من أوهام كُتَّاب التَّارِيخ: تأثير الحملة الفرنسية في النهضة المصرية١
(١) تمهيد
لقد أجمعَت كلمة المؤرخين والكُتَّاب في مختلف البلاد العربية على اعتبار «حملة نابليون العسكرية» نقطة تحوُّل ومبدأ نهضة في تاريخ القُطْر المصري بوجهٍ خاص، وتاريخ الشرق العربي بوجهٍ عام.
وقد انتشَرَت هذه النظرية بين المفكرين والمثقفين منذ مدةٍ طويلة، وأصبَحَت الآن من «الآراء الشائعة» التي لا يشُك فيها أحد، ولا يختلف فيها اثنان؛ لأنها من الآراء التي يُردِّدها على الدوام مئاتٌ من المؤلِّفين في عددٍ كبير من الكُتب المطبوعة في مختلف العواصم العربية، ويُكرِّرها مئاتٌ من المدرسين على مسامع الآلاف من الطلاب في مختلف المدارس والمعاهد كُلَّ عام. حتى إن كُتَّاب الأدب أنفسهم صاروا يقولون بهذه النظرية، ويعتبرون مجيء نابليون إلى مصر فاتحة عهدٍ جديد، ومَبعثَ تطوُّرٍ هام في تاريخ الأدب العربي الحديث.
وقد غالى بعض المؤلِّفين في تقدير وتبجيل هذه الحملة العسكرية إلى حد القول بأن: «الفتح الفرنسي لمصر كان كفتح الإسكندر للشرق سواء بسواء، كان خطوة بالحضارة إلى الأمام.»
ما هو نصيبُ هذه الآراء والأقوال من الحقيقة؟ وما هو مَبلغُ مطابقتها مع منطق الحوادث وشهادة الوقائع؟
يجبُ علينا أن نُفكِّر في ذلك، دون أن نتأثَّر بشدة شيوع هذه الآراء، ودون أن نُبالي بكثرة القائلين بها، فلنتساءل إذن: «هل أثَّرتِ الحملة الفرنسية — حقًّا — في حياة مصر وأحوال الشرق تأثيرًا عميقًا، أدَّى إلى انقلابٍ حقيقي ونهضةٍ فعلية؟»
إنَّ الإجابة على هذا السؤال جوابًا صحيحًا يتطلب القيام ببحثٍ انتقادي واسع دقيق.
ويجدُر بنا أن نبدأ هذا البحث بإلقاء نظرةٍ إجمالية على تاريخ الحملة الفرنسية لتبيينِ أهدافها الأساسية مع تثبيت أهم صفحاتِها وأبرز مظاهرِها.
(١-١) غاية الحملة وزبدة وقائعها
لقد جرَّدَت فرنسا حملتها العسكرية على مصر — تحت قيادة نابليون بونابرت — بُغْية استعمار ذلك القُطْر العربي واستغلال خيراته.
وقد كرَّر نابليون هذه الفكرة في بلاغٍ آخر نشره على المصريين، بأسلوبٍ أحسمَ من ذلك أيضًا:
وهناك دلائل ورواياتٌ كثيرة تدل دلالةً قاطعة على أن نابليون كان يرمي من وراء هذه الحملة، إلى غايةٍ أوسعَ نطاقًا وأبعدَ مدى. إنه كان يعتبر فتح البلاد المصرية — والاستقرار فيها — بمثابة «خطوة أولى» في سبيل تحقيق «آمال وخططٍ واسعة» أخرى. إنه كان يريد أن يتخذ مصر قاعدةً لحركات وأعمالٍ خطيرة، تضمن لفرنسا التوسُّع في الشرق، والتغلُّب على أوروبا المتألِّبة عليها.
ولكن أمور الحملة العسكرية المذكورة لم تَسِر كما تشتهيها فرنسا من وراء نابليون؛ لأن الحكم الفرنسي في مصر لم يستمر مدةً طويلة، بل إنه انتهى بفشلٍ تام وانسحابٍ نهائي، بعد مدة لا تزيد على ثلاثِ سنواتٍ إلا شهرَين. كما أن هذه المدة القصيرة مضت بين سلسلةٍ متوالية من الحروب والثورات والمظالم والاعتسافات.
كان نابليون يأمل أن ينال من الباب العالي تأييدًا رسميًّا لحَملتِه على مصر. غير أن الوقائع خيَّبَت أمله هذا بسرعة، واضطرَّتْه إلى محاربة العثمانيين والإنكليز والمماليك والأهالي، في الشمال وفي الجنوب، في الشرق وفي الغرب، حربًا لا هَوَادَة فيها.
وقد استطاع الإنكليز أن يُفاجئوا الأسطول الفرنسي في أبي قير ويُدمِّروه تدميرًا، قبل أن يمضي شَهرٌ على نزول الحملة إلى البَر، وانقَطَع بذلك ارتباط الجيش الفرنسي ببلاده الأصلية، فصارت الحملة بعد ذلك تعيش عالةً على مصر والمصريين بكل معنى الكلمة.
ولهذا السَّبب أخذَت قيادة الحملة تفرض على الأهالي — على الدوام — أنواعًا شتى من الضرائب والقروض والغرامات، وصارت تُكثر من مصادرة الأموال والذخائر، ومن تسخير الدواب والجِمال، ومن إرهاق كواهل النَّاس بسلسلةٍ طويلة من التكاليف.
وكان قُوَّاد الحملة يُقدِمون — من وقتٍ إلى آخر — على هدم عددٍ كبير من المباني بين دور وحوانيت ومساجد وجوامع ومدارس وقصور، لغاياتٍ عسكرية بحتة؛ لأنهم كانوا يجدون ذلك ضروريًّا، تارةً لتسهيل المراقبة على الأهالي مع منعهم من التترُّس والتحصُّن في الأزقَّة، وطَورًا لحفر الخنادق، وتشييد القلاع، وتعبئة المدافع.
كما أنهم كانوا لا ينقطعون عن قطْع الأشجار وتخريب البساتين، لتسهيل أعمال الضبط والمراقبة من جهة، وللحصول على الحطب الضروري لصُنْع المراكب وتشييد الحصون وتقوية الخنادق من جهةٍ أخرى.
غير أن تخريبات الجيش الفرنسي في مصر لم تقتصر على الأموال والأشجار والمباني وحدها، بل تعدَّت كل ذلك إلى النفوس أيضًا؛ فإن قُوَّاد الحملة عندما لاحظوا عدم انخداع النَّاس بالدعايات الساذجة التي كانوا قاموا بها تحت ستار الدين، أخذوا يسلكون مسالك القوة والاعتساف، وصاروا يُكثرون من أخذ الرهائن واعتقال الناس، وأقدَموا على إعدام الكثيرين منهم لأتفه الأسباب؛ عقابًا لهم أو تخويفًا لأمثالهم، وقاموا غير مرة بأعمالٍ تعذيبية وإرهابيةٍ فظيعة، لا تختلف كثيرًا عن همجية القرون الأولى.
وقد قابل الفرنسيون الثورات التي قامت في البلاد على حُكْمهم الجائر، بمنتهى الصرامة والوحشية. إنهم صوَّبوا نيران مدافعهم على مختلف أحياء المدينة، وأزهقوا أرواح الآلاف من الأشخاص، وسبَّبوا حرائقَ كثيرة، واستَرسَلوا في التعذيب والتخريب والسلب والنهب، بشتَّى الصور والأساليب.
ومن المفيد لنا أن نرجع إلى نتائج محاكمة سليمان الحلبي — الذي قتَل القائد العام كليبر — لنستدل منها على «العقلية» التي كانت سائدةً بين ضُبَّاط الحملة وقُوَّادها.
وقد طلب النائب العام الحكم ﺑ «تحريق يده اليمنى، وتخزيقه (خوزقته) حتى يموت فوق خازوقه، وجيفتُه باقية لمأكولات الطيور».
ونُفِّذ هذا الحكم بحذافيره على يد جنود الثورة الفرنسية الكبرى!
هذه هي الخطوط الأساسية من وقائع الحملة الفرنسية على مصر:
حملةٌ عسكرية استعمارية، مقرونةٌ بحكمٍ عسكري عنيف، انتهت بفشلٍ تام، بعد أن استمَرَّت ثلاثَ سنوات، مضت كلها بين الحروب والثورات والاعتقالات والمظالم والاعتسافات.
فهل يمكن أن يكون لمثل هذه الحملة الاستعمارية تأثيرٌ إنشائي، يُبرِّر اعتبارها فاتحةَ عهدٍ جديد وباعثةَ نهضةٍ قومية؟
هذا ما يجب أن نشُك فيه شكًّا قويًّا، وما يجب أن نبحث فيه بحثًا جديًّا؛ لنتوصل إلى استكناه الحقيقة بنظراتٍ مجرَّدة عن الآراء «القَبْلانية» التي كثيرًا ما تستولي على الأذهان، دون أن تترك لها مجالًا للتفكير في الأمور تفكيرًا علميًّا صحيحًا.
(٢) البراهين المزعومة
فلنبحث إذن ما هي الدلائل التي يستند إليها القائلون بهذه الفكرة — والمسلِّمون بهذه النظرية — للبرهنة على هذا التأثير الخطير؟
- (أ)
كانت الحملة الفرنسية مبدأ الاحتكاك بين الشرق والغرب في العصور الحديثة. إنها كانت بمثابة اللقاء الأول بين هذَين العالمَين.
- (ب)
كان جيشُ نابليون جيشَين في واقع الأمر؛ أحدهما جيش المحاربين والآخر جيش العلماء. وهذا الجيشُ الأخيرُ هو الذي خدَم النهضة المصرية خدمةً مباشرة وغير مباشرة.
- (جـ)
لقد أدخلَت الحملة إلى مصر أَوَّل مَطبعةٍ عربية. وقد ترتَّب على ذلك نتائجُ ثقافية خطيرة.
- (د)
اكتشَف رجال الحملة حَجَر رشيد الذي أدَّى إلى حل رموز الكتابة الهيروغليفية، وكشف النقاب عن تاريخ مصر القَديم.
