من أوهام كُتَّاب التَّارِيخ: مسألةٌ تاريخية في مجلةٍ تركية حول معبد الجهني
تمهيد
في أواسط سنة ١٩٣٧ أُقيمَت احتفالاتٌ تذكارية شائقة في كابل، وطهران، وإستانبول، لمناسبة مرور تسعمائة عامٍ على وفاة ابن سينا. أُقيمَت الاحتفالات في كابل؛ لأنهم زعموا أن هذا الفيلسوف الشهير كان من أولاد الأفغان، وفي طهران؛ لأنهم قالوا بأنه إيراني صميم، وفي إستانبول لأنهم ادَّعوا بأنه تُركي الأصل.
إن التنازُع حول جنسية ابن سينا على هذا المنوال اكتسب شدةً خاصة بين إستانبول وطهران، وفتح بابًا لمناقشاتٍ علمية تَلفِت الأنظار.
وبوسيلة الاحتفالات المذكورة قد اشترك جماعة من علماء الأتراك في وضْع سِفْرٍ كبير عن ابن سينا. كما أقدم عالِمٌ إيراني على نشر ترجمة «القانون» إلى اللغة الإيرانية. وقد صدَّر المترجم الترجمة بمقالةٍ خاصة انتقد فيها مدَّعيات الأتراك في نَسب ابن سينا انتقادًا شديدًا، فقال في جملة ما قاله في هذا الصدد ما مُؤدَّاه:
«يحق لكل شرقي ولكل مسلم أن يفتخر بابن سينا، بصفته عالِمًا ومفكرًا شرقيًّا وإسلاميًّا، فيحق للأتراك أيضًا أن يفتخروا به بهذا الاعتبار، غير أنه لا يحق لهم أن يفتخروا به باعتباره تركيًّا؛ لأن الزعم في تُرْكيته لا يستند إلى أي دليلٍ علمي. يدَّعون بأنه تُركي الأصل لأن المدينة التي وُلِدَ فيها تركية، ولكنهم يغُضُّون النظر عن حقائق التَّارِيخ، التي تشهد بأن المدينة المذكورة لم تكن عندئذٍ تركية، بل كانت إيرانية بكل معنى الكلمة. هذا، ومن المعلوم أن ابن سينا خلَّف مؤلَّفاتٍ كثيرة باللغة العربية، وبعض الكتابات باللغة الإيرانية، غير أنه لم يُخلِّف ولو كتابًا واحدًا باللغة التركية. ومما يجدُر الانتباه إليه بوجهٍ خاص أن ابن سينا — في بعض المواضع من مؤلفاته المختلفة — تطرَّق إلى قواعد بعض اللغات، وذكر بعض الأمثلة من اللغات التي يعرفها، وليس بين تلك الأمثلة مثالٌ واحد من التركية …»
إن مقال العالِم الإيراني لم يَرُقْ لمؤرِّخي الأتراك، فانبرى أحدهم — بعد مدة — إلى الرد على ذلك بمقالةٍ مطوَّلة، نشرها في العدد الثالث عشر من «مجلة مجمع التَّارِيخ التركي».
وقد حاول صاحب المقالة المذكورة، شمس الدين كون آلتاي، تفنيد مزاعم العالِم الإيراني في أصل ابن سينا، مدعيًا بأن «بخارى» كانت تركية منذ أقدم الأزمنة، ثم وسَّع ساحة البحث والنقاش توسيعًا كبيرًا، فادَّعى أن بخارى كانت مركز علم راقٍ وثقافة سامية قبل وصول العرب والإسلام إليها أيضًا. وزاد على كل ذلك دعوى جديدة، قائلًا إن الحركة الفكرية التي بدأَت في البصرة، في أوائل الإسلام، كانت من آثار ثقافة ما وراء النهر؛ لأن قادة هذه الحركة الفكرية كانوا من الأتراك الذين نقلهم عبيد الله بن زياد من بخارى إلى البصرة.
