درس وتحليل
ليس عجيبًا أن ينبغ مثل الجاحظ في زمان الجاحظ، فإن عاش في أزهر عصر من العصور الإسلامية، ودرج من البصرة عش اللغة والأدب، وقضى شطرًا طويلًا من حياته في بغداد عاصمة ذلك الملك الكبير وأعظم مراكز العلم والأدب.
شب الجاحظ في زمن الرشيد، ذلك الخليفة العظيم الذي كان يجل العلماء ويقرِّبهم، ويجالس الشعراء ويجود عليهم، ونبغ في أيام المأمون، أعلم الخلفاء وأشدهم انتصارًا للحرية الفكرية، وأكثرهم تقديرًا للعلم وأهله.
في ذلك العصر الذي يبتدئ بقيام الدولة العباسية سنة ١٣٢، وينتهي بوفاة الواثق سنة ٢٣٢، كانت الحضارة الإسلامية في أزهى عصورها، قائمة على الأسس القويمة التي جاء بها الإسلام، ومحافظة على المروءة العربية مع اقتباسٍ حكيم من حضارة الفرس واليونان.
في ذلك الزمن نبغ أئمة الدين الأربعة مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل، وفيه نبغ الفيلسوف الكندي، ونبغ من أئمة اللغة والأدب الخليل بن أحمد والأصمعي وسيبويه، ومن كبار الشعراء بشار بن برد وأبو نواس وأبو تمام الطائي، فلماذا لا ينبغ مثل الجاحظ في الفصاحة واللسن والإنشاء في مثل ذلك الوسط الخصيب؟!
تقدَّم الجاحظ وعاصره كُتَّاب أجلاء، مثل ابن المقفع وعمرو بن مسعدة وأحمد بن يوسف والصولي وابن الزيات، ولكن واحدًا منهم لم يُتَح له أن يكون كاتب ذلك العصر، ينفذ إلى كل ناحية من نواحيه، ويصور أخلاق أهله أصدق تصوير، فبقي المكان فارغًا حتى شغله الجاحظ.
إذا كان مقياس العبقرية في الأدب فهم الطبيعة البشرية وحسن التعبير عنها، وإذا كان مقياس نبوغ الأديب شدة ملاحظته وعمق تفكيره وكثرة توليده، وإذا كان معيار الأدب تصوير الحياة تصويرًا فنيًّا؛ فالجاحظ أكبر كُتَّاب العربية من هذه الجهات الثلاث، وصاحب الحق في أن يكون كاتب عصره.
عاش الجاحظ في عصرٍ كثرت فيه الفرق الدينية، وفشت الآراء الفلسفية، وتواثبت النعرات القومية، واختلفت الأهواء السياسية، فخاض ذلك العباب، وكتب في التوحيد والقرآن والمعتزلة والعثمانية والزيدية والرافضة، وكتب في التسوية بين العرب والعجم، وفي القحطانية والعدنانية، وفي الترك، وفي البيضان والسودان، وكتب في بني أمية وبني العباس.
وسرت الروح العلمية في شتَّى المواضيع، فكتب في الحيوان والنبات والاقتصاد والطب والكيمياء.
وأظلَّ القوم في ذلك الزمن حضارة وارفة الظلال، فتأنَّقوا في الملبس والمركب والمأكل والمشرب، ومالوا إلى الدعة واللهو، واقتنوا حسان الإماء، وولعوا بالشراب والغناء، فكتب في النرد والشطرنج والجواري والقيان والغناء والمغنين والنبيذ وفضل الفرس على الهملاج.
ونتج عن ذلك ما ينتج عادة من مفاسد المدنية؛ فظهر الغش، وفشت الدعارة والعهر، وكثرت اللصوص والشطار، وكثرت الخانات، فكتب في غش الصناعات وذم النبيذ وذم الزنا وإثم السُّكْر وحيل اللصوص وأخلاق الشطار.
ومن هنا رُمي الجاحظ بالتناقض، واتُّهِمَ بالتذبذب، وفات منتقديه أن شأنه فيما كتب شأن المصور لا يُلام إذا صَوَّرَ إنسانًا كما هو، بل يُلام إذا أغفل شيئًا من تقاطيعه وملامحه.
نعم، إنك كثيرًا ما تجد للجاحظ رأيًا في قضية، ثمَّ تجد له رأيًا مُناقِضًا للأول، ولعل منشأ ذلك حكاية آراء الناس سلبًا وإيجابًا، أو أن الرجل تعمَّق في فهم حقائق الأشياء حتى بلغ غاية حالت بينه وبين الجزم في الرأي، أو أنه هازئ بالآراء ساخر بالنظريات، ينقض اليوم ما أبرمه بالأمس.
