أسلوبه وخصائصه
لا أعرف في كُتَّاب العربية كاتبًا يداني الجاحظ في قوة طبعه على الإنشاء، وانقياد الجُمل إليه، فهو في النثر كالبحتري في الشعر، وطبعُ كلٍّ منهما في فنه مضرب المثل، وما أشبه الجاحظ في ترادف جُمَله بالبحر الزاخر، ما يرسل موجة إلا ليعقبها بأخرى.
يروعك من أسلوب الجاحظ ذلك السمو في المفردات والتراكيب الصادرة عن طبعٍ فياض، ليس للتعمل فيه أثر البتة؛ فهناك ما شئت من سلاسة وسهولة، وهناك ما شئت من بسط وإسهاب. وأعظم من هذا تلك الشخصية البارزة الماثلة في كل فقرة من فِقَر الجاحظ، فما أذكر أنني قرأت فصلًا إلا تَمثَّل لي في كل جملة عينان جاحظتان تنظران نظرات فيها من معاني الجد والهزل ما لا تترجم عنه إلا العيون، فهو من هذه الجهة أكبر كُتَّاب العربية شخصية، وكل كلمة من كلماته تكاد تكون مطبوعة بطابعه الخاص.
يُكثر الجاحظ من الاستطراد حتى يخرج بالقارئ عن الموضوع الذي عقد له الفصل، وما أظن ذلك ناشئًا إلا عن غزارة مادته وطاعة الألفاظ له وكثرة المران على الجدل.
عالج الجاحظ كل ما عرف لوقته من ضروب العلم؛ فكتب في التوحيد والقرآن ومذاهب الفِرَق الإسلامية، وكتب في الأدب وفنونه شعرًا ونثرًا، وجِدًّا وهزلًا، وكتب في الأخلاق والاجتماع وطبائع الناس، وكتب في الحيوان والنبات، ولم يَفُتْهُ أن يكتب في الطب والكيمياء؛ فكأن كُتُبه صورة عن الكون، تبتدئ بالذر الحقير وتنتهي إلى الخالق العظيم، ولا تخطئ ما بينهما.
يعمد الجاحظ إلى الموضوع الحقير كالنملة مثلًا، فلا يزال يصف طبائعها ويورد الحقائق على حزمها حتى تعظم في نفسك. ويقصد إلى الموضوع العظيم كمحنة الإمام أحمد في القول بخلق القرآن، فلا يزال يهوِّن المحنة حتى تظن أن الإمام غُلب بالحجة لا بالقوة. وذلك من سحر البيان، وإن من البيان لسحرًا، وهو بعدُ في دقة التصوير وحكاية الواقع ووصف الحديث آية لا تعدلها آية.
أدب الجاحظ أدب واقعي، بل طبيعي، يُؤْثر التصريح على التلويح، ويصور الحقيقة كما هي، ويرى في ذلك السبيلَ الأقوم فيدعو إليه، ويعيب من يرغب عنه. قال:
«لكل ضربٍ مِن الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء؛ فالسخيف للسخيف، والجزل للجزل، والإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية، والاسترسال في موضع الاسترسال. وإن كان موضع الحديث على أنه مُضْحِكٌ ومُلْهي، وداخل في باب المزاح والطيب، فاستعملت فيه الإعراب انقلب عن جهته. وإن كان في لفظه سخف، وأبدلت السخافة بالجزالة، صار الحديث الذي وُضع على يسر النفوس يكربها ويأخذ بأكظامها. وبعض الناس إذا انتهى إلى ذكر الحر و… و… ارتدع وأظهر التعزز واستعمل باب التورع، وأكثرُ من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من العفاف والكرم والنبل والوقار إلا بقدر هذا الشكل من التصنع.»
وربما تعمد الجاحظ اللحن في نقل أحاديث الناس ليحافظ على روايتها كما نطق بها أصحابها. قال في كتاب الحيوان يحكي ما قاله إبراهيم النظَّام في كلب:
«إن كنتَ سبع فاذهب مع السباع، وعليك بالبراري والغياض، وإن كنتَ بهيمة فاسكت عنَّا سكوت البهائم.» ثمَّ قال الجاحظ: «ولا تنكر قولي وحكايتي عنه بِقَول ملحون من قولي «إن كنت سبع» ولم أقل إن كنت سبعًا، وأنا أقول إن الإعراب يفسد نوادر المولَّدين، كما أن اللحن يفسد كلام الأعراب؛ لأن سامع ذلك الكلام إنما أعجبته تلك الصورة وذلك المخرج وتلك اللغة وتلك العادة، فإذا دخلت على هذا الأمر — الذي إنما أضحك بسخفه وبعض كلام العجمية التي فيها — حروف الإعراب والتخفيف والتثقيل، وحوَّلْته إلى صورة ألفاظ الأعراب الفصحاء وأهل المروءة والنجابة، انقلب المعنى مع انقلاب نَظْمه وتبدلت صورته.»