ولما أصبَحَت المسألة بهذه الصورة من المسائل الأساسية التي تمس تاريخ بدء النهضة الفكرية في صدر الإسلام بوجهٍ عام، رأينا أن نُنعم النظر في هذه المدَّعيات لإظهار مبلغ مطابقتها للوقائع التَّارِيخية الثابتة.
نحن لا نرى لزومًا لاستعراض جميع الآراء والمباحث الواردة في هذه المقالة المطوَّلة والمتشعِّبة؛ فإن ما يهمُّنا من تلك الآراء والمباحث هو ما يحوم حول النظرية الأخيرة وحدها؛ ولذلك سنحصُر بحثنا ونقاشنا في القسم المتعلق بالنظرية المذكورة.
١
يقول «شمس الدين كون آلتاي» في البحث الذي نحن بصدده ما ترجمَتُه حرفيًّا:
«إن عبيد الله بن زياد (الذي كان وُلِّي على خراسان مأمورًا للاستيلاء على ما وراء النهر في عهد الخليفة معاوية) كان قد أُعجب إعجابًا شديدًا بالثقافة العالية والمهارة العسكرية التي يتحلى بها أهل بخارى، فانتخَب من بينهم ألفَي شاب من المهذبين المنورين، وأرسلهم إلى العراق بُغْية جعْلهم معلِّمين للعرب، وأسكنهم البصرة.
إن هذه المعلومات التي ينقلها إلينا أقدم مؤرخي الإسلام «البلاذري» تحل اللغز الذي كان يكتنف مسألة منشأ الحركة الفكرية الأولى في الإسلام. لماذا نشأت هذه الحركة في مدينة البصرة أولًا؟
لأن الذين أثاروا هذه الحركة الفكرية الأولى كانوا هؤلاء الشُّبان المنقولين من بخارى هم وأولادهم.
إن الشخصَين اللذين كانا وضعا الحجر الأساسي في بناء المذهبَين المتعارضَين في اللاهوت — ذَيْنِكَ المذهبَين اللذَين ظهرا قبل ابن سينا — كان كلاهما من أهل ذلك القُطر. إن معبد الجهني الذي أسَّس المذهب القائل بحرِّية الإرادة البشرية كان قد وُلِدَ في بلدة جهينة الكائنة في نواحي جرجان وطبرستان، كما أن جهم بن صفوان الذي أسَّس المذهب المعارض لذلك؛ أعني المذهب الذي لم يُسلِّم بوجود حرِّية الإرادة عند الإنسان والذي ربط كل شيء بتقدير قُدرةٍ فوق قوة الإرادة البشرية، وهو أيضًا كان تركيًّا من أهل بلخ، وكان قد تقدَّم بآرائه هذه لأول مرة في مدينة «ترمذ» من ديار الأتراك. إن هذَين المذهبَين اللذَين ظلَّا يتصادمان في اللاهوت الإسلامي مدة قرون، أحدهما تحت اسم القدرية والآخر تحت اسم الجبرية، كانا قد انبثقا من أدمغة تُنسب إلى البيئات التي ستُنشئ ابن سينا …»
- (أ)
إن عبيد الله بن زياد نقل من بخارى إلى البصرة ألفَي شاب من منوري الأتراك ليُعلِّموا أولاد العرب؛ لأنه كان قد أُعجب بثقافتهم العالية، بجانب مهارتهم العسكرية.
- (ب)
إن معبد الجهني الذي أسَّس مذهب حرية الإرادة كان تركيًّا، وُلِدَ في بلدة جهينة الكائنة في طبرستان.
- (جـ)
إن مؤسس مذهب الجبرية هو جهم بن صفوان التركي.
هذه الوقائع والقضايا يعتبرها كاتب المقالة من الحقائق الثابتة بنصوصٍ صريحة واردة في أمهات الكتب العربية القَديمة، ويُشير في ذيل كل فقرة من هذه الفقرات إلى الكتاب الذي يشهد على صحة هذه القضية.
