كانوا يرون أنها تشبه بصورة الرب، مما يجعلهم يتحولون، حسب عقليتهم، إلى مجرد حيوانات. غير أن ذلك كان ثمن التقارب الثقافي مع أوروبا.15 وفي عام ١٩١٢م، تخلى الصينيون الراغبون في التعبير عن مساندتهم لجمهورية صن يات سن، عن الضفيرة التي كانت قد فُرضت في القرن السابع عشر على يد الغزاة المانشوريين. وفي تركيا كانت ثورة كمال أتاتورك ثورة تخص الشعر أيضًا، ضحت بلحية المؤمن، وكرست في الوقت نفسه انتصار الشارب. ولا يزال شكل هذا الشارب حتى الآن رمزًا للهوية يحقق التعبئة. ففي نهاية السبعينيات كان هذا الشارب لمختلف العناصر المشايعة للإرهاب — «الذئاب الغبراء» (القوميون المتطرفون)، والعلويين، وغلاة اليساريين — من التعرف فورًا بعضهم على البعض لكي يتقاتلوا بشكل أدق.16 وفي عام، دفع تقلد السيدة تشيلر زمام السلطة، العديد من أعضاء حزبها إلى حلق لحاهم، وعبَّر رئيس تحرير جريدة حوريات عن ترحيبه بتلك الموضة الجديدة، وأصبح يوقع على العمود اليومي الذي يكتبه بوجه أمرد. ومنذ عدة سنوات، قرر المثقفون الإسطنبوليون التضحية بالشارب، رمز الرجولة، لكي يتميزوا عن هؤلاء الأناضوليين الذين أثاروا استياءهم ﺑ «غزوهم» المدينة في صفوف متراصة، وعن عالم الأثرياء المحدثين واستعراضاتهم لثرواتهم. ويسخر منهم الرسام الكاريكاتوري جوخان جورس قائلًا: «كان لذي الرائحة النتنة (الماجوندا) في السبعينيات شارب عريض، وقميص من الحرير مفكوك الأزرار يكشف عن صدر كث الشعر مُزدان بقلادة من الذهب، وحذاء ذي نصف رقبة، يزين حافته سجاف، وجوارب من الحرير تحت سروال واسع، وفي يده سبحة غالية الثمن.»17 وقد تغيرت بالطبع هذه المعايير بعد النجاح الذي أحرزه حزب الرفاه في الانتخابات البلدية في ١٩٩٤م والتشريعية في ١٩٩٥م، رغم أن عمدة إسطنبول الجديد، السيد أردوجان قدم صورة لإداري يتميز بديناميكيته، دون أن تكون له لحية.
والواقع أنه لا توجد أي حركة سياسية معاصرة لها على ما يبدو مسعًى شعري واضح تمامًا مثل الحركات السياسية الإسلامية، حتى إن مناضليها كثيرًا ما يوصفون بأنهم «الملتحون»، كما أن وسائل الإعلام تصورهم على هذا النحو بأسلوب كاريكاتوري. غير أنه من المناسب أيضًا أن نكون أكثر دقة بخصوص هذا التصنيف السياسي. فقد لاحظ نبيل بيهوم مثلًا اختلاف طريقة تصفيف الشعر بين الميليشيا المسيحية والمجاهدين المسلمين في بيروت، في سنوات ١٩٧٦–۱۹۸۲م. لم يكن الأولون حليقي الرأس، ولكن شعرهم كان قصيرًا للغاية ومتساويًا عمومًا بالموسى، علاوة على الشارب الصغير. وكان شعر الآخرين قصيرًا هو أيضًا، ولكنه مهمل دون أن يكون محلوقًا بالموسى، كما أن عوارضهم كانت كثة.18 ولكن هل نجد مثيلًا لهذا التصفيف السياسي للشعر، الصالح بالنسبة للبنان، في بلد آخر؟ لا على الأرجح، وفضلًا عن ذلك فإن إشكالية الشعر في البلاد الإسلامية تستحق تحليلًا أفضل لتنوعاته المختلفة.
وبما أننا لسنا من الأنثروبولوجيين أو الحلاقين، فإننا سنكتفي بأن نلاحظ أن هذا النمط السياسي يمكن أن يكون خطًّا فاصلًا أساسيًّا في ظل ظروف معينة أيًّا كان أسلوب تطبيقه. وعندئذٍ يتجه الجانب الجسدي نحو التفرد بتجسيد النسق السياسي، وبالأخص الذاتية السياسية، ويتحول بهذه الصفة إلى موضوع له الأولوية. فحظر تصفيفات الشعر «المنحطة» في إيران — وهي على الأرجح من الطراز الراب، أي الشعر القصير على الجانبين وعُرف في الوسط، والذي تبناه بعض الشباب من سكان المدن — هو كفاح ضد «العدوان الثقافي».19 وترك اللحية في الجزائر في سنتَي ١٩٩٠-١٩٩١م كان يعني بالطبع الإعلان عن التعاطف مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ واتخاذ موقف متفرد ومتحرر من سلطة الدولة الأبوية.20 والتخلي عن اللحية في ١٩٩٢م كان دليلًا على توخي جانب الحذر إزاء قمع قوات الأمن ولجوئها إلى المطاردة للاشتباه، ولكنه كان يعني في الوقت نفسه التعرض لسخط بعض الدعاة ضد «الذين حلقوا لحاهم ويخافون من الشرطة أكثر من خوفهم من الله»، أو لسخرية الجيران: «هل مررت يا أخي على ياكسا؟»(٢)،21 والصمود اليوم مفاده إثبات قدر كبير من الشجاعة يؤكد قوة جاذبية أسلوب الحياة هذا، الذي قد يكون أقل تعبيرًا اليوم عن التمسك بالإسلام بقدر ما هو تعبير عن النضال في صفوف الجماعات الإسلامية المسلحة، حسب تحليلات لويس مارتينيز،22 وإن كان متفقًا على أي حال مع موقف ذاتي حقيق، إذ يتمسك فلان بلحية صغيرة تسبب له متاعب كثيرة عند حواجز الشرطة، ولكنها تمثل مع ذلك في نظره تحديًا يرمز إلى الطابع الباطني لالتزامه الأخلاقي والسياسي تحت لواء الإسلام.23
وقد أكد الشعر قدرته على تلخيص السياسة من خلال تلك الحرب الكلامية الفلسطينية القصيرة. فقد أبدت منظمة حماس استياءها ذات يوم لقيام شرطة السلطة الفلسطينية بحلق لحى كوادرها المسجونين، مما يشكل في نظر المنظمة سابقة «خطيرة للغاية، أسوأ من الضرب أو التعذيب» (كذا). ويبدو أن العميد موسى فرحات كان موافقًا على وجهة النظر هذه، إذ سارع بتكذيب ما جاء من قبل قائلًا: «إنني مندهش لنشر مثل هذه الشائعات، فليس هناك أحد في صفوف السلطة يرتكب مثل تلك الفظائع.»24

الطهي في ارتباطه بأفران السياسة

وتصبح الممارسات الغذائية هي أيضا بكل بساطة رموزًا سياسية مستقلة ذاتيًّا، تؤثر على مستقبل المجتمع. غير أن ترتيبات تلك الممارسات تكون أميل إلى جمع الشمل والتصنيف لا إلى إثارة المنازعات.

والغذاء يشكل بالطبع «شعارًا» قويًّا ينم عن الهوية. وقد كتب برييا-سافاران يقول: «قل لي ماذا تأكل، أقل لك من أنت.» في كتابه المعنون: فسيولوجيا الذوق. وعلى سبيل المثال، فإن استعداد شخص مسلم مقيم في فرنسا لقبول دعوة أسرة غير مسلمة لتناول العشاء معها، والتعرض بالتالي لاحتمال تقديم لحم غير مذبوح وفقًا للشريعة، سيعتبر إشارة إلى تباعده عن الإسلام، ورفضه القاطع سيكون دليلًا على تمسكه بمعتقداته الدينية: «إنني لا استطيع أن أنسى ثقافتي، ولا يمكنني أن آكل لحم الخنزير.»25 ولذا كثيرًا ما تستخدم الممارسات الغذائية للتعبير عن النيل من شأن الآخر. فالإنجليز يصفون الفرنسيين بأنهم أكلة الضفادع، والفرنسيون يرون أن الإنجليز روزبيف وأن الإيطاليين مكرونة، وفي إيران يوصف سكان الهضبة الراستي، وهم أهالي شمال البلاد، بعجرفة بأنهم «أكلة رءوس الأسماك»، فهو غذاء «فاتر» يتسبب في إصابتهم بتراخٍ جنسي شديد.26 ونوعية الطعام ومقداره من العناصر المعروفة للتمايز الاجتماعي. وفضلًا عن ذلك فإن درجة تنوع الطعام تكشف عن التنظيم العام للمجتمع، فتواجد تقاليد عريقة في المأكل يكون مصحوبًا باستقطاب اللامساواة والمركزية السياسية،27 كما أن الأذواق تحدد المجالات الثقافية. ويثور دينس لومبار قائلًا: «كيف يمكن أن يقال إن جاوة كانت أرضًا للهندوكية لمجرد أن استخدام الألبان ومنتجاته لم يحدث أبدًا هناك؟»28
وإذا كان الطعام يعوز الآخرين (ويرضي الذات)، إلا أنه لا يشكل على ما يبدو بيانًا للهوية له نفس قدر حساسية نظام التعامل مع الشعر، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار طاقته الانفجارية الكامنة في مجال المطالب الاجتماعية. فهبات الجياع من كلاسيكيات التاريخ، ويشكل شبحها اليوم إحدى العقبات الرئيسية في وجه التحرر الاقتصادي الذي يطالب به صندوق النقد الدولي، كما أن قضية توفير القوت هيمنت هي أيضًا على الحياة السياسية في أوروبا حتى منتصف القرن التاسع عشر على الأقل.29 بل إن نقص الجعة في الأسواق يمكن أن يثير ردود فعل خطيرة في بلد مثل زائير.30 ولكن من النادر أن تثور مذابح مرتبطة بالطعام، حتى وإن ألقى المهيجون عظام خنازير أمام المساجد، أو أساءوا معاملة البقر بغية إثارة فتن طائفية في الهند. وحتى إذا كان اتجار اليهود بالفودكا كثيرًا ما كان ذريعة لأعمال العنف ضد السامية في روسيا، وحتى إذا كان تقييد استهلاك الكحول في جنوب القارة الأفريقية نقطة بلورت النضال ضد التفرقة العنصرية.31
وعلى النقيض من ذلك يوفر الطعام مقدرة على الدمج معترفًا بها. وقد نوَّه فوستيل دي كولانج بدور «المآدب العامة» في طقوس المدن الإغريقية؛ فإقامة هذه الشعيرة إجلالًا للآلهة الحامية كان يضمن للمدينة سلامتها، وكان يتعين على المواطنين في مجموعهم أن يشاركوا في ذلك.32 كما أن الطعام في القاهرة الفاطمية كان من أكثر الوسائل فاعلية للتمتع ببركة الخليفة؛ فبمناسبة مأدبة عيد الهجرة كان الخليفة يقدم الطعام بنفسه لضيوفه، وفي شهر رمضان كان الإفطار المعد في القصر يوزع على أهل المدينة.33
والمأدبة، بوصفها إحدى شعائر الدمج، أبعد عن أن تكون مجرد آلية لتحقيق الإجماع، فهي مجال للتفاوض؛ وبالتالي لعدم تحديد نسبي. ومن الممكن أن تعمل كأداة للتعبئة، أو الولاء أو التصالح. وهذه الحالة الأخيرة تتيح بالطبع مناسبةً رائعة للغدر؛ ولذا يكون قبول بعض الدعوات مشوبًا بالتخوف. ولكن هذا النصيب من اللبس، الناجم عن اختلاف تصرفات المدعويين، مرتبط بالمائدة؛ لأن المأدبة تحمل معاني عديدة وتمهد لتوقعات مختلفة. ففي رأي بول فين: «الجوع أو التقوى، أو الميل إلى الأبهة والاحتفال، أو التمتع بالصحبة لأي مناسبة، والاستفادة من فترة قصيرة من الوقت الفائض المتاح لاستخلاص أقصى قدر من التمتع»، يفسر لماذا كانت الولائم في روما «مؤسسة بمعنى الكلمة متأهبة للمشاركة في كافة المناسبات»، حيث كان الدين «الدافع الرئيسي لها أحيانًا، والذريعة لها أحيانًا أخرى.»34
وعليه فإن تناول الطعام معًا وسيط معاود للمشاركة السياسية بكل جوانبها الديناميكية والمعقدة بل والنزاعية. ففي فرنسا انتظم البناء الاجتماعي على نطاق واسع، سواء في مجتمع البلاط أو في ظل الجمهورية، عن هذا الطريق. وقد تأكدت مؤخرًا القوة المثابرة التي يتمتع بها إعداد الولائم، من خلال المآدب التي أقيمت لأعضاء البرلمان من جانب السيد شيراك والسيد بلادور بغية عقد التصالح بين السيد جوبيه والسيد ساركوزي أثناء الحملة الانتخابية التي انتهت بفوز السيد شيراك برئاسة الجمهورية، وبتكريس رأس العجل كرمز للحد من الانقسام الاجتماعي.35 وفي الصين أيضًا تنعقد روابط الولاء وتنفرط من خلال «عمليات التهام المأكولات والإفراط في الشرب»، وهي خطوات أولية في الحياة السياسية ذات تكلفة اقتصادية لا يستهان بها.36 وفي تركيا وإيران، يشكل انتهاء صيام شهر رمضان مناسبة اجتماعية هامة في الصراع بين الجماعات المختلفة وحول الانتخابات، وهو يتيح للقائمين بذلك فرصة تدعيم مركزهم؛ لأن «مناخ التقوى يحول دون التشكك في نوايا من يمدون الموائد ويزودونها بمختلف أصناف الطعام».37
ومن المهم أن ندرك تمامًا فعالية هذا النوع من الإجراءات الدقيقة. فعندما قُتل الوزير الفضل في القاهرة في عام ١١٢١م، بعد أن اغتصب العديد من سلطات الخليفة، أتاح المشهد السياسي للمآدب الفرصة لتسوية مشكلة انتقال السلطات. فمن جهة قرَّر أمير المؤمنين الذي استعاد كامل سلطانه أن يؤكد قوة نفوذه. ومن جهة أخرى كان يراعي خاطر أبناء القتيل والقوات التي تأتمر بأمرهم. وقد أوجدت احتفالات نهاية شهر الصيام إمكانية تلبية هذين المقتضيين المتناقضين، مع ضرورة مراعاة متطلبات الحداد الذي أقيم في نفس اليوم. وقد دعا الخليفة أسرة المتوفى إلى مأدبة خاصة حيث تقاسم تمرة مع كل فرد من أفراد الأسرة الحاضرين. ثم تقبل العزاء ورأس مأدبة أخرى، حيث تحدث فيها أخو الوزير السابق، ثم قام بتوزيع الطعام على الحضور. وكانت رمزية هذا الطعام المشترك واضحة؛ «فأسرة الفضل، الوزير القتيل، تتنازل عن أي مظالم تتعلق بموته، ومن جهة أخرى يضمن الخليفة للأسرة أمانها بإشراك شقيق الوزير ونجله باستضافتهما على مائدته. وكان الضيوف الآخرون الذين شاركوا في تقاسم الطعام في آن واحد شهودًا على تلك «الصفقة» ومستفيدين منها […] واستعادت الدولة سلطتها في المأدبة الخاصة، وتم الإعلان عن ذلك في المأدبة الرسمية».38 ومما يسر الفعالية السياسية لذلك التصرف المراعي للشعائر، الطابع المتقشف لمأدبة نهاية الصيام في بلاط الفاطميين، الحريص على الاقتداء بسنة الرسول في الاكتفاء بتمرة أو حبة عنب لفض الصيام.
وإذا كانت الممارسات الغذائية قد أثبتت بهذه الطريقة فعاليتها في العلاقات السياسية، فمن المناسب أن نتساءل عن دورها الكامن بمعيار المدى الطويل للتغيرات التاريخية. ألا تساهم هذه الممارسات بشكل متحفظ وحاسم في الوقت نفسه في ربط المجتمعات السياسية ﺑ «عالم دلالاتها»؟ وعلى أي حال فإن إجراءات تناول الطعام تتم بين مرة وثلاث مرات يوميًّا، وهناك القليل من الإجراءات التي تتكرر على هذا النحو. ولما كان تناول الطعام يرتبط أساسًا بالمجال الخاص، فإنه يكون موضعًا أوليًّا يتم فيه التفاوض حول العلاقات بين الجنسين وتتغير فيه علاقات الأسرة. على أن إجراءات الأكل تندرج أكثر فأكثر في المجال العام نتيجة للتوسع المتزايد للتسويق في المجتمعات. ففي العهد القديم في فرنسا، كان نظام «مخلفات المطاعم» يؤمن «التواصل بين الطعام الطيب الخاص بالأغنياء وطعام الفقراء المتواضع»، وذلك بشراء الأديرة والطوائف الدينية بقايا مأكولات بيوت النبلاء والبورجوازيين، وإعادة بيعها للمطاعم الشعبية الفقيرة،39 فأقامت بذلك شبكة كثيفة من منشآت بيع المأكولات. وستظل هذه الشبكة إحدى المؤسسات الرئيسية للسياسة الاجتماعية أثناء الثورة وعلى مدى القرن التاسع عشر وهي ستعمل، بمصاحبة كتب الطهي، على توفير نوع من توحيد آداب المائدة ووصفات المأكولات الشهية.
ورغم أن الثورات في مجال الطهي هادئة، إلا أنها تسهم في نوع من التجانس الثقافي له تأثيره السياسي. فمع متطلبات المجهود الحربي في الولايات المتحدة بعد نقص الغذاء على نطاق العالم في سنتَي ١٩١٦-۱۹۱۷، وخبرة التعبئة في أوروبا وضغوط إخصائيي التغذية، انحسرت تدريجيًّا طرق الطهي المتميزة لدى مختلف الأقليات المهاجرة وبين ولايات الجنوب، لصالح نظام غذائي أقل اعتمادًا على اللحوم وأكثر توازنًا، ولكن على حساب الفلفل والبهارات، المرتبطة صراحةً بسلوكيات اجتماعية غير مستساغة، مثل قطع الطرق أو الإثارة الثورية، في نظر أنصار الإصلاح الغذائي. وكان تنميط المأكولات الذي أتاحه النمو المتزايد للتصنيع من الوسائل الجوهرية لانصهار مختلف الأصول القومية. بيد أن منطق التوحيد هذا لم يكن أحادي الاتجاه؛ إذ ساهم في تبني وانتشار بعض ألوان الطعام المفضَّلة لدى جماعات المهاجرين مثل السباجتي بالطماطم التي أوصى بها إخصائيو الغذاء وتعلق بها الوطنيون؛ لأن إيطاليا كانت قد خاضت الحرب إلى جاب الحلفاء.40 كما أن انتشار المطاعم «العرقية» يتفق ضمنيًّا مع مطلب التعددية الثقافية.
والحاصل أن مجال التذوق الغذائي جزء من المجال المدني، ويساهم في تحقيق ذلك المجال الأخير. فالرز الذي كان امتيازًا يتمتع به الراستي الخاملون في إيران، نظرًا لثمنه الباهظ، يكاد يصبح الطبق الوطني بفضل استيراده على نطاق واسع، وهنا أيضًا التجانس الغذائي من خلال تبني ألوان طعام إقليمية، ومنها مثلًا البسطرمة الأرمنية.41 وهناك حالة قصوى تتمثل في احتساء الجعة بريموس، وهي تشكل بكل تأكيد أحدَ آخر الطقوس التي يجمع عليها الزائريون. بيد أن مشاهدة حرارة إدمانهم لها تجعل المرء لا ييئس لا من وحدة البلاد، ولا من شعور الزائريين القومي!
ورغم أن مفاهيم المواطنة الغذائية والطهي المدني هذه متوافقة، إلا أنه يجدر بنا أن نلاحظ عولمة بعض العادات الغذائية التي تشكل على ما يبدو تطورًا معقدًا بقدر أكبر مما يتصوره المناوئون للكوكاكولا ومكدونالذ وغيرهما. فهناك نماذج من الاستهلاك المستوردة يمكن أن تخدم توحيد مجتمع قومي، وفقًا للملاحظة التي أبدتها فاريبا عادل خواه(٣) بخصوص إيران. فقد غدا الشاي في المغرب، والجعة في أفريقيا السوداء، والبطاطس في هذا البلد الأوروبي أو ذاك، رموزًا فعلية للانتماء إلى «الجماعة المتخيلة». ويكفي أن يسمع المرء مرة واحدة في محطة سكك حديد مدينة دومودوسولا الإيطالية الحدودية صياح مواطن إيطالي ينادي في مطلع النهار بائعًا جائلًا للقهوة الإسبرسو لكي يدرك أن لونًا من الطعام أو الشراب الذي تأقلم حديثًا يمكن أن يتحول بسرعة إلى دواء مخدر قومي حقيقي. وفضلًا عن ذلك، فإن تداول العادات الغذائية ييسر أو يشير على أي حال إلى عمليات إعادة تشكيل تخص الهوية التي يمكن أن تصبح في المدى البعيد إعادات تشكيل مدنية. وهكذا فإن رحلات «الحج» السياحية في أوروبا — حسب المعنى الذي أضفاه عليها فيكتور ترنر واستعاره بنديكت أندرسون وهو يتحدث عن رحلات «الحج الإداري» في أمريكا42 — وزوال الحواجز الجمركية بين بلدان الوحدة الأوروبية وتوحيد اللوائح، كل ذلك أدى إلى شيوع عادات ومنتجات إقليمية أو من أصل قومي معروف على نطاق القارة، مثل رغيف الخبز الفرنسي (الباجيت) والبيتزا، والقهوة الإسبرسو، والبيرة والفتة. وصنع جبن الكاممبير في الدانمارك يعتبر في حد ذاته تقليدًا من الرذيلة للفضيلة، يجب أن يسعد به الفرنسي المؤيد لاتفاقيات ماستريش.
وبالطبع يجب عدم الاسترسال في هذا التصور. فالتعلق بشرب السليفوفيتسة(٤) لم يحل دون تقاتل الصرب والكروات والبوسنيين، ودون تمزيق أوصال «وحدة يوغسلافيا المتخيلة». غير أن النظام الغذائي يتطلب وضعه في الاعتبار من الناحية السياسية، خاصة وأنه وثيق الارتباط بعملية التبني الذاتي (ميشيل فوكو) وبتعريف «أساليب المعيشة» (ماكس فيبر). ففي أوروبا مثلًا كان ابتكار فن تذوق الطعام أحد الأبعاد الأساسية ﻟ «تحضر السلوك»، وللتهذيب التدريجي للسلوك الاجتماعي في قطاعات متزايدة من السكان، وللتحكم في الجسد عن طريق الحمية.43 والواقع أن فكرة الحمية تحتل مركز اهتمامات المفكرين الذين يهتمون ﺑ «إصلاح» نظرائهم، حتى وإن كانت المسافة كبيرة بين انشغالات القدامى وشخص مثل تشاوشيسكو. والحمية تشكل بالمثل في أيامنا هذه مشروعًا استبطانيًّا للذات تشجع عليه العولمة.44
والحق أن الترابط المتبادل بين مجالَي السياسة والغذاء قوي، وكان الروائي لو ونفو مصيبًا عندما استعرض أربعين سنة من الشيوعية في الصين من خلال محنة ذواقة للطعام.45 وتكمن في رأينا قوة إيماء تلك العلاقة القائمة بين السياسة والغذاء في تراكب أربع خصائص متباينة. فالأكل عملية فسيولوجية ضرورية تفرز في الوقت نفسه لذة شديدة لها ارتباط صريح بالجنس، حتى في المجتمعات السابقة على فرويد. والأكل مصدر انفعالات وإحساسات بالحرمان، كما أنه يبلور أيضًا صفات أخلاقية يكون انتهاكها مثار فضيحة أو استهجان. وفضلًا عن ذلك فإن هذه الحاجة الضرورية الممتعة والمعنوية متبادلة؛ إذ إنها تتيح ضروبًا ممتازة من الأجواء الاجتماعية، وتشكل من جهة أخرى مرحلة رئيسية لبث الروح الاجتماعية عند الأطفال. وأخيرًا فإن الأكل الذي يستدعي استثمارًا كبيرًا يعتبر في الوقت نفسه عملًا دارجًا، إذ ما قورن مثلًا بممارسة الجنس. وهذه السمات الأربع التي تشمل الحاجة الضرورية، والمتعة، والمشاركة، والطابع الدارج، تكسب التحول في مجال الغذاء إلى التحرك السياسي نفوذًا فريدًا يمكن أن يصبح مبدأً يقوم على أساسه «حكم البطون» كما هو الحال في أفريقيا، أو على الأقل كاستعارة وتعامل أثير، كما هو الحال في الصين.