- (هـ)
أحدثَت الحملة الفرنسية كثيرًا من المؤسسات التنظيمية، وهيَّأَت كثيرًا من المشاريع العمرانية، وهذه المؤسسات والمشاريع لَعِبَت دورًا هامًّا في النهضة المصرية.
- (و)
أظهَرَت الحملة المذكورة ضعفَ الدولة العثمانية، وشجَّعَت بذلك على الحركات الاستقلالية.
- (ز)
رفعَت الحملة مكانة علماء الدين، وزادت نُفوذَهم على الأهلين، وذلك خَدَم نهضة مصر — فيما بعدُ — خدمةً كبرى.
- (ﺣ)
كَسَرَت الحملة شوكةَ أُمراء المماليك، وساعدَت بذلك على تخلُّص مصر من شُرورهم، بعد مدةٍ قصيرة.
- (ط)
إن الحملة المصرية هي التي فسَحَت أمام محمد علي مجال العمل، وأنارت له سُبل الإصلاح، بل هي التي كوَّنَتْه، وأثارت همَّتَه الشمَّاء.
فلنُنعِم النظر في هذه الأدلة المختلفة؛ لنرى أولًا مَبلَغ مطابقتها للحقائق الراهنة، وثانيًا مَبلَغ تأييدها للنظرية القائلة بتأثير الحملة الفرنسية في النهضة المصرية.
(٢-١) قصة الأبحاث العلمية
يبدو للباحث — في الوَهْلة الأُولى — أن أقوى الأدلة التي تُذكَر للبرهنة على تأثير الحملة الفرنسية في النهضة المصرية، هو ما يتعلق بالأبحاث العلمية التي قام بها العلماء الذين رافقوا الحملة المذكورة.
في الواقع أن نابليون كان استصحَب معه إلى مصر جماعةً من رجال العلم والاختصاص، وكان على رأسهم الكيميائي الشهير «برتوله» والرياضي العظيم «مونج»، وكان بينهم الطبيعي اللامع «جوفر أوسانت هيلير» والمعادني المشهور «دولومييو».
وقد قام هؤلاء العلماء — بجانب الخِدمات التي قدَّموها إلى الجيش — بأبحاثٍ علمية هامة، تناولَت جميع أحوال القطر المصري. كما أنهم دوَّنوا نتائج أبحاثهم هذه في مؤلَّفٍ ضخم، عَنْونوه بعنوان «وصف مصر».
وقد تألَّف هذا الكتاب — الذي يُعَدْ من أوابد العلم والتأليف — من متونٍ تقع في تسعة مُجلداتٍ ضخمة، وصور وخرائط وألواح تقع في أربعة عشر مجلدًا.
وكان العلماء المُشارُ إليهم استصحَبوا معهم ما يحتاجون من الآلات والمخابر، ودَرَسوا وصوَّروا وجمعوا كثيرًا من الحيوانات والنباتات والمعادن، التي شاهدوها في مصر، كما أنهم رسموا خرائطَ مفصَّلة ودقيقة عن مختلف أقسام البلاد التي زاروها، وجمعوا معلوماتٍ كثيرة عن المباني والآثار القَديمة التي لاحظوها.
وفضلًا عن ذلك، فإنهم ألَّفوا لجانًا علمية عديدة، وأسَّسوا مجمعًا علميًّا — على غرار المجمع العلمي الفرنسي في باريس — سمَّوه باسم معهد القاهرة.
فيَحِقُّ للفرنسيين أن يُباهوا بهذه الأعمال والأبحاث العلمية كل المباهاة، يَحِق لهم أن يقولوا: إن الحملة التي قادها نابليون إلى مصر لم تنجح النجاح المأمول منها، بل انتهت بفشل تام من الناحية السياسية، ولكنها أثمَرتْ ثمراتٍ يانعة من الوِجهة العلمية؛ لأنها ضَمِنَت لفرنسا موقعًا ممتازًا في جميع العلوم المتعلقة بمصر وبأحوال مصر.
يَحِق للفرنسيين أن يقولوا ذلك، وأن يفتخروا بذلك؛ لأن الأبحاث العلمية التي قام بها العلماء الفرنسيون في مصر خلال الحملة النابليونية، كانت متنوعة ومهمة وثمينة جدًّا.
غير أن تقرير هذه الحقيقة شيء، واتخاذها دليلًا على تأثير الحملة الفرنسية في النهضة المصرية شيءٌ آخر؛ لأن من الواضح الجلي أن الأبحاث العلمية التي يقوم بها رجال الاختصاص في أي بلدٍ من بلاد العالم، لا تدُل في حد ذاتها على حدوث تأثيرٍ فعَّال في نفوس أهل تلك البلاد وعقولهم، من جرَّاء تلك الأبحاث، فلا يجوز للباحث أن يحكُم بحدوث مثل هذا التأثير، إلا إذا تبيَّن ذلك من دَرسِ التَّارِيخ والتفاصيل درسًا مباشرًا.
صحيحٌ أن العلماء قاموا بأبحاثٍ علمية هامة خلال وجود الجيوش الفرنسية في القُطر المصري، ولكن هذه الأبحاث هل كانت ذاتَ اتصالٍ مع المصريين؟ وهل أثَّرت فيهم تأثيرًا فعليًّا، وهل أوجدَت في مصر حركةً فكرية مماثلة لها، أو مُلهَمةً منها؟
فنحن، مهما تعمَّقنا في درس أحوال مصر، خلال احتلال الجيش الفرنسي وبعد جلائه، ومهما توسَّعنا في استعراض ما كتَبه المعاصرون عن تلك الحقبة من التَّارِيخ المصري، لا نستطيع أن نعثُر على أي دليلٍ يُخوِّلنا الإجابة على هذه الأسئلة بالإيجاب، ويَحمِلنا على التسليم بوجود علاقةٍ فعلية بين هذه الأبحاث العلمية والنهضة المصرية.
ومما تجدُر ملاحظته في هذا الصدد أن الكِتاب الضخم الذي دوَّن نتائج أبحاث هؤلاء العلماء — كتاب «وصف مصر» المشهور — لم يُطبع ويُنشر إلا بعد مرور سنواتٍ عديدة على انتهاء الحملة بالفشل المعلوم، فإن الطبع لم يبدأ إلا بعد مرور ثماني سنين، ولم يتم إلا بعد مرور نحو ربع قرن؛ لأن المجلَّد الأَوَّل من الكتاب المذكور طُبِعَ سنة ١٨٠٩، وأما المجلَّد الأخير منه فلم يُطبع إلا سنة ١٨٢٥.
وفضلًا عن ذلك، فإنه مما لا مجال للشك فيه أن هذا الكِتاب الضخم لم يستَفِد منه أحدٌ من المصريين إلا بعد عدة عُقودٍ من السنين.
فالقول — مع كل ذلك — بأن هذه الأبحاث والأعمال العلمية كان لها التأثير الفعَّال في النهضة المصرية مما لا يُؤيِّده أيُّ دليلٍ كان.
في الواقع نحن نعلم أن العلماء الذين رافقوا الحملة كانوا يَدْعون أحيانًا بعض المصريين — ولا سيما الموظفين منهم — إلى زيارة مقر أعمالهم، وكانوا يُطلِعونهم خلال هذه الزيارات على الآلات التي أتَوْا بها والصور التي رسموها، والحيوانات التي حنَّطوها، كما أنهم كانوا يقومون أمامهم ببعض التجارب العلمية أيضًا.
فيجدُر بنا أن نتساءل: ما هي الانطباعات التي كانت تتركُها أمثالُ هذه الزيارات في نفوس هؤلاء المشاهدين؟
إننا نجد جوابًا بليغًا لهذا السؤال، فيما كتَبَه في هذا المضمار الشيخُ الجبرتي الذي كان من مُوظَّفي الديوان. ومن المعلوم أن المُومَأ إليه كان كتَبَ يومياته بعنوان «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، وهذه اليوميات تشهد بأنه كان ذكيًّا، دقيقَ الملاحظة، وواسع الاطِّلاع.
فلنقرأ بإمعانٍ ما كتَبه الجبرتي عن التجارب التي شاهدَها هناك:
«ومن أغرب ما رأيتُه في ذلك المكان، أن بعض المتقيدين لذلك أخذ زجاجةً من الزجاجاتِ الموضوعِ فيها بعضُ المياه المستخرجة، فصَبَّ منها شيئًا في كأس، ثم صب عليها شيئًا من زجاجة أخرى، فعَلَا الماءان وصَعِد منه دخانٌ ملون، حتى انقطع وجَفَّ ما في الكأس، وصار حجرًا أصفَر، فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا أخذناه بأيدينا ونظرناه.
ثم فعل كذلك بمياهٍ أخرى فجمَّد حجرًا أزرق، وبأخرى فجمَّد حجرًا ياقوتيًّا.
وأخذ مرةً شيئًا قليلًا جدًّا من غبار أبيض، ووَضَعَه على السندال وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج صوتٌ هائل كصوت القرابانة، انزعجنا منه فضحكوا مِنَّا.
وأخذ مرةً زجاجةً فارغة مستطيلة في مقدار الشبر، ضَيِّقة الفم، فغمَسَها في ماءٍ قرَاح موضوع في صندوق من الخشب مصفَّح الداخل بالرصاص، وأدخل معها أخرى على غير هيئتها، وأنزلَهما في الماء وأصعدَهما بحركةٍ انحبس بها الهواء في إحداهما؛ وأتى آخرُ بفتيلةٍ مشتعلة وأبرز ذلك فم الزجاجة من الماء، وقرَّب الآخر الشعلة إليها في الحال، فخرج ما فيها من الهواء المحبوس وفرقع بصوت هائل أيضًا.
وغير ذلك من أمورٍ كثيرة وبراهينَ حُكمية، تتولَّد من اجتماع العناصر وملاقاة الطبائع.
