لوشيوس كوينتوس سينسيناتوس لامار
لم يسبق أن شُوهد جيمز ج. بلين، ذلك السياسي المحنك الصلب ورئيس المجلس، يبكي، ولكنه جلس هناك والدموع تنساب من عينيه دون خجل، وهو لا يستطيع أن يخفي مشاعره عن عيون أعضاء المجلس والحضور، وكان عدد الذين كانوا يتطلعون إلى المستر بلين في القاعة ومن الشرفات في ذلك اليوم المثير سنة ١٨٧٤ ضئيلًا جدًّا، كما أن معظمهم لم يحاول إخفاء دموعه، وجلس الديمقراطيون والجمهوريون على السواء، من المحاربين القدامى الذين خاضوا معارك الحرب الأهلية ومعترك السياسة العنيف، جلسوا في صمت عميق وهم يستمعون إلى نداء عاجل وجهه ممثل ولاية ميسيسبي الجديد، وهو يتحدث ببساطة ووضوح دون اللجوء إلى بلاغة الخطباء، وقد لعب صوته الجمهوري القوي بقلوب كل مستمعيه بندائه البسيط من أجل الوحدة والعدالة بين الشمال والجنوب.
أجل، جميعهم تأثروا برسالته، ولكنهم ذُهلوا كذلك لشدة وقعها في النفوس؛ ذلك لأن لوشيوس لامار كان يوجه نداءه باسم ألد أعداء الجنوب، باسم تشارلز سمنر ممثل مساتشوستس الجمهوري الراديكالي الذي ساعد على تحويل فترة التعمير إلى كابوس لا يستطيع الجنوب نسيانه أبدًا تشارلز سمنر الذي حمل على دانيال وبستر ووصمه بالخيانة؛ لأنه سعى لإبقاء الجنوب داخل الاتحاد، والذي ساعد على صلب روس؛ لأنه صوَّت ضد حكم الرعاع في الكونغرس، الذي لو تأتى له لسحق الجنوب والرئيس بكعب حذائه؛ تشارلز سمنر الذي قرَّب أجلَه ضرب مبرح بالعصا كاله له بروكس ممثل كارولينا الجنوبية في قاعة مجلس النواب قبل ذلك بسنوات، وأصبح بروكس بعد ذلك بطلًا من أبطال الجنوب كان تشارلز سمنر قد مات الآن، وكان لوشيوس لامار الذي عُرف في عهد ما قبل الحرب بأنه من أكثر القادمين من الجنوب تصلبًا وشراسة قد اعتلى منصة الخطابة في المجلس ليؤبن بخطاب مؤثر رحيل سمنر.
وقليلة هي الخطب في تاريخ الولايات المتحدة التي تركت مثل هذا الوقع السريع، فقد رفعت هذه الخطبة لامار بين عشية وضحاها إلى الصف الأول في الكونغرس وفي البلاد، والأهم من ذلك هو أنها كانت نقطة تحول في العلاقات بين الشمال والجنوب.
وشعر الجنوبيون، الذين كانوا يعتبرون تشارلز سمنر رمزًا لأسوأ أنواع حركات تحرير العبيد قبل الحرب وخلال فترة الإعمار بعد الحرب، بأن لامار تخلى عنهم، وانتقدت عدة صحف كبيرة في ولاية مسيسيبي، بينها صحيفة الديمقراطي في كولومبوس، وصحيفة ميل في كانتون، وصحيفة ميركوري في مريديان، انتقدت لامار بشدة كما انتقده كثيرون من أصدقائه القدامى قائلين إنه تنازل عن مبادئ الجنوب وشرفه.
ولكن هذه الحملات كانت تمثل أقلية، فقد اعترف الجنوب والشمال على السواء بصورة عامة بأن هذا الخطاب الذي كان يحتمل أن يكون كارثة كان في الواقع انتصارًا ملحوظًا، واتضح أن المناسبة والرجل الذي تأثر بقوى التاريخ الغريبة وبمصيره الشخصي التقيا ذلك اليوم في واشنطن.