الرموز السياسية للملبس

من الواضح الآن أن الرموز البدنية لا يمكن تجريدها من العلاقة التي تقيمها مع ثقافة المجتمع المادية التي تنتمى إليه. فلا توجد مثلًا علاقة ذات صلة بالجسم لا تكون في الوقت نفسه على علاقة بالملبس. وفي رأي مارشال سهلينز فإن أي نظام للملبس «يمثل نظامًا شديد التعقيد من المراتب الثقافية»، وإن أخطأ بلا شك في اعتبار أنه يعمل «حسب نوع من التركيب العام […] ومجموعة من القواعد تسمح بالتعرف على فئات الملبس والتوفيق بينها بحيث تعبر عن الفئات الثقافية».

يؤدى النظام الثيابي بالأخص في المجتمع الغربي وظائف «الطوطمية المزعومة»، فبوصفه تجسيدًا كماليًّا للعناصر الأساسية المتعلقة بالشخص وبوضعه، فإنه يكون مجالًا عريضًا للاتصال، حتى يستخدم كلغة يومية بين من لا يمكنهم أن يتعارفوا. ﻓ «مجرد المظهر» يجب أن يكون أحد الأشكال الأساسية للتبيان الرمزي في المجتمع الغربي. فعن طريق المظاهر تحول الحضارة التناقض الرئيسي في بنائها إلى معجزة الوجود؛ فمجتمع الأغراب تمامًا يوجد بينهم بعض الترابط. غير أن هذا الترابط يتوقف على إمكانية التعرف على الآخرين وعلى أوضاعهم الاجتماعية، وعلاقتهم بنا «من النظرة الأولى».46
وقد أوضح مؤلفون آخرون أن المصطلحات الثيابية نسبية ودلالية للغاية؛ فهي تثير الالتباس سواء في المجال الاجتماعي أو في تحديد الجنس.47 والواقع أن عبارة «النظام الثيابي» تحتمل الغموض بالجمع بين ممارسات مراوغة، ملتبسة. فالملبس يكون أولًا ميراثًا وابتكارًا في آن واحد شأنه في ذلك شأن كل ظاهرة ثقافية، ويتطلب تحليله أن يدرك المرء «بحركة واحدة جوانب الثبات والتغير في المظاهر». كما أنه يتمثل في «تداخل مكون من الواقع والتخيل»، باعتباره «طريقة لتصور المحسوس»، «حيث يختلط معًا المعنوي والمادي بقوة»، «وهنا يتجسد الجانب العقلي، وهنا يعرض الجسم المتفرد التسجيلات العابرة للشخص، وهنا يبرز الملبس الصلات الخفية بين المادي والفكر».48 وبفضل تلك المرونة، يشكل الملبس أداة متميزة لبناء الهويات والتعاملات بينها: إنها هويات فردية، وجماعية أيضًا. فالثوب يصنع الكاهن (كما يقول المثل الفرنسي)، والمحركون السياسيون يدركون ذلك تمامًا. فهو يورث القداسة أو النقاء، أو التلوث في الهند، ويحدد الأوضاع في الوقت نفسه.49 وكان «يحدد كل فئة اجتماعية في العصور الوسطى» كما كان «زيًّا موحدًا في الواقع» لكل فئة؛ «فارتداء الشخص زي فئة غير فئته، ارتكاب خطيئة كبرى تنم عن تطلعات أو انحطاط».50 وفي عام ١٤٧١م نصح لوران العظيم بتغيير زيه ليى يتباعد عن فئه عمر الجيوفاني (الفتيان) لكي يقنع الكرسي الرسولي (الفاتيكان) ﺑ «خطورته».51 أما الدكتاتوريون العسكريون في عصرنا، فإنهم يظنون أن ظهورهم على شاشة التليفزيون في بزة مكونة من ثلاث قطع يكفي لجعل نظامهم مدنيًّا ولطمأنة الرأي العام.
وكثيرًا ما يتمسك المصلحون الدينيون أو الثوريون أو التقليديون حرفيًّا بالطابع الفعال للزي. ولذا تتضمن عادة طقوس التنصيب رمزًا ثيابيًّا، بما في ذلك في المجتمعات الصناعية؛ ففي اليابان يرتدي الطلبة الجدد بمجرد التحاقهم بالدراسة زيًّا خاصًّا يكون دائمًا رمادي اللون تتلاءم معه ربطة عنق حمراء. وحتى عهد قريب كان ارتداء السروال المشتهى في فرنسا علامة على الخروج من طور الطفولة. كما يختلط أيضًا السعي للانتساب مع السعي إلى الملبس. فعلى سبيل المثال، ينتقل السابيير(٥) في الكونغو إلى باريس لكي يعودوا منها بملابس فاخرة إلى برازافيل، حيث يستعرضونها باعتبارهم «باريسيين»، ويكتسبون بعد عدة طلعات وضع «الكبار» (يايا).52
وفي المعترك السياسي، يتطلب كذلك صنع الإنسان الجديد أن يكون ملبسه ملائمًا. وأثناء الثورة الفرنسية، طلبت لجنة الخلاص العام من الفنان دافيد تصميم زي قومي موحد للمدنيين، وهي فكرة تم التخلي عنها بعد سقوط روبسبيير، وإن لم تعف الجمعية التأسيسية من التفكير في رداء جمهوري رأت من المناسب توفيره للسلطات، وإقرار مرسوم بهذا الخصوص على أساس تقرير للأب جريجوار (عضو الجمعية التأسيسية الذي انضم لصفوف أقصى اليسار) جاء فيه: «لغة الإشارات لها بلاغتها الخاصة، والملابس المميزة جزء من الاصطلاحات التعبيرية، فهي تحيي أفكارًا ومشاعر مماثلة، لموضوعها، خاصة عندما تستحوذ على الخيال بروعتها.»53 ولما عجزت الجمعيات الثورية عن فرض زي قومي موحد، فقد جعلت لبس القلنسوة ذات الجناحين والشارة الوطنية الثلاثية الألوان شبه إجباري. وفي مقاطعة الأرديش كان يتعين على النساء تقلد هذه الشارة «في الموضع الأكثر حساسية، وهو القلب»، وكانت مدينة جوايوز المجاورة تهدد بسجن اللاتي يتخلين عن «شعار الحرية هذا» (هكذا).54 كان الزي المناسب شهادة على التحلي بالفضائل الجمهورية، علمًا بأنه مال إلى التنوع في نهاية عهد الإرهاب واكتسب تعقدًا له مغزاه في ظل حكومة المديرين (الديركتوار). ومع ذلك «لم يكن الثوب معيار الرجل بقدر ما كان معيار منتجه»55 في رأي الجمهوريين. كما أن مصطفى كمال أتاتورك رسَّخ إلغاء الخلافة بتجريم لبس الطربوش: «أيها السادة، كان يتعين إلغاء الطربوش الذي كان يتبوأ رءوس الأمة كشعار للجهل والإهمال والتزمُّت ومقت التقدم والحضارة، لتحل محله القبعة، غطاء الرأس الذي يستخدمه العالم المتحضر بأسره، وللتدليل بذلك على أن الأمة التركية لا تنأى بنفسها إطلاقًا عن الحياة الاجتماعية المتحضرة سواء في عقليتها أو في جوانب أخرى.»56 وفي الصين كان فرض زي الوقادين الأزرق في عهد ماو انعكاسًا لنفس الإيمان بالقوة السحرية للنسيج.
ولما كان الزي عنصرًا مؤسسًا لعملية التعرف على الهوية، فهو متأهب لإثارة الانفعالات. وهو رهن علاقات الحب وأيضًا النزاعات بين الآباء والأبناء وبين البالغين وصغار السن. وعند الولوف، في السنغال، «من يكون له أب، يكون الأخير كاسيه». ويلاحظ الأورتيجيون، ومن بينهم عدد من الشباب الصابر الذي يشكو بالذات من سوء الأزياء التي يوفرها لهم آباؤهم «أن الولد يشعر بقوة مستمدة من الأب، وبأنه محبوب منه عندما يكون حسن الكساء، وعندما يتخيل الآخرين وهم ينظرون إليه لحسن ملبسه». وتصل القوة الرمزية للنسيج إلى حد أن المثل يقول: «هناك كلمات لو كانت تنورات جديدة لاكتسى الناس بها.»57 وفي فرنسا أيضًا تُبلور الممارسات الثيابية الخلافات العائلية بين الأجيال التي تصقل من خلالها شخصية الطفل أو اليافع؛ فقد أوجد ارتداء الميني جوب، أو الانتقال من لبس البنطلون القصير إلى السروال عند الأولاد، رغبات ومحظورات وإحباطات وضغائن ومفاوضات وتوترات. وفي الغرب «أصبحت «أحذية رياضية الجوجنج» اليوم مرادفًا للاستقلال والحرية، ودليلًا على التحرر من وصاية الأسرة، ورمزًا لسهولة الحركة، وتأكيدًا للقدرة على الإفلات من الوسط الاجتماعي».58 قد يدفع ولع الشباب اللندني بتلك الأحذية إلى حد اللجوء إلى الاعتداء المسلح للحصول عليها، كما حدث ذلك في فيلادلفيا، حيث تلقَّى كريس ديمبي، البالغ الخامسة عشرة من عمره، طعنات بمدية من جانب عصابة من اليافعين الراغبين في الاستيلاء على حذائه الريبوك.59
ومن جهة أخرى يجسد الزي الرغبات الجنسية عند الأفراد وفقًا لمختلف المفاهيم الثقافية أو الاجتماعية، وحسب مسارات حياتهم. وهو يفصح عند الحاجة عن توله جنسي.60 ولكنه لا يتخلى مع ذلك عن تعدد معانيه، وهذا اللبس يسهم بالذات في شحنته الانفعالية، فالشورت الذي يرمز إلى تبعية الطفل، يمكن أن يكون مبعث لذة لدى شاب يافع، شاذ جنسيًّا يريد «أن يتحرر» على غرار ما جاء في إعلان نُشر في الصحافة: «أمير جميل وحنون في الثامنة والعشرين من عمره، يحلم بأخ لطيف، صغير السن ۱۸–۲۰ سنة له وجه بنت، بدون لحية، شهواني طفولي، يبدو صبيًّا صغيرًا للغاية، فتًى صغير من الكشافة، مرحبًا به الرجاء إرسال صورة (بشورت إن أمكن).»61 ومع ذلك فقد الشورت جزءًا كبيرًا من دلالته الشهوانية غير المباشرة في الغرب نتيجة لتعميم ارتدائه بين البالغين مع انتشار مزاولة مختلف الألعاب الرياضية. ورغم أن فيليب سيجان (سكرتير عام التجمع من أجل الديمقراطية الذي حل محل جوبيه في هذا المنصب بعد انتصار الحزب الاشتراكي في انتخابات مايو ١٩٩٧م البرلمانية) يسخر «شلة الصبية» ذوي السراويل القصيرة، ويقصد بذلك حكومة ألان جوبيه، وحتى إذا راح ألان توران يستحلف، من جانب آخر، الحزب الاشتراكي بأن يلبس «سراويل طويلة» قائلًا: «يواجه الحزب الاشتراكي قرارًا صعبًا لا يمكن اتخاذه إلا خلال بضعة شهور. يجب أن يرتدى «سراويل طويلة» كما كان الشيليون يقولون إنه «بدلًا من السراويل القصيرة، وأن تكون لديه الشجاعة الكافية للتحدث والتصرف بشكل مستقل […]»62 وبالمقابل، لا يزال ينظر إلى ارتداء السروال القصير في بعض البلدان الإسلامية كتصرف فاضح يعتبر ضربًا من الفساد. وعلى سبيل المثال هاجم الإسلاميون الجزائريون بشدةٍ حسيبة بومركة، التي حصلت على الميدالية الذهبية في سباق الألف وخمسمائة متر، لأنها «تجري بالشورت أمام آلاف الرجال».63 وكان ذلك بمثابة صدًى للحرب الكلامية التي شنها الأبطال الرياضيون الأتراك فيما بين الحربين العالميتين لنفس الأسباب.»64 وفي عام ١٩٣٦م قرر العديد من الآباء والأمهات في مدينة قم المقدسة سحب أبنائهم من المدارس؛ لأن الزي المدرسي الموحد الجديد يشمل سراويل قصيرة «غير محتشمة»،65 وكان قد أن أذهلهم أصلًا صدور قرار يحظر الحجاب قبل ذلك بسنة.
ويتعين ألا نسرع بالابتسام إزاء تلك الانفعالات المحتشمة أو المتصنعة الحياء، وما تكشف عنه من تفكير من تحركهم تلك الانفعالات. ففي نهاية القرن السادس عشر، كما جاء من قبل، كان العديد من الإنجليز لا يطيقون أن يظهر ممثلون على المسرح وقد ارتدوا ملابس نسائية؛ فالتنكر في زي أنثى يشوه رجولتهم وفكرة الذكورة ذاتها.66 وبالمثل بينت الجمهورية العلمانية ذات الفلسفة الديكارتية أنها متأكدة من موقفها، إذ رأى وزير التعليم الفرنسي فرنسوا بايرو أن وضع الشال على الرأس به شيء أكثر من حمل صليب أو لبس الكيبا عند اليهود. هناك في الشال على الرأس شيء أكثر من شارة دينية. إنه تأكيد على الاختلاط، وأن القوانين المدنية ليست لها اعتبار عند المسلم، وأن الاعتبار يكون للدين الإسلامي وحده. بيد أن حقوق الرجل تبدأ في الكثير من الأحوال بحقوق المرأة. إنهما خطران كبيران متناقضان في آن واحد مع الميثاق الوطني الفرنسي ومع ميثاقنا الجمهوري.67 وقد رفض مجلس الدولة هذا المفهوم بموقف حكيم؛ إذ إن «الشال في حد ذاته لا يعبر عن شيء، على خلاف الشارات التي كانت في حد ذاتها أو من خلال استخدامها عبر التاريخ تحريضًا على الحقد أو على العنف […] ولا يكون الإحساس بالشال كاعتداء على كرامة المرأة إلا من خلال إعادة بناء بأسرها انطلاقًا مما هو معروف عن الدين الإسلامي أو الحضارة الإسلامية. غير أنه يتبين بوضوح […] أن الإدارة أو القاضي لا يستطيع أيٌّ منهما أن يتدخل في مثل تلك الاعتبارات».68 ومنذ عدة سنوات تفاقمت المناقشات السياسية والنزاعات المدرسية أو المهنية وإجراءات التقاضي مما يؤكد أن التخيل الثيابي مجال للانفعالات بما في ذلك في مجتمع صناعي يفترض فيه أنه «تخلص من الأوهام».
غير أن الملبس لا يطلق العنان فقط لقضايا تتعلق بالسلطة أو الأوضاع. فهو يشارك أيضًا في مبدأ المتعة الناتجة عن تحقيق الذات، ويحيل دائمًا إلى معايير إيجابية. ويسهم جزئيًّا سعر الثياب في السوق في تلك المعايير المتخيلة سواء على الصعيد الذاتي أو صعيد التعبئة الجماعية، وهما اللذان يصنعان الموضة ويجعلانها أحيانًا سريعة التغيير. ففي موجاديشيو مثلًا تتبع الموضة دورة أسبوعية. والأقمشة التي تباع في سوق الخميس تفقد قيمتها يومًا بعد يوم حتى الخميس التالي، وفي كوت ديفوار تثير التنورات التي تحيي إحدى الذكريات، تثير مضاربات جامحة.69 والملبس عبارة عن طقوس يومية، مادية ورمزية في آن واحد، يندمج الفرد من خلالها في المجتمع، ويتأسس المجتمع في الواقع عن طريقها، وهي تشكل بهذه الصفة رهانًا اقتصاديًّا هائلًا وتخضع ﻟ «تشكيل الدولة» ولبنائها أيضًا.
وبالطبع يستعمل المحركون السياسيون الملبس كأداة على غرار أي مجال ثقافي آخر. وهم يستخدمونه لتبليغ غايات سلطوية وإصدار توجيهات تدعو للتأييد أو التمرد، أو لتحسين أسلوبهم. ومع أن الشغل الشاغل للوران العظيم كان أن يبدو أكبر سنًّا لكي يكتسب «الوقار»، فإن شاغل فاليري جيسكار ديستان كان الظهور بمظهر الشاب المودرن؛ فقد ظهر على شاشة التليفزيون وقد ارتدى بلوفر، وذلك خلال الستينيات. وفي اليابان، اتخذ موريهيرو هوسوكاوا طرازًا «غير تقليدي»، في طريقة عقد ربطة عنقه مثلًا. وقد كتب قارئ في مجلة آيرا الأسبوعية يقول: «عندما رأيت هوسوكاوا في التليفزيون مع رؤساء الدول الآخرين، أذهلتني الطريقة التي يضع بها لفاعته حول عنقه على غرار الشباب. ولم يحدث أن رأيت من قبلُ رئيس وزراء دولة بهذه الهيئة، مما أثار دهشتي إلى حد كبير.» وفي بورما تجول زارجانا، وهو ممثل كوميدي ملتزم سياسيًّا، تجول ذات يوم وقد ارتدى قميصًا لا تشوبه شائبة وسروالًا مثيرًا للشفقة، وقد فهم كل شخص أنه كان يتهكم بذلك على الهوة السحيقة بين الحكم العسكري والشعب.70 وفي الصين، نصب الطلبة في ميدان تين آمن صورة لبطلهم هوياو بانج، ارتفاعها اثنا عشر مترًا، وهو يرتدي بزة وربطة عنق، في مواجهة الصورة الرسمية لماو بسترته الزرقاء. وقد لخصت في حد ذاتها تلك المبارزة الثيابية بين الفقيدين برنامج «الديمقراطيين». وفي ديسمبر ١٩٩٥م عندما أراد جيانج زيمين، رئيس الدولة، أن يوجه لتايوان إنذارًا عسكريًّا، رأس اجتماعًا للهيئات القيادية وقد ارتدى قميصًا لونه أخضر داكن يحب لبسه عندما يتفقد قوات الجيش، بدلًا من ارتداء بزة أو سترة الكوادر الشيوعية.71 أما طالبات جامعة طهران المناوئات للنظام الملكي فقد ارتدين الحجاب قبل انتشار المطالبة بجمهورية إسلامية، وذلك للإعلان عن رفضهم لذلك النظام الذي حاول منع ارتداء الحجاب في ١٩٣٥م، واضطر أخيرًا إلى السماح به على حساب أهليته الاجتماعية.72
وقد رأينا من قبلُ أن «بناء» مجال الدولة يميل إلى الامتزاج مع تلقين (أو حظر) ثياب معبرة. فمنذ النصف الأول من القرن الثامن عشر، وقبل الثوريين الفرنسيين أو الأتراك أو الصينيين أو الإيرانيين، أدرك فردريك-غليوم الأول، ملك بروسيا، الفائدة التي يمكنه أن يستخلصها من هذا النوع من الرموز لتحقيق مركزية مملكة بروسيا وتحديثها في ظل عقلية بيروقراطية ومقترة. كان لا يرتدي في البلد سوى زي قائد سرية لكي يعبر عن ارتباطه الوثيق بالجيش. وقد وحَّد ملابس هذا الجيش وجعلها أبسط، حتى إنه توصَّل إلى تخفيض كمية النسيج اللازمة لتفصيلها بمقدار النصف تقريبًا بجعل خطوط الزي العسكري حادة. وفيما عدا ذلك كان هذا الملك-الرقيب لا يظهر إلا في أبسط الملابس المصنوعة في بروسيا، لكي تكون بمثابة تعبير عن دفاعه وتأكيده على برنامجه الحمائي الذي جعل اقتصاد بلده ينطلق بشكل مدهش.73
بيد أن تلك المساعي المتعمدة الرامية إلى توحيد مجتمع سياسي عن طريق نوع من الزي القومي تصطدم بسرعة بحقائق «قيام» الدولة القاسية. ففي زائير مثلًا فشلت تمامًا التعليمات الخاصة بارتداء الأباكوست باعتباره زيًّا «أصيلًا» على الأقل لأن رجل الشرع لم تتوفر له أبدًا إمكانات الحصول عليه؛ إذ يتولى تفصيله في أوروبا أرزوني أو فابريس أو شارلي، فبات بسرعة احتكارًا استأثر به أصحاب الامتيازات الاستثنائية المُوالون للنظام.74 ولا يعني ذلك أن محاولات توحيد الملابس تُعتبر كمًّا مهملًا حتى وإن لم تكتمل. ومع ذلك فنادرًا ما تحدث في انفصال تام عن العمليات الخفية ﻟ «تشكيل» التخيل الثيابي، أو تظل بلا تأثير على تلك العمليات. وهكذا تعود أصول الأباكوست، ليس فقط إلى السترة الماوية التي انبهر بها المارشال موبوتو أثناء زيارته لبكين في ١٩٧٣م، ولكن أيضًا إلى البزة التي كان يرتديها في الستينيات رعايا غرب أفريقيا المقيمون في حي بارومبو وحي لنجوالا بكينشاسا، وإلى الثوب «الأفريقي» الذي كان يرتديه كوامي نيكروما، وإلى «السانجو» الخاص بغريمه فليكس هوفويه-بوانيي، أو إلى «الزي الوزاري» الخاص بالصفوة السياسية الكونغولية التي وصلت إلى السلطة على أثر ثورة ١٩٦٣م.75 والواقع أنه يكفي إلقاء نظرة للتوصل إلى قرابة الأباكوست مع الصحراوية (السترة ذات الأكمام القصيرة) التي كان يرتديها حكام المستعمرات والبزات المماثلة الخاصة بمساعديهم من الإداريين وغيرهم من معلمي الدين. ولو احتاج الأمر إلى دليل إضافي على التواصل السياسي بين الوضع الاستعماري والدولة التي أعقبت الاستعمار، لوضعنا ذلك في الاعتبار. ومن الجدير بالملاحظة أن المتغنين بالأصالة، المتأهبين دائمًا لمهاجمة الاغتراب الثقافي من جانب «الزنوج البيض»، يتبخترون في نفس ما كان يرتديه أسيادهم السابقون، مع اختيار أنسجة تساعد إلى حد ما على تحمل مناخ المناطق الحارة أو الاستوائية. أما ارتداء البدلة الكاملة وربطة العنق، فكان يمثل — كما سنرى فيما بعد — ثورة رمزية حقيقية بالنسبة لعهد الاحتلال الأوروبي المقيت.
وهكذا فإن «البناء» و«التكوين» الثيابي للدولة يتواكبان. وعملية التطور الشامل ﻟ «ترشيد» المجتمعات تنتشر جزئيًّا عن طريق ممارسات الملبس. وكانت نشأة الزي النظامي الموحد في القرن الثامن عشر في أوروبا تجسيدًا لعدة تغيرات أساسية جرت في ظل العهد القديم؛ تأسيس جيوش دائمة تمد قوات المشاة بأسلحة نارية وتتزود بمدفعية حديثة؛ وتعزيز النظم الملكية المطلقة التي تتخلص نهائيًّا من طبقة النبلاء الإقطاعية لكي تجند قواتها الخاصة وتدفع لها أجورها بشكل مباشر؛ والبحث عن تمفصل جديد بين المجتمع المدني والنشاط العسكري؛ وتطوير نظم الحفاظ على النظافة والإجراءات الصحية، وخلق مجال يتولى فيه الرجال المهام الموكلة عادةً إلى النساء.76
ويجب أن ننظر إلى اهتمام الملك فردريك غليوم الأول بالزي النظامي على ضوء تلك التحولات العديدة، فلم يكن الأمر مجرد ظاهرة عابرة في عملية التحديث التي أقدمت عليها أسرة الهوهنزلرن التي بلغت أوجها مع الحرب العظمى بحصادها الدموي.77 ولم يكن الزي العسكري طبعًا السبب في حدوث كل تلك التطورات! ولكن لا يمكن أن نتصور دولة حديثة بلا زي نظامي. وقد كتب دانيال روش يقول إن هذا الزي «استطاع أن يكون وسيلة لاستئناس العنف وأداة للتقدم».78 وقد دلل ماكس فيبر نفسه على أن الديمقراطية كانت بنت سلاح المشاة وانضباطها، أي إن بوسعنا أن نضيف إلى ذلك الزي العسكري.79 ولكن يجب أن تكون نظرتنا أشمل وأقل تفاؤلًا. فقد هيأ هذا الزي الإطار الرمزي لبيروقراطية المجتمع الشاملة التي نستشعر وجودها في المجال الاقتصادي — فبعض المنشآت توفر للعاملين لديها زيًّا خاصًّا، وكوادرها يلتزمون عمومًا بقواعد ضمنية في الملبس، كما أن الطبقة العاملة اتخذت لنفسها من الكاسكيتة علامة على انتمائها الاجتماعي وذلك لفترة طويلة80 — وكذلك في المجال الإداري والخدمات العامة، وأيضًا في عملية التدمير بالجملة؛ فقد جرت الحربان العالميتان بالزي العسكري، كما أن قوات الصاعقة الألمانية التي أبادت يهودا كانت ترتدي هي أيضًا الزي العسكري.
والواقع أن الطقوس الثيابية تجسد في نهاية المطاف نظرة معينة للعالم. ولم يخطئ التقليديون الذين تصدَّوا بقوة لتبني الأزياء الغربية في جيوش الفرس أو الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن التاسع عشر، أليس أنتعال أحذية ذات رقبة أفرنجية وملابس قصيرة بشكل فاضح خروجًا على السنة المحمدية، مما يعطي الإحساس بالاستعداد لاعتناق المسيحية؟ 81 والثورات السياسية والاقتصادية التي شهدها القرنان التاسع عشر والعشرون، كانت بالتأكيد ثورات في الملبس، وكثيرًا ما اعتبرها كذلك محركوها. وقد هيأ الاستقلال الذاتي لرمزية مجال الملبس وضعًا متميزًا جرت خلاله منازعات وتسويات وتحالفات بين الأطراف المعنية بالتغيير الاجتماعي، فشكَّل بذلك إحدى تلك «العلاقات الملموسة المتوارثة التي تكتسب بالضرورة طابعًا فرديًّا خاصًّا»،82 وتتحول إلى قوالب لتشكيل الدولة. وقد تمثلت من هذه الزاوية في الكثير من الأحوال في ابتكار التقاليد.
ويقدم تاريخ التكوين الثيابي للهوية الاسكتلندية في الهايلاندز أول مثال في هذا الصدد. فمن المعروف أن الاسكتلنديين يرتدون الكيلت (التنورة) ويعزفون موسيقى القرب ‎… ومع ذلك فإن الزي التقليدي في الهايلاندز لم يتطور إلا «بعد الوحدة مع إنجلترا، وأحيانًا بعد مدة طويلة كنوع من الاحتجاج».83 وكان الساحل الغربي لاسكتلندا مستعمرة للأولستر من الناحيتين البشرية والثقافية، وظل مرتبطًا بها حتى منتصف القرن الثامن عشر. ولم تكن لديه تقاليد خاصة، بل كان ينتسب إلى النطاق الثقافي الكيلتي. ولم يتحرر من ذلك النطاق إلا في نهاية القرن الثامن عشر، عن طريق جهود كبيرة لإعادة كتابة التاريخ. وفي مرحلة تالية تبنَّت الأراضي الواطئة الاسكتلندية التي يسكنها البييتيون والساكسونيون والنورمانديون، تبنت أيديولوجية الهوية الجديدة هذه. وجاء ابتكار الكيلت فجأة وبالمصادفة في سنوات ١٧٣٠م على أساس تلك الخلفية؛ «فالكيلت رداء حديث تمامًا صمَّمه ونسجه رجل صناعة إنجليزي من الكويكر زوَّد به أهالي الهايلاندز لا لحماية أسلوب حياتهم التقليدي، ولكن من أجل تحقيق انتقالهم من الأراضي البور إلى المصنع».84 وقد منعت لندن ارتداءه، شأنه شأن كل علامات أخرى مميزة للهوية الإقليمية على أثر التمرد الكبير في ١٧٤٥م، وطوال فترة ٣٥ سنة. وعندما تم إلغاء هذا التشريع انتشر الكيلت من جديد، ولكن ليس وسط الطبقات الشعبية المخصص لها أصلًا، بل لصالح الحركة الرومانسية التي عمت أوروبا وأعادت الاعتبار لبراءة الهمجي والفلاح المفتقدة. وتبنت بالأخص فرق الهايلاندز التي أنشأها بيت(٦) غداة التمرد الكبير، تبنت تدريجيًّا الكيلت بعد أن تم استثناؤها من حظر استخدام علامات مميزة في مجال الملبس. وعلى الأرجح، يعود إلى الاسكتلنديين اختلاف الألوان والتصميمات التي تماشت تدريجيًّا مع التعرف على العشيرة.

