العرب في مقدمة ابن خلدون١
لاقاني صديق وبادَرَني بحديثٍ طويل يمتزج فيه أداء الاستيضاح مع قصد الاستفزاز:
عهدناك من الذين يَكُنُّون في قلوبهم إعجابًا عميقًا بابن خلدون، وسمعنا منك أن هذا الإعجاب هو الذي حملَكَ على تسمية ابنك باسم «خلدون»، وهو الذي حدا بك إلى التكنِّي في كل ما تكتب وتنشُر بكنية «أبو خلدون»، في حين أننا علمنا أخيرًا بأنه قد ظهر في بغداد من يحمل حملاتٍ عنيفة على ابن خلدون، وسمعنا بأن بطل هذه الحملات يدَّعي بأن ابن خلدون من الكافرين بالعروبة، ويقول لذلك بوجوب حرق كُتبه ونبش قبره باسم القومية … فما بالُك لم تُحرِّك ساكنًا تجاه هذه الآراء والحملات الجدِيدة؟ فإذا كنتَ تعتقد بأن هذه الآراء وهذه الحملات لا تستند إلى أساسٍ صحيح، فعليك أن تُفنِّدها وتُظهر الحقيقة في أمرها؛ وإذا كنتَ تعتقد بأنها مُحقَّة فعليك أن تشترك بها، وتُظهِر اشتراكَكَ هذا — على الأقل — بترك كُنية «أبو خلدون» التي كنتَ قد اخترتَها … وأما ألا تعمل لا هذا ولا ذاك، وأما أن تسكت تجاه هذه الحملات سكوتًا تامًّا، ولا تحرك ساكنًا بالرغم من كل ما قيل في هذا الباب … فاسمح لي أن أقول لك …
لم أشأ أن أترك لصديقي مجالًا للكلام أكثر من ذلك، فقاطعته قائلًا: نعَم أيها الصديق، أنا من المعجبين بابن خلدون إعجابًا عميقًا، ومن الذين يعتقدون أنه من أعاظم الفكر البشري بوجهٍ عام، ومن مفاخر الفكر العربي بوجهٍ خاص. واعتقادي هذا كان توثَّق وثوقًا كبيرًا عندما توليتُ تدريس عِلْم الاجتماع في دار المعلِّمين العالية ببغداد — قبل نحو عشر سنوات — وقمتُ بمقارناتٍ شاملة بين آراء ابن خلدون وآراء من سبَقَه ومن تَبِعَه من المفكرين في ميادين الاجتماعيات؛ لأن هذه المقارنات أوصلَتْني إلى الاعتقاد بأن ابن خلدون يستحق لقب مُؤسِّس علم الاجتماع أكثر من أي مفكرٍ آخر.
غير أن صديقي قاطعَني هنا متسائلًا: تأسيس علم الاجتماع؟ وما أهمية ذلك في القضية القومية؟ هَبْ أننا خلَعْنا هذا اللقب على ابن خلدون، ولقَّبْناه بلقب «مؤسس علم الاجتماع»، بل بلقب «خالق علم الاجتماع»، فهل تظن هذا اللقب يضمن له المغفرة من ذنب الكفر ولا سيما إذا كان كفره هذا من نوع «الكفر بالقومية»؟ أفلم تقُل أنت مرارًا — في دروسك وكتاباتك ومحاضراتك: «يجب أن نُدرِّس التَّارِيخ بنظرة قومية»؟
فكان عليَّ أن أُجيب على أسئلة صديقي جوابًا مفصَّلًا، فقلتُ له: نعم، أنا لا أزال أقول بوجوب درْس التَّارِيخ بنظرةٍ قومية، غير أني أقصد من تعبير «النظرة القومية إلى التَّارِيخ»، النظرة المنورة التي تُلاحِظ الأمور «من وِجهة نظر القومية» ملاحظةً مبنية على الدرس الحقيقي والتفكير العميق، لا النظرة العمياء التي تحكُم بلا درس وتتكلَّم بلا تفكير … أنا أقصد من «النظرة القومية في التَّارِيخ»، النظرة المنورة التي تنفذ إلى زوايا التَّارِيخ وخباياه؛ لتتحرى المنابع والعيون التي يتفجر منها ماء حياة القومية، وتستكشف المنحدرات والمجاري التي تساعد على توجُّه تلك المياه وتجمُّعها وتدفُّقها … لا النظرة العمياء التي لا تُكلِّف نفسها عناء البحث والاستكشاف، وتُوجِد أحيانًا بين الحقائق التَّارِيخية والنزعات القومية مُشادَّةً لا مُبرِّر لها ولا فائدة من ورائها.
