من أوهام كُتَّاب التَّارِيخ: النهضة الأدبية في لبنان وحوادث سنة ١٨٦٠
(١) رأي جرجي زيدان في أسباب النهضة الأدبية في لبنان
يعزو جرجي زيدان في المجلد الرابع من كتابه «تاريخ آداب اللغة العربية» إلى وقائع ١٨٦٠ دورًا خطيرًا في قيام النهضة الأدبية بلبنان، فيعتبر السنة المذكورة نقطة تحوُّل في تاريخ الآداب في بَرِّ الشام؛ لأنه يزعُم أن ازدهار مدينة بيروت وعمرانها إنما حدث من جرَّاء هجرة اللبنانيين وغيرهم إليها، بسبب الحوادث المشئومة التي حدثت سنة ١٨٦٠. وتحت تأثير هذا الزعم يُقسِّم جرجي زيدان تاريخ التَّعلِيم في لبنان إلى طَورَين أساسيَّين؛ الأول قبل سنة ١٨٦٠، والثاني بعد السنة المذكورة، ويقول: إن النهضة الحقيقية حدثَت في الطور الثاني — بعد حوادث سنة ١٨٦٠ — وبتأثير التطوُّرات التي نتجَت عن تلك الحوادث.
كما أنه يعتبر السنة المذكورة مَبدأَ عهدٍ خاص، في سائر ميادين العلم والأدب أيضًا.
ولذلك نجده يذكُر حوادث سنة ١٨٦٠ في مواضعَ عديدة من كتابه، ويُكرِّرها في مناسباتٍ كثيرة، سجَّلتُ منها خلال قراءتي الأخيرة للكتاب ستَّ عشرةَ مرة.
أنقل فيما يلي بعض الأمثلة على هذه الإشارات:
«توالت القلاقل على سوريا لفساد الأحكام واضطراب الأحوال، وآل ذلك إلى مذابحَ عديدة آخرها مذبحة ١٨٦٠ في سوريا ولبنان، فهَجَر اللبنانيون أوطانهم، ونزل جماعةٌ منهم بيروت وغيرها، وتوسَّطَت الدول ووضعَت نظام لبنان …»
«نزوح اللبنانيين وغيرهم من أنحاء سوريا إلى بيروت، على أَثَر حوادث سنة ١٨٦٠، أحدَث حركةً اجتماعية فيها، وزاد قدوم الأجانب إليها، للتجارة والتبشير في ظل الامتيازات الأجنبية، فتكاثَروا بعد ذلك، وأَنشَئوا المدارس على اختلاف أغراضها» (ص١٩). «لما عُمرَت بيروتُ بعد حوادث سنة ١٨٦٠ أنشأ الأميركان المدرسة الكلِّية» (ص٥٠). «فلما دخل العصر الثاني كانت سوريا قد أصابتها النكبات سنة ١٨٦٠ وقبلَها. وهاجر النَّاس من لبنان ودمشق إلى بيروت وغيرها، وجاء الإفرنج وأخذوا في نشر مذاهبهم وتعاليمهم في مدارسهم» (ص٢٢٦).
إن هذه العبارات وأمثالها الكثيرة تدُل على أن عمران بيروت كان — في رأي جرجي زيدان — نتيجة الحوادث المشئومة التي حدثَت سنة ١٨٦٠، كما أن مجيء الإفرنج وإقدامهم على تأسيس المدارس كان نتيجة هذا العمران، وكل ذلك يُوهم بأنه لو لم تحدث تلك الحوادث، وتَحمِل اللبنانيين على النزوح إلى بيروت، لَمَا عُمرَت المدينة المذكورة، ولَمَا جاء الإفرنج إليها وأَنشَئوا المدارس فيها.
ولكن من يُنعم النظر في كتاب جرجي زيدان يجد بين صحائفه المختلفة عشراتٍ وعشراتٍ من الوقائع والحقائق التي تُخالف هذه النظرية مخالفةً صريحة:
عندما يبدأ جرجي زيدان في التكلُّم عن النهضة الأدبية التي قامت في لبنان، خلال القرن التاسع عشر، ينتبه إلى كثرة عوامل هذه النهضة، فيقول — عقب القسم الأول من الفقرات التي نقلها آنفًا، وفي الصفحة التي تليها تمامًا — ما يلي:
- (١)
افتتاح أبواب التجارة، وتقاطُر الأجانب إلى بيروت.
- (٢)
انتشار مطبوعاتِ بولاق والآستانة ومطابع الآداب الشرقية بأوروبا.
- (٣)
نبوغ طائفةٍ من رجال الدولة العثمانية بالعلم والأدب، وأكثرهم تثقَّفوا في أوروبا وأحرزوا المناصب الرفيعة، فكانوا يشدُّون أزر المشروعات الأدبية، وسيأتي ذِكْر بعضهم بين أعضاء الجمعية السورية.
- (٤)
إنشاء المدارس على الطراز الحديث» (ص٢٠).
بهذه العبارات يُظهر جرجي زيدان «شيمة المؤرِّخ» الذي ينظر إلى وقائع التَّارِيخ بنظراتٍ واسعة، ويتحرَّى العوامل الأساسية التي أوجدَت تلك الوقائع. وهو ينتبه إلى العلاقة المتينة التي تربط النهضة الأدبية في سوريا، بنهضة مصر من جهة، وأحوال الدولة العثمانية من جهةٍ ثانية، وبتطوُّرات الأحوال العالمية من جهةٍ ثالثة.
ولكنه بعد أن يُسجِّل هذه العلاقات الجوهرية، ويشير إلى هذه العوامل الأساسية، بهذه الصورة الصريحة، يُهمِل هذه العوامل وتلك العلاقات إهمالًا تامًّا، وينصرف عنها كلها إلى عاملٍ آخر يعتقد بتأثيره اعتقادًا غريبًا، ويعتبره العامل الأصلي في النهضة الحقيقية. هذا العامل الأصلي — في نظر جرجي زيدان — هو حوادث سنة ١٨٦٠، وما تَبِعَه من تحوُّلات. إنه يَتَمسَّك بأذيال هذا العامل تمسُّكًا شديدًا، وينسى كل ما سواه.
إلا أن الأمور التي يذكُرها جرجي زيدان، دون أن ينتبه إلى أنها تُخالف النظرية التي يتمسك بها، لا تنحصر بما أسلفنا، بل إنه يذكر في مختلف الفصول في كتابه كثيرًا من مظاهر النهضة الفكرية والأدبية التي يرجع تاريخُها إلى ما قبلَ سنة ١٨٦٠.
- سنة ١٨٣٤: (أ) أنشأ العازاريون مدرسة في عينطورا لا تزال عامرة إلى الآن (ص٤٧). (ب) نقل المرسَلُون الأمريكان مطبعتَهم من مالطة إلى بيروت، وأخذوا يطبعون فيها الكتب العلمية والأدبية (ص٥٦).
- سنة ١٨٤٧: (أ) تأسَّسَت في بيروت الجمعية العلمية السورية (ص٧٩). (ب) أنشأ المرسَلون الأمريكان مدرسة في عبية، بمساعدة المعلِّم بطرس البستاني (ص٤٩). (ﺟ) أنشأ الآباء اليسوعيون مدرستهم في غزير (ص٤٩).
- سنة ١٨٤٨: (أ) أسَّس اليسوعيون المطبعة الكاثوليكية في بيروت (ص٥٦). (ب) مارون النقَّاش مثَّل رواية البخيل المشهورة، وبدأ بذلك التمثيل العربي (ص١٥٣).
- سنة ١٨٥٥: صدرت في الآستانة جريدة مرآة الأحوال باللغة العربية (ص٦٤).
- سنة ١٨٥٧: أنشأ خليل الخوري المطبعة السورية في بيروت (ص٥٦).