وتفهم سكان ولاية مسيسيبي على وجه الإجمال بمرور الوقت وقدروا المشاعر التي انطوى عليها تأبين سمنر وتعلموا احترام وفاء لامار إن لم يعجبوا به، أو هم ذهبوا إلى التجاوز عما اعتبروه سوء تقدير خطير إن هم عارضوه، واعتلى لامار موجة شعبية هائلة، وبعودة الحكم إلى الديمقراطيين في مسيسيبي في سنة ١٨٧٦ انتخبته الهيئة التشريعية للولاية عضوًا في مجلس الشيوخ، ولكن لامار أثار سخط كثيرين من أنصاره بالتخلي عن حزبه ودائرته الانتخابية بالنسبة إلى مشكلة ثار حولها جدل حاد، حتى قبل أن ينتقل من مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ.
اتسمت معركة الرئاسة بين هيز وتيلدن في سنة ١٨٧٦ بصراع مرير انتهى على ما يبدو بفوز تيلدن الديمقراطي بأكثرية ضئيلة جدًّا. وعلى الرغم من أن هيز قبَل الهزيمة بادئ الأمر باستسلام فلسفي، فإن معاونيه، بالتعاون مع صحيفة نيويورك تايمز، حوَّلوا اليقين الظاهر في انتخاب تيلدن إلى شك بأن ادعوا الفوز بولايات كارولينا الجنوبية ولويزيانا وفلوريدا التي تقاربت فيها الأصوات إلى حد بعيد، ثم حاولوا تحويل ذلك الشك إلى يقين بانتخاب هيز بالحصول من الحكومات المغامرة في الولايات الثلاث هذه على تلاعب بنتائج الانتخابات. وعندما كثرت الشائعات عن احتمال نشوب أعمال عنف وقيام دكتاتورية عسكرية، قرَّر الكونغرس تحكيم لجنة انتخابية يفترض فيها أن تكون غير حزبية، ووافق لوشيوس لامار على هذا الحل؛ لأنه كان واثقًا بأن أي تحقيق موضوعي سيكشف الخداع الملموس لقضية الجمهوريين؛ ولأنه أراد الحيلولة دون تكرار الصراع المفجع الذي بعث الشيخوخة في روحه ووسع نظرته.
غير أنه عندما قررت اللجنة، التي عملت كليًّا وفقًا لسياسات حزبية، منح الولايات الثلاث المتنازعة لهيز، وبالتالي أقرت فوزه بأكثرية ١٨٥ صوتًا انتخابيًّا في مقابل ١٨٤ صوتًا لتيلدن، ثارت ثورة الجنوب؛ ذلك لأن حكم الجمهوريين لمدة أربع سنوات أخرى يعني أن الجنوب سيظل أربع سنوات أخرى رهن استعباد الشمال واستغلاله، ويعني مضي أربع سنوات أخرى قبل أن يتمكن الجنوب من استرداد كرامته ومكانته المشروعة في البلاد، واتهم لامار بأنه باع صوته وشرف قطاعه الانتخابي في مقابل وعد بمنحه مركزًا في المستقبل، واتهم بالجبن وبالإخفاق في الدفاع عن ولايته إذا اقتضى ذلك الدفاع مبارزة، واتهم أيضًا بالتخلي عن شعبه وحزبه في وقت كان النصر فيه آخر الأمر حليفهم، وأقسم أعداؤه وهم يدركون أن ست سنوات ستمر قبل أن يضطر لامار إلى خوض معركة لإعادة انتخابه في مجلس الشيوخ، على أن لا ينسوا أبدًا يوم الغدر ذاك.