ومثل الفلكَة المستديرة التي يُديرون بها الزجاجة فيتولَّد من حركتها شررٌ بملاقاة أدنى شيءٍ كثيف ويظهر له صوتٌ وطقطقة. وإذا مسك علاقتها شخصٌ ولو خيطًا لطيفًا متصلًا بها، ولمس آخرُ الزجاجة الدائرة أو ما قرُب منها بيده الأخرى، ارتَجَّ بدَنُه وارتعَد جِسمُه وطَقطقَت عظامُ أكتافِه وسواعده في الحال برجَّةٍ سريعة. ومَن لمس هذا اللامس أو شيئًا من ثيابه، أو شيئًا متصلًا به، حصل له ذلك، ولو كانوا ألفًا أو أكثر.
يظهر من إنعام النظر في هذا الوصف الدقيق، أن التجارب الأولى المذكورة فيه تجاربُ كيميائية تتعلَّق بتكوُّن الأملاح وتفاعُلها. ومن المعلوم أن «برتوله» اشتُهر بدرس هذه التفاعُلات واكتشاف قوانينها. ولا تزال القوانين المذكورة تُعرَف باسمه، وتُسمَّى «قوانين برتوله».
وأما التجاربُ الأخيرة فهي تجاربُ كهربائية تقتضي توليدَ الكهربائية الساكنة عن طريق الدلك بالتدوير، ثم تفريغَ تلك الكهربائية بصُورٍ شتَّى، وفي الأخير إظهار تأثير هذا التفريغ في جسم الإنسان.
وأما التجربةُ التي تتقدَّم هذه التجاربَ الكهربائية، فمِن الواضحِ الجلي أنها تتعلَّق باشتعال الهيدروجين.
يُلاحَظ من هذا الوصف أن الجبرتي قد شاهد هذه التجارب بعيون «الرجل المدقق» الذي ينتبه إلى جميع التفاصيل، ولكنه لا يعرف شيئًا عن مبادئ العلوم الضرورية لتفسيرِ ما شاهده بالعيان. إنه شاهَدَ هذه التجارب مُشاهَدةَ «المتفرِّج المتحيِّر» الذي يُشاهِد لأول مرة الأعمال الخارقة للعادة التي يقوم بها بعض المشعوذين في بعض الصالات أو على بعض المراسح؛ لأنه أنهَى وصفَه لهذه المشاهدات بقوله: «لا يسَعُه عقول أمثالنا.»
إنني أعتقدُ أن هذه الكلمة التي صَدَرتْ عن قلم رجلٍ مثقَّف ومفكِّر مثل الجبرتي — بعد هذه الأوصاف الدقيقة — لا تترك لزومًا لأيِّ تعليقٍ أو تفسير.
وأرى أن الذين يزعُمون وجود علاقة بين الأبحاث العلمية التي قام بها علماء الحملة الفرنسية وبين النهضة المصرية لا يستندون إلى أيِّ دليلٍ معقول.
(٢-٢) قضية المطبعة العربية
كثيرًا ما يُشير المؤلفون والمدرسون — في صدد البرهنة على تأثير الحملة الفرنسية في النهضة المصرية — إلى أن الحملة المذكورة أدخلَت إلى مصر أول مطبعةٍ عربية، ويزعمون بأنه قد ترتَّب على ذلك نتائجُ ثقافيَّة خطيرة.
وبينهم من يُعزِّز هذا البرهان بقوله: «إن هذه المطبعة صارت أساسًا لمطبعة بولاق الشهيرة.» ويُرجِع بذلك فضلَ تأسيس المطبعة الأميرية المصرية أيضًا إلى الحملة الفرنسية.
غير أن هذه القضية تحتاجُ إلى البحث والتأمل بصورةٍ جدية.
- أولًا: يجب أن يُلاحَظ أن المطبعة المذكورة كانت في حقيقة الحال آلةً من آلات السيطرة والاستعمار، نُقلت إلى مصر بُغْية طبْع المناشير والأوامر والتنبيهات التي تُوجَّه إلى الناس، ولم يَطْبَع رجالُ الحملة بهذه المطبعة شيئًا يُفيد العلم والثقافة في البلاد.
- ثانيًا: إن الذين زعموا «أن المطبعة العربية التي أتت إلى مصر مع الحملة الفرنسية بَقِيَت في مصر بعد جلاء جيوش الحملة»، وأنها «صارت بعدئذٍ أساسًا لمطبعة بولاق الشهيرة في عهد محمد علي الكبير»، لم يَستنِدوا — في زَعمِهم هذا — إلى أيِّ أساسٍ صحيح.
ولهذه الأسباب والملاحظات أنا لا أرى أي مُبررٍ كان لذكر «مطبعة الحملة العسكرية» بين العوامل الفعَّالة في النهضة المصرية.
وفضلًا عن ذلك، هناك حقائقُ ثابتةٌ أخرى، لا يجوز أن تَغرُب عن البال في هذا المضمار:
إن المطبعة المذكورة لم تكن أَوَّلَ مَطبعةٍ تطبع بالحروف العربية، ولا كانت أول مطبعة تطبعُ باللغة العربية؛ فإن الطباعة العربية كانت قد خرجَت إلى حيِّز الوجود — في أوروبا — منذ عدة قرون. حتى إن نابليون نفسه كان نقَل المطبعة المذكورة من روما، كما أن القائم على المطبعة كان من أبناء العرب المقيمين في روما؛ إنه كان من أهالي ديار بكر، وأما اسمه فكان فتح الله.
ومن المؤكَّد أن المطبعة العربية التي تأسَّسَت في روما بدأت تطبع كُتبًا عربية منذ سنة ١٥١٤ على أقل تقدير، وقد طبَعَت المطبَعة المذكورة، خلال القرن السادس عشر عدة كُتُبٍ علمية، علاوةً على الكتب الكثيرة المتعلقة بالديانة المسيحية. وكان من جُملة هذه الكتب: الكافية لابن الحاجب، والقانون في الطب لابن سينا، وتحرير أصول لإقليدس في الهندسة لنصير الدين الطوسي.
ولا مجال للشك في أن هذه الكتب المطبوعة كانت تُرسل إلى الأسواق الشرقية وتُباع فيها.
وكان هذا الفرمان قد صدر بناءً على عريضةٍ قدَّمها التاجران المسمَّيان «برانتون» و«أوراسيو ولد بانديني».
وأما في القرن السابع عشر فقد زاد عدد المطابع العربية في مختلف البلدان الأوروبية، ومن المؤكد أنه كان يُوجَد عندئذٍ أمثال هذه المطابع في البندقية ولندن وفيِنَّا أيضًا.
هذا، ومما تجب الإشارة إليه — علاوة على كل ما سبق — أن الطباعة بالحروف العربية كانت دخلَت عاصمة الدولة العثمانية أيضًا، قبل مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر، بمدة تقرُب من ثلاثة أرباع القرن.
وكان بين الكتب التي طبَعَتْها أولًا «دار الطباعة» المؤسسة في «البلدة الطيبة قسطنطينية، صانها الله عن الآفات والبلية» المعجم المعروف «صحاح الجوهري». وقد تم طبع الكتاب المذكور — مع ترجمته إلى التركية — سنة ١١٤١ هجرية؛ أي ١٧٢٩ ميلادية.
ومن المؤكَّد أن السفارة الفرنسية نفسها كانت أسَّسَت في القسطنطينية مطبعةً تَطبعُ بالحروف العربية، قبل الحملة الفرنسية على مصر بمدةٍ غير قصيرة. وقد طبَعَت المطبعة المذكورة سنة ١٧٨٦ كتابًا بالعنوان التالي:
«أصول المعارف في ترتيب الأوردو وتحصينه مؤقتًا»، من تأليف مهندس ده لافيت قلادة، المُرسَل من طرف فرنسا للدولة العلية العثمانية، والمعلم في المهندسخانة، الكائن بدار السلطنة السنية.
وفي الأخير، يجب أن يُلاحَظ أن الطباعة كانت دخلَت البلاد العربية نفسها، قبل مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر، بمدةٍ طويلة.
فكان يُوجد مطبعةٌ عربية واحدة في حلب، وأخرى في الشوير.
وبعض المكتبات العامة تحتفظ بإنجيلٍ عربي مطبوع في مدينة حلب المحمية، سنة ألفٍ وسَبْعمائة وسِتٍّ مسيحية.
ويظهر من ذلك أن المطبعة التي أتت بها الحملة الفرنسية إلى مصر لم تكن أُولى المطابع العربية، حتى في البلاد العربية نفسها.
وبعد سَرد وتَعداد هذه الحقائق الثابتة، أعتقد أنه يَحق لي أن أسأل: «ماذا يبقى من قيمة للمطبعة التي أتت بها الحملة الفرنسية إلى مصر من وِجهة تاريخ الثقافة العربية؟» كما أنه يحق لي أن أقول بلاد تردُّد:
إن ذِكْر المطبعة العربية التي أتى بها نابليون إلى مصر — لتنفيذ غايته العسكرية والاستعمارية — بين العوامل الفعَّالة للنهضة المصرية والنهضة العربية، مما لا يُقِرُّه العقل والمنطق، ولا تُسوِّغه الحقائق والوقائع، بوجه من الوجوه.
(٢-٣) قضية انتشار الثقافة الفرنسية
يحاول بعض المؤلِّفين البرهنةَ على شدةِ تأثير الحملة الفرنسية في النهضة المصرية بقولهم: «إن مصر لا تزال متأثرة بالثقافة الفرنسية، وذلك يدل دلالةً قاطعة على عُمْق تأثير الحملة النابليونية.»
وقد قال أحد المُؤلِّفين في هذا الصدد ما نصه بالحرف:
«كان للجهود التي بذلَها العلماءُ الفرنسيون أبعدُ الأثَرِ في مستقبل مصر الثقافي والفكري؛ إذ أن مصر شديدة الاتصال بفرنسا والتأثُّر بها في هذين الميدانَين. أصبَحَت مصر ميدانًا خصبًا للثقافة الفرنسية والعلم الفرنسي. وأصبح الأدب الفرنسي أَحبَّ ألوان الآداب إلى المصريين وأقربَها إلى نفوسهم. وأصبح الفلاسفةُ الفرنسيون أئمةَ الفلسفة والفكر عند زعماء النهضة والثقافة في مصر. وقد بلغ من عمْق هذا الأثَر أن الإنكليز لم يُفلحوا في محاربته والقضاء عليه، على الرغم مما بذلوا من جهود منذ احتلالهم لمصر.»
