حياته
في أيمن عصر من عصور المدنية الإسلامية، وفي البصرة إحدى حواضر العلم والأدب، وُلد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.
كلُّ مَن تَرجم للجاحظ لم يعيِّن سنة ميلاده، وإنما المعروف أنه وُلد في منتصف القرن الثاني، إلا أن هناك روايةً انفرد بها ياقوت الحموي في معجم الأدباء، قال: «قال الجاحظ: أنا أَسَنُّ من أبي نواس بسنة؛ وُلدتُ في أول سنة خمسين ومائة، ووُلد في آخرها.» فإذا صحَّت هذه الرواية يكون الجاحظ قد عُمِّر أكثر من مائة سنة؛ لأنه تُوفي سنة خمس وخمسين ومائتين.
أما نسبه فلا نعلم منه إلا أنه عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، كان جَده محبوب أسود وجمَّالًا لأبي القلمس عمرو بن قلع الكناني ثُمَّ الفقيمي، وبذلك قال يموت بن المزرع ابن أخت الجاحظ. على أن هناك من يدَّعي أنه كناني صريح مثل أبي القاسم البلخي، أما سبب تلقيبه بالجاحظ فلجحوظ عينيه.
نشأ الجاحظ بالبصرة نشأةَ فقير يعمل ليعيش، قد رُوي عنه أنه كان يبيع الخبز والسمك بِسَيْحانَ (وسيحان نهر بالبصرة)، ثُمَّ انصرف إلى العلم والأدب، فطلبهما في البصرة وبغداد. تلقف الفصاحة من العرب شفاهًا بالمربد، وسمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن أبي الحسن الأخفش، وكان صديقَه، وأخذ الكلام عن النظَّام، وكلٌّ من هؤلاء إمام في فنه. وكان الجاحظ مشهورًا بكثرة المطالعة، قيل إنه ما وقع بيده كتابٌ قَطُّ إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الورَّاقين ويبيت فيها للمطالعة.
وكذلك انقطع للعلم والتأليف، فأصبح فيهما عَلَمًا وشاع ذكره، وأقبل الناس على تصانيفه، وصار لقاؤه شرفًا. قال سلام بن زيد، أحد علماء الأندلس: كان طالبُ العلم بالمشرق يَشْرف عند ملوكنا بلقاء الجاحظ، فخرجتُ لا أعرِّج على شيء حتى قصدتُه وأقمتُ عليه عشرين سنة. وانفرد الجاحظ بآراء في التوحيد صارت مذهبًا من مذاهب المعتزلة، وأخذ بأقواله جماعة عُرفوا بالجاحظية. وأُعجب المأمون بكتبه، وصُدِّر في ديوان الرسائل أيام المأمون ثلاثة أيام، ثُمَّ استعفى فأُعفيَ. وكان سهل بن هارون يقول: إنْ ثَبَتَ الجاحظ في هذا الديوان أَفَلَ نجم الكُتَّاب.
ثُمَّ اتصل الجاحظ بمحمد بن عبد الملك الزيات، وزير المعتصم والواثق، ولازمه واختص به، وقدَّم إليه كتاب الحيوان، فلما قُبض على ابن الزيات في خلافة المتوكل هرب الجاحظ، فقيل له: لِمَ هربت؟ فقال: خِفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور؛ يريد ما صُنع بابن الزيات وإدخاله تنور حديد فيه مسامير كان هو صنعه ليعذِّب الناس فيه، فعُذِّبَ هو فيه حتى مات.
واتصل الجاحظ أيضًا بالفتح بن خاقان، وسافر معه إلى دمشق ووصف مسجدها في كتابه «البلدان»، كما أنه دخل معه أنطاكية، وشكا من براغيثها وبقِّها.
وهكذا قضى الجاحظ أيامه في العلم والأدب والتصنيف، حتى أُصيبَ بالفالج في أعقاب عمره، وكان ذلك في أواخر خلافة المتوكل. قيل إن المتوكل وجَّه مَن يحمل الجاحظ إليه من البصرة، فقال لمن أراد حمله: وما يصنع أمير المؤمنين بامرئٍ ليس بطائل، ذي شِقٍّ مائل، ولُعاب سائل، وفرج بائل، وعقل حائل؟!
وقال المبرِّد: دخلتُ على الجاحظ في آخر أيامه، فقلت له: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون مَن نصفه مفلوج لو حُزَّ بالمناشير ما شَعَرَ به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه، وأشد من ذلك ست وتسعون سنة أنا فيها؟! ثمَّ أنشدنا:
وقال لمتطبب يشكو إليه علَّته: اصطلحَت الأضداد على جسدي، إن أكلت باردًا أخذ برجلي، وإن أكلت حارًّا أخذ برأسي. وتُوفي الجاحظ بالبصرة في خلافة المعتز، في المحرم سنة خمس وخمسين ومائتين.