وبعد رفع التشريع الاستثنائي المتعلق بالملبس في عام ١٨٧٢م، فرض الكيلت نفسه كرمز لخصائص كادت أن تكون قومية، علمًا بأن مختلف البحاثة المدركين لحقيقة الخدعة احتجوا على ذلك. وظلت المؤسسة العسكرية تلعب دورًا أساسيًّا في نشر الكيلت، خاصةً بعد الانتصار في معركة واترلو، حيث أبلت فيالق الهايلاندز بلاءً حسنًا. وقد استكملت هذا الإنجاز أعمال والتر سكوت، وكذلك حفل استقبال الملك جورج الرابع في إيديمبورج في ۱۸۲۲م. وهكذا تسربت «الطائفة الاسكتلندية المتخيلة» من مصفاة أقليتها الكيلتية التي ظلت تعتبر لأمد طويل «همجية»، وأصبحت هويتها مجسدة الآن في كساء غريب صممه كويكر إنجليزي قبل ذلك بأقل من قرن … بل إن صهر والتر سكوت بلغ به الأمر حد القول بأنها «هلوسة» جماعية.

غير أنه سبق لنا أن رأينا بإسهابٍ أن الثقافات والهويات تتجسد دائمًا من خلال مثل تلك الأوهام. ولكن اللافت حقًّا للنظر في حالة اسكتلندا، أن «الهلوسة» كانت ثيابية، ومكنت إقليمًا صعب المراس من صقل وعي سياسي مع مواصلة إعادة تفاوضه مع مركز المملكة. ومن وجهة النظر هذه كان الزي الإقليمي في آن واحد بمثابة مكثف للنزاعات وأداة للمساومة. وقد جرى الاحتفال في اسكتلندا بإلغاء قانون الطوارئ في ۱۷۸۲م باعتباره انتصارًا للمعطف الكيلتي على السروال الساكسوني. غير أن ذلك الانتصار لم يصبح ممكنًا إلا عن طريق الجيش البريطاني، وبفضل صناعة النسيج الحديثة التي تم تسويقها بالضمان الثقافي لجمعية الهايلاندز اللندنية، وبالتصديق السياسي من جانب الملكة فيكتوريا.85
فيا لها من قصة نموذجية بالتباساتها، تمثلت في الكيلت. ولكنها أيضًا قصة الطربوش المغربي الذي فرضه الباب العالي على جيشه في ۱۸۲۸م، رغم تحفظات المتمسكين بالتقاليد، وأصبح طوال بضعة عقود الرمزَ المدلل أو الممقوت لذلك التقليد الذي صب مصطفى كمال أتاتورك جام غضبه عليه.86 وعلى نفس الغرار فإن تذبذب الأمراء والنخبة الجديدة في جاوه بين الطراز الأصلي (كاراجاوي) والموضة الهولندية (كارافالاندي) كان أحد قوالب الفكر القومي الإندونيسي منذ القرن التاسع عشر عن طريق التمسك بتقليد خاص بالجزيرة والتوافق مع بعض عناصر الحداثة الأوروبية، وبعبارة أخرى كان إحدى وسائل التلاؤم التي تم من خلالها تصور القومية الاستعمارية التي تحدث عنها بنديكت أندرسون.87

ولا يمكن فهم الاستقلال الذاتي للكساء كنقطة تبلور للصراعات السياسية، وأيضًا كمجال للمساومة بين متزعميها، وموقع هام للابتكار الاجتماعي، إلا إذا وضعنا في اعتبارنا العلاقة الوثيقة التي تربطه بالجانب الذاتي. فالملبس يجسد المطالبة الواعية بقدر ضئيل أو كبير ﺑ «أسلوب حياة» له جوانبه الجمالية وقيمه ومعاييره الأخلاقية في المجتمع، وذلك في علاقته السياسة في نهاية المطاف. وعندئذٍ يتحرر الخيال الكسائي بدوره لكي يغدو موضع مواجهات أو تصالحات؛ «فالدراما الاجتماعية» تصبح «دراما ثيابية». ويحدث مثل هذا الاختزال بطريقة أيسر إذا ما اعتمد على تاريخ أو اقتصاد متميز يعزز وضع الملبس في المجتمع.

