دعابته وفكاهته
كان في الجاحظ على جلالة قدره دعابةٌ وفكاهةٌ وخفةُ روح؛ فهو يخلط الهزل بالجد، ويجيد النكتة جوابًا وكتابةً وروايةً، ولا تجد كاتبًا من الكُتَّاب شاعت النكتة في آثاره وحرص عليها مثل الجاحظ. وربما قُيد إلى النكتة بالسلاسل، فكان ذهوله ونسيانه فكاهة مستملحة، قال: «نسيت كنيتي ثلاثة أيام، حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بِمَ أكتني؟ فقالوا: بأبي عثمان.»
وطالما استعمل الجاحظ فكاهته في النقد اللاذع، فعبث بالقُصَّاص الدجالين، وتنادر على غلاة الشيعة، وسخر بالحكام ووسطائهم، وتهكَّم على الأدعياء، وضحك من الأغبياء، فبلغ من كل ذلك مبلغًا لا يُنال بالجِد.
سأله بعضهم أن يعطيه كِتابًا إلى بعض العمال يكون بمثابة وسيلة، فبعث الجاحظ بكتاب مختوم فيه: «هذا الكِتاب مع من لا أعرفه، وقد كلمني فيه من لا أوجب حقه، فإن قضيتَ حاجته لم أحمدك، وإن رددته لم أذمُمْك». فلما سُئل عن ذلك قال: هذه علامة بيني وبين الرجل فيمن أعتني به. فقال المكتوب لأجله: أم الجاحظ عشرة آلاف في عشرة آلاف … وأم من يسأله حاجة. فلما استنكر منه ذلك قال: هذه علامتي فيمن أشكره، فضحك الجاحظ.
قال أبو كريمة: ولعله هو الذي كتب الكِتاب لأجله:
وصار الجاحظ إلى منزل بعض إخوانه فاستأذن عليه، فخرج إليه غلام أعجمي، فقال: من أنت؟ قال: الجاحظ. فدخل الغلام إلى صاحب الدار فقال: الجاحد على الباب. وسمعها الجاحظُ. فقال صاحب الدار للغلام: اخرج فانظر مَن الرجل. فخرج يستخبر عن اسمه، فقال: أنا الحدقي. فدخل الغلام، فقال: الحلقي. وسمعها الجاحظُ. فصاح به في الباب: رُدَّنا إلى الأول؛ يريد أن قوله الجاحد مكان الجاحظ أسهلُ عليه من الحلقي مكان الحدقي، فعرفه الرجل فأوصله واعتذر إليه.
وقال الجاحظ مرة بحضرة السدري: «إذا كانت المرأة عاقلة ظريفة كاملة كانت …» فقال له السدري: وكيف؟ قال: لأنها تأخذ الدراهم، وتمتع بالناس والطيب، وتختار على عينها من تريد، والتوبة معروضة لها متى شاءت. فقال له السدري: فكيف عَقْل العجوز حفظها الله؟ قال: هي أحمق الناس وأقلهم عقلًا.
وأتاه يومًا رجلٌ فقال: سمعت أن لك ألف جواب مسكت، فعلمني منها. قال: نعم. فقال: إذا قال لي شخص يا زوج الفاعلة، يا ثقيل الروح، أيَّ شيء أقول له؟ قال: قل له صدقت.
وقال الجاحظ: كان رجل من أهل السواد تَشيَّعَ، وكان ظريفًا، فقال ابن عم له: بلغني أنك تبغض عليًّا — عليه السلام — والله لئن فعلتَ لَتَرِدَنَّ عليه الحوض يوم القيامة ولا يسقيك. قال: والحوض في يده يوم القيامة؟ قال: نعم. قال: وما لهذا الفاضل يقتل الناس في الدنيا بالسيف وفي الآخرة بالعطش! فقيل له: أتقول هذا مع تشيُّعك ودينك؟ قال: والله لا تركتُ النادرة ولو قتلتني في الدنيا، وأدخلتني النار في الآخرة.
وقال: كان يأتيني رجل فصيح من العجم، فقلت له: هذه الفصاحة وهذا البيان، لو ادعيت في قبيلة من العرب لكنت لا تنازع فيها. فأجابني إلى ذلك، فجعلت أحفظه نسبًا حتى حفظه وهذَّه هذًّا فقلت له: الآن، لا تَتِهْ علينا. فقال: سبحان الله! إن فعلت ذلك فأنا إذن دعي.