- سنة ١٨٥٨: أصدر المُومَى إليه جريدة حديقة الأخبار (ص٦٤).
- سنة ١٨٦٠: أصدر فارس الشدياق جريدة الجوائب في الآستانة (ص٦٥).
يُفهم من هذه الوقائع التي سجَّلها جرجي زيدان بنفسه، بأنه قبل سنة ١٨٦٠ كانت أُنشئت مدارسُ حديثة على يد إرسالياتٍ أوروبية وأمريكية، وكانت أُسِّست مطابعُ عربية عديدة، وكانت المطابع المذكورة نشَرت — بطبيعة الحال — كُتبًا علمية وأدبية كثيرة. وكان بدأ التمثيل العربي، وتولَّدَت الصحافة العربية، وتألَّفَت الجمعيات العلمية والأدبية.
ومع كل ذلك، لا يعتبر جرجي زيدان هذه الحركات كلها من مظاهر النهضة الحقيقية، ويدَّعي أن النهضة الحقيقية إنما بدأَت بعد سنة ١٨٦٠.
فيجدُر بنا أن نتساءل: لماذا؟ ما هي البراهين التي يُقيمُها زيدان لتبرير حُكْمه هذا؟ ما هي الأمور التي امتازت بها النهضة الأدبية التي حدثَت بعد سنة ١٨٦٠، عن النهضة التي سبقت السنة المذكورة؟ وهل تكفي هذه المَيْزاتُ لاعتبار السنة المذكورة مبدأ النهضة الحقيقية؟
- (أ)
إن مدارس البنات في سوريا ولبنان أُنشئت بعد السنة المذكورة؛ لإيواء البنات اللاتي تيتَّمن خلال حوادث السنة المذكورة.
- (ب)
إن المدارس الكبيرة — أي الكلِّيات — أُنشِئَت بعد إعمار بيروت، بسبب التجاء اللبنانيين إلى المدينة المذكورة.
فلندرُس كل واحدةٍ من هاتَين القضيتَين بنظراتٍ فاحصة جدية:
أولًا: قضية مدارس البنات، يقول جرجي زيدان في مستهل حديثه عن مدارس «الطور الثاني بعد سنة ١٨٦٠» ما يلي:
«أقدم مدارس هذا الطور في بيروت أُنشئت للبنات؛ لأن المهاجرين المنكوبين كان أكثرهم من الأرامل والأيتام، ممن فقدن أزواجهن وآباءهن في أثناء تلك الحادثة. وأسبقُ تلك المدارسِ إلى هذه الخدمة المدرسة الإنكليزية، أنشأتها مسز بوين طُمْسُنْ سنة ١٨٦٠، وتُعرَف الآن بمدرسة مسز موط، ثم المدرسة الكلية الإنجيلية الأميركانية للبنات، أُنشِئَت سنة ١٨٦١. ولا حاجة إلى بيان ما كان لهاتَين المدرستَين من العمل العظيم في نهضة السوريين؛ اكتفاءً بما لتعليم البنات من التأثير المشهود في ترقية الأُمَم» (ص٤٨).
ثم يُواصِل زيدان حديثَه في هذا المضمار قائلًا:
«وتفرَّع من هاتَين المدرستَين بعد ذلك مدارسُ كثيرة في بيروت ولبنان، نبغ منها نخبةٌ من ربَّات المنازل، فغمرن البيوت وأصلحن شئون الهيئة الاجتماعية» (ص٤٨).
لا شك في أن إنشاء المدرسة الإنكليزية المذكورة كان وثيق الارتباط بحوادث سنة ١٨٦٠، ولكن هل يُبرِّر ذلك القول بأن النهضة النسائية في لبنان بدأَت بفضل الأعمال التي أعقَبتْ وقائع السنة المذكورة؟
أنا لا أرى لزومًا للبحث فيما إذا لم يكن هناك شيءٌ كثير من المغالاة في القول بأن إنشاء مدرستَين لليتيمات كان العامل الأهم في النهضة التي قامت في بيروت، ولكني أرى من الضروري أن أسأل: هل المدرسة الإنكليزية التي ذكَرها جرجي زيدان — في الفِقرات التي نقلناها آنفًا — كانت أُولى مدارس البنات الحديثة في بيروت ولبنان؟
يظهر أن زيدان كان يزعم ذلك؛ لأنه لم يذكر أية مدرسة للبنات أُنشِئَت قبل سنة ١٨٦٠.
ولكن جورج أنطونيوس يقول في كتابه «يقظة العرب» إن أُولى مدارس البنات الحديثة في بيروت أُنشِئَت سنة ١٨٣٤، على يد الإنجيلي الأمريكي عالي سميث، بمساعدة زوجته الأمريكية.
كما أن النشرة الرسمية التي أصدرتها وزارة التَّربية الوطنية بلبنان عن معرض التَّعلِيم الذي أقامته في بيروت، بمناسبة انعقاد مؤتمر اليونسكو، تُشير إلى مدرسة البنات التي أُنشِئَت سنة ١٨٤٦ على يد راهبات المحبة، وإلى المدرسة التي أُنشِئَت سنة ١٨٤٧ على يد راهبات مار يوسف الظهور.
ونحن نستطيع أن نقول — بناءً على كل ذلك — أن ربط قضية تعليم البنات ونهضة النساء بوقائع سنة ١٨٦٠ يُخالِف الحقائق الثابتة مخالفةً صريحة.
ثانيًا: قضية المدارس الكبيرة، يقول جرجي زيدان، بعد أن يُشير إشارةً سريعة إلى المدارس الكبيرة التي أُنشِئَت قبل سنة ١٨٦٠: «على أن الأجانب لم يُنشئوا المدارس الكبرى في بيروت إلا في الطور الثاني، على أثَر حوادث سنة ١٨٦٠ المشئومة ومهاجرة اللبنانيين وغيرهم إلى بيروت، وبها بدأَت النهضة الحقيقية» (ص٤٧).
ثم يقول في موقعٍ آخر: «لما عُمرتْ بيروت بعد حوادث سنة ١٨٦٠ أنشأ الأمريكان المدرسة الكُلية التي نحن في صددها» (ص٥٠).
ولكن متى أُنشِئَت الكلية المذكورة؟ يجيب جرجي زيدان على هذا السؤال بقوله: «أنشأها المرسلون الأميركان في بيروت سنة ١٨٦٦» (ص٤٩)، فهل هذا يبرر القول بأن الفضل في هذا الإنشاء يعودُ إلى سنة ١٨٦٠ أو إلى ذيول السنة المذكورة؟
عندما نستعرض كُلَّ ما كتبه جرجي زيدان في هذا المضمار لا نجد فيه ما يُبرِّر هذا الاعتبار، بل — بعكس ذلك — نجد فيه كثيرًا من الحقائق والوقائع التي تُبرهن على بطلان هذا الرأي وهذا الاعتبار؛ لأن جرجي زيدان نفسه يقول — عقب العبارة التي نقلتها آنفًا: «وكانت مدرستهم في عبية تُعلِّم علوم الكليات الكبرى، من الرياضيات والطبيعيات وغيرها، وقد تقدَّم أنها أُنشِئَت سنة ١٨٤٧؛ فهي أقدم الكُليات العربية في سوريا على النمط الحديث، وقد تخرَّج فيها طائفةٌ من العلماء كانوا من جملة أركان هذه النهضة في سوريا، ومن معلِّمي مدارسها الكبرى» (ص٤٩).