وتلك كانت الحالة بالنسبة للهند، إذ كانت صناعة النسيج من أشدها ازدهارًا في العالم، وكانت الرموز الثيابية في صميم نظام الطوائف، وكانت «تنوعات الطرازات الخاضعة للرقابة» تعبر عن عظمة الإمبراطورية المنغولية أكثر من إعلاء شأن الأزياء الموحدة.88 ومع تواجد الاستعمار والثورة الصناعية، فرضت الشركات البريطانية نفسها في السوق الهندية، وأصبحت قضية المنتجين المحليين الذين أفلسوا من جراء الواردات الموضوع الرئيسي لدى القوميين في مستهل القرن العشرين. غير أن سياق الأحداث كان أعقد مما يوحي به التاريخ الرسمي. فتهافت المستهلكين الهنود على المنسوجات الأجنبية كان يؤكد أولًا مناسبتها ونوعيتها، بما في ذلك في نظر بعض القيم المحلية — إذ كانت هذه المنسوجات مشهورة بكونها «أنقى»، وبأن صيانتها أسهل — كما كانت تسجل نوعًا من القبول الملتبس في المملكة الجديدة، وهو ما كان ملاحظًا أيضًا في مجالات أخرى، ومنها مثلًا تحول الكرم الديني إلى نشاط خيري على النمط الفيكتوري.89 والواقع أن سلاطين شبه القارة الهندية كانوا قد تبنَّوا أزياء الغرب منذ بداية القرن الثامن عشر، دون أن يتجاهلوا مع ذلك النماذج التي كان يعرضها عليهم الباب العالي وبلاط العديد من البلدان الآسيوية. وكان انفتاحهم على الخارج في هذا المجال يوفر أسباب الهيبة الثمينة. وفيما بعدُ واصلت الملابس الأوروبية أو الأوروبية الجديدة توفيرها تشكيلة كبيرة من الكماليات للنخبة المهيمنة، يمكنها أن تضفي على استراتيجياتهم أو ممارساتهم الاجتماعية مظهرًا متميزًا؛ فمن يشرب منهم الخمر وغيرهم من أكلة اللحوم كانوا يرتدون السروال، وتبنَّى المحامون والصحفيون الطقوس الثيابية الإنجليزية، وخفف السنيون المشايعون للموضة من وطأة الزي الأوروبي بغطاء للرأس تركي الأصل، ولجأ أقرانهم من الشيعة إلى قبعة تذكر بالإصلاحيين الفرس.
وعندما رفع القوميون البنغاليون شعار الدفاع عن الصناعة المحلية أثناء حركة السواديشي (ومعناها الحرفي: من البلد وإليه) في سنوات ١٩٠٥–۱۹۰۸م، تعين عليهم أن يعتمدوا على المعالجة الذاتية وقلب التخيلات التي أضفت بالتدريج الشرعية على المنسوجات المستوردة. وجرت الإشادة بالنسيج المحلي كرمز للنهضة المعنوية والروحية للهند: «يجب أن نكون سواديشيين في كل شيء، سواديشيين في تفكيرنا وفي أساليب تعليمنا وفي تطورها.»90 وتم شن حملات مقاطعة، بل وإتلاف للمنسوجات المستوردة، وبالأخص في السنغال أثناء حركة الاحتجاج على تقسيم الإقليم؛ كان المتظاهرون يغتسلون في نهر الجانج ثم يرتدون ثوبًا هنديًّا، ويعقدون حول الساعد سوارات ترمز تقليديًّا إلى الروابط بين الإخوة والأخوات. ولما كانت الثياب المصنوعة محليا أغلى من المستوردة، فقد شبه الفيلسوف سري أوروبندو تحمل ذلك العبء بتضحية تحيي في آن واحد الفردَ والأمة. وكرَّس المغنون والممثلون والرعاة جهودهم لمكافحة الأفكار المسبقة التي تزعم أن المنسوجات المستوردة كانت أنقى من الإنتاج المحلي، وبذل المنشدون في الأرياف ما في وسعهم لربط ذلك الإنتاج بصور الأمومة والولادة. ومن المعروف أن غاندي ذهب بعيدًا في مضمار ربط الثوب الهندي بمفهوم النقاء، إذ اعتبر غزل القطن في البيت صلاة حقيقية (مانترا) دون أن يبالي بالتناقضات الاقتصادية المترتبة على ذلك الاختيار الذي لا رجوع عنه.
وفي ظروف تاريخية وثقافية مختلفة عن ذلك تمامًا، تصور الممارسات الثيابية في أفريقيا جنوب الصحراء نفس تلك القدرة على تلخيص لعبة النزاع والتسوية الدقيقة بين المحركين الاجتماعيين، بإضفاء الذاتية عليها وفي قيامهم بدور هام في مجال التحديث. وعلى نفس النحو الجاري في الهند، كانت رموز الملبس (ولكن أيضًا رموز العرس) تقوم بدور جوهري في السلطة والتبعية. فاستعراض الحاجيات النادرة، وبالأخص الزينات، يشير إلى رسم وضع الكبار كما لو كان «بارومترًا للنجاح والنفوذ».91 وعلى هذا الأساس غدا الملبس بدوره تمثيلًا وامتدادًا للشخصية، يعبر عن اكتمالها.92 وعلى نقيض الفكرة الشائعة، كان الكساء بذلك مجالًا لاستخدامات وابتكارات فردية تمامًا تتضح من صور نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.93 وفضلًا عن ذلك كان يمكن استخدامه كعملة نظرًا لقيمته.94
ولكن المفارقة الأساسية بالمقارنة مع الهند التي كانت في القرن الثامن عشر المصدر العالمي الأول للمنسوجات، تكمن في كون الإنتاج الحرفي الأفريقي محدودًا وقليل النفوذ، أيًّا كانت قيمته الجمالية. ففي حوض نهر الكونغو مثلًا، يبدو أن الأعيان تخلوا عن الرافيا، وهي ألياف حوض نخيل منتشر في أفريقيا وأمريكا اللاتينية لصالح المنسوجات الأوروبية أو الهندية منذ منتصف القرن الثامن عشر، ثم نما المستورد منها بسرعة.95
كان الانفتاح هنا على الخارج في مجال الملبس أكثر مما هو في آسيا على ما يبدو، فتحول بالتالي إلى مصدر رئيسي للصراعات السياسية المحلية، وفقًا لمنطق إعادة ابتكار الاختلاف الملازم للعولمة. ويلخص ذلك كريسترود حيري بمناسبة تبني ملك البانوم في غرب الكاميرون في بداية القرن للنظام العسكري الألماني ثم تخليه عنه بقوله: «النماذج من الخارج، والمعنى من الداخل.»96 وتتمثل أبرز التعبيرات عن مظاهر التنافس في الاستعراض الذي أدمنه الكبار في مجال تعدد طقوس الأبهة التي أثارت دهشة المراقبين الأوروبيين وتسامحهم من باب العجرفة. ففي نهاية القرن التاسع عشر، وصف الماركيز دي كومبيني بدقة تفنن الشخصيات الهامة المبونجي على ساحل الجابون في زينتهم، وأعاد إلى الأذهان شهادة جريفون دو بيلي الذي كتب يقول: «إنه [الملك دافيد] استطاع أن يظهر كل يوم طوال حوالي ستة أسابيع أمام أتباعه المنبهرين، في زي جديد، وأزهى كل يوم بالنسبة لزي اليوم السابق عليه: فهو اليوم في زي جنرال فرنسي، وغدا من زي ماركيز في مسرحية لموليير، وفيما بعد في زي أميرال إنجليزي، ورأسه في كل الأحوال مزدان بشعر مستعار.»97 كما أن بلاط مدغشقر والمجتمع المرينا الراقي أقاما «مسرحًا للسلطة» دقيقًا ومحكمًا98 بشكل مدهش عرضت فيه المواكب وحفلات الرقص التنكرية رهانات تحديث المملكة وتنصرها، وذلك بمزيد من الملابس التنكرية الغربية والخلاسية والعربية:
«والمعاني المتضمنة في تلك المتظاهرات متعددة؛ فهي استعراضات في مواجهة الأجانب ترمي إلى إثبات أن السلطة المدغشقرية قادرة على استيعاب آداب التصرف التي يتباهون بها وضمها إلى آدابهم، وهي احتفال تنافس بين الأسرتين الهوفا الكبيرتين تستعرض فيه كلٌّ منهما ثراءها وتعرض آخر الهدايا الملكية. وهي أخيرًا منفذ مهيَّأ للطبقة الراقية الخاضعة للعديد من المحظورات والمعرَّضة في أي لحظة لنزوات الملكية التي تعتبر مصدر الحياة والموت. فبورجوازية المدن المحدودة الإرادة وإن كانت مدفوعة إلى المشاركة في اللعبة، تفرغ في تسلية التنكر ضيقها من الوضع السياسي وتمنياتها الضمنية بأن ترى المجتمع يتغير بأسره.»99
ومن هنا تنبع فائدة أزياء الياوران والظرفاء في القرون الوسطى الأوروبية في تفهم الحداثة في بلدان المحيط الهندي!100 وعلى ضوء ذلك، يكتسب إهداء خوذة لوهنجرين لزعيم الشاجا مغزًى أغنى بالتأكيد مما يمكن أن نتصور في الوهلة الأولى. إنه يرمز في حد ذاته إلى عملية إعادة التشكيل الضخمة التي جرت أثناء الاستعمار تحت ستار الممارسات الثيابية. وما كان يمكن أن يتحقق ذلك بدون العديد من النزاعات في نظام الملبس التي جرت المواجهات بخصوصها ليس فقط بين المستعمِرين والمستعمَرين، ولكن أيضا بين المستعمِرين أنفسهم حسب تطلعاتهم ومصالحهم وقيمهم. وكان موقف البيض أنفسهم شديد الالتباس، وذلك إلى جانب إمكانية اختلاف وجهات نظر الإدارة الحاكمة عن وجهات نظر الإرساليات المسيحية، وذلك لتعارض التقاليد الاستعمارية مع عمليات التبشير. فمن جهة كان الهدف الأخير استدراج المجتمعات الأفريقية نحو «الحضارة» التي كانت تتحقق تقريبًا عن طريق احترام الزي الغربي، ومن جهة أخرى كان من المناسب الحفاظ على «ثقافتهم» على الأقل ليبقى أهالي البلاد الأصليون في المكان الملائم لهم. وكان المجال الثيابي صالحًا تمامًا لمثل تلك التنوعات في مجال الكساء، علمًا بأن الأفارقة لم يتخلفوا من وجهة النظر هذه، إذ لم يكفوا عن تبني القواعد الثقافية الخاصة بأولئك الذين كانوا يكافحونهم بحيوية متزايدة.
وهكذا ترتبت على ارتداء السروال أو التنورة ثلاث توجهات تشمل ضرورات «تنمية الاستعمار» واستراتيجيات التحرر الاجتماعي من جانب النخب الجديدة الأصلية، والروح المحافظة للمؤسسة المحلية. وقد نجح بروس برمان وجون لونسديل في رسم صورة واقعية للمشكلة كما طرحت في كينيا: «كان دور الإدارة الحاكمة توجيه الأفريقي نحو حضارة أرقى مع الحفاظ على الوحدة العضوية للمجتمع … واعترض الساسة الأفارقة المرتدون السروال، الطريق بين الإدارة و«شعبها» المرتدي التنورة.»101 غير أن ذوي السراويل المسئولين عن الروابط أو العمال المهاجرين البسطاء كانوا يعلمون تمامًا أنه يتعين عليهم العودة إلى التنورة في قراهم، لأنه كان الرداء المناسب لعامة الشعب، وذلك إذا كانوا يريدون تحاشي المواجهة الصريحة مع أعيانهم.102 وكانت تلك التوترات حادة بشكل خاص وسط الكنائس المسيحية. فمنذ البداية، جرت الإشارة إلى من تنصَّروا على أنهم «ذوو الملابس» لأنهم كانوا يتبنون طريقة الأوروبيين في الملبس. بيد أن رجال الإرساليات كانوا مناهضين عمومًا لتهافتهم على اتباع الموضة الغربية، وأبدوا أساهم لأن «ديانتنا تتمثل بالنسبة للكثيرين في ارتداء السروال».103 وفي فريتاون، بكينيا، كانت جمعية الإرسالية الكنسية توصي بعدم ارتدائه.104 وفي تنجانيقا، تركزت حملة إرسالية الجامعات لوسط أفريقيا ضد موضة الرقص البيني، الذي انتشر في بداية سنوات ١٨٩٠م من الشاطئ السواحلي حتى الهنترلاند (الأراضي الخلفية)، وتركزت حول تلك القضية. وحسب رأي أعضاء الإرساليات الحريصين على نشر الدعوة على أساس الحفاظ على الطابع المحلي، إن ما يدفع الأفارقة إلى اتباع عادات الشاطئ السواحلي وعاصمة الدولة المستعمرة إنما هو «عقدة نقص» ولو في شكل خطوات رقص وسراويل طويلة. وفي رأي الأسقف فنسان لوقا، راعي كنائس ماساسي، أن ذلك كان ينبئ بتغلغل البلشفية. ووفقًا للشهادات التي جمعها ترينس رانجر في الأسقفية، فإن جمعية الرقص لم تكن لها بالطبع أي علاقة بتنظيم شيوعي، وأن حظرها يرجع فقط إلى أن «القساوسة كانوا لا يريدون أن يرتدي الرجال السراويل».105 بل إن أعضاء الإرساليات كانوا لا يستسيغون ارتداء الشورت، مع أن استخدامه كان شائعًا في المزارع ومواقع العمل، كما أنه فرض نفسه في المدارس، ولكن بعد ترددات؛ فقد اضطر طلبة مدارس شيديا إلى التهديد، حتى في الثلاثينيات، بالتمرد لكي ينتزعوا من فنسال لوقا التصريح لهم بارتدائه بدلًا من الشوكا السواحلية المفترض فيها أنها تعبر بشكل أفضل عن هويتهم الأفريقية.106
وكان رجال الكنيسة يُلقون آذانًا صاغية من جانب الأعيان من أهل البلاد بخصوص تلك المناوشات الداخلية، إذ كانوا يربطون بين العادات الجديدة في مجال الأزياء وبين عدم الانضباط، وحتى انحلال الشباب والنساء.107 ولا عجب عندئذٍ أن تصبح فيما بعدُ تلك الرموز أحد الخطوط الفاصلة بين القضية القومية وبين التعاون مع المستعمر. وإذا كان تطرف فريق صغير من الطلبة البرتغاليين والخلاسيين بجامعة نوفاليسبوا قد وصف في عام ١٩٤٠م بأنه «عصيان السراويل القصيرة» من أجل التقليل من شأن هذا التمرد، إلا أن مجرد أن يكون الشخص كالسينهاس (عن كالساو = السروال باللغة البرتغالية)؛ أي مرتديًا ملابس أوروبية، قد أسفر عن مقتل العديد من الأنجوليين في مالانجا، بعد ذلك بإحدى وعشرين سنة، وذلك أثناء هبة أبريل ١٩٦١م.108 وفي أفريقيا الوسطى الفرنسية، تواجدت أيضًا مثل تلك الشكوك بخصوص «المتطورين» الذين قيل عن بعضهم إنهم «مهاويس السروال الترجال». وفي عام ۱۹۳۹م،109 في الكاميرون، أثار بول سوبو بريسو فضيحة عندما أراد أن يلتحق بالجيش لمحاربة هتلر، «ولكن بحذاء عسكري وخوذة» وليس بالزي الخاص بالقناصة.110