فعلينا أن نراجع الكتب المشار إليها لنقرأ النصوص فنرى مبلغ أمانة الكاتب في نقلها، ومدى إصابة البراهين التي استَخرجَها منها.
٢
يُشير الكاتب في ذيل الفقرة الأولى، بقصد البرهنة على ما جاء فيها، إلى الصفحة ٤١٠ من فتوح البلدان للبلاذري، وإلى تاريخ التمدُّن الإسلامي لجرجي زيدان.
لقد فتحنا الصفحة ٤١٠ من فتوح البلدان، وقرأناها باهتمامٍ وإمعان، غير أننا دُهِشْنا من هذه القراءة دهشةً عظيمة؛ لأننا رأينا أنها بعيدة عما يدَّعيه محرر المقال بُعْدًا غريبًا. إن كل ما جاء في الصفحة المذكورة حول هذه القضية ينحصر في العبارة التالية: «… فتح «عبيد الله بن زياد» الصغانيان، وقدِمَ معه البصرة بخلقٍ من أهل بخارى ففرض لهم.» فلا يُوجد هناك كلمةٌ واحدة تدل على إعجابه بثقافتهم العالية، ولا حرفٌ واحد يدل على أن القصد من نقْلهم إلى البصرة كان اتخاذهم معلِّمين للعرب.
قد يخطر على البال: لعل الكاتب أخطأ في رقم الصحيفة. إن هذا الاحتمال خطر ببالي أنا أيضًا حينما رأيت هذا البون الكبير بين ما كتبه البلاذري وبين ما ادَّعاه الأستاذ شمس الدين مستندًا على هذه الكتابة، فرأيتُ أن أتيقَّن من الأمر، فأعدت قراءة كل ما كتبه البلاذري حول أعمال عبيد الله بن زياد، ولم أعثر على كلمةٍ واحدة تؤيِّد مزاعم الكاتب في الصفحات الأخرى أيضًا.
يتطرق البلاذري إلى هذه القضية في الصفحة ٣٧٦ من «فتوح البلدان» أيضًا فيقول: «قالوا: كان عبيد الله بن زياد سبى خلقًا من أهل بخارى، ويُقال بل نزلوا على حُكْمه، بل ويُقال دعاهم إلى الأمان والفريضة، فنزلوا على ذلك ورغبوا فيه، وأسكنهم البصرة.» ولم يذكر كلمةً واحدة تدل على علو ثقافة هؤلاء، أو تُشير إلى مهمة التَّعلِيم التي عُهِدت إليهم على زعم كاتب المقال.
يظهر من ذلك بكل وضوح أن محرر المقال لم يعمل بالواجب العلمي الذي يتطلب من كل باحث أن يلتزم الأمانة في النقل والاستشهاد، وسوَّغ لقلمه أن يسند إلى البلاذري ما لم يقُل به أبدًا.
وأما استشهاده بتاريخ «التمدُّن الإسلامي» لجرجي زيدان، فهو أيضًا مما لا يستند إلى أساسٍ صحيح بوجه من الوجوه. إنه يذكر اسم الكتاب في ذيل الفقرة بجانب «فتوح البلدان» من غير أن يُشير إلى الصفحة التي تؤيد مُدَّعاه. مع ذلك لقد تيقنَّا — بعد المراجعة والدرس — بأن جرجي زيدان لم يكتب قَط شيئًا يؤيد ما يدَّعيه الأستاذ شمس الدين؛ فإنه يشير إلى واقعة نقل بعض البخاريين، في الفصل الباحث عن نظام الاجتماع في عهد الأُمويين؛ حيث يقول: «نقل الحجَّاج جماعة من شط السند إلى العراق وأسكنهم بأسافل كسكرة، وسبى عبيد الله بن زياد خلقًا من أهل بخارى وأسكنهم البصرة.» غير أنه لم يقُل كلمةً واحدة عن ثقافة هؤلاء ومهمتهم التَّعلِيمية.