لا يركن الجاحظ إلى الخيال، ولا يهيم في الأحلام الشعرية؛ ولذلك ندرت في كتابته الاستعارة والكناية والتشبيه والمجاز؛ فهو غني بصادق بيانه عن الاستعانة بعكاكيز البلاغة، ولكن مع ذلك غير ملهم في المواضيع الشعرية، أُعطِيَ جميع مواهب الكاتب الخلقية والكسبية، وأخطأه من مواهب الشاعر الخيال والأوهام والأحلام. وسرعة الملاحظة وحدة الفطنة في الكاتب — وله منهما أوفر نصيب — تقومان مقام الخيال والإلهام عند الشاعر.
فسح الجاحظ للنثر العربي مجالًا واسعًا، فمهد سُبُل التأليف في كثير من العلوم والفنون، ومزج خشونة العلم بنعومة الأدب، وافتنَّ في التهكم والدعابة.
سَخْر الجاحظ مبني على خفة روحه أوَّلًا، واطِّلاعه على العقائد والمذاهب ثانيًا، ودرسه أخلاق الناس ثالثًا. يطلب النكتة للأحماض، ويرسلها هزؤًا بخرافات بعض الناس وعاداتهم ومواضعاتهم ومصطلحاتهم.
ما أظن أن أديبًا من العرب أدرك الغاية من الأدب كما أدركها الجاحظ؛ فالأدب الذي لا يمثل لك عصر صاحبه هو ناقص، وأي أدب أدق تمثيلًا وأحسن تصويرًا لزمان صاحبه من أدب الجاحظ؟!
لو توفر أديب عصري على دراسة البقية الباقية من كتب الجاحظ لأمكنه أن يستخلص منها تاريخًا مدنيًّا لذلك العصر المبارك، فضلًا عن القصص والروايات التي تمثل حياة القوم إذ ذلك في أخلاقهم ومجالسهم وملابسهم ومذاهبهم الدينية والسياسية، وجدِّهم وهزلهم، وما إلى ذلك من وجوه حياتهم؛ وما ذلك إلا لأن الجاحظ عرف زمانه وأهله فمثَّلهما أصدق تمثيل، وتلك من أكبر مزاياه التي تفرَّد بها.
•••
كان النقد في أدبنا لا يعدو صحة اللفظ وحسن الصياغة، وعلى هذه القاعدة انتُقدت كتب الجاحظ وأُعطي الرجل حقه من الإكبار، وسُكت عما سوى ذلك. على أنني أرى أن الجاحظ في مواضيعه التي عالجها أعظم منه في سمو أسلوبه وعذوبة لغته، فإنه حاول أن يكتب عن كل شيء رآه أو وعاه أو سمع به، وكان مُوَفَّقًا فيما حاول.
ليس في مواضيع الجاحظ عناصر خيالية، بل هي حقائق ملموسة يعمد إليها ببصيرة نافذة وفكر متوقد وفهم دقيق، فيفصح عنها بأفصح لغة وأروع أسلوب، فيجعلها محببة إلى القارئ، وذلك هو الأدب الحق يصدقك ويسرك.
فُطِر الجاحظ على دقة الملاحظة، وهي تستدعي التقصِّي والإسهاب والإحاطة وحسن الوصف، ورأى أن كل ما في هذه الحياة يستحق العناية والبحث — جِدًّا أو هزلًا — فتناول مواضيع متناقضة، وطَرَقَ أبوابًا لا يَطْرُقُ عادةً مثلَها مثلُه، وعالج أمورًا قد تبدو لأول وهلة تافهة، فوفَّى كل بحث حقه وزاد وتطوَّل.
نعم، إن من بعض آرائه العلمية ما لا يقرُّه العلم الحديث وأكثر ما تجد ذلك في كتاب الحيوان، ولكن كم رأيًا في العلم بقي مسلمًا به منذ أحد عشر قرنًا؟ على أن كتاب الحيوان كتاب أدبي أكثر منه علميًّا.
•••
جرت العادة في النقد العربي ألَّا تعالج جهة الابتكار في الأديب إلا إذا كان شاعِرًا؛ وذلك لسهولة الاهتداء إلى المعنى المبتكر في الشعر العربي خاصة؛ إذ إن كل بيت منه وحدة مستقلة ذات معنًى قائم بنفسه؛ فالعين نحوه أسرع والفكر إليه أهدى، وليس الشأن كذلك في النثر؛ فقد يكون الابتكار النثري في فكرة، وقد يكون في اختيار موضوع كما يكون في تبويبه أو جمعه، فأغفلوا بحث الابتكار في الكتاب، وذلك من نواقص نقدنا، والجاحظ مبتكر في الإنشاء من حيث الأسلوب والمواضيع؛ فكل كتاب من كتبه حدث مبتكَر بل فتح مبين في أدبنا، ورسائله في ممتع البحوث معانٍ أبكار ما افترعها أحد قبله.