لقد كان انتقال الحذاء هو أيضًا موضع خلاف بين النخب الأفريقية الجديدة والمستعمر. ففي كينيا مثلًا، كان انتعاله محظورًا لمدة طويلة داخل أبنية الإرساليات، وفي الكونغو-برازافيل كان يتعين على خفر الليل وكذلك القناصة ورجال الشرطة المحليين أن يسيروا حفاة، بل إن خلافًا خطيرًا نشب في عام ١٩٣٦م بين فرق كرة القدم الأفريقية والإدارة الفرنسية التي أرادت أن تواصل منعها من اللعب بأحذية.111 ولا شك في أن هذا النوع من التمييز المضاف إلى تخيلات ثيابية مثقلة للغاية أصلًا، ساهم في ازدياد التطلع إلى الأزياء الأوروبية بينما لم يكن الاستعمار قد أغلق هذا الباب تمامًا، بل إنه جعله ميسورًا لعدة اعتبارات، جنبًا إلى جنب ثقافته المالتوسية.
وعلى أي حال يقول الواقع إن تزايد الاستيراد باستمرار، ولو على شكل ملابس مستعملة، هيأ المزيد من إمكانيات الانفتاح على الخارج في هذا المجال حتى تضاعف عشرات المرات. واحتل الأفارقة مسرح الأزياء، ويشهد على ذلك النصيب الكبير من ميزانيات العائلات الذي كثيرًا ما يخصص لهذا النوع من النفقات.112 ويشير إلى ذلك أيضًا تكرار عمليات التعبئة الاجتماعية التي تروج للسلوكيات الثيابية بالأخص في إطار الجمعيات. وقد تدارس جوستان-دانيال-جاندولو رابطة المرحين والشخصيات الأنيقة (Sapeur) الشهيرة بحي باكونجو في برازافيل التي يجب ألا تكون بالطبع الشجرة التي تخفي الغابة. وقد سبقتها في الكونغو ذاتها أندية تحمل أسماء: أكسيتوس، كاباريه، بسيط وجيد، نادي الستة؛ والتي انصرفت لطقوس الأناقة فتعرضت بذلك مرة أخرى لغصب الكنيسة الكاثوليكية واستهجانها.113 وفي أماكن متفرقة من القارة كان الهدف المعلن للعديد من الروابط الحرص على ارتداء نوعية معينة من الملابس؛ ففي ليوبولدفيل كانت رابطة May Gul تجمع كل يوم سبت أعضاءً يحتسون الجعة، وقميصهم فوق السروال، وبلا ربطة عنق وحفاة، ومارست جمعيات أخرى نشاطات مرتبطة بشكل مباشر بمثل تلك السلوكيات الثيابية، على غرار فرق الرقص البني في أفريقيا الشرقية، أو رقصة الكاليتا في روديسيا الشمالية، أو المسرح التشيلولي في ساوتومي، أو طقوس الهاوكا الخاصة باستحواذ الشيطان على الأفراد في النيجر التي تبنَّت من جديدٍ ملابس الجيش الرسمية وأزياء الإدارة الاستعمارية.114 وقد اتسمت أغلب أشكال الحياة الاجتماعية من الطراز الغربي التي انتشرت تدريجيًّا، بما في ذلك لمبررات دينية، بالاهتمام بالأناقة — علمًا بأن حضور القداس لم يكن أقل المناسبات لاستعراض الملابس الأنيقة115 — كما كانت تقتصر أحيانًا على مجرد التسكع، على غرار النموذج الذي وصفه جاستون باتلييه في بداية هذا القرن واتبعه فيما بعد بشكل منتظم أعضاء جمعية المرحين والشخصيات الأنيقة.116
كان المثقفون الملتزمون والمتجهمون يشكون من الأخذ بالمظاهر، ويأسفون لتلك النفقات الباهظة وغير المنتجة، ومعهم الصحافة الكاثوليكية والإدارة الاستعمارية ولكن لأسباب أخرى، إذ كانوا يعتبرون ذلك نوعًا من التهرب الضار بممارسة التضامن الاجتماعي وبتحرير الأفارقة وعما قليل بالنضال القومي.117 وكانوا مخطئين في ذلك؛ إذ يمكن أن يكون الكساء مظهرًا لاكتمال الشخصية، فمن الجدير بالملاحظة في هذا الصدد أن بعض الطقوس لجأت إلى سجل الملابس الغربية. ففي كينيا، كان احتفال قبيلة اللوو ﺑ «عيد الملابس الجديدة» المناسبة التي يتحول فيها رمزيًّا الصبية إلى بالغين، وبات المتقدمون بهذه المناسبة يحصلون منذ الثلاثينيات، لا على فراء حيوان، ولكن على قميص وسروال قصير أو طويل، وعند السوننكه بمالي يقوم بنفس المهمة «حفل استلام السروال»؛ إذ يجعل اليافع بعد ذلك على قدم المساواة مع أبيه من الناحية النظرية.118
ومهما كان موقف أصحاب الآراء الجادة، إلا أن الكساء الأوروبي ينظر إليه في الكثير من الأحوال على أنه إنجاز في حد ذاته. فاستعارة الملابس الغربية بلا تكلف يمنح الشخص الاعتبار الاجتماعي، ويفتح الطريق إلى الحياة العامة، ويحقق رضًا بالغًا. ويعترف أحد أعضاء رابطة المرحين المذكورة آنفًا دون التستر على أن طريقة لبسه المضحكة تؤمن له نجاحًا كبيرًا وسط الفتيات: «أنا أشعر بالارتياح التام منذ أن ارتديت ملابس رابطة المرحين والشخصيات الأنيقة، فكأن لا شيء يوجد حولي. وهكذا أستطيع أن أطرق الأماكن التي لست معتادًا على التردد عليها، وبوسعي أن أسير مسافات طويلة على قدمي حتى يراني الناس. فكأنني أُحلق فوق العالم بأسره وأنا أتردد عمومًا على الأماكن العامة، فالمطلوب أن أثير الإعجاب وأن يراني الناس، في المراقص والبارات والمقاهي والشوارع الرئيسية والميادين الفسيحة … إلخ.»119
وفي أبيدجان، يتم «تدريب الصبي في عائلته على الأناقة»، وفيما بعد يستوعب اليانع تلك الأناقة «كممارسة مطلوبة […] تبدو له في شكل ضرورة».120 ويشهد شابٌّ رسب في المرحلة الثانوية بأن: «[من لا يجدد كسوته] سيستبعده [الآخرون] من المجموعة شيئًا فشيئًا، إنهم يشكلون مجموعات حسب الأذواق؛ فهناك مثلًا مجموعة تحب التردد على المراقص، وتجيد الرقص وتهوى الأناقة. وحتى إذا كنت تسكن في نفس الحي فإن الانضمام إلى تلك المجموعة يتطلب إجادة الرقص والتزام الأناقة. وهناك مجموعات تحب الحديث، هنا إلى جانب الأناقة التي تواكبه كما أن كل جمعية لها مفهوم معيَّن للأناقة.» والملابس الجاهزة لها قيمة أكبر من تلك المفصلة، ويجب أن تشتري بقدر الإمكان من الخارج. وحتى لو حاكى الترزي الملابس الأجنبية إلا أنه يتعين بالضرورة أن يكون طرازها غربيًّا؛ أمريكيًّا أو إيطاليًّا أو ديسكو أو ريجاي. والأناقة لا غنى عنها خاصة في الحياة الاجتماعية، ولكسب رضا النساء. ويؤكد شاب آخر: «نادرًا ما تقع فتاة في السنغال في حب غلام طالما لم يستوفِ شرط المال أو شرط الأناقة.» هناك بالطبع مجال لعلاقات عاطفية بقدر أكبر؛ فاللغة الدارجة تميز بين دورين للذكور؛ دور «الجروتو» الذي يغري بحكم مركزه الاجتماعي، و«الجينيتو» القلب. ولكن المتقدم للزواج سواء كان كبيرًا أو صغيرا غير معفي من واجب الأناقة. فهي معيار اجتماعي كلاسيكي يسمح فورًا بمعرفة من هو الشخص. وقد جاء على لسان فرد من أبيدجان وُجهت إليه الأسئلة: «إننا نخلق بأنفسنا الطبقات عن طريق الملابس.» ولكن حيث إن الطبقة تشكل من هذه الزاوية أيضًا «جماعة من الناس»،121 فإن الملبس يكون بالطبع مبدأً له جانبه الذاتي، ومنتجًا ﻟ «أسلوب حياة»، أي روح معينة.
ومن جهة أخرى ليس من المؤكد أن هذه الممارسات في المجال الثيابي تبعدنا عن السياسة بالقدر الذي كان يخشاه في الخمسينيات المثقفون الملتزمون وأصحاب الآراء المتفقة مع التقاليد. ففي الكونغو برازافيل، عبأ شباب الحركة الوطنية الثورية في سنوات ١٩٦٣–١٩٦٥م «تقريبًا كل» من يتراوح سنهم بين ١٤ و٣٠ سنة ضد نظام توارث السلطة وضد الدولة التي أعقبت الاستعمار، ولكنها ناضلت على تلك الجبهة أيضًا.122 ويجب أن نتساءل كذلك حول الميل الملحوظ لدى الشباب المحارب في الصومال وليبيريا وتشاد لاقتناء مختلف الزينات الرخيصة المنتمية إلى الحداثة الغربية؛ فحربهم تشكل إلى حد ما نوعًا من الهجرة الشديدة من الريف لا يتميز فقط بالكلاتشنكوف والأجهزة التقنية، ولكن أيضًا بشعور النساء المستعارة والنظارات الواقية من الشمس.123
ولا مجال للتمادي إلى ما لانهاية في تفسير المغزى السياسي الخفي لتلك السلوكيات، كما حاول ذلك البعض بخصوص أعضاء رابطة المرحين والشخصيات الأنيقة. وفي ظل هذا الوضع التاريخي والثقافي، لم يكن هناك ند لفن التزين سوى رقابة الممسكين بزمام السلطة، فشكل بذلك مصدرًا رمزيًّا له أهمية أولى. وقد ارتبط الاستعمار بذلك بثورة هائلة في مجال الملبس أتاحت للخاضعين له من الشباب والنساء فرصةَ تجاوز العديد من المحظورات واستغلال ثقافة الانفتاح لصالحهم. وكان ذلك في الوقت نفسه مصدرًا لإضفاء الشرعية على الاحتلال الأوروبي. وبالطبع لم تتخذ النخب القديمة موقفًا سلبيًّا إزاء ذلك التهديد بالخروج على شرعية الرموز، التي ظلت تواجههما طوال قرن على الأقل. فرخاء تلك النخب مكَّنها من الحفاظ على احتكارها للأناقة لفترة من الزمن على الأقل. وكان ذلك هو الحال بالنسبة للخلاسيين في سييرا ليوني وأهالي ليبيريا الوافدين من أمريكا. ويجب أن تذكر أيضًا مناطق نصف القارة حيث نشر الإسلام إشكالية ثيابية للسياسة مختلفة باقتراح نوع آخر من الأقمشة من أجل الترقي الاجتماعي. وهكذا حصل المستعمر على طراز آخر من الملابس الجاهزة لأهالي البلاد، وهو الطراز الزنجباري الذي رحبت به الإرساليات والإدارة البريطانية في شرق أفريقيا.124 ولكن يجب الاعتراف بأن الرجال الجدد الذين استفادوا بشكل مباشر من ذلك «الاحتلال الاستعماري الثاني» في الثلاثينيات، وتزعَّموا الحركات الوطنية في الخمسينيات، وتبوَّءوا السلطة في نهاية المطاف بفضل الاستقلال، قطعوا مسيرتهم السياسية الباهرة هذه بالسراويل، ثم في زي صحراوي جديد، وأخيرًا ببدلة وربطة عنق، لكي يزيحهم أحيانًا من السلطة عسكريون يرتدون بزات عسكرية مزركَشة.
لقد تم تطعيم «الدولة المستوردة»125 في أفريقيا السوداء عن طريق الملبس إلى حد كبير. غير أن هذا المظهر الخاص من العولمة استمر في مصاحبة عملية إعادة ابتكار للفروق، كما أن الأفارقة تفاوضوا يومًا بعد يوم حول علاقاتهم مع الغرب بواسطة نفس هذا الزي. والواقع أن الأمور لم تجرِ دائمًا بشكل قاطع مثل البديل الذي يوحي به النزاع الكيني بين السروال والتنورة. وكانت غالبية الناس ترفض الاختيار بشكل حاسم بين الهندامين، وكانوا يخلطون بينهما حسب هواهم.126 وتنتمي سلسلة الأزياء الصحراوية الجديدة الخاصة بالإدارة بما في ذلك الأباكوست «المؤقلم لتحمل مناخ المناطق الحارة» إلى تلك التركيبة الخلاقة. وهكذا نشأت «البدلة الكاملة» التي فضَّلتها الشخصيات الكبيرة في كوت ديفوار، وهي:
«تتكون من قميص وسروال يتم تفصيل كلٍّ منهما حسب المقاس من قماش واحد لونه فاتح ومحايد (لون التبغ، الأزرق وأحيانًا الرمادي). وخطوط القميص مستقيمة، وهو غير محبوك عند الخصر، وأكمامه قصيرة، وهو يهبط فوق السروال، والأزرار لا تشبه تمامًا أزرار القميص العادي، فقطرها أكبر وعددها أقل، ومما يؤكد الانطباع بأنها سترة-قميص شكلُ الياقة وإضافة جيوب خارجية مربعة واختيار قماش من الجبردين. وهذا الرداء الغريب على حركة الموضات المتسارعة والمشترك بين كافة العاملين بالأجر (خاصة مستخدمي المكاتب) يلبس بدون سترة أو ربطة عنق. ولكن هل يمكن أن تخلط فكرة الزي الموحد شخصيات الدولة البارزة مع صغار الموظفين؟ الواقع أن بساطة هذا النموذج تتيح إمكانية تحقيق تميزات: نوعية التفصيل والحياكة والخامات، وعلى أي حال فإن الفروق الاجتماعية في كوت ديفوار تظل صريحة. وعلى كلٍّ فأيًّا كانت العلامات التي تميز ما تنفرد به «بذلة» الشخصية الهامة، فإن هذا اللباس الحضري الأفريقي هو الوحيد تقريبًا الذي يرتديه المسئولون في المناسبات الرسمية، والواقع أن هناك مناسبات نادرة (جنازات، طقوسًا مختلفة) ينقل أخبارها التليفزيون والإذاعة، يرتدي فيها رجال السياسة هندامًا تقليديًّا.»127
وقد استخدم إيمانويل تيراي الصورة الرمزية للقراندة وجهاز التكييف لتحليل التوازنات الدقيقة التي يعتمد عليها النظام السياسي في كوت ديفوار.128 فبينما يتميز كلٌّ من هذين القطبين (الملابس التقليدية والبذلة الكاملة مع ربطة العنق) بشكل مثالي عن بعضهما، تشكل البزة الأفريقية الوسيط الرمزي بين الاثنين. وهي متواجدة مع ذلك وسط الطبقة المتوسطة مع طرازات أخرى تتوافق مع الطابع الأفريقي: البوبو (القميص الأفريقي الفضفاض) الذي ينقل الأشكال التقليدية أو يدخل تحديثات عليها بالتخلي عن طابعها القبلي أو الديني، والأطقم المكونة من سروال وقميص رحب ألوانه فاقعة مصنوع من قطعة تنورة أو القماش الحريري المزركش (الباتيك) أو تطريزات إنجليزية.129