أفلا تكفي هذه الكلمات وحدها لهدم النظرية التي يقول بها جرجي زيدان، ولإبطال قوله في أن النهضة الحقيقية بدأَت سنة ١٨٦٠؟
ولكن الكِتاب المذكور نفسه يتضمَّن من الوقائع ما هو أفعلُ في إبطال هذا القول وهدم تلك النظرية. يقول جرجي زيدان، بعد ذِكْر مدرسة عينطورا، خلال حديثه عما يُسمِّيه الطور الأول — قبل سنة ١٨٦٠ — ما يلي: سنة ١٨٤٠ «قَدِمَ الدكتور فانديك الشهير إلى سوريا، فجالَ فيها واختبر أحوالَها، فرأى البلادَ تحتاج إلى المدارس العليا، فأنشأ مدرسة عبية «لبنان» سنة ١٨٤٧، وهي مدرسةٌ عالية. وفي هذه السنة أنشأ الآباء اليسوعيون مدرستهم في غزير «لبنان»، والمنافسة بين الأمريكان واليسوعيين في إنشاء المدارس في سوريا من الأمور المألوفة» (ص٤٧).
إذن حتى إنشاء المدارس العالية كان قد بدأ قبل سنة ١٨٦٠، بمدةٍ غير قصيرة.
والكُلية الأمريكية التي أُنشئت بعد مرور ست سنوات على السنة المذكورة، كانت بدأَت تتكوَّن — في حقيقة الحال — قبل السنة المذكورة بمدةٍ لا تقل عن عشر سنوات.
ويقول جرجي زيدان عندما يتكلم عن فانديك: «اختاره مجمع المرسلين الأمريكان سنة ١٨٤٠ مرسلًا طبيبًا للديار السورية، فجاء بيروت وأخذ في درس اللغة العربية، واجتمع بالمعلم بطرس البستاني وهما شابَّان، فسكنا معًا وائتلفا، ولم يمضِ زمنٌ طويل حتى أتقن اللغة العربية، على اليازجي والأسير، وأصبح نُطقُه بها كأنه من أبنائها. وحفظ كثيرًا من أمثالها وأشعارها، وأحب الوطن السوري فاستهلكَ في خدمته، فأنشأ مدرسةَ عبية بلبنان. وأخذ في تأليف الكتب اللازمة للتدريس في الفنون الحديثة، فألَّف في الجبر والمقابلة والهندسة والمثلثات وسلك البحار والطبيعيات والجغرافيا قبل إنشاء المدرسة الكُلية» (ص٢١٨).
كما أنه يقول عندما يتكلم «عن دانيال بليس» إنه «كان مُرسَلًا للتبشير في سوريا سنة ١٨٥٦، فرأى البلاد بحاجة إلى كُليةٍ علمية تُمهِّد للطلبة تلقِّي العلوم الفنية كالطب وغيره، فاقترح على زملائه إنشاء هذه الكُلية، فأكبروا اقتراحَه، لكنه ثَبتَ وسافر إلى أمريكا لجمع المال اللازم، فنجح، وتألَّفَت لجنةٌ للعمل تحت رئاسته، أعضاؤها الدكتور فانديك وورتبات» (ص٥٠).
هل يُوجد في كل هذه التفاصيل التي نقلناها عن جرجي زيدان ما يدُل على قيام علاقةٍ ما — قريبة كانت أو بعيدة، قوية كانت أو ضعيفة — بين حوادث سنة ١٨٦٠ وبين إنشاء الكُلية الأمريكية سنة ١٨٦٦؟
إن كل المعلومات المسطورة في كتاب جرجي زيدان — وكل المعلومات الأخرى التي يمكن الحصول عليها في دراسة أعمال المرسلين الأمريكان في سوريا دراسةً تفصيلية — تدُل دلالةً قاطعة على أن الكُلية الأمريكية التي أُنشئت في بيروت سنة ١٨٦٦، لم تخرج إلى حيِّز الوجود إلا بعد جهودٍ شاقة استغرقَت مُدةً تقرُب من أربعين عامًا، وبعد استعداداتٍ جدية استَمرَّت مدةً تزيد على عشرين عامًا.
فكيف يجوز لنا أن نُسلِّم بأن الكُلية المذكورة أُنشِئَت من جرَّاء الأحوال التي نتَجَت عن وقائع سنة ١٨٦٠؟
يظهر من كل ما تقدَّم أن ما يذهب إليه جرجي زيدان، من أن النهضة الأدبية الحقيقية في سوريا ولبنان بدأت سنة ١٨٦٠، لا يستند إلى أي دليلٍ علمي معقول، بل إن كل الوقائع الثابتة تدُل دلالةً قاطعة على أن هذه النهضة كانت بدأَت قبل السنة المذكورة.
هذا، وأرى من المفيد أن أذكُر في هذا المقام ما ذهب إليه مؤلِّفٌ عربي آخر في أمر هذه النهضة وتاريخها:
يقول جورج أنطونيوس في الكتاب الذي نشَره بالإنكليزية — والذي تُرجِم إلى العربية بقلم علي حيدر الركابي — تحت عنوان يقظة العرب: «إن سنة ١٨٣٤ كانت نقطة التحَوُّل في تاريخ النهضة العربية في سوريا؛ وذلك لأنه في السنة المذكورة: (أولًا) أعاد الآباء العازاريون إنشاء مدرستهم في عينطورة. (ثانيًا) نقل المُرسَلون الأمريكان مطبعتهم العربية من مالطة إلى بيروت. (ثالثًا) أنشأ عالي سميث — بمساعدة زوجته — أول مدرسة للبنات. (رابعًا) شَرعَ إبراهيم باشا — بعد أن استولى على سوريا — في فتح مدارسَ ابتدائيةٍ عديدة، على نمط المدارس التي أسَّسَها والده العظيم في مصر.»
هذا، مع العلم بأن جورج أنطونيوس تخرَّج — مثل جرجي زيدان — من الكلية الأميركية ببيروت، وهو يعزو — مثل جرجي زيدان أيضًا — دورًا خطيرًا إلى الكُلية المذكورة في النهضة الأدبية العربية.
لا شك في أن رأي أنطونيوس في هذه القضية أقربُ إلى الحقيقة من رأي جرجي زيدان؛ لأنه يستند إلى وقائعَ تتصل بالأمور الأدبية والتَّعلِيمية اتصالًا مباشرًا، في حين أن نظرية جرجي زيدان تُحاوِل إرجاع الأمور إلى واقعةٍ لا تمتُّ إلى الأدب والتَّعلِيم بصِلةٍ حقيقية.
قلتُ عن رأي جورج أنطونيوس إنه أقرب إلى الحقيقة، ولم أقُل إنه عين الحقيقة، ذلك لأني أعتقد أن تواريخ النهضات لا يمكن أن تثبت بسنينَ معيَّنة؛ لأنها تُشبِه التيارات العظيمة التي تأتي من مسافاتٍ بعيدة، ومن مجارٍ مختلفة، وتستمر مدةً طويلة تارةً ظاهرة وطورًا مُتخفِّية.
ولهذا السَّبب فإن الذين يُحاوِلون أن يُحدِّدوا مبدأ نهضة من النهضات بسنةٍ معيَّنة بذاتها — مثلما تُعيَّن أدوارُ حياة الأفراد في تراجُم الأحوال — لا يستطيعون أن يُدرِكوا كُنْه الأمور حق الإدراك.
فيترتَّب على المؤرِّخ الحقيقي ألا يُحاول البحثَ عن سنةٍ يقفُ عندها أو يبدأ منها، بل يجب عليه أن يتبع كُلَّ الوقائع على توالي السنين؛ لكي يتبيَّن منها مجاري الحوادث رغم التوائها، ويستكشف منابعها رغم تعدُّدها، ويتوصَّل بذلك إلى معرفة العوامل المؤثِّرة فيها، رغم تشابُك هذه العوامل، ورغم كثرة الأستار التي تُخفيها عن الأبصار.
(٢) مقالةٌ جديدة مستندة إلى رأي جرجي زيدان
نشَرتْ إحدى المجلات العربية — خلال سنة ١٩٥٠ — مقالةً تطرَّقَت فيها إلى نهضة لبنان الأدبية، وعلَّلَتها بتأثير حوادث سنة ١٨٦٠، أُسوةً بجرجي زيدان.