«وهذا — في حسابنا — أعزُّ آثار الحملة الفرنسية وأزكى ثمراتها.»
إن هذه الملاحظات والمحاكمات تبدو — في الوهلة الأولى — قويةً وحاسمة، غير أن قليلًا من التأمُّل في حقائق الأمور يكفي لزلزلَتها، وشيئًا من التوسُّع في بحث الوقائع يكفي لهدمها من أساسها:
أنا لا أُنكر أن الثقافة الفرنسية أثَّرتْ في مصر تأثيرًا كبيرًا، وأُسلِّم بأنها فاقت سائرَ الثقافاتِ من وِجهة هذا التأثير.
غير أني أرى من الضروري أن أتساءل في الوقت نفسه: «فهل كان ذلك من جرَّاء الحملة النابليونية المعروفة؟»
إذا وسَّعنا آفاق أنظارنا وشملناها إلى سائر أقسام الشرق الأدنى، وجدنا بسهولة الجواب الحاسم لهذا السؤال:
إن الثقافة الفرنسوية انتَشَرتْ في سائر أقسام الدولة العثمانية، وأثَّرتْ فيها أيضًا تأثيرًا كبيرًا. ونستطيع أن نؤكد أن سيادة هذه الثقافة على مصر، لم تكن في يومٍ من الأيام أشدَّ وأقوى من سيادتها على إستانبول وأزمير وسلانيك مثلًا.
هذا، ولم تنحصر سيادة الثقافة الفرنسية على الممالك العثمانية وحدها، بل تعدَّت ذلك إلى الممالك المجاورة لها أيضًا. ومما لا شك فيه أن هذه الثقافة سائدةٌ الآن حتى على إيران.
ولا حاجة لبيان أن البلاد التي ذكرتُها آنفًا لم تتعرض قَطُّ إلى حملةٍ عسكرية فرنسية، كالتي كانت ذهبَتْ إلى مصر، وذلك يدل دلالة صريحة على أن انتشار الثقافة الفرنسية في الشرق الأدنى، حدَث بتأثير عواملَ عامة وعميقة لا تمتُّ بصلةٍ إلى الحملة النابليونية التي انحصَرت بمصر وحدها، والتي لم تمكُث فيها أيضًا غير مدةٍ قصيرة جدًّا.
فأعتقد أنني لا أكونُ من المغالين إذا قلتُ: «إن مصر أصبحت ميدانًا خصبًا للثقافة الفرنسية والعلم الفرنسي، ليس من جرَّاء مجيء الحملة الفرنسية إليها، بل من جرَّاء جلاء الحملة المذكورة عنها.»
ولا أكون من المخطئين إذا ادَّعَيتُ أن الأدب الفرنسي لَمَا أصبح أحب ألوان الآداب إلى المصريين وأقربها إلى نفوسهم، لو لم تفشل الحملة الفرنسية فتُضطَر إلى الجلاء عن مصر، قبل أن تمضي مدةٌ طويلة على احتلالها.
(٢-٤) قصة حجر الرشيد
وكثيرًا ما يُحاول المؤلفون أن يدعموا النظرية التي نحن بصَددِها بقضية اكتشاف الحجر الأثري المعروف باسم «حجر الرشيد»، وذلك خلال اشتغال الجنود الفرنسيين بحفر الخنادق حول مدينة «الرشيد».
إنهم يقولون إن الحجر المذكور قد كشَف النقابَ عن أسرار الكتابة الهيروغليفية، وهذا الكشف أدَّى إلى قراءة كتابات المصريين القدماء، وضمن الاطِّلاع على تفاصيلِ تاريخهم المجيد وحضارتهم الراقية، وأصبح بذلك عُنصرًا فعَّالًا جدًّا في النهضة المصرية.
وقد قال أحد المؤلِّفين — في هذا الصدد — ما يلي:
«كان هذا الكشفُ — في حسابنا نحن المصريين — أجلَّ نتائج الحملة الفرنسية وأبعدها أثرًا؛ أنار للعالم ناحيةً أطبق عليها الظلام وسادها السكون، وأخرج إلى النور فِقرةً مفقودة كان لا بد من العثور عليها حتى تستقيم سيرةُ الحضارة متصلة الحلقات موصولة الفقرات، وأنار لمصر سبيلَها فعرفَت نفسَها ومقامها بين أمم التَّارِيخ.»
غير أني أرى من الضروري أنْ أَلفِت أنظار الذين يرَوْن هذا الرأي إلى الحقائق التالية:
إن حجر الرشيد لم يكشف النقاب عن أسرار الكتابة الهيروغليفية كشفًا مباشرًا، بل إن حل الرموز المحفورة على الحجر المذكور لم يتيسَّر إلا بعد مرور مدةٍ تزيد على عشرين عامًا.
والباحث الشهير «شامبوليون» الذي حلَّ رموز الكتابة الهيروغليفية — لأول مرة — لم يتوصل إلى ذلك لمجرد ملاحظة الحجر المذكور، بل توصَّل إلى ذلك بعد دراساتٍ ومقارناتٍ دقيقة وطويلة، تناولَت ملاحظةَ خصائصِ اللغة القبطية، مع مقارنة عددٍ كبير من الإشارات الهيروغليفية المنحوتة على مختلف الآثار القَديمة المنقولة وغير المنقولة.
ومما تجبُ ملاحظتُه في هذا الصدد أن شامبوليون وُلِدَ سنة ١٧٩٠، فكان في الثامنة من عمره في تاريخ نزول الحملة الفرنسية إلى القُطر المصري. زِدْ على ذلك أنه لم يَزُرْ مصر إلا سنة ١٨٢٨؛ أي بعد مرورِ أكثرَ من ربعِ قرنٍ على تاريخ جلاء الجيوش الفرنسية عن القُطر المذكور.
أفلا يكون من الغريب — والحالة هذه — أن يُقال إن حل رموز الكتابات الهيروغليفية كان من أجلِّ نتائج الحملة الفرنسية؟
هذا، ويجب ألا يغرُب عن البال أن العلماء كانوا تمكَّنوا من حل رموز الكتابة الفارسية القَديمة، قبل أن يتمكَّنوا من قراءة الكتابات الهيروغليفية. كما أنهم توصَّلوا إلى حل رموز الكتابات المسمارية واللغات السومرية والآشورية والبابلية، بعد مدة من الزمن. وقد تمَّت جميع هذه الاكتشافات الهامة دون أن تذهب إلى هضبة إيران ولا إلى بلاد ما بين النهرَين حملاتٌ عسكرية مثل الحملة النابليونية التي ذهبَت إلى وادي النيل.
ولهذه الملاحظاتِ كلها نستطيع أن نقول: إن العلاقة المزعومة بين أعمال الحملة الفرنسية وبين قضية قراءة الخطوط الهيروغليفية لهي من نوع العلاقات العرَضية التي لا يجوز أن يُعبأ بها في الأبحاث العلمية.
(٢-٥) أسطورة اللقاء الأول
يقول بعض المؤلفين — في جملة ما يقولونه للبرهنة على علاقة النهضة المصرية بالحملة الفرنسية — إن الحملة المذكورة كانت بمثابة اللقاء الأول بين الشرق والغرب، فكانت لذلك عميقةَ الأثر في أحوال الشرق. وهي شديدةُ الشبه — من هذه الوِجهة — بفتوحات الإسكندر المعلومة في القرون الأولى.
غير أني أرى من الضروري أن يلاحَظ في هذا الباب الحقائق التالية:
إن مصر لم تكن قبل الحملة الفرنسية منعزلة عن العالم كما كانت اليابان مثلًا، بل إنها كانت — بطبيعة مركزها الجغرافي — على اتصالٍ دائم مع العالم الغربي من جهة والعالم الشرقي من جهةٍ أخرى. ونستطيع أن نقول إنها كانت حلقة الوصل بين بعض البلاد الغربية وبين بعض البلاد الشرقية.
وكان في مصر قناصلُ عديدون وأجانبُ كثيرون. حتى إن الجبرتي يصف في يومياته هذا الصنف من السكان بقوله: «الإفرنج البلديين»، ويذكرهم عدة مراتٍ في مختلف المناسبات. ومن المؤكَّد أن نابليون نفسه استفاد كثيرًا من الفرنسيين الذين كانوا مقيمين في مصر، حتى إنه قد عَهِدَ إلى ثلاثة منهم بمهمة المراقبة الرسمية على أعمال «الديوان المؤلَّف من بعض الوجوه والأعيان».
ومن المعلوم أن الدولة العثمانية كانت شديدة الاحتكام ومتواصلة اللقاء بالغرب منذ قرونٍ عديدة.
وكانت أسَّسَت مدرسة للهندسة العسكرية وأخرى للشئون البحرية، قبل الحملة النابليونية بمدةٍ غير قصيرة، وكانت عَهِدت بتنظيم شئون هاتَين المؤسَّستَين الهامَّتين إلى ضباط أوروبيين، وكان بينهم الفرنسي والإنكليزي والسويدي.
وكان قد تَرجَم وطَبَع بعضُ الرجال، بعضَ المؤلَّفات المتعلقة بفنون الحرب، كان من جملتها كتاب في «فن الحرب» وآخر في «العلم» وآخر في «فن الحصار»، وكان هناك كتابٌ «في ترتيب الأوردو وتحصينه مؤقتًا»، وكتابٌ آخر «في وجه تصفيف سفائن الدونما وفن تدبير حركاتها».
فكيف يجوز أن يُقال — والحالة هذه — أن الحملة النابليونية على مصر كانت بمثابة اللقاء الأول بين الشرق والغرب؟
هذا، ويجب أن لا يغرُب عن البال، أن نابليون نفسه كان فكَّر في الذهاب إلى القسطنطينية؛ للدخول في خدمة الدولة العثمانية؛ تلبية للطلبات التي كانت أُذيعَت بواسطة السفارات. وإذا كانت الظروفُ قد حملَتْه على العدول عن هذه الفكرة، فإنها لم تَحُلْ دون ذهاب غيره من الضباط الفرنسيين للانخراط في سلك الجيش العثماني. ومن المعلوم أنه كان بينهم عددٌ من الذين كانوا رجَّحوا الخروج من فرنسا على البقاء فيها تحت رحمة الثورة الكبرى.
