سعة علمه وجلالة قدْره
ما رُزقَت العربية كاتبًا أكثر علمًا وأوسع مادةً وأجمع لأنواع العلوم، معقولِها ومنقولِها، من الجاحظ. ولقد مر بنا أنه أدرك طائفة من أئمة الأدب وأخذ عنهم، كما أخذ الكلام عن النظَّام، أحد أئمة المعتزلة، وأكثرَ من مطالعة كتب الفلسفة. قال أبو هفان: لم أَرَ قَطُّ ولا سمعت مَن أحبَّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قَطُّ إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر.
وذكر ابن عساكر أن الجاحظ حدَّث عن حجاج بن محمد، والقاضي أبي يوسف، وثمامة بن أشرس النميري؛ وروى عنه أبو سعيد الحسن بن علي العدوي، وأبو بكر عبد الله بن أبي دواد، ودعامة بن الجهم، وأبو العباس محمد بن يزيد المبرِّد، ويموت بن المُزرِّع، وأبو العيناء محمد بن القاسم، وأبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي.
ولقد كان شعار الجاحظ في طلب العلم قوله: إذا سمعتَ الرجل يقول ما ترك الأول للآخِر شيئًا، فاعلم أنه ما يريد أن يفلح. وقوله أيضًا: وكلامٌ كثيرٌ قد جرى على ألسنة الناس وله مضرة شديدة وثمرة مُرَّة، فمِن أضرِّ ذلك قولُهم لم يَدَعِ الأول للآخر شيئًا، فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم تركوا الاستنباط لِمَا لم ينتهِ إليهم عمن قبلهم لرأيتَ العِلم مختلًّا.
على هذه الطريقة طلب الجاحظ العلم، فاطَّلع على علوم المتقدمين والمتأخرين لعصره، واستنبط واجتهد وانتقد وزاد وألَّف في الأدب والعلم والدين، وكان إمامًا في كلٍّ منها.
قال المرزباني: قال أبو بكر أحمد بن علي: كان أبو عثمان الجاحظ من أصحاب النظَّام، وكان واسع العلم بالكلام، كثير التبحُّر فيه، شديد الضبط لحدوده، ومِن أعلم الناس به وبغيره من علوم الدين والدنيا، وله كتُب كثيرة مشهورة جليلة في نصرة الدين وفي حكاية مذهب المخالفين، والآداب والأخلاق، وفي ضروب من الجد والهزل، وقد تداولها الناس وقرءوها وعرفوا فضلها، وإذا تَدبَّرَ العاقل المميِّز أمر كتبه، عَلِمَ أنه ليس في تلقيح العقول وشحذ الأذهان ومعرفة أصول الكلام وجواهره وإيصال خلاف الإسلام ومذاهب الاعتزال إلى القلوب كتبٌ تُشْبهها. والجاحظ عظيم القَدْر في المعتزلة وغير المعتزلة من العلماء الذين يعرفون الرجال ويميزون الأمور.
وقال ثابت بن قرة: ما أحسدُ هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة: أولهم عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته و… إلخ؛ والثاني الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علمًا وتقوى و… إلخ؛ والثالث أبو عثمان الجاحظ خطيب المسلمين وشيخ المتكلمين ومِدْره المتقدمين والمتأخرين، إنْ تكلم حكى سَحْبَان البلاغة، وإنْ نَاظَرَ ضَارَعَ النظَّام في الجدل، وإنْ جَدَّ خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هزل زاد على مزيد، حبيب القلوب ومراح الأرواح، وشيخ الأدب ولسان العرب، كُتُبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة، ما نازعه منازع إلا رشاه آنفًا، ولا تَعرَّضَ له منقوص إلا قدَّم له التواضع استبقاء، الخلفاء تعرفه، والأمراء تصفه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلِّم له، والعامة تحبه، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، والذكاء والفهم، طال عمره، وفشت حكمته، وظهرت خلَّته، ووطي الرجالُ عقبه، وتهادوا أَرَبه، وافتخروا بالانتساب إليه، ونجحوا بالاقتداء به، لقد أُوتي الحكمة وفصل الخطاب.
ومَن اطَّلع على شيء من كتب الجاحظ سلَّم بما نقلناه من تقريظه، وحكم أنه المرجع في خزانة أدبنا، بل هو الشارع للتأليف، ولا يزال إمامًا يُهتدى بهديه.
قال ابن العميد: ثلاثة علومٍ الناسُ كلها عيال فيها على ثلاثة أنفس؛ أما الفقه فعلى أبي حنيفة، وأمَّا الكلام فعلى أبي الهذيل، وأمَّا البلاغة والفصاحة واللُّسُن والعارضة فعلى أبي عثمان الجاحظ.
ولقد ألَّف أبو حيان التوحيدي كتابًا في تقريظ الجاحظ. وقيل لأبي هفان: لِمَ لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك؟ فقال: أمثلي يُخدع عن عقله؟ والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلتُ فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة.
إن أمير المؤمنين يجد بك ويهش عند ذكرك، ولولا عظمتك في نفسه لِعِلْمكَ ومعرفتك لَحَالَ بينك وبين بُعدك عن مجلسه، ولَغصبك رأيك وتدبيرك فيما أنت مشغول فيه ومتوفر عليه.
وفي ابن خلكان أن بعض البرامكة مرَّ بالبصرة والجاحظ عليل، فذهب ليراه، فلما قرع الباب خرجت خادم، فقالت: من أنت؟ فقال: رجل غريب، وأُحب أن أُسَرَّ بالنظر إلى الشيخ. فبلغته الخادم ما قال. فقال الجاحظ: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة وسمع بِعِلَّتي، فقال أحب أن أراه قبل موته، فأقول قد رأيتُ الجاحظ.
والأخبار في هذا الباب مستفيضة، نختمها بما رواه ابن عساكر في تاريخه، ولا ندري كُنْهَ هذه الرواية؛ أهي من جِدِّ الجاحظ أم هزْله؛ قال علي بن قاسم الخوافي: حدَّثني بعض إخواني أنه دخل على الجاحظ فقال: يا أبا عثمان، كيف حالك؟ فقال الجاحظ: سألتني عن الجلة فاسمعها مني واحدًا واحدًا؛ حالي أن الوزير يتكلم برأيي وينفذ أمري، ويواتر الخليفة الصلات إليَّ، وآكل من لحم الطير أَسْمَنَها، وألبس من الثياب أفخرها، وأجلس على ألين الطبري، وأتَّكئ على هذا الريش، ثُمَّ أصبر على هذا حتى يأتي الله بالفرج. فقال له الرجل: الفرج ما أنت فيه. قال: بل أحب أن تكون الخلافة لي، ويعمل محمد بن عبد الملك بأمري، ويختلف إليَّ، فهذا هو الفرج.