أنقل منها ثلاث عباراتٍ لبحثها على ضَوء الحقائق التَّارِيخية الثابتة:
«كان من أثَر المذبحة الأليمة التي حدثَت سنة ١٨٦٠، أن لجأ اللبنانيون من قُرَاهم إلى بيروت، فتجمَّعت فيها الحركة، وأن وُضِعَ للبنان نظامه الخاص، ففُتح بابه للأجانب، فدخله المستعمرون والمبشِّرون من فرنسا وأمريكا، وأَنشَئوا في ظل الامتيازاتِ الكُليةَ الأمريكية سنة ١٨٦٦ والكُلية اليسوعية سنة ١٨٧٤.»
«وكانت المدرسة الوطنية التي أنشأها المعلِّم بطرس البستاني سنة ١٨٦٣ أوَّلَ مدرسة تخرَّج فيها صَفوةٌ من الأدباء، كانوا عمدة الكُليتَين الأمريكية واليسوعية في تعليم اللغة العربية.» «كانت المدرسة الوطنية في بيروت أثرًا لنظام لبنان الخاص».
- (أ)
إن مدينة بيروت ازدَهَرتْ من جرَّاء التجاء اللبنانيين إليها من قُرَاهم؛ هربًا من المذبحة الأليمة.
- (ب)
إن باب لبنان فُتِحَ للأجانب، ودخلَه المبشِّرون بعد حوادث ١٨٦٠، في ظل النظام الخاص الذي وُضِعَ للبنان بسبب تلك الحوادث.
- (جـ)
إن المدرسة الوطنية التي تأسَّسَت في بيروت سنة ١٨٦٣، والكلية الأمريكية التي أُنشِئَت هناك سنة ١٨٦٦، والكُلية اليسوعية التي تأسَّسَت في بيروت سنة ١٨٧٤، كُلها كانت من آثارِ نظام لبنان الخاص.
- أولًا: إن مدينة بيروت لم تدخل في نطاق «نظام لبنان الخاص» في يومٍ من الأيام.
- ثانيًا: إن باب لبنان كان مفتوحًا للأجانب والمبشِّرين، قبل حدوث وقائع سنة ١٨٦٠ بمدةٍ طويلة.
- ثالثًا: إن المدرسة الوطنية التي أسَّسَها المعلِّم بطرس البستاني لم تكن أُولى المدارس التي اهتمَّت باللغة العربية فخرَّجَت صفوةً من الأدباء.
إن نظرةً واحدة إلى خريطة من خرائط الجغرافيا العثمانية، وكتابٍ من كُتُب المسألة الشرقية، تكفي للتأكُّد من أن النظام الذي وُضِعَ عقب حوادث سنة ١٨٦٠، كان نظامًا خاصًّا بمُتصرفيَّة جبل لبنان وحدها، وأن المقر الرسمي لهذه المتصرفية الممتازة كان في «دير القمر».
وأما مدينة بيروت فكانت خارجة عن حدود متصرفية جبل لبنان، وعن نطاق شمول «النظام الخاص» الذي وُضِعَ لجبل لبنان. وقد ظلت المدينة المذكورة — مدة من الزمان — مقر متصرفيةٍ تابعة إلى إيالة الشام، ثم صارت — منذ سنة ١٨٨٨ — مركز ولايةٍ قائمة بنفسها تتبع في جميع شئونها النُّظمَ النافذة في سائر أنحاء الدولة العثمانية تبعيةً تامة، وكان الولاة الذين يقومون فيها لا يتدخَّلون في شئون الجبل، ولكنهم كانوا يُشرفون على إدارة ولايةٍ شاسعة الأطراف تمتد من جنوب حيفا إلى شمال اللاذقية، وكانوا مرجعًا لمتصرفيات عكَّا ونابلس وصيدا في الجنوب، وطرابلس واللاذقية في الشمال، وكانوا يُديرون شئون الولاية كما كانت تُدار شئون سائر الولايات العثمانية، من بغداد والبصرة، إلى مناستر وأشقودرة، ومن وان وأرضروم إلى أزمير وبروسه، وفقًا للقوانين والأنظمة التي تُقرِّرها الدولة لجميع الولايات والخطَط التي يرسمُها الباب العالي إلى جميع الولاة.
فكيف يمكن أن يُقال إن النهضة الأدبية والتَّعلِيمية التي قامت في مدينة بيروت، كانت من نتائج النظام الخاص الذي وُضِعَ للبنان، بعد حوادث سنة ١٨٦٠؟
هذا، ومن الثابت أن أبواب بيروت ولبنان كانت مفتوحة للأجانب منذ قرونٍ عديدة، وأن الإرساليات الدينية الأجنبية كانت تعمل في لبنان منذ القرن السادس عشر للميلاد، والآباء اليسوعيون — مثلًا — دخلوا تلك البلاد سنة ١٦٢٥، كما أن العازاريين والكيوجيين والفرنسيسكان لم يكونوا أحدثَ عهدًا منهم كثيرًا.
وهذه الإرساليات الدينية كانت أخذَت تهتم بأمور التَّعلِيم منذ أوائل القرن الثامن عشر للميلاد، فالعازاريون واليسوعيون — مثلًا — كانوا يُديرون مدرسة في عينطورة، وأخرى في زغرتا منذ سنة ١٧٣٥.
في الواقع أن اليسوعيين كانوا غادروا لبنان في أواخر القرن الثامن عشر، ولكن ذلك كان من جرَّاء أوضاعهم العالمية ومشاكلهم الأوروبية؛ ولهذا السَّبب فإنهم عادوا إلى لبنان حالما تمكَّنوا من تصفية مشاكلهم العالمية وإعادة تنظيمهم العام، بفضل مساعدات الفاتيكان، وذلك سنة ١٨٣١، وأما سائر الإرساليات الكاثوليكية فإنها لم تترك لبنان أبدًا.
وأما المُرسَلون الأمريكان فإنهم بدءوا نشاطهم في الشرق الأدنى بوجهٍ عام — وفي الشرق العربي بوجهٍ خاص — في الربع الأول من القرن التاسع عشر، فإن زعيمهم المشهور «عالي سميث» كان وصل بيروت سنة ١٨٢٧، ومات هناك سنة ١٨٥٧. وعالِمهم المعروف «فان ديك» بدأ يشتغل في بيروت منذ سنة ١٨٤٠. حتى إن «دانيال بليس» مُؤسِّس الكُلية الأمريكية كان قد وصل بيروت سنة ١٨٥٦. ويَظهَر من هذه الأرقام أن كل ذلك كان حدث قبل سنة ١٨٦٠.
هذا، ومن الثابت أن العازاريين أنشَئوا مدرسةً كبيرة في عينطورة سنة ١٨٣٤، واليسوعيون أنشَئوا مدرسة في الغزير سنة ١٨٣٤، وأن الإنجيليين الأمريكان أسَّسُوا مدرسةً في عبية سنة ١٨٤٧. ومن المعلوم أن مدرسة الغزير كانت أصل الكلية اليسوعية في بيروت، كما أن مدرسة عبية كانت فاتحة الكُلية الأمريكية في المدينة المذكورة.
أمام هذه الحقائق والوقائع التي ذكَرتُها آنفًا، هل يبقى أدنى مجال للشك في أن دخول المبشِّرين لبنان وإقدامهم على فتح المدارس في بيروت، كانا من الأمور التي لا تمتُّ إلى نظام لبنان الخاص بأية صلةٍ كانت؟
ومما يزيد اليقين في هذا المضمار أن النظام الذي وُضِعَ للبنان — بعد حوادث سنة ١٨٦٠ — لم يذكر التَّعلِيم والتبشير أبدًا، كما أنه لم يُخوِّل «المتصرفية» أية سلطة في الأمور التي تتصل بالدول الأجنبية. حتى إنه — بعكس ذلك — قد نصَّ بصراحةٍ تامة، على أن القضايا التي تحدث بين اللبنانيين والأجانب لا تدخل في اختصاصات «المحاكم اللبنانية»، بل إنها تُحال رأسًا إلى «محكمة التجارة» القائمة في بيروت، ولو كانت من القضايا المدنية البحتة التي لا تتصل بالأمور التجارية.