ومن الأمور المؤكَّدة أن نابليون عندما حاصر مدينة عكا، بعد احتلال العريش وغزَّة ويافا، عَلِمَ أن رئيس الضباط الذين كانوا يشتغلون بتحصين المدينة، ويضعون الخطَط الكافلة للدفاع عنها، كان ضابطًا إفرنسيًّا من رفاق صفه في المدرسة الحربية! وكان من غرائب الصُّدَف أن الظروف ساقت كل واحدٍ من هذَين الرفيقَين إلى الشرق من طريقٍ خاص ولغايةٍ خاصة؛ فقد ذهب الأول إلى القسطنطينية ضابطًا يخدم الدولة العثمانية بإصلاح مدفعيَّتها. وذهب الثاني إلى مصر قائدًا عامًّا لحملةٍ تسعى إلى استعمارها. وقد قرَّبَت حروبُ الشام المسافةَ التي كانت تفصل بين هذَين الضابطَين إلى أن أصبحا في طرفَي أسوار عكا، أحدهما يأمر على رأس المحاصِرين، والثاني يعمل في عِداد المدافِعين.
وهذه الحالة لم تكن فريدة في بابها، بل إن المؤلفات التي تصف الحركات العسكرية التي جرت في الشام، تذكُر أسماءَ غيرِ واحدٍ من الضباط الفرنسيين الذين حاربوا الحملة الفرنسية، في صفوف الجيوش العثمانية. إنهم كانوا ممن التحقُوا بخدمة الدولة المذكورة، ووصلوا الشام عن طريق القسطنطينية، وذلك لعدم تحيُّزهم للثورة الكبرى وخروجهم عليها.
وأنا لا أشُك في أن كل من يأخذ بنظر الاعتبار هذه الحقائق يدرك بسهولة أن القول بأن الحملة الفرنسية على مصر كانت اللقاء الأول بين الشرق والغرب، مما لا يتفق مع أظهَرِ وأثبَتِ وقائعِ التَّارِيخ، بوجهٍ من الوجوه.
وأما تشبيه حملة نابليون على مصر بحملة الإسكندر على الشرق، فهو أيضًا لا يستند إلى أي أساسٍ صحيح.
لأن حملة الإسكندر على الشرق كانت تكلَّلَت بالنجاح، والحكم الذي نشأ عنها استمر عدة قرون، فترك لذلك آثارًا عميقة في أحوال البشر. في حين أن حملة نابليون على مصر لم تُكلل بالنجاح إلا لمدةٍ قصيرة جدًّا، والحكم الذي استند إلى هذه الحملة لم يستمر إلا ثلاث سنوات، فما كان يمكن أن يتركَ آثارًا قابلة للقياس مع الآثار التي تركَتْها حملةُ الإسكندر بطبيعة الحال.
(٢-٦) قضايا التنظيم والعمران
وكثيرًا ما يذكُر المؤلَّفون والمؤرِّخون «بعض الأعمال العمرانية والتنظيمية» في عِدادِ الدلائل التي تُبرهن على تأثير الحملة في النهضة المصرية.
إني أعتقد أن كل ما قيل في هذا الصدد أيضًا يحتاج إلى درسٍ وتمحيص:
يجب علينا أن نفكر مليًّا: ما هي حقيقة هذه الأعمال العمرانية والتنظيمية؟ ماذا كان القصد الأصلي منها؟ ماذا نتج عنها؟ وما كان تأثيرها الفعلي في البلاد؟ ماذا تم منها فعلًا خلال وجود الحملة في مصر وماذا بقي منها بعد الجلاء؟
ومن البديهي أنه لا يسُوغ لنا أن نَجزِمَ بتأثير هذه الأعمال التنظيمية والعمرانية في النهضة المصرية، إلا إذا تأكَّدنا من أنها استمرَّت بعد الجلاء، واتصلَت بحركات النهضة بصُورةٍ فعلية.
وعندما نبحث في الأمور على ضوء هذه المبادئ نُضطَر إلى التسليم بأن هذه المزاعم لا تستند إلى أساسٍ متين.
مثلًا يذكُر بعض المؤلِّفين «التنظيمات الإدارية» التي قام بها الفرنسيون في مصر، ويُشيرون بوجهٍ خاص إلى الدواوين التي ألَّفوها من الأهلِينَ في القاهرة وفي الملحقات، ويقولون إن ذلك كان بمثابة «إشراك الأهلِينَ في إدارة شئون البلاد» بل «تعويدهم على مبادئ الحياة النيابية».
غير أني أرى من الضروري أن أتساءل — تجاه هذه الأقوال:
ماذا كانت السلطة المُخوَّلة لهذه الدواوين؟ وكيف كان يُعيَّن أعضاؤها؟ وهل خَدمَت الدواوينُ المذكورة البلادَ خدمةً حقيقة؟ وهل استَمرَّت وواصلَت أعمالها بعد جلاءِ الفرنسيين عنها؟
إن أجوبةَ هذه الأسئلة تُغيِّر منظَر القضية تغييرًا أساسيًّا:
إن مهمة هذه الدواوين كانت — من حيثُ الأساس — تنفيذ أوامرِ الفرنسيين، تحت مراقبة مندوبيهم، وفقًا للتعليمات الموضوعة من قِبَلهم، وأما أعضاء هذه الدواوين فكانوا يُعيَّنون تعيينًا، بعد انتخابهم من قِبَل الحُكام العسكريين، فكانت التَّعلِيمات الصادرة إلى هؤلاء الحُكَّام تأمر بانتخابهم من بين الوجوه والعلماء «الذين يتمتَّعون بنفوذٍ قوي على الأهلين، مع ملاحظة كيفية قبولهم للفرنسيين»، مما يدُل دلالةً صريحة على أن الغرض الأصلي من هذه التشكيلات والتنظيمات كان «الاستفادة من نفوذ هؤلاء على الشعب لتنفيذ مآرب الفرنسيين، بعد التأكُّد من خضوعهم وموالاتهم للإدارة الفرنسية».
فكيف يجوز لنا — والحالة هذه — أن نرى في «تأليف هذه الدواوين» ما يمكن أن يُعتبر من نوع «تعويد النَّاس على الحياة النيابية» وما يمكن أن يُذكر بين عوامل «النهضة المصرية»؟
ويذكُر أحد المؤلفين — بين مآثر الحملة الفرنسية — الأعمال التنظيمية التي باشَروها في جزيرة الروضة، ويُشير بوجهٍ خاص إلى الشارع المستقيم الذي أوجدوه لوصل الجزيرة بالمدينة، وإلى أشجار السَّيسَبان التي غَرسُوها في طرفَي الشارع المذكور.
- أولًا: إلى كثرة الأشجار والبساتين والمباني التي خرَّبها ودمَّرها الفرنسيون في مختلف أنحاء القاهرة، مقابل ما أَنشَئُوه وغَرسُوه في جزيرة الروضة وشارعها.
- ثانيًا: إلى الغرض الأصلي الذي كان يهدف إليه الفرنسيون من مشروع جزيرة الروضة وشارعها.
فإذا جاز للفرنسيين أن يُباهوا بالمشروع الذي وضعوه لتنظيم تلك الجزيرة، وبالأشجار التي غرسوها هناك، دون أن يذكروا شيئًا مما خرَّبوه ودمَّروه بوجهٍ عام، فهل يجوز للمصريين والعرب أجمعين أن يقتدوا بهم في هذا المضمار، وأن ينظروا إلى القضية بهذا «المنظار الفرنسي» الذي يُخفي المعايب عن الأنظار، ويُغالي في تعظيم المحاسن إلى أقصى حدود المغالاة؟
قد يسألني سائل: أفكانت «تخريبات الفرنسيين» التي ذكرتَها الآن عديمة الفائدة تمامًا؟ ألم تُساعِد التخريبات على تنظيم مدينة القاهرة مؤخرًا؟
وأما أنا فأقول بلا تردُّد — جوابًا على هذا السؤال — إني أعرف أن الحرائق التي تنشب والزلازل التي تحدُث في بعض المدن أيضًا، قد تُساعِد على توسيع الشوارع وتنظيم الحارات «بسهولةٍ كبيرة ونفقاتٍ قليلة»، فهل يترتَّب علينا — بالنظر إلى ذلك — أن نتغنى بما للزلازل من أفضالٍ، وبما للحرائق من حسنات؟
(٢-٧) التأثيرات «غير المباشرة»
يهتم بعض المؤلفين بالبحث عن التأثيرات التي تجري عن طريق «غير مباشرة»، ويزعمون أن الحملة الفرنسية كانت شديدة التأثير جدًّا من هذه الوِجهة؛ لأنها أظهرت للملأ ضَعفَ الدولة العثمانية، وكسَرتْ شوكة أمراء المماليك وقوَّت مكانة علماء الدين، وكل ذلك ساعد على نشوء الفكرة الاستقلالية في البلاد، وعبَّد السُّبُل أمام حركات النهوض والانقلاب.
غير أن جميع هذه الملاحظات تفقد قوَّتها فتنهار من نفسها عندما ندرس الأمور دراسةً جدية بنظراتٍ علمية، مُتحرِّرة عن سيطرة المزاعم الفرنسية.
فأولًا: إن ضعف الدولة العثمانية لم يكن من الأمور الخافية على النَّاس قبل الحملة الفرنسية؛ فالانكسارات الفظيعة التي كانت مُنيت بها الجيوش العثمانية في حروبها الأخيرة مع الجيوش الروسية كانت تُعلِن ذلك للملأ بأوضح شكلٍ وأجلى بيان.