ولكن لوشيوس لامار، وهو رجل قانون وصاحب شرف، لم يستطع حينذاك رفض النتائج مهما تكن مذهلة، تلك النتائج التي توصلت إليها لجنة كانت له يد في إنشائها، وأيَّد هذه النتائج؛ لأنه كان يعتقد أن القوة وحدها هي التي تستطيع الحيلولة دون تنصيب هيز رئيسًا، وأن السير في هذه الطريق مرة ثانية يعني كارثة جديدة، ورأى أن من الأفضل للجنوب — على الرغم من الاستفزاز — قبول الهزيمة في هذه المناسبة، ولكنه كان بارعًا إلى درجة حمل معها هيز على إلزام نفسه بتقديم تنازلات للجنوب، بينها سحب قوات الاحتلال العسكري وإعادة الحكم الذاتي إلى الولايات الرئيسية.
وفي الوقت الذي أخلد فيه لامار المريض المتعب إلى الراحة في منزله طوال قسم كبير من سنة ١٨٧٧، بدأت حركة جديدة تجتاح الجنوب والغرب، حركة قُدر لها أن تُبتلى بها الأحزاب السياسية في البلاد لجيل كامل هي حركة «الفضة الحرة»، ولم يكن وليام جيننغز بريان، نبي قوى الفضة، قد ظهر على المسرح بعد، ولكن «سيلفر ديك» بلاند ممثل ميسوري في الكونغرس، أخذ يمهد الطريق لمشروع قانون يدعو إلى حرية النقد الفضي الذي يُجلب إلى دار سك النقود. وبقدر ما كان التدفق الضخم في إنتاج مناجم الفضة الغربية — مما أدى إلى انخفاض قيمة الفضة انخفاضًا ملموسًا بالنسبة إلى الذهب — كان الهدف الوحيد لقوى الفضة واضحًا بسيطًا، ومغريًا وسهلًا، إنه التخضم المالي.
ولقيت هذه الحركة شعبية كبيرة في ولاية مسيسيبي، وأدى الذعر الذي أصاب الأمة في سنة ١٨٧٣ إلى أسوأ هبوط اقتصادي شهدته أميركا، وكانت الضربة موجعة للولايات الجنوبية التي كانت تعاني من فقر قبل ذلك، وتوقفت ألوف الأعمال، وازدادت البطالة، وانخفضت الأجور، كما انخفضت أثمان نتاج المزارع عما كانت عليه خلال الحرب، وأعلن الفلاحون في مسيسيبي الذين كانوا في حاجة ماسة جدًّا إلى النقد، أنهم سيؤيدون أي مشروع يؤدي إلى رفع أسعار محصولاتهم، ويخفض قيمة ديونهم ويزيد من فرص توفير المال، ورأى الجنوب أنه سيظل مدينًا بصورة دائمة للمؤسسات المالية في الشرق إلا إذا توفر لديه المال السهل لدفع ديونه الكثيرة.
ولكن لامار الأستاذ العلامة نظر إلى المشكلة نظرة تختلف عن نظرة زملائه، ولم يلتفت إلى طلبات منطقته الانتخابية هذه إلا قليلًا، واستنفد كل دراسة حول الموضوع بفوائده ومساوئه، وقد أقنعته دراسته — وربما كان مخطئًا في استنتاجه — بأن الوضع الوحيد السليم يكمن في تأييد نقد سليم، وشعر بأن دفع ديون حكومتنا — حتى لحمَلة السندات الأثرياء في وول ستريت — بعملة منخفضة القيمة ومتضخمة، كما شجع على ذلك مشروع قانون بلاند ونص عليه بصورة خاصة مشروع قرار ماثيوز المرفق به، شعر بأنه خطأ أخلاقي وعملي سيحرج موقفنا أمام العالم، كما شعر بأن مشروع القرار هذا، وذلك القانون، إنما وضعا لا ليكونا برنامجًا ماليًّا دائمًا وإنما ليكونا إجراءي إغاثة زائفين، الغاية منهما التخفيف من ضائقة البلاد الاقتصادية.