فنستطيع أن نقول بكل تأكيد: إن الامتيازات التي كانت تتمتَّع بها الإرساليات الدينية — والمدارس التابعة لها — في بيروت وفي لبنان، كانت من جملة الامتيازات الأجنبية التي كانت تسري على جميع البلاد العثمانية. إنها كانت بهذا الاعتبار من نتائج السياسة العامة التي سارت عليها الدولة العثمانية، ولم تكن قَط من نتائج النظام الخاص الذي وُضِعَ لمتصرفية جبل لبنان.
ومما لا يدع مجالًا للشك في هذا الأمر أن أمثال هذه الإرساليات كانت تشتغل في عددٍ غير قليل من الولايات العثمانية، وأمثال هذه المدارس كانت تنشأ وتزدهر في عددٍ كبير من مدن الأناضول والرومللي — من ماردين إلى أزمير، ومن أشقودرة إلى الآستانة — أيضًا.
ولذلك كله أقول: إن الزعم بوجود علاقة بين هذه المدارس الأجنبية وبين نظام لبنان الخاص، لا يتفق مع حقائق الأمر بوجهٍ من الوجوه.
- أولًا: إن المدرسة المذكورة أُنشِئَت في مدينة بيروت التي لم يشملها نظام لبنان الخاص، فلم تستفد لذلك من امتيازات لبنان بوجهٍ من الوجوه.
- ثانيًا: إن المدرسة المذكورة كانت مسبوقة بمدارسَ عديدة، اهتمَّت باللغة العربية اهتمامًا بالغًا.
ومما يبرهن على ذلك برهنةً واضحة أن مُؤسِّسها بطرس البستاني كان معلِّمًا للعربية في مدرسة عبية التي أنشأها المرسلون الأمريكان سنة ١٨٤٧، كما أنه كان قد تخرَّج من مدرسة عين ورقة التي اشتُهرتْ بإتقان اللغة العربية منذ مدةٍ طويلة.
ولزيادة التأكيد أنقل فيما يلي بعض العبارات التي كَتبَها عن هذه المدرسة الخوري إسطفان البشعلاني في كتابٍ مطبوع ببيروت سنة ١٩٢٥:
مدرسة عين ورقة أهم المدارس المسيحية في سوريا، ومن هذه المدرسة انبعثَت أنوار العلم والعرفان، وامتدَّت شعلة النهضة العلمية في سوريا وخرج منها رجالٌ كانوا واضعي أساس النهضة الحديثة مثل الشدياق والبستاني والدحداح …
وأما تاريخ تأسيس هذه المدرسة فيعود إلى ما قبل قيام نظام لبنان الخاص بمدةٍ تزيد على نصف قرن؛ لأنها أُسِّست فعلًا سنة ١٧٨٩.
فهل يجوز لنا أن نقول — مع ذلك كله — إن النهضة الأدبية في لبنان بدأَت بعد حوادث سنة ١٨٦٠، وبفضل النظام الخاص الذي وُضِعَ من جرَّاء تلك الحوادث؟
بعد هذه النظريات الانتقادية يجدُر بنا أن ندرس المسألة من أساسها، عن طريق استنطاق الوقائع واستقصاء الحقائق مباشرةً:
ما هي أسماء الأدباء والعلماء اللبنانيين الذين ساروا في طليعة المُجدِّدين للغة العربية؟ ما هي أسماء الكُتَّاب والمعلِّمين اللبنانيين الذين حادوا عن طرائق الأزهر في تعليم اللغة العربية، وألَّفوا الكُتب الحديثة بالطرائق المتَّبعة في اللغات الغربية؟ ألم يكن الرتل الأول من هؤلاء المجددين العظام؛ ناصيف اليازجي، وفارس الشدياق، وبطرس البستاني؟
فلنرجع إلى تراجم أحوال هؤلاء، ولنبحث في مبلغ تأثُّرهم بحوادث السنين؛ لكي نتبيَّن فيما إذا كانت تلك الحوادث — وما تَبِعَها من نُظِم وامتيازات — قد أثَّرت في تكوينهم الفكري والأدبي تأثيرًا يُذكَر:
كان ناصيف اليازجي من مواليد سنة ١٨٠٠، مما يدل على أن عمره كان قد بلغ الستين عند حدوث الوقائع المذكورة، فنستطيع أن نقول لذلك إنه كان — عندئذٍ — قد اجتاز سن الكهولة منذ مدةٍ غير قصيرة، حتى إنه كان قطع شوطًا كبيرًا في طريق الشيخوخة أيضًا، فكيف يجوز لنا أن نُعلِّل أعماله الأدبية واللغوية بما حدث في لبنان بعد سنة ١٨٦٠؟
وأما فارس الشدياق فكان من مواليد سنة ١٨٠٤، مما يدُل على أنه كان بلغ عندئذٍ السنة السادسة والخمسين من عمره. ونعرف من ترجمة حاله أنه قد تنقَّل خلال هذه المدة بين بيروت، والقاهرة، ومالطة، وتونس، وكمبريدج وباريس، إلى أن استقر أخيرًا في الآستانة، سنة ١٨٥٧. وأنشأ هناك مطبعة الجوائب المشهورة، وأخذ يطبع فيها الكتب العربية من جهة، وينشر جريدته المعروفة من جهةٍ أخرى، وهل يمكن لأحد أن يدَّعي — والحالة هذه — أن ذلك كان بتأثيرِ وقائع سنة ١٨٦٠، وما تَبِع تلك الوقائع من النظم والامتيازات؟
وأما بطرس البستاني فإنه كان أحدث سنًّا من هذَين؛ لأنه من مواليد سنة ١٨١٩، مما يدل على أنه كان — في سنة الستين — قد بلغ سن الواحدة والأربعين، ووصل بذلك إلى طور النضوج التام. ونحن نعلم من ترجمة حاله أنه كان تألَّم من الوقائع الدامية، فأصدر جريدة أسماها «نفير سوريا» ليدعو بها مُواطنيه إلى الاتحاد والوئام، ثم أنشأ المدرسة التي سمَّاها باسم المدرسة الوطنية ليغرس بذور الاتحاد والوئام في قلوب الناشئة منذ الصغر، مما يدل دلالةً واضحة على أنه كان أتَمَّ نضوجه الفكري، كما أنه كان نال حظًّا كبيرًا من النضوج السياسي أيضًا.
ولزيادة التأكيد، من المفيد أن نذكر هنا خلاصة ترجمة حال الرجل، نقلًا عن كتابٍ أصدَرَتْه وزارة التَّربية الوطنية بلبنان، عند انعقاد مؤتمر اليونسكو ببيروت:
«وُلِدَ المعلِّم بطرس البستاني في الدبيَّة سنة ١٨١٩، فتلقَّى مبادئ العربية والسريانية في مدرسة القرية. وأخذ العلم في مدرسة عين ورقة، فأتقن التَّارِيخ والجغرافيا والحساب، ودرس اللغات السريانية واللاتينية والإيطالية. وحصَّل المنطق والفلسفة واللاهوت الأدبي والنظري وأصول الحق القانوني، وألمَّ باللغة الإنكليزية. وفي سنة ١٨٤٠ نزل إلى بيروت، فتعرَّف إلى بعض مرسلي الأمريكان وأخذ يعاونهم في بعض تعاريبهم، حتى رغبوا إليه سنة ١٨٤٦ في تأسيسِ مدرسة عبية.