والأغرب من ذلك أن جرجي زيدان يكتب في بحث «الأتراك والإسلام» فِقرةً تدل على عكس ما يزعمه الكاتب تمامًا، يقول جرجي زيدان: «كان الأتراك يومئذٍ يمتازون عن سائر الشعوب التي دانت للمسلمين بقوة البدن، والشجاعة، والمهارة في رمي النشَّاب، والصبر على الأسفار الشاقة فوق ظهور الخيل، والثبات في ساحة الوغى، مع قلة العناية بالعلوم، ولا سيما الفلسفة وعلم الطبيعة، وقلَّما اشتغل أحدٌ منهم بدرسها في إبَّان التمدُّن الإسلامي. واشتُهر ذلك عنهم حتى أصبحوا إذا سمعوا بتركي يشتغل بالعلم الطبيعي ذكروه مع الاستغراب، كما فعل ابن الأثير لما أشار إلى معرفة قتلمش علم النجوم فقال: «من العجيب أن هذا قتلمش كان يُعلَم علم النجوم وقد أتقنه مع أنه تركي» (ج٤، ص١٥٦).»
إنني لا أَوَدُّ أن أبحث فيما إذا كان ما كتبه جرجي زيدان في هذا الصدد موافقًا لحقائق التَّارِيخ أم مخالفًا لها. غير أني أَوَدُّ أن أُظهر استغرابي العظيم من إقدام مُحرِّر المقال على الاستشهاد بكتاب جرجي زيدان لتأييد نظريته الجدِيدة؛ تلك النظرية التي تزعُم بأن الحركة الفكرية الأولى في الإسلام انبثقَت من أدمغة الأتراك الذين نقلهم عبيد الله بن زياد من بخارى إلى البصرة، وذلك على الرغم من وجود الفقرات التي ذكرناها آنفًا في كتاب جرجي زيدان.
هذا، وإذا تركنا هذَين الكتابَين جانبًا، بالرغم من أن كاتب المقالة لم يَستَشهِد بغيرهما، واستنطقنا التواريخ القَديمة الأخرى، لا نجد فيها أيضًا ما يؤيد زعم الأستاذ شمس الدين في هذا الصدد.
إن ياقوت الحموي، مثلًا، يشير بدوره إلى هذه الواقعة فيقول: «وعاد عبيد الله بن زياد إلى البصرة في ألفين من سبي بخارى كلهم جيد الرمي بالنشَّاب ففرض لهم العطاء» (المجلد ١، ص٥٢٠). ويذكُر بهذه الصورة مهارة القوم في الرمي، غير أنه لا يبحث أبدًا عن ثقافتهم العالية أو «مهمتهم التَّعلِيمية» كما يدَّعيه صاحب المقالة.
ولهذا كُلِّه لا نتردَّد في القول بأن ما يدَّعيه «شمس الدين كون آلتاي» في هذا الصدد لا يستند إلى أيِّ دليلٍ تاريخي كان.
٣
أما القضية الثانية، وهي المتعلقة بنَسب معبد الجهني والقائلة بانتسابه إلى الجنس التركي وبولادته في طبرستان، فيُحاوِل صاحب المقالة أن يُبرهِن عليها بكتابَين عربيَّين مهمَّين يذكُرهما في ذيل الصحيفة؛ كتاب المِلل والنِّحَل للشهرستاني، وكتاب معجم البلدان لياقوت الحموي، ينقل الكاتب من الأول ما قاله عن حدوث «بدعة معبد الجهني في آخر أيام الصحابة»، كما ينقل من الثاني قوله: «وجهينة أيضًا قلعةٌ بطبرستان حصينةٌ مكينة عالية في السماء.»