ورفض لامار، في ٢٤ كانون الثاني (يناير) ١٨٧٨ في خطاب جريء مدروس هو الأول الذي ألقاه في مجلس الشيوخ، نداءات الناخبين في ولاية مسيسيبي، وحمل على مسوغات إجراءي الفضة، ووصفها بأنها مصطنعة ومبالغ فيها. وفي اليوم التالي صوت ضد مشروع ماثيوز مخالفًا بذلك زميله من مسيسيبي، وكان ذلك الزميل جمهوريًّا زنجيًّا ذا مواهب خارقة، كانت الهيئة التشريعية المغامرة القديمة قد انتخبته ممثلًا للولاية في مجلس الشيوخ قبل ذلك ببضع سنوات.
وقوبل خطاب لامار البليغ وتحليله الحصيف للمشكلة بالثناء في أنحاء كثيرة في البلاد، ولكنه قوبل بالتنديد والاستنكار في مسيسيبي. وفي ٣٠ كانون الثاني (يناير)، تبنت الهيئة التشريعية للولاية مذكرة رسمية لم تتضمن أي ذكر للامار ولكنها في صفعة له واضحة ومقصودة تضمنت تهنئة وشكرًا لزميله (الذي كان يعارضه عادة أعضاء الهيئة التشريعية الديمقراطيون البيض بشدة)؛ لأنه صوَّت في اتجاه غير الاتجاه الذي صوَّت فيه لامار، وعكس بالتالي «مشاعر منطقته الانتخابية وإرادتها»، وجرحت هذه المذكرة لامار ولكنه وجد ما يعزيه في رسالة تلقاها من صديق حميم له هو رئيس المجلس التشريعي في مسيسيبي الذي وصف المذكرة بأنها «اعتداء لعين»، ولكنه قال:
«إن السكان يعانون من ضغط أوقات عصيبة وقلة المال، وقد شعر ممثلوهم بأن عليهم أن يوجهوا ضربتهم إلى شيء ما علَّها تريحهم، ولكن قليلين منهم استطاعوا أن يعرفوا كيف ولماذا توجه هذه الضربة.»
ولكن الهيئة التشريعية في الولاية لم تنته بعد، ففي الرابع من شباط (فبراير) اتخذ مجلساها قرارًا يأمر لامار بالتصويت إلى جانب مشروع قانون بلاند وببذل جهوده بوصفه ناطقًا بلسان مسيسيبي لتأمين إقراره.
وبعد ذلك بأسبوع طُرح مشروع قانون بلاند على مجلس الشيوخ للتصويت النهائي، وعندما أوشكت المناقشة على نهايتها، وقف السناتور لامار على غير انتظار، ولم يكن يحمل في يده أية ملاحظات؛ لأنه كان من أروع الخطباء ارتجالًا من أعضاء مجلس الشيوخ حتى ذلك الحين («لأن القلم» كما يقول «يخمد حدة ذهني ويرهق أعصابي»)، وبدلًا من ذلك أمسك بيده وثيقة رسمية كانت تحمل خاتم ولاية مسيسيبي، وسلمها لحاجب نقلها إلى مكتب المجلس، وقال معتذرًا لزملائه إنه وإن يكن قد أعرب عن رأيه في مشروع قانون الفضة الذي أعده بلاند، فإن عليه «واجبًا آخر لا بد من القيام به، واجبًا مؤلمًا جدًّا ولكنه مع ذلك واضح»، ثم طلب أن تتلى الوثيقة الرسمية التي بعث بها إلى مكتب المجلس.
واعترت الدهشة المجلس بادئ ذي بدء، ثم خيم عليه الصمت عندما تلا الكاتب قرارات الهيئة التشريعية في ولاية مسيسيبي ورغبتها في أن يصوِّت شيخاها إلى جانب مشروع قانون بلاند، وما إن انتهى الكاتب من تلاوة تعليمات الولاية حتى تحولت جميع العيون إلى لامار، ولم يكن أحد يعرف ما سيقوله. ووصف مراسل صحيفة واشنطن كابيتول الحادث، فقال:
«إن كل شيخ جلس وكله آذان وهو يتذكر الوضع الحرج الذي يمر به هذا السيد بالنسبة إلى مشروع القانون، وخيم على مجلس الشيوخ صمت يشبه صمت القبور.»