لعل قضية «ابن خلدون» التي نحن بصددها من أبلغ الأمثلة وأحسن الأدلة على ما أقول:
عندما نبحث عن ابن خلدون ونقرأ مؤلفاته، يجب علينا — قبل كل شيء — ألا ننسى أنه لم يكن من رجال هذا العصر، كما أنه لم يكن من الرجال الذين نشَئوا في عهد الدولة الأموية أو الدولة العباسية. إنما كان من رجال القرن الرابع عشر للميلاد. كان ابن خلدون من الرجال الذين عاشوا في عهد انحلال الأُمَّة العربية وتشتُّت دولها؛ فقد عاش بضع سنواتٍ في غرناطة، فشهد مآسي احتضار العهد العربي في الأندلس، كما ذهب إلى الشام خلال حملة تيمورلنك، فشهد فاجعة احتراق دمشق واندثار بقايا الحكم العربي في تلك الديار … كما تنقَّل مدةً طويلة بين القاهرة وتونس وفاس، واطَّلع على الفتن والقلاقل التي كانت تتوالى بلا انقطاع، بين الدول والدويلات والملوك والأمراء، في جميع تلك الأنحاء … فيجب علينا ألا نستغرب إذا ما وجدنا فيه روحًا فلسفية تسترسل في التشاؤم إلى درجة الحكم بأن لكل دولةٍ عمرًا طبيعيًّا وأجلًا محتومًا، وأن هذا العمر الطبيعي لا يزيد — عادةً — على أربعة أجيال.
فمن العبث أن نبحث — والحالة هذه — في ما كتبه ابن خلدون، عن دروس في الأخلاق أو مواعظ في الوطنية؛ لأنه لم يهدف في أبحاثه إلى هذه الأمور، بوجهٍ من الوجوه.
إن مقدمة ابن خلدون تنمُّ عن نزعةٍ فلسفية وعلمية خالصة، تصرف كل ما لديها من القوة والجهد، في سبيل البحث عن «الأسباب والعوامل» بحثًا فكريًّا هادئًا، لا يستهدف شيئًا غير إظهار النواميس الاجتماعية التي تُؤثِّر في نشوء الدول وتطوُّرها وانقراضها.
إنه أعطانا من النماذج المبتكرة في الأبحاث التَّارِيخية، ومن الآراء القيِّمة في النواميس الاجتماعية، ما لم يسبقه فيها أحد من المفكرين في العصور القَديمة، وما لم يصل إلى مستواها أحدٌ من المفكرين في العصور الحديثة حتى القرن التاسع عشر.
ولا شك في أن هذه الخدمة وحدها تكفي لإدخاله في حظيرة «مفاخرنا القومية»، ولإعطائه مكانًا ممتازًا في تلك الحظيرة … فلا يحق لنا أن نطلب منه علاوة على ذلك دروسًا في الأخلاق أو مواعظ في الوطنية، أو نلومه على عدم إعطائه لنا مثل هذه الدروس والمواعظ.
وهنا قاطَعَني صديقي مرةً ثانية معترضًا: غير أن عدم إعطاء دروس ومواعظَ أخلاقيةٍ ووطنية شيء، وكتابة الفصول في مثالب العرب شيءٌ آخر.
وأنا واصلتُ حديثي، شارحًا وِجهة نظري بكل تفصيل: ها إنني قد انتهيتُ من المقدمة ووصلتُ إلى بيت القصيد، فعليَّ أن أقول الآن بأنني أعترض على كل من يدَّعي بأن ابن خلدون كتب فصولًا في مثالب العرب.