ومما لا شك فيه أنه يكفي لتفسير تواصل حدة النزاعات السياسية في مجال الملبس، أن الممارسات الثيابية متواجدة في صميم انتقال سلطة الدولة إلى الأفارقة، وفي الثورة الاجتماعية الرمزية على الأقل التي مروا بها منذ قرن، وفي طرق تعاملهم مع الانعطافة الكبرى للعولمة. وهي نزاعات منتظمة ترتبط بنوادر في أغلب الأحوال، لها الفضل مع ذلك في التذكير بالشحنة الانفعالية الخاصة بهذا المجال. ومثال ذلك ما أقدم عليه وكيل حاكم إحدى المناطق تخرج حديثًا من مدرسة الإدارة، محاولًا تحقيق مهمة فرض الانضباط شبه المستحيلة على الفلاحين وإلزامهم باحترام قواعد الحياة الأولية:

مذكرة إلى كافة رؤساء الأحياء والمسئولين بلجان اليقظة في لوم

أتيحت لي فرصة ملاحظة أن العديد من الأفراد، رجالًا ونساءً، يمارسون عادة الاستحمام السيئة في الهواء الطلق في بعض أنحاء الخلجان التي يتردد عليها العموم دون مراعاة التستر بلباس بحر أو لباس عادي.

وكثيرًا ما لوحظ أن نساءً متزوجات عرايا يستحممن في نفس الوقت الذي يستحم فيه شبان وقحون جاءوا من مختلف الأحياء، ويعرضن بذلك عريهن بلا خجل على كل عابر سبيل.

وهذه العادة التي يبدو أنها قديمة جدًّا في تلك الدائرة لها عواقب وخيمة ليس فقط على كرامة بعض زوجات أعيان لوم، بل إنها تفسد بشكل خطير الشباب الذي تدفعه مبكرًا نحو الفجور.

وعليه، فمن المحظور تمامًا على نطاق كافة أراضي لوم الاستحمام في الهواء الطلق بدون لباس بحر أو لباس عادي. ويجب الإبلاغ فورًا عن المخالفين لتلك المذكرة لكي يعاقبوا بمقتضى أحكام المادة ٢٦٣ من قانون العقوبات الفدرالي التي تجازي الخروج على الآداب العامة.

وتبعًا لذلك، يُطلب من كل رؤساء الأحياء ومسئولي لجان اليقظة تأمين نشر هذه المذكرة وعدم التردد في الإبلاغ عن المخالفين فورًا.

وقائدا مفارز الدرك في لوم ونيومبي، مكلَّفان كلٌّ منهما فيما يخصه بالتنفيذ الصارم لهذه المذكرة.130
وفي إقليم الناتال تقتل ميليشيا إنكاثا النساء اللاتي يرتدين سراويل، والصبية الذين ينتعلون أحذية رياضية لأن كل ذلك «رموز للحداثة وكل ما هو حديث مرتبط بالمؤتمر الوطني الأفريقي».131 واعتدى مناضلون تشاديون على تاجر وسألوه عما إذا كان يجهل «أن السلطات وحدها، في كافة أنحاء العالم، تلبس سراويل وأغطية للرأس بينما لا يحق ذلك للناس العاديين».132 وحرصًا من المارشال موبوتو على وقف تقدم النساء اجتماعيًّا، فقد لجأ إلى استعارة من هذا النوع: «هذا الاندماج الخاص بالمرأة نريده على كافة المستويات […] إننا نريد الاعتراف للأم الزائيرية بالحقوق الممنوحة لها بصفتها شريكًا ندًّا للرجل. ولكن يبقى بالطبع أن يكون هناك في كل بيت رب له. وإلى أن يثبت العكس، فإن رب البيت عندنا هو ذلك الذي يرتدي سروالًا. ويتعين على مواطناتنا أن يدركن ذلك، وأن يقبلنه بالابتسام، والخضوع الثوري.»133
غير أن المواجهة في مجال الملبس يمكن أن تتصاعد لتتحول إلى «ظاهرة اجتماعية كاملة» (مارسيل موس). ولن ننقل هنا سوى مثال شهير. عندما اضطر المارشال موبوتو إلى إقامة التعددية الحزبية في ٢٤ أبريل ١٩٩٠م، أدرك أن رفع الحظر الذي كان مفروضًا بحكم الواقع على البذلة الكاملة وربطة العنق يمكن أن يضفي بعض المصداقية على انفتاحه، فقال في خطابه في ذلك اليوم: «في ظل الوضع السياسي السابق وصفه فرضنا على أنفسنا زيًّا وطنيًّا، هو الحال في العديد من البلدان. وهذا الزي يسمى عندنا الأباكوست. ورغم الحفاظ عليه كزي وطني، فإنني أرى أنه سيكون من حق كل مواطن زائيري أن يختار بنفسه في هذا المجال أيضًا. ويتعين عليَّ أن أوضح بمقتضى حقي في حرية الاختيار أنكم لن تروني بربطة عنق وفقًا للاختيار الذي قررته في فبراير ١٩٧٢م. وأنا أشعر بارتياح شديد في كوني قوميًّا زائيريًّا.» ومنذ حوالي عشر سنوات، كان مناضلو حزب المعارضة، الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي، يتحدَّون النظام أحيانًا بالتباهي بربطة عنق أو بدلة أوروبية.134 غير أن خطاب يوم ٢٤ أبريل أعقبته عملية تعبئة بخصوص الأزياء لم يسبق لها مثيل، جعلت الجماهير تبدو في أغلب مدن البلاد في هيئة عفا عليها الزمن وسوريالية إلى حد ما؛ فقد أخرج كل فرد ملابس الستينيات التي فقدت رونقها للاحتفال بعودة الديمقراطية أو بانتهاء الدكتاتورية على الأقل التي لم يتأخر رد فعلها. فقد عمد أتباعها إلى التعرض في الشوارع لمن يرتدون بذلات للاشتباه فورًا في كونهم من أعضاء الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي، الحزب الذي تدور حوله التشنيعات، كما واجه مقدمو برامج تليفزيون الزائيري رفض الحق في لبس ربطة العنق أمام الشاشة، رغم أن أحد المتحدثين باسم رئاسة الجمهورية والرئيس السابق للمخابرات أراد أن يبث الاطمئنان، فأعلن: «أنا أضع ربطة العنق أحيانًا لأنني حريص على أن أثبت أن قرار الرئيس صادق، ويجب أن يجسده أولًا معاونوه، بالله عليكم، ربطه العنق ليست رمز المعارضة!»135 ولكن الكسائيين في إقليم شابًّا لم يدعوا الفرصة تُفلت عندما أرادوا السخرية من نجوزا كارل أي بون الذي خان المعارضة، فطافوا في الشوارع بكلاب يقودونها وقد طوقت رقابها بربطة عنق، وأطلقوا عليها اسمه.136 وأخيرًا حبست البلاد أنفاسها في أكتوبر ١٩٩٤م، إذ تخلى المارشال موبوتو لأول مرة منذ عشرين سنة عن الأباكوست وبدَّله بقميص ذي ياقة مفتوحة ومنديل حول الرقبة، وذلك عند ظهوره على شاشة التليفزيون!137 كان اللَّبس في «عملية التحول الثوري» في زائير مسألة ثيابية أولًا. وكانت الثورة الفرنسية قد انتهت بالتباس مماثل تعهدته إرادة الانتقام من جانب الحريصين على التأنق بشكل مفرط الذين راحوا يصيحون في شوارع باريس: «عودوا إلى لبس سراويلكم القصيرة.» بعد سقوط روبسبيير، ومن خلال نزاع أنصار السراويل الطويلة وأنصار السراويل القصيرة في منعطف القرن.
وربما يكون من المجدي الإشارة إلى وضع أخير تميل فيه الدراما الاجتماعية إلى الامتزاج بالدراما الثيابية حتى يمكن الاقتناع تمامًا بالقوة الرمزية للملبس «كترجمة ملخصة» (فرويد) للسياسة. ويتمثل بالطبع الخيط الرئيسي في تلك القضية في استخدام المرأة للحجاب، وإن كان ارتداء الرجال الشورت كما سبق أن رأينا، وكذلك القميص أو ربطة العنق ليس مسألة خالية من أي معنًى. والقضية هنا معقدة وعامرة بالخلافات والتطورات؛ لأن جميع شخصيات هذه الدراما غير متفقة على طريقة تطبيقها. بيد أن «الثقافة الإسلامية نفسها ليست مؤلف تلك الدراما. فعلي شريعاتي مثلًا يرى أن «الحجاب سجن لنسائنا وإهانة لهن». ولكن نواب صفوي، وهو مرشد آخر للثورة الإيرانية، يعتبر الشبق «المحرك الأول للحياة النفسانية»، وأن السعي الأخرق للإشباع يضعف الجهاز العصبي عند الإنسان، والأجزاء المثيرة في جسم المرأة تلهيه، وتحول دون أن يعمل عقله بشكل سليم، وتعيق ممارسته لمسئولياته الاجتماعية. وعليه، فإن الحجاب يفرض نفسه، ويجب ألا يترك أمام نظر الآخر سوى الوجه؛ والمرأة غير المحجبة تكون شبه عارية، ومرادفًا ﻟ «الانحراف الأخلاقي» و«الانحطاط الاجتماعي».138
ونحن هنا بصدد عالمين بارزين ينسبان نفسيهما إلى الإسلام، ورأياهما متناقضان. فهناك مبدأ، ألا وهو مبدأ الحجاب، سواء حظي بالترحاب أو الرفض، يقابله العديد من أساليب تفسيره؛ «فالإجماع حول مبدأ «الوجه والكفين» لا يحول(٧) […] دون تعدد أشكال الحجاب. ويرجع ذلك إلى مسئولية النساء […] اللاتي يجب عليهن الإشراف على تطبيق المبدأ حسب تفسيرهن لما جاء في الآيات القرآنية ومطالباتهن الأيديولوجية.» كما كتبت تقول فاريبا عادل خواه بخصوص إيران، حيث نوهت بأن تنوع أشكال الحجاب» يستند إلى «آراء مختلفة نسبيًّا».139