وبدا لوشيوس لامار رجلًا ضخمًا ووحيدًا على منصة الخطابة، وتحدث بصوت هادئ شديد النبرة، صوت حفل بالإثارة، حين احتد وسرت في جسمه رعشة خفيفة.
سيدي الرئيس، إن بين هذه القرارات ومعتقداتي هوة كبيرة لا أستطيع اجتيازها … وقد حاولت أبدًا أن أُفهم شبان ولايتي الذين كان لي شرف المساعدة في تعليمهم أن الصدق أفضل من الكذب، والإخلاص أفضل من السياسة، والشجاعة أفضل من الجبن، واليوم أُجابه بهذه الدروس التي علمتها لغيري، وعليَّ أن أكون صادقًا أو كاذبًا، شريفًا أو مخاتلًا، مخلصًا أو غير مخلص لشعبي، وحتى في هذه الساعة التي لا توافقني فيها هيئته التشريعية ولا ترضى عني، لا أستطيع أن أُدلي بصوتي وفقًا لهذه التعليمات.
أما أسباب تصويتي ضد مشروع القانون فسأشرحها لأبناء ولايتي، وهم الذين سيقررون إن كان تمسكي بمعتقداتي الشريفة سيحرمني من تمثيلهم.
وعندما تجمع الشيوخ من الاتجاهين حول طاولته للثناء على شجاعته، وكان لامار يعرف أن خطابه وصوته لن يحولا دون إقرار مشروع القانون بأكثرية ساحقة، ووضعه بالتالي موضع التنفيذ حتى وإن مارس الرئيس هيز حق النقض ضده، غير أن تعمده بصورة مذهلة وبشجاعة، الخروج على طاعة ناخبيه، لم يذهب عبثًا كليًّا؛ إذ كان الخطاب موضع مديح في مختلف أنحاء الشمال، وتضاءل عدم الثقة بالجنوب كما تضاءل الشك في موقفه من الدين الوطني والرصيد الوطني، وأشارت صحيفة هاربرز هويكلي «إلى أن لامار أدلى بصوته معارضًا» الشعور العام القوي في ولايته، وقالت:
«ما من شيخ أظهر أنه أكثر من لامار جدارة بالاحترام؛ لأنه لم يسبق لأحد أن وقف مثله برجولة إلى جانب مبادئه في وجه أقوى معارضة ذات سلطة في ولايته … وقد أظهر الشيخ الديمقراطي من مسيسيبي، الرجولة والشجاعة اللتين تليقان بسياسي أميركي.»
وقالت صحيفة ذي نيشن في مقال افتتاحي: إن الخطاب القصير الذي ألقاه لوشيوس لامار ليشرح أسباب تجاهله تعليمات ولايته «أظهر رجولة وهيبة وعاطفة لم يسبق للكونغرس أن شهدها، وقد يكلفه تصويته هذا مقعده.»
غير أن لوشيوس كوينتوس سينسيناتوس لامار، كعمه ميرابو لامار من تكساس، وغيره من أفراد أسرته، لم يبالِ بالتيارات القوية ضده، وقال وهو يعترف بأنه خرق تعليمات الهيئة التشريعية: «إنني سأعود إلى الشعب ذي السيادة وسيد الهيئة التشريعية الذي يستطيع أن يصدر تعليماته إليَّ.»
وبعد أن أعلن السناتور لامار ذلك، قام بجولات متتالية في مسيسيبي، وخطب في ألوف الناس الذين غصت بهم القاعات والحقول، وقال لامار بكل صراحة إنه أدرك تمام الإدراك أنه لم يُرض ناخبيه، كما أدرك أن الطريق الأكثر سهولة له هي استغلال تلك القضية الإقليمية التي كان أبدًا متفانيًا في سبيلها، ولكن ما كان يهدف إليه هو المساعدة على خلق ثقة وشعور متبادل بين الشمال والجنوب عن طريق التصويت وفقًا للمصلحة الوطنية دون الاهتمام بالضغوط الإقليمية.