إننا نُسلِّم بأن ما ينقله الكاتب من هذَين الكتابَين صحيح تمامًا، غير أننا لا نفهم كيف يَستشهِد بذلك لتأييد مُدَّعاه؟ كيف يستطيع أن يستنتج من هذه العبارات — من غير أن يخرج على أبسط قواعد المنطق العلمي — بأن الجهني وُلِدَ في جهينة طبرستان؟ فهل يستطيع أن يدَّعي أنه لا يُوجد في الدنيا شيء يُسمَّى «جهينة» غير هذه القلعة الكائنة في طبرستان؟
أولًا: يجب أن يلاحَظ أن العبارة التي ينقلها صاحب المقال من ياقوت الحموي تحتوي على لفظة «أيضًا»، مما يدل بصراحة على أنه سبق لياقوت أن تكلَّم عن جهينة أخرى، وفي الواقع كل من يراجع مادة جهينة في معجم البلدان يرى أن المؤلِّف يبدأ بذكر جهينة أخرى حيث يقول: «قريةٌ كبيرة في نواحي الموصل على دجلة، وهي أول منزل لمن يريد بغداد من الموصل. وعندها مرج يُقال له مرج جهينة.» ثم يُشير إلى من ينتسب إلى القرية المذكورة، ويذكر بعض التفاصيل عن تاج الإسلام الجهني وأبو الفرج الجهني. وبعد كل ذلك يكتب العبارة الأخيرة: «وجهينة أيضًا قلعةٌ بطبرستان حصينةٌ مكينة عالية في السماء».
إن ياقوت الحموي يُعلمنا إذن أن اسم جهينة يُطلق على موضعَين؛ الأول قرية كبيرة في الموصل، والثاني قلعة حصينة بطبرستان. وأما الأستاذ شمس الدين فلم يلتفت إلى ما ذكره ياقوت أولًا، بل يتمسك بما ذكره في الأخير، كأن مجرَّد وجود قلعةٍ باسم جهينة في طبرستان يكفي للدلالة على أن معبد الجهني تُركيٌّ مولودٌ هناك.
إن مَحل قرية جهينة معلومٌ في نواحي الموصل إلى الآن، وقد ذكرها ابن الأثير في تاريخه عدة مرات؛ في حوادث سنة ٣٣٥ (ج٨، ص٣٥٠)، في حوادث ٤٢٠ (ج٩، ص٢٧٣)، وفي حوادث ٤٨٠ (١٠٠، ص١٥٠)، فإذا جاز للباحث أن يحكُم في مثل هذه القضايا من الاسم وحده لحقَّ له أن يحكم بنسبة معبد الجهني إلى هذه القرية أيضًا.
ومما يجب أن يُلاحَظ في هذا الصدد أن ياقوت الحموي يذكُر بعض العلماء المنسوبين إلى قرية جهينة في الموصل، ولا يذكر اسم أحدٍ ينتسب إلى قلعة جهينة في طبرستان، وبما أن معبد الجهني أشهرُ بكثير من أبي الفرج الجهني أو تاج الإسلام الجهني، كان الأَوْلى بياقوت أن يذكُر اسم معبد الجهني مقرونًا بالقلعة المذكورة، لو كان يعتقد بأنه وُلِدَ فيها، كما يدَّعي الأستاذ شمس الدين.
وهناك أمرٌ أجدر بالاعتبار من ذلك أيضًا؛ إن اسم جهينة لا يختص بالمواقع الجغرافية التي يذكُرها معجم البلدان، بل إنه اسمٌ معروف لقبيلةٍ عربية مشهورة أيضًا، وجميع التواريخ العربية تذكُر هذه القبيلة، كما أن جميع كُتُب الأنساب العربية تُشير إلى عددٍ غير قليلٍ من المنتسبين إليها. ومما يجب ألا يغرب عن البال — في هذا المقام — أن اسم هذه القبيلة يمتاز بمكانةٍ خاصة في الأمثال السائرة؛ لأن المثل القائل: «وعند جهينة الخبر اليقين» يُشير بوضوحٍ إلى الشهرة التي كانت تتمتع بها هذه القبيلة، حتى في الجاهلية.