لم يكن الجاحظ من أولئك العلماء الذين تنازلوا عن حقهم في التدبر والتفكير، فنظروا إلى المسائل من جهة واحدة، بل كان أبعد نظرًا وأرجح رأيًا، يرى للقضية الواحدة عدة وجوه، فيعالجها جميعها بروية وإمعان من غير أن يحرج بها صدره أو تضيق بها نفسه.
عاش الجاحظ في وسط نجم فيه قرن الشعوبية والكيد للعرب في دينهم وسلطانهم وتاريخهم، فخاض هذه الغمرة وعالج أحداثها بما عُرف عنه من الاستقصاء والتعمق، ولكن هواه كان مع العرب يرى تفوقهم بالكرم والمروءة والأنفة والحمية ومنع الجار وإباء الضيم، لا سيَّما في الشعر والخطابة.
يرى المثل الأعلى في البلاغة شعر العرب ويفضله على بلاغة سائر الأمم؛ لأنه جرى على ألسنتهم من غير تعمُّل ولا تكلف. أما كلام النبي فهو جوامع الكلم، فيه عبقة من الوحي الإلهي، محفوف بالعصمة والتأييد، وهو الحكمة وفصل الخطاب، وسيمرُّ بك شواهد على كل ذلك من كلام الجاحظ.
•••
كان الجاحظ من المعجبين بابن المقفع، وهو الذي نوَّه بذكره ودلَّ على فضله، ولكنه لم يشأ أن يسلك طريقته في الأدب؛ لأن الجاحظ رأى أفق الأدب أوسع من أن يُقْصَر على حِكَم ومواعظ تستقيم في النظر ويلتوي أكثرها في العمل، فمد بصره إلى أوسع من ذلك، ورأى أن الأدب يتناول الحماقة كما يتناول الحكمة؛ لأنه مرآة الحياة نعيمها وكدها، هزلها وجدها، وحكمتها وسخافتها، إلى آخر ما تشتمل عليه الحياة من المتناقضات، فكتب ما كتب من شتى المواضيع ومختلف الأبحاث.
وكذلك فإنه لم يرَ حاجة لاختراع الأشخاص الخيالية واصطناع الأوضاع القصصية لتقريب المعاني إلى الأفهام وإساغتها في الأذواق، شأن أصحاب المقامات من بعده، بل غشَّاها من ساحر بيانه بما جعلها فتنة القلوب والأسماع. والغريب أن أصحاب المقامات في قصصهم قصروا عن الجاحظ كثيرًا في الترجمة عن الطبائع وتصوير الأخلاق مع أنهم نصبوا أنفسهم لهذا الغرض.
•••
لم يبخس الجاحظ بقية الأمم حقها في العلم، ولكنه كان يعتقد أن العربية إذ ذاك أغنى اللغات علمًا وأدبًا، تفي بحاجة كل طالب في كل فن. قال: «قلَّ معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة، وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين، إلا ونحن قد وجدنا قريبًا منه في أشعار العرب وفي معرفة أهل لغتنا وملتنا.»
ويزيد على ذلك أنه كان يرى أن الحذق في غير العربية ينتقص فصاحة العربية ويتخون محاسنها؛ لأن النبوغ في لغتين متعذر. قال: «ومتى وجدناه — الترجمان — قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها، فكيف يكون تمكُّن اللسان منهما مجتمعتين فيه كتمكُّنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة.»
ومن هنا نعلم أنه لم يكن يرى روعة البلاغة في الآداب المترجمة، وذلك رأي جمهرة العرب الذين أقبلوا على ترجمة أنواع العلوم ورضوا بالأخذ عن غيرهم إلا في الشريعة والأدب؛ فإنهم كانوا مؤمنين بأن شريعتهم أكمل الشرائع وأدبهم أرفع الآداب ولغتهم أبلغ اللغات.
هذا فصلٌ إذا أُضيف إلى ما تَقدَّمَه من الفصول وأُضيف إليه أمثلة وشواهد من كلام الجاحظ — وستراها بعد أسطر — أمكن أن يعطيك فكرة عامة، ويمثل لك صورة مجملة عن الجاحظ وسيرته وأدبه وأثره.