ومن المعلوم أن آثار هذا الضعف كانت قد تجلَّت في الميادين المصرية نفسها، عندما قام علي بك الكبير على الدولة العثمانية من مصر، ثم أرسل جيشًا لفتح اليمن والحجاز واستولى عليهما بسهولة، وصار يُلقَّب بلَقَب «سلطان مصر وخاقان البحرين»، ثم أرسل قوةً عسكرية أخرى لفتح بلاد الشام، كما أوفد مندوبين للمفاوضة مع البندقية وروسيا؛ بُغْية عقْد محالفاتٍ تضمن مصالح الطرفَين. وقد حدث كل ذلك قبل مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر بمدة تزيد على ربع القرن.
ويجب ألا يغرُبَ عن البال في هذا الصدد، أن أمثال هذه الحركات الانفصالية والاستقلالية، كانت تحدث في مختلف أقسام البلاد العثمانية من حينٍ إلى آخر؛ فقد قام وُلاةٌ عديدون — بعضهم في القسم الأوروبي من أراضي الدولة وبعضهم في القسم الآسيوي منها — يعلنون انفصالهم عن الدولة العثمانية ويَستقِلُّون في إدارة شئون ولاياتهم استقلالًا تامًّا، ثم يسعون إلى توسيع دوائر أحكامهم هذه، بالاستيلاء على الولايات المجاورة لولايتهم الأصلية. والتواريخ العثمانية تذكُر بإسهاب تفاصيل الثورات التي قام بها أحدُ الولاة في أقصى الغرب من ولايات البلقان، وحاكمٌ ثانٍ على ضفاف الدانوب، وثالثٌ في بلاد ما بين النهرَيْن.
ولا حاجة إلى القول بأن حدوث ثورة علي بك الكبير في مصر قبل الحملة الفرنسية، وحدوث ثوراتٍ عديدة في مختلف أقسام البلاد العثمانية — بعد الحملة الفرنسية على مصر، وقبل قيام محمد علي باشا على مصر — مما يدُل دلالةً قاطعة على أن عواملَ قيامِ هذه الثورات وهذه الحركات الانفصالية تعود إلى أحوال الدولة العثمانية، ولا تمتُّ بصلةٍ ما إلى الحملة الفرنسية.
وأما القول بأن الحملة الفرنسية قوَّت نفوذ علماء الدين وساعدت بذلك على استقلال مصر، فذلك أيضًا من الأقوال التي لا تستند إلى أي أساسٍ صحيح.
فإن التواريخ العثمانية تَشهَد على الدوام بأن علماء الدين كانوا يتمتَّعون بنفوذٍ قوي جدًّا حتى في عاصمة الدولة نفسها. والتواريخ المصرية أيضًا تُعطي أمثلةً كثيرة على نفوذ العلماء وتأثيرهم في شئون الحكومة والشعب، قبل الحملة الفرنسية بمدةٍ طويلة.
فإننا نجد أدلةً قطعية على ذلك في يوميات الجبرتي أيضًا.
يصف الجبرتي — بين وقائع سنة إحدى وتسعين ومائة وألف — تفاصيل النزاع الذي قام بين مشايخ الأزهر وبين أمراء المماليك، ويُبيِّن كيف أن هذا النزاع انتهى بانتصار العلماء على الأمراء.
ومن المفيد أن ننقل هنا بعض الأسطر مما كتبه الجبرتي في هذا الصدد:
«… وصل الخبر إلى الشيخ الدردير وأهل الجامع، فاجتمعوا في صُبحها وأبطَلوا الدروس والأذان والصلوات، وقفلوا أبواب الجامع. وجلس المشايخ بالقبلة القَديمة، وطلع الصغار على المنارات يُكثرون الصياح والدعاء على الأمراء، وأغلق أهلُ الأسواقِ القريبة الحوانيت. وبلَغ الأمراءَ ذلك، فأرسلوا إلى يوسف بك فأطلق المسجونين.»
ويصف الجبرتي — بين وقائع سنة تسع ومائتين وألف — ما حدث بين الشيخ الشرقاوي وبين محمد بك الألفي بتفصيلٍ تام.
فيجدُر بنا أن نقرأ بإمعان بعض الأسطر مما كتبه الجبرتي حول هذه القضية:
«إن الشيخ الشرقاوي له حصةٌ في قرية بشرقية بلبيس. حضَر إليها أهلها وشَكَوا من محمد بك الألفي، وذكروا أن أتباعه حضروا إليهم وظلموهم وطلبوا منهم ما لا قدرة لهم عليه، واستغاثوا بالشيخ، فاغتاظ الشيخ الشرقاوي من ذلك، وحضر إلى الأزهر وجَمَع المشايخ، وقفَلوا أبواب الجامع، وأمروا النَّاس بغلق الأسواق والحوانيت، ثم ركبوا في ثاني يوم، واجتمع عليهم خلقٌ كثير من العامَّة، وتَبِعُوهم إلى بيت الشيخ السادات، وازدحم النَّاس على بيت الشيخ.
ويظهر من التفاصيل التي يذكرها الجبرتي في يومياته بعد هذه الأسطر — والتي يؤيدها المؤرخ الرسمي العثماني جودت باشا في تاريخه المشهور — أن الأزمة التي بدأَت بهذه الصورة قد استمرَّت ثلاثة أيامٍ جرت خلالها مفاوضات ومناقشاتٌ كثيرة. وفي الأخير توسَّط الوالي بين الطرفَين، وحمَلَهم على إنهاء الخلاف، بعد أن تعهَّد الأمراء «أن يسيروا في النَّاس سيرةً حسنة»، وبعد أن وقَّعوا على وثيقةٍ مكتوبة في هذا الشأن.
ويصف الجبرتي انتهاء الأزمة بهذه العبارات والتفاصيل التي تستوقف الأنظار:
حدثَت هذه الحوادث الهامة قبل وصول الحملة الفرنسية إلى مصر، وقبل احتكاكها بالعلماء أو الأمراء.
أفليس من الغريب أن يعزو البعض — مع كل ذلك — إلى الحملة الفرنسية تأثيرًا قويًّا في «تقوية سلطة علماء الدين، وكسر شوكة أمراء المماليك» وأن يتخذوا ذلك برهانًا على خدمة الحملة الفرنسية للنهضة المصرية؟
(٢-٨) الحملة الفرنسية ومحمد علي باشا
من أغرب الأدلة التي ابتكَرها بعض المؤلِّفين لتأييد النظرية التي نبحث فيها قولهم:
«إنَّ الإصلاحات التي قام بها محمد علي باشا في مصر كانت مُلهَمةً من أعمال الحملة الفرنسية وأغراضها …»
وقد قرأتُ في أحد المؤلَّفات العربية المشهورة عن «تاريخ مصر الحديث» العبارات التالية بحروفها:
«نشأ محمد علي باشا في كنَف الحملة الفرنسية، وقد فَطَن إلى أغراضها، فعوَّل على تحقيقها وتكوين دولةٍ كبرى مستقلة في آسيا وأفريقيا، تكونُ مصرُ قاعدتها …»
- (أ)
إن محمد علي باشا الذي أسَّس الدولة المصرية الحديثة، وبعث روح النهضة فيها، إنما نشأ في كنَف الحملة الفرنسية.
- (ب)
ولهذا السَّبب فَطَن إلى أغراض هذه الحملة فعوَّل على تحقيق هذه الأغراض.
- (جـ)
أما أغراض هذه الحملة الفرنسية وأهدافها فكانت سامية جدًّا؛ لأن إنهاض مصر وجعْلها قاعدةً لدولةٍ كبرى مستقلة تبسُطُ جناحيها على قارتَي آسيا وإفريقيا كان من جملة هذه الأغراض السامية.
أنا لا أستطيع أن أتصوَّر مثالًا أوضح وأفصح من هذا المثال لتبيان عُمق «مهواة الغلط» الذي تنزلق إليه أقلام المؤلِّفين والمؤرِّخين عندما يعتمدون على ما يكتبه «أصحاب الأغراض من الأجانب»، دون أن يشعروا بما في ذلك من خروجٍ على الحقائق الثابتة، وتخليطٍ بين الوقائع الراهنة.
وهل من حاجةٍ إلى التذكير بأن محمد علي باشا إنما ذهَب إلى مصر مع القوى العسكرية التي أُرسلت إليها بُغْية طرد الفرنسيين منها؟
وهل من حاجةٍ إلى التأكيد بأن ذلك كان في السنة الأخيرة من السنين التي قضَتْها الحملة الفرنسية في الديار المصرية؟
ولا شَكَّ في أن كل مَن يُلاحِظ هذه الحقائق الثابتة يفهم بداهةً أن محمد علي باشا لم يتصل بالحملة المذكورة — وبرجالها — إلا في ساحات المحاربات الأخيرة، وفي مواقف المخاصمات العنيفة.
فكيف يجوز أن يُقال — مع ذلك — إن محمد علي باشا نشأ في كنَف الحملة الفرنسية؟
وكيف يجوز أن يُبنى على مثل هذه الأُسس الواهية نظريةٌ تتعلَّق بمنابع وعوامل النهضة المصرية بوجهٍ خاص والنهضة العربية بوجهٍ عام؟
(٣) خلاصة القول وخاتمة البحث
وخلاصة القول: إنني لم أصادف بين جميع الأدلة والبراهين التي قرأتُها في الكتب المختلفة أيَّ برهانٍ معقول، يؤيِّد — بصورةٍ منطقية — الرأيَ القائلَ بأن الحملة الفرنسية كانت من العوامل الفعَّالة في النهضة المصرية.
يظهر أن هذا الرأي استولى على الأذهان من جرَّاء اعتماد المؤلِّفين المؤرِّخين على ما كتَبَه بعضُ الفرنسيين في هذا المضمار.
ولا حاجة إلى القول بأن هؤلاء الفرنسيين كانوا بما كتبوه في هذا الشأن مَدفوعِين بنزعة التبجُّح والمباهاة. إنهم كانوا يعملون بذلك على إشباع غرورهم القومي، دون أن يلتفتوا إلى الحقائق والوقائع التي تُناقِض مزاعمهم هذه مناقضةً تامة.
وقد تَبنَّى بعض المؤلِّفين المصريين هذه الآراء والمزاعم — المنشورة في الكتب والمجلات الفرنسية — قبل درسها درسًا انتقاديًّا وتمحيصها تمحيصًا علميًّا، ثم أخذوا يبحثون عن أدلةٍ جديدة تدعم هذه الآراء وتؤيِّد هذه المزاعم التي كانت قد تسرَّبَت إلى أذهانهم قَبلًا.