وروى ابن عساكر أن الجاحظ قال: رأيت جارية ببغداد في سوق النخاسين يُنادى عليها، فدعوت بها وجعلت أقلبها، فقلت لها: ما اسمك؟ قالت: مكة. قلت: الله أكبر! قد قرب الحج، أتأذنين أن أقبِّل الحجر الأسود؟ قالت: إليك عني! أوَلَم تسمع الله يقول: لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ.
وقال الجاحظ: كنت وقفت أنا وأبو حرب على قاصٍّ، فأردت الولوع به، فقلت لمن حوله: إنه رجل صالح لا يحب الشهرة فتفرقوا عنه. فتفرقوا، فقال لي: الله حسيبك إذا لم يرَ الصياد طيرًا، كيف يمدُّ شبكته؟
وقال أيضًا: اشتريت عبدًا بمائة درهم فاسترخصته، فتعشيت سمكًا فنمتُ، فاستدعيت منه ماءً، فقال: اسكت، تأكل السمك وتشرب عليه الماء ليتولد منه كذا وكذا، وامتنع. فلما اشتد عطشي قمت وشربت، فقال: يا مولاي، احمل معك حتى أشرب أنا أيضًا.
وقال أيضًا: حدَّثني ثمامة بن أشرس قال: شهدت رجلًا يومًا من الأيام وقد قدَّم خصمًا له إلى بعض الولاة، فقال: أصلحك الله! ناصبي رافضي جهمي مشبه مجبر قدري، يشتم الحجاج بن الزبير الذي هدم الكعبة على علي بن أبي سفيان، ويلعن معاوية بن أبي طالب. فقال له الوالي: ما أدري مم أتعجب؛ من علمك بالأنساب، أو من معرفتك بالمقالات! فقال: أصلحك الله، ما خرجت من الكُتَّاب حتى تعلمت هذا كله.
وقال أيضًا: كنت مجتازًا في بعض الطرق، فإذا أنا برجل قصير بطين، كبير الهامة طويل اللحية، متَّزر بمئزر، بيده مشط يشق به شقة ويمشطها بيده، فقلت في نفسي: رجل قصير بطين ألحى، فاستزريته، فقلت: أيها الشيخ، قد قلت فيك شعرًا، فترك المشط من يده وقال: قل. فقلت:
فقال لي: اسمع جواب ما قلتَ. فقلتُ: هاتِ. فقال:
وكان الجاحظ يأكل مع محمد بن عبد الملك الزيات، فجاءوا بفالوذجة، فتولع محمد بالجاحظ وأمر أن يجعل من جهته ما رقَّ من الجام، فأسرع في الأكل، فتنظف ما بين يديه، فقال ابن الزيات: تقشَّعت سماؤك قبل الناس. فقال الجاحظ: لأن غيمها كان رقيقًا.
وقال الجاحظ في مغفل اسمه كيسان: كان يكتب غير ما يسمع، ويستملي غير ما يكتب، ويقرأ غير ما يستملي، ويملي غير ما يقرأ. أمليت عليه يومًا:
فكتب أبا بشر، وقرأ أبا فحص، واستملى أبا زيد.
وفي تاريخ ابن عساكر، قال أبو بكر محمد بن إسحاق: قال لي إبراهيم بن محمود ونحن ببغداد: ألا ندخل على عمرو بن بحر الجاحظ؟ فقلت: ما لي وله؟ قال: إنك إذا انصرفت إلى خراسان سألوك عنه، فلو دخلتَ عليه وسمعتَ كلامه. ثُمَّ لم يزل بي حتى دخلت عليه يومًا، فقدَّم إلينا طبقًا عليه رُطب، فتناولت منه ثلاث رطبات وأمسكتُ، ومر إبراهيم فأشرت إليه أن يمسك، فرمقني الجاحظ فقال لي: دعه يا فتى، فقد كان عندي في هذه الأيام بعض إخواني، فقدمت إليه الرطب فامتنع، فحلفتُ عليه فأبى إلا أن يبرَّ قسمي بثلاثمائة رطبة.