لا تستغربوا قولي هذا، أنا لا أجهل بأنه يُوجد في مقدمة ابن خلدون فصل «في أن العرب إذا تغلَّبوا على أوطانٍ أسرع إليها الخراب»، وفصلٌ آخر «في أن العرب أبعد الأُمَم عن سياسة المُلْك»؛ وآخر «في أن العرب أبعدُ النَّاس عن الصنائع»، وفصولٌ أخرى مماثلة لذلك … غير أنني أدَّعي بصورةٍ قطعية، أن ابن خلدون لم يستعمل كلمة «العرب» في هذه الفصول، وفي الفصول الأخرى المماثلة لها، بالمعنى العام الذي نفهمه منها الآن، بل إنه استعمل كلمة «العرب» بمعنى البدو والرُّحَّل منهم على وجه الحصر. وأنا مُستعِدٌّ لذكر عشرات من الدلائل والقرائن التي تشهد على صحة مُدَّعاي هذا بصراحة تامة.
أَنعِموا النظر، مثلًا، في الفصل الذي يقول فيه «إن العرب إذا تغلَّبوا على أوطانٍ أسرع إليها الخراب»، لاحظوا الأدلة التي يذكرها لتعليل ذلك تجدوا فيها هذه العبارات: «فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتقلُّب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومنافٍ له» (ص٢٤٩). ألا تلمسون من بين ثنايا هذه العبارات أنها تشير إلى أعراب البادية وحدهم، ولا تقصد الأُمَّة العربية بأجمعها — حسب المعنى الذي صرنا نفهمه نحن من كلمة العرب الآن؟ وإذا خامركم أدنى شَكٍّ في هذا الباب فاقرءوا العبارات التالية، فستجدون فيها ما يطرُدُ من ذهنكم كل أنواع الشكوك: «فالحجر مثلًا إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي للقِدر، فينقلونها من المباني ويخربونها عليه. والخشب أيضًا إنما حاجتهم إليه ليعمُروا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم، فيخربون السقف عليه.» فهل من مجالٍ للشكِّ في أن مدار البحث هنا لا يتعدى «البدو» الذين يعيشون تحت الخيام؟ وهل يستطيع أحد أن يدَّعي بأن ابن خلدون عندما كتب هذه العبارات وقال: «لا يحتاجون إلى الحجر إلا لنصبه أثافي للقدر، ولا إلى الخشب إلا لنصب الخيام …» أكان يعني أهل دمشق أو القاهرة، أو سَكَن تونس أو فاس؟
لننتقل إلى فصلٍ آخر؛ فصل في أن جيل العرب في الخلقة طبيعي (ص١٢١)، ألا تجدون أن عنوان هذا الفصل وحده يدعونا إلى التأمُّل لتعيين المعنى المقصود من كلمة العرب؟ اقرءوا الفصل تجدوا فيه تفاصيلَ كثيرة عن وسائل المعيشة، وعن تأثير هذه الوسائل والنُّظُم في الحياة الاجتماعية، ثم تصلوا إلى العبارات التالية: «أما مَن كان معاشهم مِن الإبل فهم أكثر ظعنًا، وأبعد في الفقر مجالًا، فكانوا لذلك أشد النَّاس توحُّشًا. وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العُجْم. وهؤلاء هم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتركمان والتُّرك بالمشرق. إلا أن العرب أبعد نُجْعَة وأشد بداوة؛ لأنهم مختصُّون بالقيام على الإبل فقط …» ألا تفهمون من هذه العبارات — ولا سيما من العبارة الأخيرة — أن ابن خلدون استعمل كلمة العرب هنا أيضًا بمعنًى خاص، غير المعنى العام الذي نفهمه منها الآن؟ ألا ترون، بصراحةٍ ما بعدها صراحة، أن مؤلِّفنا عندما كتَب ما كتَبه في هذا الباب لم يقصد قَط أهل المدن والأمصار؟ وفي الأخير تأمَّلوا في العبارة القائلة: «هؤلاء هم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتركمان والتُّرك بالمشرق.» وفكِّروا ما هو المعنى الذي يشترك فيه العرب والبربر والتُّرك والتركمان؟ هل هو شيء غير حياة البداوة والترحُّل؟ أفلا ترون أن ذلك هو المقصود في جميع هذه العبارات بصورةٍ صريحة؟
ولننتقل الآن إلى فصلٍ آخر، ولنقرأ الفصل الذي يقول فيه المؤلف «إن العرب أبعد النَّاس عن الصنائع» (ص٤٠٤)، نجد أنه يبدأ الحديث عن ذلك بالعبارة التالية: «والسَّبب في ذلك أنهم أعرق في البداوة وأبعد عن العمران الحضري وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها.» ثم يقول: «والعجم من أهل المشرق وأمم النصرانية عدوة البحر الرومي أَقوَمُ النَّاس إليها؛ لأنهم أعرق في العمران الحضري وأبعد عن البدو وعمرانه. حتى إن الإبل التي أعانت العرب على التوحُّش في القفر والإعراق في البدو مفقودةٌ لديهم بالجملة. وعجمَ المغرب من البربر مثل العرب في ذلك؛ لرسوخهم في البداوة منذ أحقابٍ من السنين.» أفلا تَرونَ في كل هذه العبارات قرائنَ قطعية، ودلائلَ صريحة على المعنى الذي ذكَرتُه آنفًا؟
أنا لا أرى لزومًا لتكثير هذه الأمثلة والشروح … غير أنني أؤكِّد لكم بأن كل من يتصفح مقدمة ابن خلدون تصفُّح المدقِّق، يجد في فصولها المختلفة عددًا كبيرًا من أمثال هذه الدلائل والقرائن، التي لا تترك أدنى مجال للريب في أن المفكر المشار إليه لم يستعمل كلمة العرب بالمعنى الشامل الذي نفهمه منها الآن، بل استعملها — كما شرحتُ ذلك آنفًا — بمعنًى خاص، ألا وهو «البدو» والرُّحَّل منهم على وجه الحصر.
عندما ختمتُ حديثي هنا لاحظتُ بأن صديقي اقتنع بصحة ما قلتُه تمام الاقتناع. غير أنني لمحتُ — بين العلائم التي تُظهِر هذا الإقناع — آثارًا تنمُّ عن الاستغراب … فرأيتُ من واجبي أن أُخلِّصه من هذا الاستغراب أيضًا، فواصلتُ الحديث، قائلًا: قد تسألونني لماذا سلَكَ ابنُ خلدون هذا المسلَكَ الغريب في التسمية، فاستعمل كلمة العرب بهذا المعنى الخاص؟
فاسمحوا لي أن أقول لكم بأن معاني الكلمات كثيرًا ما تتغيَّر وتتطوَّر على مَرِّ القرون. إن تاريخ اللغات الأوروبية يذكُر لنا أمثلةً كثيرة على ذلك، كما أن تاريخ اللغة العربية أيضًا يعطينا أمثلةً غير قليلة لذلك. خذوا مثلًا كلمتَي العجم والروم، لا شك أنكم تعرفون أن كلمة العجَم كانت تُستعمل بمعنًى واسعٍ جدًّا، فكانت تشمل كل مَن ليس بعربي على الإطلاق، غير أنها تخصَّصَت مؤخرًا، فأصبحت اسمًا لأُمَّة واحدة من تلك الأُمَم. كذلك كلمة الروم، فإنها كانت تُستعمل بمعنًى واسعٍ تشمل مجموعة أمم من أديانٍ وأجناسٍ مختلفة، ثم تخصَّصَت بالتدريج للدلالة على أصحاب مذهبٍ معيَّن من جهة، وعلى أفراد أُمةٍ معيَّنة من جهةٍ أخرى.