وبعد ذلك اقتدى بهم عددٌ كبيرٌ من المؤلِّفين في مختلف الأقطار العربية، وشاعَت هذه الفكرة — بهذه الصورة — شُيوعًا غريبًا.
وأما أنا فأستطيع أن أؤكد الآن — بعد الأبحاث الانتقادية التي سردتها آنفًا — أن علاقة النهضة المصرية بالحملة الفرنسية، لا تتعدَّى قَطُّ حدود العلاقات الزمنية. ومن المعلوم أن أمثال هذه العلاقات لا تدُل على الأسباب والمسبَّبات.
إن كل ما يمكن أن يُقال في هذا الصدد — بصيغة التأكيد — ينحصر فيما يلي: «أن النهضة المصرية حدثَت بعد الحملة الفرنسية.»
لا يستطيع أحد أن يُنكر ذلك أبدًا، ولكن هل يستطيع أن يدَّعي — مع ذلك — أن المدة المقصودة من لفظة «بعد» كانت قصيرةً إلى درجةٍ تسترعي البحث والاهتمام؟ حتى ولو كانت هذه المدة قصيرةً، بل ضئيلة، هل يستطيعُ أحدٌ أن يستنتج من ذلك، بطريقةٍ منطقية — أن الحملة الفرنسية كانت من عوامل النهضة المصرية؟
من المعلوم أن حدوث حادثتَين من الحوادث في وقتٍ واحد، أو في أوقاتٍ متقاربة متتالية، لا يكون مبررًا للحكم بأن إحدى الحادثتَين كانت من العوامل والمسبِّبات التي أوجدَت الأخرى؛ إذ من الممكن أن تحدُث كل واحدةٍ من الحادثتين من جرَّاء أسبابٍ خاصة بها، مستقلة عن الأسباب الموجبة للأخرى، كما أنه من الممكن أن تحدُث الحادثتان من جرَّاء عاملٍ مشترك بينهما، يستوجب حدوث الحادثتَين في وقتٍ واحد، أو في وقتَين متقاربَين.
كلنا نعلم، مثلًا، أن عودة الخطاطيف واللقالق إلى البلاد المعتدلة، وإيراق الأشجار وإزهارها في تلك البلاد، من الأمور التي تحدُث عادةً في وقتٍ واحد، فهل يخطر على بال أحد منا أن يدَّعي، بناءً على ذلك، أن إيراق الأشجار حدَث من جرَّاء عودة الخطاطيف، أو بالعكس أن عودة الخطاطيف كانت نتيجةً من نتائج تفتُّح الأشجار؟
وكلنا نعلم، كذلك، أن الديك يصيح، عادةً، قبل طلوع الشمس، فهل يخطر على بال أحدٍ منا أن يستنتج من ذلك، أن صياح الديك هو السَّبب المُوجِب لشروق الشمس؟
إن السؤال الأخير يُذكِّرني بالأسطورة التي خلَّدها «أدمون روستان» في تمثيليَّته المشهورة.
يتوهَّم الديك بأن الشمس تُشرِق بناءً على صياحه هو، فينتفخ زهوًا وغرورًا على سائر الحيوانات، عندما يُشهِدهم على أن الشمس قد أشرقَت فعلًا تلبيةً لندائه.
أنا لا أستغرب أبدًا أن يتوهَّم بعض الكُتَّاب، من أبناء فرنسا «أن الحملة الفرنسية خدمَت النهضة المصرية»، ولا أستغربُ كذلك أن يتباهى هؤلاء بهذه الخِدمة الموهومة مُباهاةَ الديك الآنف الذكر، الذي يرمُز إلى أجدادهم الغاليِّين.
غير أني أَستغرِب استغرابًا شديدًا كيف يظهر بين كُتَّاب العرب مَن يُشارِك ذلك الديكَ أوهامَه ومزاعمَه، فينبري للتسبيح بذِكرِ نِعَمه وأفضاله.
لأني أعتقد كل الاعتقاد، بناءً على الدلائل التي استَعرضْتُها آنفًا، أن العلاقة التي تربط النهضة المصرية بالحملة الفرنسية هي من نوع العلاقات التي تَربطُ طلوعَ الشمسِ بصياح الديك!
(٤) عَودَة إلى أسطورة تأثير الحملة الفرنسية في النهضة المصرية
يظهر أن أسطورة «تأثير الحملة الفرنسية في النهضة المصرية» لا تزالُ راسخةً في بعض الأدمغة بجذورٍ عميقة حتى إنها لا تزال تتمتع بحيويةٍ ظاهرة، تُكسِبها شيئًا من قوة التفريخ والتوليد أيضًا.
ومن أغرب الأدلة على ذلك حديثٌ قرأتُه أخيرًا في مجلة الإذاعة المصرية الإفرنجية تحت عنوان «تأثير حملة بونابرت في الفكر المصري والنفس المصرية، بمناسبة مرور مائة وخمسين سنة على الحملة المذكورة».
إن الحديث المذكور صادر من قلم كاتبٍ مصري، ومنشور باللغة الفرنسية، وهو يُردِّد الآراء الشائعة عن «الفوائد التي جنَتْها مصر من الحملة الفرنسية»، ويضيف إليها بعض الآراء الجدِيدة التي تُوسِّع نطاق هذه الفوائد توسيعًا كبيرًا.
إنني كنتُ استعرضتُ الآراء الشائعة في هذا المضمار قبلًا، وانتقدتُها واحدًا فواحدًا.
غير أني وجدتُ في الحديث المذكور بعض الآراء الجدِيدة التي لم أطَّلع على أمثالها قبلًا؛ ولهذا رأيتُ من الواجب عليَّ أن أعود إلى هذا البحث مرةً أخرى لأُنعِم النظر في هذه الآراء أيضًا.
١
لقد جاء في فِقرة من فِقراتِ حديث الإذاعة المنشور في المجلة ما ترجمَتُه حرفيًّا:
«إن بعض المؤرِّخين الذين رافقوا الحملة أطلعوا المصريين على التيارات الفكرية الفرنسية التي مهَّدَت السبل لثورة ١٧٨٩، وأبانوا لهم مضامين المنشور المشهور عن «حقوق الإنسان». والمصريون الذين وَعَوا (بهذه الصورة) ما لهم من حقوق، لم يكتفوا بالكفاح في سبيل نَوالِ هذه الحقوق فحسب، بل إنهم — زيادة على ذلك — ثاروا على الفرنسيين أنفسهم، عندما لاحظوا أن ما يهدف إليه هؤلاء في مصر، إنما هو من النوع الاستعماري البحت …»
نَفهَم من هذه الكلمات أن ثورة المصريين على الفرنسيين حدثَت بتأثير المعلومات التي تلقَّوها من بعض المؤرخين الإفرنسيين، عن مبادئ الثورة الفرنسية وعن منشور حقوق الإنسان، ولو لم يطَّلع المصريون على ذلك لَمَا ثاروا على الفرنسيين أبدًا ولاستسلموا استسلامًا تامًّا.
إن تعليل «الثورة» التي قامت على الفرنسيين في مصر ﺑ «اطِّلاع المصريين على مبادئ الثورة الفرنسية، وعلى مضامين حقوق الإنسان» من التعليلات الغريبة التي تستبعدها العقول منذ الوَهْلة الأُولى؛ لمخالفتها لكل ما هو معلومٌ ومعروفٌ عن الدوافع التي تحمل النَّاس على مقاومة الاحتلال الأجنبي بوجهٍ عام.
غير أني لا أستحسن الركون إلى ما يَرِد إلى الذهن في الوَهْلَة الأولى في مثل هذه القضايا، فأرى من الضروري المبادرة إلى درْس القضية بنظرةٍ علمية حيادية — مهما بدَت بعيدةً عن المألوف والمعقول.
فلنبحث إذن: من هم المؤرخون الفرنسيون الذين تولَّوا مهمة إطلاع المصريين على مبادئ الثورة الفرنسية وعلى منشور حقوق الإنسان؟ ماذا قال هؤلاء المؤرِّخون للمصريين، ومَن ترجم لهم المنشور المذكور؟ ومَن قام بشرح هذه المبادئ وإذاعتها بينهم، وكيف انتشَرتْ هذه الآراء والمعلومات بين الناس؟ وبأية طريقة تغَلغلَت بين الجماهير الشعبية، وكيف سيطرت على مشاعر رجال الدين، إلى أن أَضْرمَت في نفوس الجميع نيران الثورة على الفرنسيين؟
هذا، وكيف كان قابَل المصريون — في بادئ الأمر — احتلال بلادهم من قِبَل الجيوش الفرنسية؟ هل حبَّذوا هذا الاحتلال؟ هل صدَّقوا الدعاية القائلة بأن الفرنسيين إنما أتَوا لتحرير مصر من نِيرِ الأتراك والمماليك؟ ومتى أخذوا يفهمون مقاصد الفرنسيين من الاحتلال، إذا لم يفهموها من بادئ الأمر؟
وفي الأخير: كم من الزمن انقضى إلى حين حدوث هذا التأثير العميق في نفوس المصريين؟ وبتعبيرٍ آخر: كم كانت المدة التي مضَت بين دخول الجيوش الفرنسية إلى العاصمة المصرية وبين ثورة المصريين على تلك الجيوش في العاصمة المذكورة؟
إن التفكير في كل واحدٍ من الأسئلة المختلفة يحمل الذهن على الشك في صحة «التعليل» الآنف الذِّكر شكًّا قويًّا. غير أن التأمُّل في السؤال الأخير يُحوِّل هذا الشك إلى اليقين ويَحمِل على الجزم ببطلان هذا التعليل.
لأن من الحقائق الثابتة أن نابليون كان دخل القاهرة في ٢٤ تموز (يوليو)، والثورة كانت قامت في المدينة المذكورة في ٢١ تشرين الأول (أكتوبر)، وأن المدة التي مضت بين التَّارِيخَين المذكورَين كانت أقصر من ثلاثة أشهر!