إن قبيلة جهينة كانت تقطن سواحل الحجاز؛ ولهذا السَّبب كانوا يُسمُّون تلك السواحل باسم «أرض جهينة، أو بلاد جهينة»، غير أنها انتشرت، بعد الإسلام ومع الفتوحات العربية، إلى العراق والشام ومصر، فكان في الكوفة محلةٌ خاصة بهم، ومسجد يُسمَّى باسمهم، كما أنهم كانوا أكثر عرب الصعيد في الديار المصرية.
إن بني جهينة لعبوا دورًا هامًّا في الفتوحات العربية؛ كل من يُراجِع تاريخ الطبري يرى أن هذه القبيلة تُذكَر فيه بمناسبة وقائعِ عديدة، إن عدد هذه الوقائع يبلغ اثنتَي عشرة، أقدمها يعود إلى عهد النبي العربي. يُعلِمنا الطبري بأن جهينة «اشتركَت في فتح مكة اشتراكًا فعَّالًا، وبأنها كانت في المجنبة اليمنى تحت قيادة خالد بن الوليد»، كما يُصرِّح بأن بين من شَهِد فتح مكة في المسلمين كان «ألف وأربعمائة رجل من جهينة».
هذا، ومن المعلوم أن النسبة إلى هذه القبيلة تكون على شكل «جهني»، ويقول ابن الأثير، مثلًا، في كتابه «اللباب في تهذيب الأنساب» في مادة الجهني ما يلي: «وهذه النسبة إلى جهينة وهي قبيلة من قضاعة … نزلوا الكوفة والبصرة، ويُنسب إليها خلْق كثير من الصحابة والتابعين ومَن بَعدَهم.»
ومما يَستلفِت النظر أن «الواقدي» يذكُر بين الصحابة المنسوبين إلى هذه القبيلة رجلًا «اسمه معبد بن خالد الجهني» ويُصرِّح بأنه «أسلم» قديمًا، وأنه «كان أحد الأربعة الذين حملوا ألوية جهينة يوم فتح مكة».
إن كل من يأخذ هذه الحقائق والشواهد بنظر الاعتبار، ويُلاحِظ أن لقب «الجهني» كان من الألقاب المعلومة والمستعملة حتى بين الصحابة، لا يتردد في القول بأن نَسَب «معبد الجهني» الذي «تكلَّم في القدَر آخر أيام الصحابة» يجب أن يرجع إلى القبيلة المذكورة.
هذا، وهناك نصٌّ قطعي يدل على ذلك؛ يقول السمعاني في كتاب الأنساب: «الجهني، هذه النسبة إلى جهينة، وهي من قضاعة … نزلَت الكوفة، ومنها محلة يُنسب إليها جماعة … منهم: معبد بن خالد الجهني، كان يُجالِس الحسن البصري، وهو أول من تكلَّم بالبصرة في القدَر، فسلك أهلُ البصرة بعده مسلَكَه فيها» (ورقة ١٤٥ب).
أفلا يحقُّ لنا أن نستغرب — والحالة هذه — كيف أن الأستاذ شمس الدين يتغافل عن جميع هذه الشواهد الصريحة، ويدَّعي نسبة معبد الجهني إلى قلعة جهينة في طبرستان، وكل ذلك لأن ياقوت الحموي ذكر أن هناك قلعة بهذا الاسم! وكيف أنه يعتبر وجود قلعة باسم جهينة في طبرستان دليلًا قاطعًا على تركية معبد الجهني، ويستند على هذا الدليل للإتيان بنظريةٍ ترمي إلى قلْب «تاريخ الحركة الفكرية في الإسلام» رأسًا على عقب!
وهنا نرى من الضروري أن نتقدَّم بكلمةٍ استطرادية عن قلعة جهينة في طبرستان، فنتساءل: ما هي هذه القلعة؟ لماذا سُمِّيتْ باسم جهينة؟ ما شأن هذا الاسم العربي الصريح في طبرستان؟ هل من علاقة بين اسم القلعة وبين اسم المواقع والقبائل المعلومة، المنتشرة في الحجاز وسوريا والعراق ومصر؟
ومع هذا، نعتقد بأن بعض الوقائع المسطورة في كتاب «فتوح البلدان» للبلاذري يُلقي نورًا كشَّافًا على هذه الأسئلة ويُساعِدنا على حلها.