فهل من مجالٍ للاستغراب إذا ما تغيَّر وتطوَّر المعنى المفهوم من كلمة «العرب» أيضًا على مَرِّ القرون؟
أنا لا أرى لزومًا لتتبُّع آثار هذا التطوُّر منذ عصر الجاهلية، غير أنني أَستَلفِت أنظاركم إلى حقيقةٍ راهنة، ألا وهي: إن استعمال كلمة العرب بالمعنى الخاص الذي ذكرتُه آنفًا، من العادات التي لم تندرس آثارها تمامًا، فإن هذا الاستعمال لا يزال دارجًا في بعض النشرات في مصر، كما أنه لا يزال منتشرًا في أحاديث العَوامِّ في العراق. إنني كنتُ تألَّمتُ من ملاحظة تفشِّي هذا الاستعمال بين الطلاب والمعلمين أيضًا، فقد رأيت لزومًا لإصدار بلاغٍ عام للمدارس حول هذا الموضوع، عندما كنتُ مديرًا عامًّا للمعارف، وقد قلتُ في البلاغ المذكور — المؤرخ بتاريخ ١ كانون الثاني ١٩٢٤ — ما يلي: «من المعلوم أن عامة النَّاس قد اعتادوا استعمال كلمة عرب بمعنى «بدوي» و«فلَّاح»؛ فكثيرًا ما يقولون مثلًا: «ذهب إلى العرب» أو «كان عند العرب» بمعنى «ذهب إلى البادية» أو «كان بين البدو»، كما أنهم يقولون مثلًا: «بساط عرب أو بيوت عرب» بمعنى «بساط عادي» أو «بيوت فلاحين». وكما أنهم كثيرًا ما يلفظون هذه الكلمة بلهجةٍ يمازجها شيء من الاستخفاف والازدراء. ولقد شاهَدْنا مع كل أسفٍ هذه العادة السيئة منتشرةً وسائدةً حتى في المدارس؛ فالطلاب كثيرًا ما يستعملون كلمة العرب بالمعاني والصور الآنفة الذكر، مثل العامة، وأما المعلمون فإنهم لا يَعْتَنون في تصحيح هذا الغلط، بل أحيانًا يشاركون العامة فيه.
لمَّا كان هذا الاعتقاد مخالفًا لِما تقتضيه التَّربية الوطنية والقومية كل المخالفة، ولمَّا كانت أسمى الغايات التي يجب أن يستهدفها المعلمون في دروسهم وأعمالهم هي بث الأخلاق الفاضلة بصورةٍ عامة، وتقوية الشعور الوطني والقومي بصورةٍ خاصة، رأينا أن نَلفِت أنظار جميع المديرين والمعلمين إلى هذا الأمر المهم، وأن نطلب إليهم:
أن يجتهدوا في إزالة هذا الغلَط بكل ما لديهم من قوة ونشاط، وأن يُفهموا التلاميذ بكل دقةٍ واعتناءٍ معنى الفلَّاح والبدوي والعربي، ويوضِّحوا لهم أن كلمة «عرب» لا تدل على صنفٍ من صنوف الخلق، بل هي تدُل على جميع أفراد الأُمَّة، ويُعوِّدوهم على استعمالها بهذه الصورة … ويُجنِّبوا أنفسهم من الاشتراك في هذه الغلطة، ومن استعمال اسم الأمة العظيمة التي نفتخر بالانتساب إليها بهذا المعنى العامي، سواء كان في دروسهم أو في محادثاتهم …»
ألا يدُل هذا البلاغ الرسمي — الذي كان أُذيع على المدارس العراقية قبل خمسة عشر عامًا — دلالةً واضحة على مبلغ انتشار الاستعمال المذكور، عندئذٍ؟ لا شك في أن استعمال كلمة العرب بهذا المعنى قلَّ كثيرًا منذ ذلك التَّارِيخ، بسبب جهود المعلمين عملًا بمنطوق البلاغ المذكور من جهة، وبسبب انتشار التَّعلِيم وذيوع الصحافة من جهةٍ أخرى. مع هذا لا مجال للشك في أن آثار هذا الاستعمال لا تزال تبدو إلى العِيان … في بعض الأحيان.