وكانت الجماهير التي ما قدمت إلا لتهزأ بالسناتور وتسخر منه، تقف مأخوذة بسحر بيانه وسعة خياله وهو يخطب طوال ثلاث ساعات أو أربع، وكان يتحدث وكأنه «سيل زاخر تدفق من قمة جبل» كما قال مراقبون كثيرون فيما بعد «يجرف الصخور الكبيرة التي تعترض طريقه.»
ولكن لامار لم يلجأ إلى ألاعيب الخطابة لإثارة العواطف مع التهرب من الخوض في المشكلات، والواقع هو العكس من ذلك، فقد كانت خطاباته شرحًا علميًّا لموقفه، توضح التاريخ الدستوري لمجلس الشيوخ وعلاقته بالهيئات التشريعية في الولايات، وتستشهد بخطابات بيرك وكالهون ووبستر وغيرهم من الشيوخ المعروفين الذين خرجوا على تعليمات ولاياتهم، وقال: «من الأفضل الاقتداء برجال مرموقين خلدت أسماؤهم بدلًا من التخلي كليًّا عن المبادئ والمعتقدات تلبية لهتاف الناس.»
وكانت جولته ناجحة كل النجاح «فالرجال الذين كانوا يعادونه إلى درجة بحيث كاد يتعذر إقناعهم بالاستماع إليه، ارتقوا الطاولات والمقاعد وراحوا يلوحون بقبعاتهم ويهتفون إلى أن بحت أصواتهم»، وكان غيرهم يغادرون المكان صامتين وهم يزنون أهمية كلماته، وعندما خطب في مقاطعة يازو معقل معارضيه، قالت صحيفة هيرالد التي تصدر في مدينة يازو إنه كالأسد الجريح كسب مئات من الناس الذين كانوا قد ضُللوا وحُملوا على الاعتقاد بأن آراءه في مسائل معينة كانت تكيف بحيث تناسب نيو إنكلاند أكثر من أن تناسب مسيسيبي، وبعد ذلك بقليل اتخذ الديمقراطيون في مقاطعة يازو قرارًا يدعو ممثليهم في الهيئة التشريعية «إلى التصويت إلى جانبه والعمل من أجله أولًا وآخرًا وفي كل أوان، كرجل وقع عليه اختيار هذا الشعب ليكون شيخًا أميركيًّا.»
ومما يدعو إلى الارتياح أن يلاحظ المرء أن شعب مسيسيبي واصل تأييده له على الرغم من أن لامار وقف ضد رغباته في ثلاث مناسبات خلال تأبينه تشارلز سمنر، وفي تأييده للجنة الانتخابية التي أكدت انتخاب الرئيس هيز الجمهوري، وفي خروجه على موقف الشعب من قانون حرية الفضة، وقد تجاوب الناخبون مع الإخلاص والشجاعة اللذين أظهرهما، وواصلوا تأييدهم ومحبتهم له طوال بقية حياته السياسية، وأُعيد انتخابه عضوًا في مجلس الشيوخ بأكثرية ساحقة، وأصبح بعد ذلك رئيسًا للندوة الديمقراطية في المجلس ثم وزيرًا للداخلية وأخيرًا رئيسًا للمحكمة العليا الأميركية، ولم يخرج لامار الذي وصف عن حق بأنه أكثر الساسة الذين قدمهم الجنوب إلى الأمة موهبة منذ انتهاء الحرب الأهلية وحتى مطلع القرن العشرين، لم يخرج أبدًا على معتقداته المتأصلة التي أعرب عنها حين تعرض لحملات مريرة في سنة ١٨٧٨:
«إن حرية هذه البلاد ومصالحها لن تكون أبدًا في أمان إذا أصبح قادتها مجرد آلات يأتمرون بأوامر ناخبيهم بدلًا من أن يكونوا ممثلين لهم بكل ما في الكلمة من معنى، يتطلعون إلى الرخاء الدائم ومصالح المستقبل، للبلاد بأسرها.»