وفي السنة ١٨٤٨ عاد إلى بيروت، وراح يُنشِئ الجمعيات، ويؤلِّف الكتب، ويتضلَّع من اللغتَين اليونانية القَديمة والعبرانية، ويُحصِّل الكثير من العلوم العصرية الصحيحة، ويساعد الدكتور عالي سميث في تعريب أسفار الكتاب المقدَّس، إلى أن كانت السنة ١٨٦٠ والفتن الطائفية، فأصدر جريدة سمَّاها «نفير سوريا»، يدعو فيها إلى وحدة القلوب، حتى إذا أدرك أن لكل شيء بداية، وأن القلوب لا تتفق إلا إذا اعتادت الاتحاد والوئام منذ الصغر، أسَّس المدرسة الوطنية التي كان الشيخ ناصيف اليازجي أحد الأساتذة فيها.»
أفلا يتضح من كل سطرٍ من سطور هذه الترجمة المختصرة أن الأديب المشار إليه أيضًا كان قد نضج نضوجًا كاملًا — من الوِجهتين الأدبية والسياسية — قبل سنة ١٨٦٠؟
يظهر مما سبق أن النظرية القائلة بأن النهضة الأدبية في بيروت ولبنان قامت بعد وقائع سنة ١٨٦٠، وبفضل النظام الخاص الذي نشأ عن تلك الوقائع، لهي من النظريات الواهية التي لا تدعمها أيةُ حقيقةٍ من الحقائق التَّارِيخية الثابتة.
- أولًا: أُنشِئَت في بيروت مطابعُ عديدة قبل سنة ١٨٦٠، كان أقدمها مطبعة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس، التي أُنشِئَت في أواسط القرن الثامن عشر للميلاد، ثم المطبعة الأمريكية التي نُقلَت من مالطة إلى بيروت سنة ١٨٤٣. وبعد ذلك أنشأ الآباء اليسوعيون المطبعة الكاثوليكية التي بدأَت تطبع على الحجر سنة ١٨٤٨، ثم صارت تطبع على الحروف منذ سنة ١٨٥٤. وفي الأخير قام خليل الخوري وأنشأ «المطبعة السورية» سنة ١٨٥٧.
- ثانيًا: تألَّفَت في بيروت عدة جمعياتٍ علمية وأدبية قبل التَّارِيخ المذكور؛ الجمعية السورية التي أُنشِئَت سنة ١٨٤٧ بمساعي المُرسَلين الأمريكان، ثم الجمعية الشرقية التي أُنشِئَت سنة ١٨٥٠ بجهود الآباء اليسوعيين، وفي الأخير «الجمعية العلمية السورية» التي قامت مقام الجمعيتَين المذكورتَين سنة ١٨٥٧، وتألَّفَت من أُدباء ومفكرين ينتسبون إلى مختلف الطوائف الموجودة في البلاد.
- ثالثًا: بدأ خليل الخوري يُصدر جريدة «حديقة الأخبار» سنة ١٨٥٨.
- رابعًا: مثَّل مارون النقَّاش رواية البخيل سنة ١٨٤٨، وأعقبها برواياتٍ أخرى، ووضع بذلك أُسس التمثيل العربي.
أفلا يدُل ذلك كله على قيام حركةٍ أدبية قوية قبل حوادث سنة ١٨٦٠؟
(٣) الأسباب الحقيقية لازدهار مدينة بيروت
إن جميع الفقرات التي نقلتُها عن كتاب جرجي زيدان في «تاريخ آداب اللغة العربية» تدُل دلالةً واضحة على أن النظرية التي أبداها المؤلف في كيفية قيام النهضة الأدبية بلبنان، كانت مبنيةً على زعمه بأن ازدهار مدينة بيروت وعمارها، إنما نشأ عن نزوح اللبنانيين إليها، بسبب حوادث سنة ١٨٦٠ المشئومة.
إن تعليل ازدهار مدينةٍ من المدن بمثل هذه الحوادث العارضة لا يتفق مع سنن الاجتماع بوجهٍ من الوجوه، يجب ألا ننسى أن وقائع سنة ١٨٦٠ كانت من الكوارث العارضة التي لا تستمر مدةً طويلة، فإذا التجأ اللبنانيون من قُرَاهم إلى بيروت بسبب هذه الحوادث، فلماذا وكيف لم يعودوا إلى تلك القرى بعد زوال العاصفة، وعودة المياه إلى مجاريها؟ لا سيما وأن التدابير التي اتُّخذَت عقب تلك الوقائع، والنظم التي وُضِعت بعد ذلك، قد ضَمِنَت لهم الأمن والسلام بسرعةٍ كبيرة.
إن لازدهار مدينة بيروت ونموها أسبابًا أعمَّ وأدومَ من حوادث سنة ١٨٦٠؛ لأن مدينة بيروت لم تكن ميناء لجبل لبنان وحده، بل كانت — ولا تزال — ثغرًا لبَرِّ الشام بأجمعه، والطُّرق التجارية التي تبدأ منها كانت — ولا تزال — تتغلغل في بلاد الشرق الأدنى إلى مسافاتٍ بعيدة، فلا مجال للشك في أن أسباب ازدهار هذا المرفأ الهام تعود إلى تطوُّر التجارة العالمية بوجهٍ عام، وتوسُّع العلاقات التجارية بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية بوجهٍ خاص.
ولإظهار هذه العوامل الحقيقية، أرى أن أُوسِّع ساحة البحث إلى ما وراء سوريا، بإلقاء نظراتٍ سريعة إلى ما جرى في سائر أقسام الدولة العثمانية من جهة، وفي سائر أنحاء العالم المتمدِّن من جهةٍ أخرى.
(٣-١) نظرة إلى تاريخ الدولة العثمانية
إن الربع الثالث من القرن التاسع عشر كان عهد تحوُّلٍ هام في تاريخ الدولة العثمانية بوجهٍ عام، وفي تاريخ المسألة الشرقية بوجهٍ خاص.
بدأ هذا العهد بحرب القرم، ومعاهدة باريس، وفرمان التنظيمات.
من المعلوم أن إقدام روسيا على طلب منْحها حق حماية الأرثوذكس في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أثار قضية «المقامات المباركة» في فلسطين، وأوجد أزمةً سياسية حادة، تعدَّت حدود الدولة العثمانية، وشَمِلَت أهم الدول الأوروبية.
والدولة العثمانية، تمشيًا مع مقتضيات هذه الأوضاع الجدِيدة، أصدَرَت المنشور الذي عُرِفَ باسم منشور «التنظيمات الخيرية» أعلَنَت فيه «المساواة» بين جميع رعاياها، على اختلاف مِلَلهم ونِحَلهم، دون تمييز بين أديانهم ومذاهبهم. ولضمان هذه المساواة أخذت تُصلِح شئونها الإدارية والقضائية، وفق الأُسس الشائعة في البلاد الغربية؛ أحدثَت المحاكم النظامية، المدنية والتجارية والجزائية، ووضعت قوانينَ عصرية على نمط القوانين الأوروبية، تشمل أحكامها جميع رعايا الدولة، من مسلمين ومسيحيين، على وجه المساواة.
وبعد أن كانت جميع القضايا تُعرَض على المحاكم الشرعية، التي تحكم وفقًا للأحكام الشرعية، حُدِّدت اختصاصات المحاكم المذكورة، ونُقِلَ قِسْمٌ كبير من تلك الاختصاصات إلى المحاكم النظامية التي تحكم وفقًا لأحكام القوانين الجدِيدة.
وبعد أن كانت المحاكم الشرعية لا تقبل شهادة غير المسلمين على المسلمين، صارت المحاكم النظامية الجدِيدة لا تُفرِّق بين المسلم وغير المسلم، لا في الشهادة ولا في الحكم، ولا في التنفيذ.