وهكذا فإن للمرأة، وبالأخص المجاهدة الإسلامية، أن تختار بين التشادور التقليدي — من نسيج أسود يغطي الرأس حتى أقصى القدمين ومفتوح من الأمام، ويتوجب أن تمسكه بيديها — والمَقنع (بالفارسية)، وهو أشبه بنقاب يتدلى على الكتفين حتى المرفقين، ومعترف به اليوم كهندام لائق في الإدارات أو المعطف الإسلامي الطويل الذي يلبس فوق سروال، وبمصاحبة شال يمكن أن يتنوع لونه. وستتخذ المرأة قرارها حسب ذوقها وقناعاتها، وأيضًا حسب المناسبات؛ فهي ستستخدم التشادور الأسود في التردد على مزار، وتشادور ملونًا للتنقل داخل العمارة التي تقيم فيها، والمقنع لقيادة السيارة في المدينة أو حمل طفل، أو التبضع. وقد تغير شكل الحجاب على مدى سبع عشرة سنة من حياة الجمهورية الإسلامية. وكان يتمثل في بداية الثورة في شال معقود تحت الذقن، لا يغطي المنكبين، وقميص ينزل فوق التنورة أو السروال دون أن يخفي القوام، وجورب سروال (كولون) سميك، وهو هندام الآن غير مقبول. وبعبارة أخرى فإن مبدأ الحجاب في تعبيره المادي، مجال تكيف متواصل على صعيد الأفراد كما على صعيد المجتمع؛ فالنساء المسلمات يتباعدن عن التشادور باعتبار أنه تقليدي للغاية لكي يفصح عن التزامهن أو غير مريح لكي يتفق مع الحياة النشطة أو سهل الاتساخ؛ وفي المدن الكبرى تكون الطريقة الحازمة بقدر كبير أو قليل في حبك الحجاب مؤشرًا واضحًا للضغط السياسي الذي يفرضه النظام الإيراني في حقبة معينة، وذلك عن طريق قوات النظام.

وتعدد تفسيرات الحجاب في حد ذاتها موضع خلافات، وهو يبرز منذ بضع سنوات التناقضات السياسية في المجتمعات الإسلامية. فقد أثار استخدامه أو منعه في المدارس والجامعات معارك إدارية وقضائية حامية في تركيا وفي مصر، حيث اغتيلت أستاذة في الفقه الإسلامي في أنقرة على يد حركة إسلامية عقابًا لها على «آرائها حول الحجاب». واحتج الإسلاميون في الكويت على قرار منع قيادة السيارات بالنقاب الذي يخفي الوجه، إذ إنه يحد مجال الرؤية في رأي وزارة الداخلية.140
وبرزت مشكلة الحجاب بقدر أكبر من المأساوية كخط فاصل في الأزمة الجزائرية. والقضية لا تمس الإسلام بقدر الأهمية التي تولى لها، فالحرب هناك اجتماعية أكثر منها دينية، ووزن التاريخ والأقاليم في مجال العنف أقوى مما هو حول تفسير القرآن.141 ومع أن النساء لم يعانين موضوعيًّا أكثر من فئات أخرى من السكان، إلا أن الحجاب كان أحد الرموز التي جسدت تلك التمزقات وأسبغت عليها عقلانية حتى وإن كانت خاطئة. فقد تم قتل نساء لكونهن بدون حجاب، وردَّت منظمة للشباب الجزائري مهددةً بأنه: «إذا تعرضت امرأة لاعتداء لأنها بدون حجاب فإن منظمة الشباب الجزائري تعد بالانتقام بتصفية عشرين امرأة محجبة وعشرين ملتحيًا من الأصوليين.»142 وهكذا تعين على المقيمات في المدن أن يتعودن على التصرف حسب أماكن تواجدهن، إذ يتغير مظهرهن، وفقًا لمجلة لانسيون الأسبوعية، حسب الحي الذي يجتزنه والحواجز التي يتعين عبورها، وتقول إحدى المقيمات في بليدة: «أسيرُ مسرعةً جدًّا، وأضع شالًا حول رقبتي، أغطي به رأسي من آن لآخر عندما أرى شخصًا يبدو لي مريبًا.»143
ومن قبلُ كان على مجاهدات جبهة التحرير أن يواجهن أحد الاختيارين الخطرين للتغلب على يقظة الجنود الفرنسين: «كان الجنود يطلبون من النساء المحجبات أوراقهن، ويفتشونهن أحيانًا عندما تكون هناك حواجز في الطريق، وحدث لي عدة مرات أن أوقفوني وأنا محجبة بينما كنت أعبر وأنا غير محجبة؛ كنت شابة، فأبتسم فأعبر، في المرة الأولى بدا لي كأنني عارية، ثم بعد ذلك لم يعد الأمر يربكني.»144 وشيئًا فشيئًا أصبحت الحرب الجزائرية الجديدة حربًا ضد الحجاب أو معه، وضد تحرير المرأة أو معه، وبين الإسلاميين والعلمانيين.
والوهم هنا ضخم بالطبع، وأعيد بناء النزاع بكيفية استيهامية، من السهل تبديده ولو نظريًّا على الأقل. ويتعين علينا دون أي حاجة لفحص الفضائل التقدمية المزعومة لدى أجهزة الأمن الجزائرية المغالية في علمانيتها، «الخروج بسرعة من الحرب الكلامية العقيمة حول الحجاب»، كما دعتنا إلى ذلك فاريبا عادل خواه منذ خمس سنوات مضت،145 مع تذكيرنا بأنه ليس هناك شيء بسيط في هذا المجال. أولًا لأن الإسلام لا يختلط بتعليمات ارتداء الحجاب، ولأن المؤمن يستطيع أن يتصور بالطبع إيمانه بدون تلك الممارسة الثيابية أو مع اعتراضه عليها. فعلى سبيل المثال تقدم علي إيسيك إمام مسجد قرية كاباكلي البالغ من العمر ثلاثة وعشرين سنة، بطلب الطلاق من زوجته لأنها تُصر على تغطية رأسها وترفض اللبس ﮐ «امرأة متحضرة».146 وأخيرًا فإن استخدام الحجاب تعود قيمته إلى الظروف التي يتواجد فيها، وهو يكون مصحوبًا تاريخيًّا في الكثير من الأحوال برؤية عقلانية للدين، وبمشاركة متزايدة في المجال العام، وبالتمايز الفردي الملحوظ الذي يرجع بالأخص إلى الحرص على التأنق، مما يسعد إلى حد كبير بعضَ المحلات المتخصصة.147 ففي إيران:
«لا شك في أن الحجاب رمز لرفض حداثة مستوردة أو مفروضة، غير أن مغزاه الأساسي أكثر ثراءً بالنسبة للنساء المسلمات. فهو تجسيد للتواصل بين الطبيعة البشرية والوحي القرآني؛ وهو يرسم العلاقة بين المجالين الخاص والعام، وبين المجال العائلي والمجال الاجتماعي. وتدفع تلك الخاصية المزدوجة للحجاب النساء المسلمات إلى المطالبة، بقدر من التنوعات، بعناصر من التحديث التي استقرت في السنوات الأخيرة، ومنها الحق في تربية حديثة بلا قيود، والحق في العمل، والاعتراف بهن خارج النطاق العائلي؛ والمشاركة في كل المناقشات التي تدور في المجتمع الإيراني.»148
والحالة الخاصة بإيران مثيرة للاهتمام، فقد كشفت سبع عشرة سنة الإسلامية الوحيدة المعروفة لدينا، أن هناك عملية إعادة تشكيل عميقة تجري بما في ذلك في المجال السياسي في مواقف الإسلاميين والعلمانيين التي تفاقمت الفروق بينها على شكل تضاد يتعذر الحد منه من جراء الأزمة الجزائرية.149 وقد أدركت الآن البحوث الأنثروبولوجية والاجتماعية تعدد المعاني الاجتماعية لاستخدام الحجاب، وإن لم ينعكس ذلك على وسائل الإعلام والطبقات السياسية والرأي العام في العالم الغربي.150 كيف يمكن إذن تفسير التفاوت المستمر بين المعرفة العلمية أو مجرد حسن الإدراك، وبين التطورات الاجتماعية؟
يبدو أن الأمر يرجع إلى الحيز الذي يحتله الحجاب في الإحساس الذاتي لدى من تستخدمنه ومن ترفضنه. وتعود الانفعالات التي يثيرها إلى الجانب المعنوي الذي يتجسد فيه، وهي انفعالات تشير إلى أحد النزاعات التي تثور وفقًا لتعريف الذاتية وأهمية تلك النزاعات التي نوَّه بها بول فين. ولو تتبعنا تحليلات هذا المؤلف، لاتضح لنا أنه ليس من باب المصادفة أن هذا الشقاق يقع أساسًا في صفوف الفئة المقهورة فعلًا، ألا وهي فئة النساء.151 فبعضهن يرفض الحجاب باسم تفسير خاص للحرية والجنس، ويدفعن لذلك ثمنًا باهظًا. وتتساءل أمٌّ جزائرية بخصوص ابنتها عشيةَ بداية العام الدراسي: «أن أحجبها يبدو قبولًا مني أن تفقد روحها. ولكن تركها برأس عارية معناه تعريضها لأي مهووس.»152 وتطالب أخريات بالحجاب بالمجازفة بذلك، أحيانًا، بينما لا ترى العجرفة الفرنسية تمامًا أنه ليس سوى مظهر للاستلاب البحت، وتجهيلية، بل وسيطرة خبيثة. والواقع أن الحجاب يحيل هو أيضًا إلى معايير لها اعتبارات لا تبعد كثيرًا عن تلك التي يقدرها العلمانيون. فالحجاب عند الإيرانيين مثلًا لباس ومظهر للحجاب الباطن الذي يفصح عنه على صعيد الأحاسيس الصوت والنظرة والسلوكيات، ويتطلب موقفًا صحيحًا وعادلًا تجاه العالم وخالقه. ونحن لسنا بعيدين هنا عن منطق اليعاقبة المستمد من فكر جان-جاك روسو الذي يقضي بأن يكشف الملبس عن سريرة المواطن، لا أن يتستر عليها. وعندئذٍ يكون الحجاب مجرد تجسيد، من خلال المنسوجات، لصفات مثل البساطة والحياء والحزم والجدية والعفة والكرامة وسمو النفس، علمًا بأن كل صفة من هذه الصفات تشير إلى نقيضها. فالحجاب ينم عن بعض «الانشغال بالنفس».153
وربما تقبَّل القارئ ذلك بشكل أفضل لو وافق على أن يعرج على مجتمع الطوارق، حيث يتحجب الرجال بانضباط مثيله عند النساء؛ فقد لا يكون من اللائق أن يسرن حاسرات الرأس، ولكن الأمر الذي لا يمكن تصوره أن يظهر الرجال وجوههم. فهم يغطونها بلثام لا يقل طوله عن عشرة أذرع، ولا يكفون عن إحكامه أثناء النهار، وبالاستعانة عند الضرورة بمرآة جيب مع الحرص على أن يتميز بلمسة شخصية تسمح بالتعرف عليهم من بعيد عندما يقتربون من مخيم. واستخدام الحجاب هنا دليل على التحفظ المفروض على الرجل المستقيم، وهو مرتبط بوضعه كزوج مفترض على الأقل، وبرجولته، وهو يحفظ من الكائنات المؤذية في الصحراء المستعدة لاستغلال تدفق، ولو غير إرادي، للكلمات أو اللعاب أو السائل المنوي.154 وهنا أيضًا يتحول التصور الأخلاقي إلى مادة، من القماش في هذه الحالة، مما يستدعي سلوكيات ثيابية لها قواعدها وجوانبها الفردية في الوقت نفسه. والدفاع عن ذلك التخيل ضروري كما جربت ذلك على مراحل منتظمة كلٌّ من القوات الفرنسية ثم المالوية (نسبة إلى مالي) والنيجيرية. ولن يدهش أحد إذا علم أنه في أوج الحماس في قمع تمرد مارس ۱۹۹۰م، لجأت تلك القوات إلى نزع ملابس الطوارق المشتبه في تواطئهم مع التمردين لكي تحطم معنوياتهم …

التخيلات مبدأ لعدم الاكتمال

يتواكب إذن تركيز التخيلات الاجتماعية الكامنة في تخيلات سياسية مع تركيز الممارسات التخيلية في ممارسات مجسدة. ويظهر هنا المعنى الكامل لتعريف جيل دولوز الذي ذكرناه عدة مرات من قبل: «المتخيل ليس غير حقيقي، ولكنه العجز عن التمييز بين ما هو حقيقي وغير حقيقي.» وعليه فمن الممكن أن يكون موضع دراسة سياسية حقيقية تسهم فيها حاليًّا البحوث المتعلقة ﺑ «الثقافة المادية» أو ﺑ «الحياة الاجتماعية» أو ﺑ «السيرة الثقافية للأشياء»، أو بتاريخ القيم.

وينطبق ذلك على «المخدرات»؛ فهي منتجات زراعية أو مواد كيماوية «تثير» و«تضخم» تخيلات ثقافية كامنة لدى من يتعاطاها،155 وتُنشط في الوقت نفسه تمثلات ذهنية مكثفة بنفس القدر عند بعض السلطات السياسية والقضائية والبوليسية. ويرتبط تعاطي المخدرات بشكل وثيق بالممارسات السياسية. ففي أفريقيا مثلًا يتعاطى مناضلو الحركات المسلحة المخدرات بكل يسر، مما قد يؤثر بشكل خطير على الطابع الإعمالي لخيالاتهم الحربية. كما أن المخدرات ذات الطابع الاجتماعي يمكن أن تسهم في تغيير العلاقات بين المجالين الخاص والعام، ومثال ذلك مضغ القات في اليمن.156 وفي الوقت نفسه تولدت عن «تسويق» المخدرات تدفقات مالية هائلة كانت سببًا في ازدهار شركة الهند الشرقية، وعاش على حسابها الحكمان الاستعماريان الفرنسي والهولندي في الهند الصينية وإندونيسيا عن طريق إدارتين حكوميتين للأفيون في البلدين. ويشكل ذلك الآن أحد الأوجه الخفية للاقتصاد الدولي. وتحصل حروب عديدة على مصادر تمويلها الذاتي من خلال تلك المبادلات157 التي أصبحت مشكلة عويصة للسياسات العامة، خاصة بالنسبة للدبلوماسية الأمريكية. والمخدر مبدأ تخيلات فريد من نوعه وإن كان يحيل دائمًا إلى عالم أشد ابتذالًا.