والجاحظ بعدُ زاهد في السجع، يُؤْثر السهولة على الحزونة، والوضوح على الغموض، والبسط على الإيجاز. قال بديع الزمان الهمذاني: «كلام الجاحظ بعيد الإشارات، قريب العبارات، قليل الاستعارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نَفُورٌ من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له بكلمة غير مسموعة أو لفظة غير مصنوعة؟»
ومن خصائص الجاحظ في أسلوبه الدعابةُ والفكاهةُ والتنادرُ والسخرية والتهكم، وتلك أمور تخف على نفس القارئ وتستهويه، ولها محل رفيع في آداب الأمم الحية، ولكن أدبنا لا يزال ينقصه شيء كثير منها، والجاحظ في هذا الباب فرد لا يضارعه أحد.
•••
أدب الجاحظ أدب حي، مستمد من الدرس والتفكير والتجارب، ولا تكاد تجد مؤلِّفًا يعطيك من هذه الثلاثة كما يعطيك الجاحظ؛ فهو يشارك الرواة في سعة حفظه وروايته، ويشارك الفلاسفة في تفكيره الحر واعتماده على المعقول، ويَبُذُّ الجميع في ملابسته للناس على اختلاف طبقاتهم وفهمه لروح عصره. ولو قُيِّض لمجموعة مصنفاته البقاء لكان لدينا صورة ناطقة عن عصر الجاحظ في كل مناحيه، وعما وصل إليه العلم والأدب والاجتماع.
يعتمد أدب الجاحظ على عناصر شتَّى، أقواها بلاغة العرب في الجاهلية والإسلام، والكتاب والسُّنة، وما نُقل إلى العربية من آداب الفرس واليونان والهنود وفلسفتهم، ولكن أظهر ما يكون فيه الرأي الشخصي والتفكير الحر.
لئن كان ابن المقفع إمام الكُتَّاب في عصر الترجمة، فالجاحظ إمامهم في عصر الوضع والتأليف والإبداع وتكوين الأدب الحضري المرتكز على أسس العلم والمدنية والتفكير من غير أن يفقد شيئًا من فصاحة البداوة وروعتها.
وهكذا فالجاحظ شرع طريقة التأليف في الأدب، وكلُّ من ألَّف بعده متأثر بطريقته شَعَرَ أم لم يشعر. قال ابن النديم في الفهرست: «ابن خلاد الرامهرمزي حسن التأليف مليح التصنيف، يسلك طريقة الجاحظ»، وقال أيضًا: «الآمدي مليح التصنيف جيد التأليف، متعاطي مذهب الجاحظ فيما يعمله من الكتب.»
ولم يقف أثره عند هذا الحد، بل تعداه إلى أن أصبحت الكُتَّاب تترسم خطاه في الإنشاء، بل تقتبس جُمَله ذات الجلبة في السمع والروعة في النفس. قال القاضي الفاضل: «وأمَّا الجاحظ، فما مِنَّا — معشرَ الكُتَّاب — إلا مَن دخل داره، أو شنَّ على كلامه الغارة، وخرج وعلى كتفه منه الكارة.»
والجاحظ يكره التكلف كما يكره الإسفاف، ويعجب بالطبع السليم كما يعجب بالفكر الثاقب. قال:
«أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكأن الله — عز وجل — ألبسه من الجلالة وغشَّاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله؛ فإذا كان المعنى شريفًا، واللفظ بليغًا، وكان صحيحَ الطبع، بعيدًا من الاستكراه، ومنزَّهًا عن الاختلال، ومصونًا من التكلف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة، ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد ما لا يمتنع من تعظيمها به صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها عقول الجهلة.»
هذا وفي إنشاء الجاحظ كثيرٌ من أساليب الخطابة والجدل، وله جملة تدل على ذلك، قال: «ينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي اللسان، عذب ينابيع البيان، إذا حاور سدَّد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يكلم العامة بكلام الخاصة ولا الخاصةَ بكلام العامة.»
ومما يشهد بسرعة جوابه وذلاقة لسانه قولُه لرجل آذاه: «أنت — والله — أحوج إلى هوان من كريم إلى إكرام، ومن علم إلى عمل، ومن قدرة إلى عفو، ومن نعمة إلى شكر.»
وفي أجوبته وأحاديثه قليل من السجع والصنعة بخلاف إنشائه، قال أبو سعد داود بن الهيثم: رأيت الجاحظ يكتب شيئًا، فتبسم، فقلت: ما يضحكك؟ فقال: «إذا لم يكن القرطاس صافيًا، والمداد ناميًا، والقلم مواتيًا، والقلب خاليًا، فلا عليك أن تكون كابيًا.»
ووصف الحبارى فقال: «سلاحها سلاحها»، ووصف نبات النروج فقال: «يخرج كاسيًا كاسيًا»، وكان يقول: «من صنف فقد استهدف، فإن أحسن فقد استعطف، وإن أساء فقد استقذف.»
وكأنه كان يستعمل ذلك في كلامه من باب التظرف والتملح.