ولا حاجة للبيان أن هذه «التنظيمات» الإصلاحية أوجدَت انقلابًا عظيمًا في الأمور الإدارية والقضائية، وأثَّرتْ تأثيرًا عميقًا في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية.
ومن الطبيعي أن هذا التأثير صار قويًّا، بوجهٍ خاص، في المدن التي — مثل مدينة بيروت — تضُم جماعاتٍ كبيرة من العناصر المسيحية، والتي يتيسر لها الاتصال والمتاجرة مع البلاد الأجنبية.
أفليس من البديهي أن هذه التحوُّلات الأساسية والشاملة قد أثَّرتْ في «عمار مدينة بيروت» وازدهارها، تأثيرًا أعمق وأدوم بكثير من التأثير الذي يعزوه جرجي زيدان إلى «تجمُّع اللاجئين» من جرَّاء حوادث سنة ١٨٦٠ العارضة؟
إن التنظيمات التي بدأَت في أواخر سنة ١٨٥٦، كانت أهم وأعظم الأطوار التي اجتازتها «حركة التجديد والإصلاح» في الدولة العثمانية. وهي تُعتبر أهم الخطوات التي خطَتْها الدولة نحو اقتباس النُّظُم الغربية، بعد إلغاء وإبادة الإنكشارية وتنظيم وتجديد الحياة العسكرية.
إن جرجي زيدان لا يُقدِّر أهمية هذه التنظيمات حق قدرها، فيذكُرها بصورة عرَضية، في الفصل الخاص بكُتب الإدارة والقضاء.
يقول المؤلِّف في مستهل هذا الفصل:
«للقضاء الإسلامي تاريخٌ طويل، يُقال بالإجمال إنه ظل قاصرًا على المحاكم الشرعية إلى أواسط القرن الماضي؛ إذ أصدر السلطان عبد الحميد فرمان الإصلاح بعد حروب القرم سنة ١٨٥٦. وفي جملة ذلك أعلن عزم الحكومة العثمانية على إنشاء محاكمَ نظاميةٍ مستقلة عن المحاكم الشرعية — وهو القضاء القانوني الحديث. وأخذت الدولة من ذلك الحين في وضْع النظم على النسق الأوروبي، وإصدار اللوائح والنظم المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية، ويجمع ذلك كله كتاب «الدستور»، وقد ترجمه إلى العربية نوفل نوفل المتقدم ذِكْره، وهو مطبوع، وفي جملته النظام القضائي وقوانينه، وهو أقرب إلى القوانين الفرنساوية مما إلى غيرها …» (ص٣٠١).
ولكنه لا يذكر شيئًا عن تأثير هذه التنظيمات في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولا في الحياة العلمية والأدبية.
في حين أن المؤلفات التركية حافلةٌ بأبحاثٍ مفصَّلة عن تأثير التنظيمات في شتى نواحي الحياة في الدولة العثمانية، من سياسية واجتماعية وتشريعية، وعلمية وأدبية.
وكل من يُلقي نظرةً استطلاعية على تاريخ الآداب العثمانية يجد أن أدب التنظيمات يُعتبر من أهم أدوار التجدُّد والانقلاب في التَّارِيخ المذكور؛ لأنه يمتاز عن الأدوار التي سبقَتْه امتيازًا صريحًا، بخطوط بارزة جدًّا، تتمثل فيها نزعة الاقتباس من الغرب بأجلى مظاهرها.
فيجدُر بمن يبحث في عوامل التطوُّرات التي حدثت بلبنان، أن يلتفت إلى هذا التيار القوي الذي كان غَمَر الدولة العثمانية بوجهٍ عام.
إن جرجي زيدان لا يفعل ذلك؛ لأن أنظاره كانت قد تمَسمَرت على تأثير حوادث سنة ١٨٦٠، فانصَرفَت إليها عن كل ما سواها، كما شرحتُ ذلك سابقًا.
ومع ذلك يُوجد في طيات كتابه بعض الوقائع التي تدل على أن حركة التنظيمات التي قامت في الدولة العثمانية، لم تخلُ من التأثير في تطوُّر الأدب العربي تأثيرًا مباشرًا أيضًا.
فإن جرجي زيدان يُشير إلى الوزير العثماني الشهير فؤاد باشا في موضعَين من الكِتاب: أولًا خلال تكلُّمه عن جريدة الأخبار، وثانيًا خلال تطرُّقه إلى الجمعية العلمية السورية.
فقد قال المؤلف ما يلي، بعد أن ذكر أن حديقة الأخبار صدرت في بيروت سنة ١٨٥٨، وأنها كانت أول جريدةٍ عربية صدَرتْ في المملكة العثمانية خارج الآستانة: «وبعد سنتين من صدورها جرت حوادث سوريا سنة ١٨٦٠، وجاء فؤاد باشا مندوبًا لتسوية مسائلها، فاقترح على خليل الخوري (صاحب الجريدة المذكورة) أن يجعلها شِبْه رسمية، وعيَّنت له الحكومة راتبًا شهريًّا، ريثما صدَرتْ جريدةُ سوريا الرسمية» (ص٦٤).
كما أنه قال — بعد أن تكلَّم عن الجمعية العلمية السورية (التي تأسَّسَت سنة ١٨٥٨) وذكر أسماء البعض من أعضائها: «وكان بينهم جماعةٌ من كبار رجال السياسة بالآستانة؛ منهم فؤاد باشا الشهير ورشدي باشا ومصطفى فاضل باشا …» (ص٣١).
بعد نقلِ هذه الكلمات من كتاب جرجي زيدان نفسه، يجدُر بنا أن نشير إلى أن فؤاد باشا الذي يذكره المؤلف بهذه الصورة العارضة كان من صناديد عهد التنظيمات؛ إذ من المعلوم أن سياسة التنظيمات تمثَّلَت في ثلاثة من الوزراء العظام، هم: رشيد باشا، وعالي باشا، وفؤاد باشا.
وفؤاد باشا هذا كان أُوفد إلى سوريا، بسلطاتٍ واسعة النطاق؛ لتسكين الفتن التي قامت سنة ١٨٦٠، فقد عالج القضايا بحزم وكياسة، وعاقَب المجرمين والمتهاونين بشدة، مبتدئًا بإعدام والي الشام.
ونفهم من العبارات التي نقلناها عن جرجي زيدان أنه لم يُهمِل الحركات الأدبية، بل شجَّع جريدة حديقة الأخبار بمنح صاحبها راتبًا شهريًّا، كما شجَّع الجمعية العلمية السورية بالانتساب إليها، والدخول بين أعضائها.
ونستدل من ذلك كله على أن رجال التنظيمات العثمانية كانوا قد اتصلوا برجال النهضة الأدبية العربية، في سوريا ولبنان، اتصالًا مباشرًا.
ولكن في كتاب جرجي زيدان دليلٌ أقوى وأوضح من ذلك أيضًا على هذا الاتصال:
قال جرجي زيدان — خلال الكلام عن تأسيس الصحف العربية السياسية — ما يلي:
«وخَطَت الصحافة العربية خطوةً مهمة، سنة ١٨٦٠، بظهور الجوائب في الآستانة، لصاحبها أحمد فارس الشدياق، أحد أركان النهضة العربية الأخيرة. وكان للجوائب شأنٌ عظيم عند أدباء العرب، ونفوذ لدى ولاة الأمر بالآستانة وغيرها، وكانت ميدانًا لأقلام أدباء ذلك العصر، للمناظرة والمناضلة، وما زالت تصدر إلى سنة ١٨٨٤» (ص٦٥).