وبوسعنا أن نقول ذلك، وبنفس القدر، عن الاستراتيجيات السياسية المتعلقة بالهوية وأيديولوجياتها الانغلاقية ثقافيًّا؛ فخطبها الاستيهامية قابلة هي أيضًا لتركيزها في شكل أعمال عنيفة وبدنية في كثير جدًّا من الأحوال، باتت الآن جزءًا لا يتجزأ من تخيلاتها، فكيف تكون مثلًا تخيلات «الحرب العظمى» دون عمليات الاغتصاب والاغتيال والتدمير من أجل التطهير العرقي؟ أو تخيلات سلطة الهوتو بدون الجثث المشوهة في نهر كاجيرا؟

وأخيرًا، فإن اللبس الملازم لمفهوم التخيل وعلاقته المعقدة مع الأوضاع المادية يدفعنا إلى الامتناع عن استخدام معين لهذا المفهوم، وإن كان شائعًا للغاية. ويجب ألا نتقيد حرفيًّا بتعبيرات مثل «التخيل الاجتماعي» أو «التخيل التاريخي»؛ فهي مصطلحات مريحة ولكنها توحي بأن التخيل الاجتماعي أو التاريخي كلٌّ له تشكيلة من المعاني المتماسكة والمحدودة. فسيكون في ذلك مجازفة بالاعتراف لهذا التخيل بفضائل رفضناها للثقافة من قبل، وبإضفاء قدرة فائقة له في تحديد السلوكيات السياسية. وباختصار، فإن مفهوم التخيل على هذا النحو لا يكون سوى تكرار متحذلق لمفهوم الثقافة.

والواقع أننا لا نصادف في مجتمع معين سوى عمليات تخيل تتولد عنها صور خيالية قوية ومشتركة ومستقرة بقدر كبير أو قليل. وتكون هذه الصور بالضرورة مجزأة ومتعددة المعاني؛ فأيٌّ منها لا يستغرق أو يصادر وظيفة التخيل، أيًّا كانت قوتها في ظل وضع تاريخي محدد، وأيٌّ منها غير مزوَّد، علاوة على ذلك، بمفهوم سياسي نهائي. وبوسعنا أن نكرر هنا ما سبق أن سقناه منذ برهة بخصوص أنواع الخطاب لأنها أنواع متخيلة: فصورة الجهاد لا تتضمن معنًى سياسيًّا واحدًا بالنسبة للمسلمين حتى إنهم يولونه أهمية أكبر بالنسبة لأسباب أخرى وطنية أو ليبرالية أو ماركسية لينينية. وبوسعنا أن نفترض أيضًا أن «التخيل الاجتماعي» عند الفيتناميين تسيطر عليه سلسلة من الصور الموروثة من تاريخهم القديم، وقوميتهم، وذكريات حرب دامت ثلاثين عامًا، وجراح الشمولية الشيوعية، ومن مشاعرهم الأقل حدةً تجاه الفرنسيين، ولكن ذلك لا يثنيهم عن تقديم قرابين على ضريح يرسين، قاهر الطاعون، عبارة عن قطع من جبن لاقاش-كي-ري، ولا عن اقتناعهم التام بأن هذا الشفيح قتل بمديته ساحرة متهمة بالتهام أكباد الأطفال الصغار.158

وتصور التخيل الاجتماعي ككلٍّ له مغزاه لن يعني فقط غربلة الأدبيات الضخمة حول الرموز واللاوعى بدءًا بأعمال فرويد، بل وأيضًا طمس الطابع المتقادم الذي تطبع به العولمة وظيفة التخيل في المجتمعات المعاصرة. ومن المهم أساسًا التأكيد على تلك النقطة خاصة وأن جانبًا كبيرًا من المؤلفين الذين يمكننا أن نستند عليهم لكي ندخل إشكالية التخيل في التفكير السياسي، لديهم رؤية أحادية للتخيل: وهكذا كان مونتسكيو يربط كل نظام من نظم الحكم التي حدد بنفسه سماتها، بانفعال سياسي، ومن المفترض أن هذه الانفعالات المختلفة تتفق مع بنيان وأداء كلٍّ من هذه النظم.

وبوسعنا الآن، بفضل مكتسبات العلوم الاجتماعية أن نفهم أن التخيلات الاجتماعية تشكل في الواقع سُدمًا من الصور المتباينة في الكثير من الأحوال والملتبسة قطعًا من وجهة النظر السياسية والثابتة لمدد متفاوتة، أي إنها باختصارٍ ظواهر تاريخية. وقد تعود التغيرات في نظام التخيل إلى طول المدة، ولا تكون مدركة بالنسبة للمعاصرين. غير أنه يتعين ألا يدفعنا هذا الخداع البصري إلى تصور أن هذا النظام التخيلي ثابت لا يتغير. فقد تآكلت في نهاية الأمر رموز الملكية المقدسة في فرنسا أو إنجلترا وفقدت رنينها، حتى وإن كانت جنازة فرنسوا ميتران في ١٩٩٦م قد أحيت من جديدٍ أسطورة جسدي الملك القديمة.159 وعلى نفس النحو تواجدت على أوسع نطاق الصورُ الخيالية للكرنفال أثناء الحروب الدينية، ومنها الحكايات البرازية، وطقوس الشذوذ، والرموز الحيوانية التي جرت تعبئتها للحط من شأن العدو. غير أن هذا النوع من التخيلات راح يتراجع سياسيًّا على ما يبدو في ظل حكم لويس الرابع عشر، ولم ينطلق من جديد إلا في عهد الثورة في خِضم عمليات تأسيس الدولة في الأقاليم، حاملًا معه معاني جديدة خلفها التفكير الجمهوري.160 وهذا التدقيق أساسي لأن دراسة الأعياد والمهرجانات كثيرًا ما شابها «تسلط فكرة ضرورة البحث عن نفس المدلول عن طريق العديد من الدلالات»،161 وذلك رغم الحقائق الجلية، ومع أن قوة اللغة الرمزية تتمثل في طموحها مع تعدد معانيها. وقد كتب إيمانويل لوروا لادروري يقول بخصوص الاستعارات الحيوانية الشائعة في رومانس في القرن السادس عشر: «قولوها باللحوم! هذا أوضح بكثير حتى وإن تعددت المعاني وتنوعت حسب مضامين الأعياد والمناسبات الجماعية، وسواء كان الرمز الديك أو العُقاب أو العصفور، فهذه الاستعارات تقدم تصورًا وتؤدي وظيفة في آن واحد؛ وتهيئ استراتيجية ذات رءوس متعددة؛ وتتيح لهذا الفريق أو ذاك من المجموعة فرصة محاولة السيطرة على وضع معين أو استخلاص بعض المزايا منه.»162

بيد أنه يتعين أن يضاف بخصوص هذا الفريق الآخر أو ذاك أنه قد يقلب لصالحه نفس الاستعارات الحيوانية إذا واتته الفرصة أو الظروف. وبوسعنا أن نردد هنا ما قاله فرويد:

«العناصر المتشابهة في الخامات الكامنة تحل محلها تركيزات في الحلم الواضح. غير أن النقائض تعالج بنفس الطريقة التي تعالج بها التشابهات، ويعبر عنها بالأحرى نفس العنصر الواضح. وهكذا فإن عنصر الحلم الواضح الذي يوجد له نقيض يمكن أن يعني سواءً هذا العنصر أو نقيضه، أو كليهما في نفس الوقت. ولن يكون بوسعنا تحديد اختيارنا بخصوص التفسير إلا من خلال المعنى العام. ويوضح لنا ذلك لماذا لا نجد في الحلم تمثلًا له معنًى واحد، على الأقل فيما يتعلق ﺑ «لا».»163
كان الكرنفال الغني باستعاراته الحيوانية أو غيرها، يمثل مبدأ عدم التجانس الجذري للمجتمع الأوروبي الغربي. ولا جدوى من تقليص أي حفل في «مضمون محدد ومحدود […] لأنه ينتهك الحدود بشكل آلي.164 وقد يُستنفد هذا البيان أو يتهمش. ولا يحول ذلك دون أن تظل وظيفة التخيل التي تجسدت في العصور الوسطى وفي القرن السادس عشر متواجدة أيًّا كانت الأشكال التي تتخذها اليوم، ومنها مثلًا الأشكال الرياضية.165 ولا يعود ذلك فقط لأننا لا نستطيع أن ندرك بشكل معقول كافةَ المعاني الممكنة، ولكن أيضًا لأن هذه المعاني تشكل بئرًا ليست لها قاع. ويقول فرويد: «كل حلم له على الأقل موقع لا يمكن سبر أغواره، مثل الإمبيق الذي يربطه بالمجهول.» «وأفكار الحلم التي نتوصل إليها من خلال التفسير، يتوجب أن تظل بالضرورة وبشكل عام بلا نهاية محددة، وأن تتسرب من كافة النواحي في شبكة عالم تفكيرنا المتداخلة.»166 ويظل أيضًا التخيل المكوِّن لتاريخنا، ودوافعنا السياسية «بلا نهاية» محددة؛ لأن صوره قابلة للتحول ومتعددة المعاني. ويؤكد ذلك يوميًّا مسار الأيديولوجيات والمؤسسات، والمنتجات المادية للثقافة في العالم، وإعادة تفسيرها. ولذا فإن افتراض وجود شبه بنية أولية وأصلية تندرج تحتها الصور المتخيلة لن يكون سوى خطأ فاحش.
بيد أنه سيقال لنا كيف يمكن التسليم بهذا التأكيد إذا كان «ما يجمع معًا أطراف مجتمع ما هو تماسك مجموع عالم معانيه» كما سبق أن افترضنا ذلك مع كونيليوس كاستورياديس؟ كيف يمكن أن تتماسك معًا «المعاني الاجتماعية المتخيلة»، وبالتالي أن تربط المجتمع معًا، إذا كان يجب أن تظل «بلا نهاية محددة»؟ ويرجع ذلك بالذات إلى لبسها الجذري. وسيقول لك كل المهندسين المعماريين الذين يواجهون احتمالات وقوع هزات أرضية إن مرونة البوص أفضل من شموخ البلوط … وقد أثبت المؤرخون والأنثربولوجيون أن العديد من التشكيلات السياسية، وليست أقلها شأنًا مثل روما، كانت تخضع لقانون عدم الاكتمال. وكذلك من باب أولى النظام الدولي في أبعاده الثقافية كما في أبعاده الاقتصادية.167 لقد اشتدَّت التدفقات عبر القومية حتى إنهم راحوا يبشروننا ﺑ «نهاية الأقاليم»،168 وهو ما لا يعني نهاية الدول.
وفضلًا عن ذلك فإن العديد من المجتمعات لا تزال تعترضها «تصدعات».169 فسكانها يعيشون مواقيت متباينة، ولم تصل مركزيتها السياسية أو الثقافية بعد إلى حد استبعاد «التوقيتات التي تخص أقليات».170 ففي فرنسا مثلًا لم يتم توحيد التوقيت إلا في وقت متأخر للغاية، وذلك رغم قوة الدولة وطبيعتها.171 وإيران الإسلامية تستخدم في آن واحد التقويمَ الشمسي والقمري. وفي إقليم مثل روتينيا بأوكرانيا تتعايش معًا ثلاثة توقيتات: التوقيت الرسمي في العاصمة كييف، وتوقيت موسكو بالنسبة لمن يحنون إلى الوطن الأم السابق، والتوقيت «تبعنا» للروتينيين الذين يضبطون ساعاتهم وفقًا للمنطقة الزمنية الخاصة بالعواصم الرئيسية لأوروبا الغربية لكي يجهروا بتباعدهم عن عاصمة بلدهم.172 غير أن المظهر غير الموحد للزمن في مجتمع ما يتجاوز قضية مركزيته، كما أن الاختلافات قد تكون دينية أيضًا؛ فالأميش في ولاية بنسيلفانيا مثلًا يغيرون توقيتهم للتعبير عن تحفظهم وإن لم يحل ذلك دون أن يكونوا موفقين في المواقع الاقتصادية التي يحتلونها،173 ونادرًا ما تتفق الهيئات الدينية الإسلامية حول تاريخ ظهور القمر الذي يسجل انتهاء شهر رمضان. والواقع أننا «نعيش فعلًا عدة مواقيت نوعية وكمية لا تسمح لنا بتحويلها إلى توقيت واحد»، بل إنها قد تتعارض فيما بينها، وذلك في أي مجتمع، حتى وإن كان مجتمعًا صناعيًّا.174

ولنستخلص النتائج: لا يتحقق المجتمع ككلٍّ إلا من خلال التباس التخيلات، بما في ذلك بالطبع ما تتضمنه من جوانب ملموسة، وذلك من خلال الأشكال المتخيلة للسوق والدولة والمجتمع الدولي»، التي توزع في آن واحد صورًا وأحاسيس وإصدارات ملموسة بقدر أكبر في شكل ممتلكات، أو خدمات أو عقوبات أو قذف قنابل. والمجتمع العامر ﺑ «روابط متشابكة وغير متماثلة» يعتمد على جوانب صمت، وجهل، وسوء تفاهم، ولامبالاة وأوهام، وعلى حشد كبير من «التفاصيل الصغيرة» غير المتماسكة بقدر متفاوت. بيد أن أحد شخصيات الكاتب البولندي جومبروفيتس (١٩٠٤–١٩٦٩م) ينبهنا قائلًا: «لا تتصوروا إلى أي حد تجعلنا تلك التفاصيل الصغيرة هائلين.»

الملاحظات

  • (١)

    نسبة إلى الصحفي جاك بريسو، وهو من متزعمي حركة الجيرونديين (وأغلبهم من نواب مقاطعة الجيروند في الجمعية التشريعية)، وقد تصدوا ﻟ «الجبليين» المتطرفين، وعلى رأسهم روبسبيير، فقضت محكمة الثورة بإعدامهم، ومن بينهم الواحد وعشرون جيروندي المشار إليهم فيما بعد. أما بريسو فقد لاذ بالفرار، ولكن ألقي القبض عليه بعد ذلك وأعدم في عام ۱۷۹۳م.

  • (٢)

    اسم مستحضر لإزالة الشعر تستخدمه النساء.

  • (٣)

    فاريبا عادل خواه، الثورة تحت الحجاب، ترجمة هالة عبد الرءوف مراد، الناشر دار العالم الثالث، ١٩٩٥م.

  • (٤)

    مشروب كحولي مقطر مستخلص من البرقوق، منتشر في البلدان السلافية.

  • (٥)
    اسم يطلق على أعضاء رابطة المرحين والشخصيات الأنيقة (Sapeur)، وهي كلمة مكونة من الحروف الأولى لاسم هذه الرابطة باللغة الفرنسية.
  • (٦)

    وليم بيت أو بيت الثاني، ابن وليم بيت الأول، ١٧٥٩–١٨٠٦م، أحد رجال الدولة الإنجليز، تقلد منصب وزير المالية مرتين، ولعب دورًا كبيرًا في نهضة الاقتصاد مستوحيًا في ذلك نظريات آدم سميث الليبرالية.

  • (٧)

    كان بعض رجال الدين يؤكدون أنه يتوجب على المرأة أن تغطي وجهها وكفيها فضلًا عن جسدها وشعرها. وقد حسم هذا الخلاف إلى حد كبير في إيران في القرن التاسع عشر على يد آية الله أنصاري، أستاذ آية الله خميني المعتمد الذي أمر بمبدأ «الوجه والكفين»؛ أي إنه يمكن ألا يحجبا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