ومعنى ذلك — على فرْض صحة الرأي المسرود في الحديث الآنف الذكر — أنه خلال هذه الأشهر الثلاثة اطَّلع المصريون على مبادئ الثورة الفرنسية وعلى مضامين منشور حقوق الإنسان اطِّلاعًا واسعًا، وتشبَّعوا بتلك المبادئ تشبُّعًا عميقًا، وتعصَّبوا لتلك الحقوق تعصُّبًا شديدًا، حتى دفعهم ذلك إلى العمل والتضحية، وحملَهم على الثورة ضد من علَّمهم تلك المبادئ وعَرَّفَهم تلك الحقوق!
وكل هذا التأثير الفكري العميق الشامل قد تم خلال ثلاثةِ أشهرٍ فقَط!
أنا لا أظن أن أحدًا يستطيع أن يدَّعي ذلك بصورةٍ جدية، إلا إذا قال بأن الحملة الفرنسية كانت معجزةً من معجزات الدهر التي تخرق قوانين الطبيعة، وإلا إذا زعم بأن الكلمات التي نقلَها مؤرِّخو الحملة كانت من الكلمات السحرية التي تشُق الجبال، وتفجِّر الأنهار، وتُخرج من الزهرة أميرة، أو تُحوِّل الأميرة إلى حصان!
٢
وقد جاء في مَحلٍّ آخر من الحديث المذكور ما تَرجمتُه حرفيًّا:
«إن الجبرتي الملقب بلقب «مؤرخ زمانه» قد استطاع أن يجمع الوثائق والإحصاءات التي استخدَمها فيما بعدُ في تأليف كتابه القيِّم «يوميات الجبرتي» وذلك بفضل مُثابَرتِه على الاختلاط بالفرنسيين.»
وذلك يعني أن الجبرتي ألَّف كتابه المشهور بعد الحملة الفرنسية وبفضل اختلاطه برجال الحملة المذكورة.
إن نصيب هذا الزعم من الصحة والصواب يتجلَّى بكل وضوحٍ لكل من يراجع ترجمة حياة الجبرتي، ويُقلِّب صفحات التَّارِيخ الذي ألَّفَه.
لقد وُلِدَ الجبرتي سنة ١١٦٧ هجرية، المصادفة لسنة ١٧٥٤ ميلادية، وذلك يدُل على أنه كان وصل إلى أَوْج سن الكُهولة عند بدء الحملة الفرنسية.
والوقائع التي دوَّنها في التَّارِيخ الذي أسماه باسم «بدائع الآثار في التراجم والأخبار» تبدأ قبل مجيء الفرنسيين بمدةٍ طويلة. وأما أخبارُ الحملة الفرنسية ووقائعُها فلا تأتي إلا في المجلَّد الثالث من التَّارِيخ المذكور.
أفلا يدُل ذلك دلالةً قاطعة على بطلان الزعم الآنف الذكر؟
ولكن هناك ما هو أصرح من هذا الدليل أيضًا:
يُعلِمنا عبد الرحمن الجبرتي بنفسه لماذا وكيف أقدم على تأليف الكتاب المذكور؛ كان أستاذه الشيخ مرتضى طلب إليه أن يجمع المعلوماتِ اللازمةَ عن تراجُمِ عُلماء عصره، وهو أخذ يجمع هذه المعلومات ويُدوِّنها تلبيةً لهذا الطلب، ولكنه عندما مات الشيخ المُشارُ إليه حزن عليه حزنًا شديدًا، وأهمل العمل الذي كان بدَأ به مدةً من الزمن. غير أنه تلقَّى — بعد مدة — رسالةً من قاضي دمشق، يُعلِمه بها، بأنه هو الذي كان التمس من الشيخ مرتضى جمْع تلك المعلومات، وبأنه كان قد عَلِمَ من الشيخ المرحوم أنه كان عَهِدَ بهذه المهمة إلى الجبرتي؛ ولهذا السَّبب كتَب إليه يَستحثُّه على مواصلة العمل.
وكيف يجوز لأحدٍ أن يدَّعي — والحالة — هذه أن الجبرتي ألَّف كتابه بعد الحملة الفرنسية وبفضل هذه الحملة؟
ومن الغريب أنه يُوجد في كتاب الجبرتي نفسِه ما يدُل على أن اتصال أسرته بالأوروبيين أيضًا كان قد بدأ قبل مجيء نابليون بمدة طويلة.
كان الجبرتي ينحدرُ من أُسرةٍ مشهورة في حياة العلم والتَّعلِيم. وكان والده على الأخص من كبار علماء الأزهر، ومن مشاهير المتخصصين في الهندسة والفلَك. ويذكُر لنا الجبرتي في ترجمة حياة والده أن بعض الأوروبيين كانوا اتصلوا به، وأخذوا عنه كثيرًا من المعلومات الهندسية والفلكية، وأن هؤلاء نشَروا تلك المعلومات في بلادهم بعد عودتهم إليها. وكان ذلك قبل تاريخ الحملة الفرنسية بمدةٍ تزيد على نصف القرن.
وها أنا أنقل — فيما يلي — بعض العبارات التي وردت في كتاب الجبرتي عن هذا الاتصال؛ لأَلفِت أنظار الذين لا يزالون يزعُمون أن اتصال المصريين بالأوروبيين إنما بدأ بالحملة الفرنسية.
يقول الجبرتي في أخبار سنة ١١٨٨، وخلال ترجمة حياة والده «حسن بن برهان الدين إبراهيم الجبرتي»، الذي مات في السنة المذكورة، ما نصه:
ومما يجب الانتباهُ إليه في هذا الصدد أن كتاب الجبرتي لا يختلف عن سائر أمثاله من حيث طريقة التأليف والتبويب، ولكنه يمتاز عنها بدقة الملاحظة ونفاذ النظر، كما أنه يدُل على اتصاف مؤلِّفه بعقليةٍ واقعية بارزة.
ولا مجال للشك في أن الجبرتي لم يكتسب هذه الخصال الفكرية بعد اتصاله برجال الحملة الفرنسية؛ لأنه كان قد وصل عندئذٍ إلى منتصف العَقْد الخامس من عمره، فلا بد من أن يكون قد اكتسَب تلك الخصالَ الفكرية قبل ذلك بمدةٍ غير قصيرة.
إن بعض المعلومات التي دوَّنها الجبرتي في ترجمة حياة والده تُساعِدنا مُساعدةً كبيرة على اكتشاف منابع هذه الخصال الفكرية التي تَلفِتُ الأنظار، في جميع أبحاث «بدائع الآثار في التراجم والأخبار».
يتَّضحُ لنا من الترجمة المذكورة أن والد الجبرتي لم يكن من العلماء الذين اكتفَوا بالدراسات الدينية والأدبية واللغوية وحدها، بل إنه كان من الذين اهتموا بالدراسات الرياضية والأمور العلمية أيضًا، كما ذكرنا ذلك آنفًا.
ويقول الجبرتي إن والده «رسم ما لا يُحصى من المنحرفات والمزاول على الرخامات والبلاط الكذان، ونصبها في أماكنَ كثيرة ومساجدَ شهيرة»، وبعد أن يذكُر أهم هذه الأماكن والمزاول، يَتكَلَّم عن الآلات التي ابتَدعَها، ويُشير إلى «ما له من الرسومات المُختَرعة والآلات النافعة المبتدَعة»، ويقول: «منها الآلة المربعة لمعرفة الجهات والسمت والانحرافات بأسهلِ مأخذ وأقربِ طريق، والدائرة التَّارِيخية وبركار الدرجة …» ثم يذكر اشتغاله بأمور الموازين، ويُشير إلى الكتاب الذي ألَّفه عنها بعنوان «الدر الثمين في علم الموازين».
يَظهَر من كل ما تقدَّم أن الجبرتي نشأ في كنَف والدٍ عالِم فنَّان يهتم بالعلوم العقلية والأمور العلمية، ويشتغل بالهندسة والفلك «يرسم، ويحسب، ويَزِن، ويصنع»، ويتصل ببعض الإفرنج، ويطَّلع على كيفية استعمالِ بعضِ الآلات الهندسية التي أهداها إليه هؤلاء.
ولا مجال للشك في أن الجبرتي قد شاهَدَ كثيرًا من أعمال والده، وقد سمع أخبار الأكثر منها، فكان من الطبيعي أن يتأثَّر من كل ذلك، وأن يكسب تلك الخصالَ الفكرية التي تتجلَّى بأجلِّ المظاهر في كتابه المشهور.
أفليس من الغريب جدًّا — مع كل ذلك — أن يُقدِم كاتب من أبناء وطن الجبرتي على إعلان فضل «حملة نابليون» عليه، وذلك عن طريق الإذاعة باللغة الفرنسية؟
٣
إن الحديث المنشور في مجلة الإذاعة يتضمن آراءً وعباراتٍ عديدةً أخرى ملهمة مِن أسطورة «أفضال الحملة الفرنسية على النهضة المصرية».
أنا لا أوَدُّ أن أذكُر وأُناقش جميع تلك الآراء، وأرى أن أختم هذا البحث بالإشارة إلى إحدى العبارات الواردة في الحديث المذكور:
«لو بقيت الحملة الفرنسية في مصر مدة أطول مما بقيت، لشاهدتَ الدور الذي لَعِبَتْه في قيام النهضة المصرية الثقافية، وفي تفتُّح مواهب المصريين العديدة والمتنوِّعة.»
لو آمنَّا بآراء صاحب الحديث لوجب علينا أن نأسَفَ أسفًا شديدًا على سرعة انتهاء الاحتلال الإفرنسي، وأن نتلهَّف على حرماننا من بركاتِ هذه العصا السحرية التي لم تمكُث في مصر حتى مشاهدةِ آثارِ سِحْرها الفيَّاض!
بعض العبارات الواردة فيه: Alors ce fut carnags horrible, il n’y eut ni grâce ni pitié, au massacre succéda le pillage et tous les excées qui l’accompagnent. Les généraux et officiers n’étaient plus maitres des soldats qui ne respiraient que la fureur. Pendant deux jours Yaffa fut en proie à toutes les horreurs de la guerre.