اتِّهامه في دينه
قلَّ في النابغين من سلِم من التهمة في دينه، لا سيَّما في عصر كعصر الجاحظ، كثرت فيه الفِرَق والمذاهب بما دخل على العرب من الفلسفة الهندية والفارسية والإغريقية، وكثر فيه الجدل في أصول الدين. وقلما تَجادَل شخصان ولم يرمِ كلٌّ منهما صاحبه بالمروق. والجاحظ، كما علمتَ، متكلم مناظر مرن على الجدل والحجاج، وهو فوق ذلك صاحب مقالة في المعتزلة، ومذهبه في الكلام أقرب إلى مذهب الفلاسفة، أضف إلى ذلك ظُرفه ودعابته، وما ينشأ عن ذلك من تهكم لاذع يوري نار الحفيظة في قلب الخصم. ذلك أو بعضه كافٍ لحمل خصماء الجاحظ على رميه بالزيغ والمروق.
اتُّهم الجاحظ في عدالته، فرُمي بالكذب في رواية الحديث. قال ابن عساكر: قال أبو العيناء: «أنا والجاحظ وضعنا حديث فَدَك، وأدخلناه على الشيوخ ببغداد فقبلوه، إلا ابن شيبة العلوي فإنه قال: لا يشبه آخِر هذا الحديث أوَّله، فأبى أن يقبله.» قال: وكان أبو العيناء يحدِّث بهذا بعد ما تاب.
ورُمي بالتهاون بالصلاة، قال ابن عساكر: حدث ابن أبي الدنيا المحدث بسُر من رأى، قال: حضرتُ وليمة حضرها الجاحظ، وحضرَت صلاة الظهر فصلينا وما صلى الجاحظ، وحضرت صلاة العصر فصلينا وما صلَّى الجاحظ، فلما عزمنا على الانصراف قال الجاحظ لصاحب المنزل: إنِّي ما صليت لمذهب أو لسبب أخبرك به. فقال له: ما أظن أن لك مذهبًا في الصلاة إلا تَرْكها.
وحدَّث أبو العيناء قال: قال الجاحظ: كان الأصمعي منانيًا. فقال له العباس بن رستم: لا والله، ولكن تذكر حين جلست إليه تسأله فجعل يأخذ نعله بيده وهي مخصوفة بحديد ويقول: نعم قناع القدري. فعلمت أنه يعنيك.
وقد مرَّ بك أن ابن أبي دواد قال: أنا أثق بظرفه ولا أثق بدينه.
ولما عَدَّ الجاحظُ بعضَ الزنادقة قالوا: نسي الجاحظ نفسه.
وقال الجماز فيه:
ولم يقفوا عند هذا الحد، بل رموه بالكيد للإسلام والمسلمين. قال ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث: «قال أبو محمد: ثمَّ نصير إلى الجاحظ، وهو آخر المتكلمين، والمعاير على المتقدمين، وأحسنهم للحجة استثارة، وأشدهم تلطُّفًا لتعظيم الصغير حتى يعظم، وتصغير العظيم حتى يصغر، ويبلغ به الاقتدار إلى أن يعمل الشيء ونقيضه، ويحتج بفضل السودان على البيضان، وتجده يحتج مرة للعثمانية على الرافضة ومرة للزيدية على العثمانية وأهل السنة، ومرة يفضِّل عليًّا — رضي الله عنه — ومرة يؤخره. ويقول: قال رسول الله ﷺ ويتبعه قال الجماز وقال إسماعيل بن غزوان كذا وكذا من الفواحش، ويَجلُّ رسول الله ﷺ عن أن يُذكر في كتاب ذُكِرَا فيه، فكيف في ورقة أو بعد سطر أو سطرين.
ويعمل كتابًا يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الرد عليهم تجوَّز في الحجة كأنه إنما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون، وتشكيك الضَعَفَة من المسلمين.
وتجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث وشُرَّاب النبيذ، ويستهزئ من الحديث استهزاءً لا يخفى على أهل العلم، كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض فسوَّده المشركون، وكان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا. ويذكر الصحيفة التي كان فيها المنزَّل في الرضاع تحت سرير عائشة فأكلتها الشاة، وأشياء من أحاديث أهل الكتاب في تنادم الديك والغراب، ودفن الهدهد أمه في رأسه، وتسبيح الضفدع، وطوق الحمامة، وأشباه هذا مما سنذكره فيما بعد، إن شاء الله. وهو مع هذا من أكذب الأمة وأوضعهم لحديث وأنصرهم لباطل. ومَن علم، رحمك الله، أن كلامه من عمله قل إلا فيما ينفعه، ومَن أيقن أنه مسئول عما ألَّف وعما كتب لم يعمل الشيء وضده، ولم يستفرغ مجهوده في تثبيت الباطل عنده. وأنشدني الرياشي:
وقال أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه الفَرق بين الفِرق: «… فمِن ضلالاته (الجاحظ) المنسوبة إليه ما حكاه الكعبي عنه في مقالاته مع افتخاره به من قوله: إن المعارف كلها طباع، وهي مع ذلك فعل للعباد وليس باختيار لهم. قالوا: ووافق ثمامة في أنْ لا فِعل للعباد إلا الإرادة، وأن سائر الأفعال تُنسب إلى العباد على معنى أنها وقعت منهم طباعًا وأنها وجبت بإرادتهم. قال: وزعم أيضًا أنه لا يجوز أن يبلغ أحد فلا يعرف الله تعالى. والكفار عنده من معاند ومن عارف قد استغرق حبه لمذهبه، فهو لا يشكر بما عنده من المعرفة بخالقه ويصدق رسله. فإن صدق الكعبي على الجاحظ في أنْ لا فعل للإنسان إلا الإرادة لزمه ألَّا يكون الإنسان مُصليًا ولا صائمًا ولا حاجًّا ولا زانيًا ولا سارقًا ولا قاذفًا ولا قاتلًا؛ لأنه لم يفعل صلاة ولا صومًا ولا حجًّا ولا زنًى ولا سرقةً ولا قتلًا ولا قذفًا؛ لأن هذه الأفعال عنده غير الإرادة، وإذا كانت هذه الأفعال التي ذكرناها عنده طِباعًا لا كسبًا لزمه ألَّا يكون للإنسان عليها ثواب ولا عقاب؛ لأن الإنسان لا يُثاب ولا يُعاقب على ما لا يكون كسبًا له، كما لا يُثاب ولا يُعاقب على لونه وتركيب بدنه إذا لم يكن من كسبه.»
هذا ما استنتجه البغدادي، وما كُنَّا لنأبه لهذا الاستنتاج لولا جملة قالها الجاحظ يُشتمُّ منها رائحة الإباحية، هذا نصها نقلًا عن معجم الأدباء لياقوت: «قال الجاحظ مرة بحضرة السدري: إذا كانت المرأة عاقلة ظريفة كاملة كانت … فقال له السدري: وكيف؟ قال: لأنها تأخذ الدراهم، وتمتع بالناس والطيب، وتختار على عينها من تريد، والتوبة معروضة لها متى شاءت. فقال له السدري: فكيف عقل العجوز حفظها الله؟ قال: هي أحمق الناس وأقلهم عقلًا.»
على أن ذلك قد يُحمل على محمل الهزل والدعابة، ومهما يكن فالجاحظ إمام من أئمة المسلمين، له آراء انفرد بها في الكلام، ومذهبه في ذلك التوفيق بين العقل والنقل، ولا يضره بعد ذلك لوم المخالفين.