ومن غريب الاتفاق أن هذه الواقعة مسطورة في نفس الصحيفة التي حاول أن يستند إليها الأستاذ شمس الدين في دعواه المتعلقة بانتقال الثقافة من بخارى إلى البصرة، يقول البلاذري في الصفحة ٤١٠ من «فتوح البلدان» قبل العبارة التي استَشهَد بها الأستاذ شمس الدين: «ثم ولَّى زياد بن أبي سفيان (وهو والد عبيد الله الذي نقل ألفَين من أهل بخارى إلى البصرة) الربيع بن زياد الحارثي سنة ٥١ خراسان. وحوَّل معه من المَصرَين زُهاءَ خمسين ألفًا بعيالاتهم …»
هذا، ونحن لا نرى مجالًا للشك في أن الأستاذ شمس الدين قد لاحظ الفقرة المذكورة في الصحيفة التي أشار إليها بنفسه؛ ولذلك نستغرب كل الاستغراب كيف أنه اهتم اهتمامًا كبيرًا بالألفَين الذين نُقِلوا من بخارى إلى البصرة، وادَّعى لهم شرف توليد الحركة الفكرية هناك، ولم يبالِ بعشرات الألوف الذين نُقِلوا مع عائلاتهم، بعكس ذلك، وقبل ذلك، من البصرة إلى ما وراء النهر؟
وأما القضية الثالثة التي يعتمد عليها الأستاذ شمس الدين في بناء نظريته الجدِيدة، فلا نرانا في حاجة إلى البيان بأنها تفقد قيمتها وقُوَّتها الإنشائية بعد ثبوت بُطلان القضيتَين الأُوليَين، فلا نرى لزومًا لإطالة البحث فيها.
الخاتمة
يظهر من الوقائع والحقائق التي سردناها وناقشناها آنفًا أن النظرية التي وضعها الأستاذ شمس الدين كون آلتاي، في مقالته المنشورة في «مجلة مجمع التَّارِيخ التركي» لا تستند إلى أي أساسٍ علمي، بل تُخالِف جميعَ الوثائق التي تحوم حول هذه المسائل مخالفةً صريحة.
لا مجال للشك في أن كاتب المقالة لم يُقدِم على وضْع وتوسيع نظريته هذه إلا مدفوعًا بالنزعة القومية التي أخذَت تسيطر منذ مدة، على بعض مفكري الأتراك؛ بُغْية إرجاع كل شيء في التَّارِيخ إلى أصلٍ تركي، ولا نتعدى الحقيقة إذا قلنا إن هذه النزعة هي التي أبعدَتْه عن مناحي الأبحاث العلمية، وحملَتْه على «جبر الشواهد» و«خلط الوقائع»، بالصور الغريبة التي سردناها وشرحناها آنفًا.
من الأمور الثابتة أن الأتراك ساهموا في تنمية الثقافة الإسلامية ونَشْرها مساهمةً ثمينة، فمما لا مجال للشك فيه أن مؤرخي الأتراك يستطيعون أن يجدوا في صحائف التَّارِيخ مفاخرَ حقيقية كثيرة تكفي لتغذية غرورهم القومي، وإشباعه وتنميته. وأما الذين يُغالون في هذا المضمار إلى درجة الادِّعاء بأن الأتراك كانوا العامل الأصلي في توليد الحركة الفكرية الأولى في الإسلام. والذين لا يتورَّعون عن جبر الوثائق وقلب الحقائق؛ بُغْية إثبات مثل هذه المُدَّعيات، أعتقد أنهم يُسيئون إلى سُمعتهم العلمية، ولا أظن أنهم يكونون قد خدَموا قوميتهم خِدمةً حقيقية.