ومن الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى تدليل أو إيضاح، أن صدور هذه الجريدة العربية في عاصمة الدولة العثمانية، وتأسيس مطبعة الجوائب التي أخذَت تَطبَع هناك طائفةً من الكتب العربية القَديمة والحديثة، مما لا يمكن أن يُعزى إلى تأثير سنة ١٨٦٠ المشئومة بوجهٍ من الوجوه، بل هو مما لا بد من تعليله على ضَوء سَير التَّارِيخ العثماني من جهة، وتقدُّم الحركة العربية العامة من جهةٍ أخرى.
(٣-٢) نظرة إلى تاريخ العالم
وقبل إنهاء هذا الفصل أَوَدُّ أن أخطو خطوةً أخرى، في سبيل توسيع نطاق البحث، بإلقاء نظراتٍ سريعة إلى صفحات التَّارِيخ العام؛ لاستكمال وسائل الاستطلاع على العوامل المتعلقة بازدهار مدينة بيروت، في الربع الثالث من القرن التاسع عشر، ولا سيما بعد سنة ١٨٦٠.
ماذا كانت أحوال العالم في ذلك التَّارِيخ؟ ماذا كان اتجاه الحضارة العالمية، في الفترة الزمنية التي اعتبرها جرجي زيدان «عهد النهضة الحقيقية» بلبنان؟
بين يدَيَّ الآن كتابٌ من أحدث مؤلَّفات «التَّارِيخ العام» المنشورة باللغة الفرنسية، وهو المجلد السابع عشر من «كليات التَّارِيخ العام»، التي نُشِرت تحت نظارة الأستاذَين «لويس هالفين» و«فيليب سانياك» تحت عنوان «شعوب وحضارات».
وقد اشترك في تأليف هذا المجلد ثلاثةٌ من أساتذة الجامعات الفرنسية، وعنونوه بهذا العنوان: «من الليبرالية إلى الإمبريالية» (من ١٨٦٠ إلى ١٨٧٨).
يظهر من ذلك أن هذا المجلد يتضمَّن وقائع دورةٍ تاريخية استَغرقَت ثماني عشرة سنة بعد سنة ١٨٦٠.
نعم، سنة ١٨٦٠، نفس السنة التي حدثَت فيها وقائع سوريا المشئومة، والسنة التي اعتَبرها جرجي زيدان «مبدأ النهضة الحقيقية» بلبنان، بسبب نزوح اللبنانيين وغيرهم إلى مدينة بيروت وتجمُّعهم فيها. هذه السنة يعتبرها مؤلِّفو الكتاب المذكور سنة تحوُّلٍ هام في التَّارِيخ العام.
ولا حاجة إلى البيان أن اعتبارهم هذا لم يكن مبنيًّا على أسبابٍ مماثلة للأسباب التي ذكرها جرجي زيدان، بل كان مبنيًّا على أسبابٍ هامة أخرى، تتعلَّق بالتطورات الاقتصادية والسياسية العظيمة التي شَمِلَت جميع أنحاء العالم تقريبًا.
يستعرض المؤلِّفون — في أكثر من خمسمائة صفحة — الحوادث السياسية والاقتصادية التي توالت في أوروبا وآسيا وأمريكا بعد السنة المذكورة. ويشرحون بوجهٍ خاصٍّ ما حصل من التطوُّراتِ الهائلة إلى الحياة الاقتصادية العالمية. ويخلُصون من أبحاثهم هذه في القول بأن هذه الفترة من التَّارِيخ كانت عهد تطوُّرٍ عظيم في التجارة العالمية؛ لأنها انتقلَت خلال هذه المدة من الطور البري إلى الطور البحري، بوجهٍ عام.
ومن جملة ما قاله المؤلِّفون — خلال استعراض وشرح هذه التطورات: «في أوائل سنة ١٨٦٠، تم التوقيع على معاهدة التجارة المنعقدة بين فرنسا وإنكلترا، وانتهى عهد الحماية الاقتصادية التي كانت تُعيق التجارة، وبدأ عهدٌ جديد من الحرية الاقتصادية والعلاقات السلمية بين الدول الأوروبية.
وفي السنة المذكورة دخلَت جيوش الدول الأوروبية مدينة بكين، وفتحَت أبواب الصين إلى التجارة العالمية … واستقَرَّت فرنسا في عاصمة الهند الصينية، واحتلَّت إنكلترا مضايق المالايو، وشقَّت روسيا طريقها نحو البحر المحيط الهادي من مرفأ فلاديفوستك … وأدى كل ذلك إلى توسيع نطاق التجارة العالمية توسيعًا كبيرًا جدًّا …
وفي الوقت نفسه أخذَت تتوالى وتتعمَّم بعض الاختراعات التي تتعلق بوسائل المناقلة والمواصلات بوجهٍ عام، وبوسائل المناقلات البحرية بوجه خاص … في الواقع أن السفن البخارية كانت اختُرِعت قبل سنة ١٨٦٠ بمدةٍ غير قصيرة. غير أنها — خلال تلك المدة — لم تستطع أن تلعب دورًا كبيرًا في النقليَّات التجارية؛ لأنها كانت كثيرة التكاليف، فظلَّت واسطة لنقل الرُّكاب دون البضائع الثقيلة. وأما النقليات التجارية فظلَّت تعتمد على السفن الشراعية، في الدرجة الأولى.
ولكن بعد سنة ١٨٦٠ حدث تقدُّم كبير في صناعة السفن البخارية، تقدُّم أدى إلى تغيير هذه الأوضاع رأسًا على عقب؛ تعمَّمَت طريقة استعمال الرفَّاسات الخلفية، عوضًا عن الدواليب الجانبية لتحريك السفن البخارية. كما تحسَّنَت المكائن المحركة نفسها، لاستعمال الكبَّاسات عوضًا عن الموزنات لتحويل الحركة المتناوبة إلى الحركة المستديمة … وفي الأخير تقدَّمَت صناعة الفولاذ تقدُّمًا كبيرًا، أمكن معه صُنْع هياكل السفن البخارية من الفولاذ عوضًا عن الخشب … وكل هذه الاختراعات والتحسينات ساعدت على تضخيم أحجام السفن وتزييد سرعتها … وتقليل نفقاتها بمقياسٍ واسع جدًّا … مما جعلها عاملًا هامًّا في ازدهار التجارة البحرية ازدهارًا سريعًا … وأنهى عهد الاقتصاد المسدود … ونظام «التبادل التجاري الخاص بالبلاد المتجاورة» … وفتح عهد «الأسواق العالمية …»»
ويقول المؤلِّفون بعد سنة ١٨٦٠، وعلى الأخص في أثناء الحروب الأهلية الأمريكية — التي كانت شلَّت النشاط الصناعي والتجاري مؤقتًا — اكتَسبَت «قوة الاتساع الاقتصادي» شدةً خارقة لم يُعرَف لها مثيل أبدًا، وغيَّرت معالم الحياة التجارية تغييرًا كليًّا.
ولا حاجة إلى البيان أن هذه الانقلابات تجلَّت بأجلى مظاهرها، في توسُّع التجارة البحرية، وازدهار الموانئ والمدن الساحلية.
بعد هذا الاستعراض السريع لتطوُّر الأحوال الاقتصادية والتجارية في العالم بعد سنة ١٨٦٠، يجدُر بنا أن نتساءل: أفما كان من الطبيعي أن تزدهر مدينة بيروت ازدهارًا كبيرًا تحت تأثير هذه التطوُّرات العالمية، من جرَّاء تقدُّم وتوسُّع وسائل المناقلة بينها وبين سوريا الداخلية من جهة، وبينها وبين بلاد ما وراء البحار من جهةٍ أخرى؟
وكيف يجوز لنا أن نَعزُوَ ازدهار هذه المدينة الساحلية إلى حادثٍ عارض مثل «نزوح اللبنانيين إليها من جرَّاء حوادث ١٨٦٠ المشئومة»، متغافلين عن كل هذه العوامل والتيارات العالمية؟