فهل يجوز لنا أن نستغرب — والحالة هذه — إذا ما شاهَدْنا ابن خلدون يستعمل هذه الكلمة بهذا المعنى قبل خمسة قرون؟
لم يَتردَّد صديقي في تصديق ما قُلتُه بهذا الصدد، غير أنه وجَّه لي هذا السؤال الأخير: مع كل هذا، ألا تجد أن مقدمة ابن خلدون تضعُنَا أمام مشكلةٍ هامة؟ فإن النَّاس قلَّما يُنعِمون النظر في مثل هذه الأمور عندما يقرءون … ولا شك في أن الشعوبيين يستفيدون من ذلك، فيستشهدون بكلمات ابن خلدون ليُزعزِعوا إيمان الشباب في مزايا أُمَّتهم وقابليَّتها.
فأجبتُه قائلًا: هذا صحيح، ولكن ما السبيل إلى معالجة هذه المشكلة؟ لا شك في أن السبيل الوحيد إلى ذلك هو السعي لإظهار هذه الحقائقِ، وتصحيح هذه الأخطاء عند جميع النَّاس بوجهٍ عام، وعند قُرَّاء ابن خلدون بوجهٍ خاص.
ومن الغريب أن ترجمة مقدمة ابن خلدون إلى الفرنسية مصدَّرة بمدخلٍ طويل، ومذيَّلة بشروحٍ كثيرة، وفي هذه الشروح إشارةٌ صريحة إلى أن المؤلِّف قد استعمل كلمة العرب بمعنى البدو في معظم الفصول، في حين أن الطبعات العربية لا تزال محرومة من مثل هذه الشروح والإشارات. إن هذه الواقعة وحدَها تدُلنا على الطريق المعقول الذي يجبُ أن نسلُكَه في هذا الباب.
وأما إذا انصرفنا عن أمثال هذه الطُّرق المعقولة، فاندفعنا في مقابلة كلام الشعوبيين بقولنا: «إن ابن خلدون كفر بأقواله، فلنحرق كُتبه، ولننبش قبره …» فنكون قد خدمنا مقاصد هؤلاء الشعوبيين من حيث لا ندري؛ إذ إننا نكون قد جعلنا «شهرة ابن خلدون العالمية» خصمًا وهميًّا لفكرتنا القومية بغير مبرر، ونكون قد بدَّدنا قُوَانا لمعاداة شهرة ابن خلدون بلا جدوى، عِوضًا عن أن نستفيد منها لتوسيع نطاق مفاخرنا الفكرية والعلمية، وتقوية إيماننا القومي بتذكُّر تلك المفاخر العظيمة.
كُنتُ قُلتُ لك أيها الصديق، في بداية حديثنا، بأنني من الذين يدعون إلى النظرة القومية المنورة لا النظرة القومية العمياء.
فأظن أن التفاصيل التي ذكرتُها آنفًا، تُظهِر بوضوحٍ تام، ما أعنيه بالنظرة القومية المنورة وما أعنيه بالنظرة القومية العمياء …
(١) عود إلى مسألة العرب في مقدمة ابن خلدون
زارني صديقي مع جماعة من أصحابه، وقال لي: إنني أشكرك، وإخواني، على المقالة التي نشَرتَها عن حديثنا حول مسألة «العرب في مقدمة ابن خلدون». لقد نوَّرتَ الأذهان في هذه المسألة الهامة، وصحَّحتَ الغلط الشائع في فهم مقدمة ابن خلدون، فأدَّيتَ بذلك خدمةً علمية وقومية في وقتٍ واحد.
ثم تابع حديثه قائلًا: لقد اتصلنا منذ انتشار مقالتك، مع عددٍ كبير من المفكِّرين والشبان المنورين، فوجدناهم كلهم قد اقتنعوا بصحة تفسيرك، واشتركوا بوِجهة نظرك … غير أن أحد أصحابنا لم يتخلَّص من الريب العالق في ذهنه؛ ولذلك جئنا به لتتحدَّث إليه.
قال ذلك وقدَّم لي صديقه المرتاب.
فقلت لصديقه هذا: أرجو أن تشرح لي وجوه ارتيابك في الأمر، بكل صراحة.
فأخذ الشاب يسرد الشكوكَ التي خامَرَتْه في هذا الباب قائلًا: أنا أعترف بأن الأمثلة التي ذكرتَها في مقالتكَ عن استعمال كلمة العرب بمعنى البدو واضحة ومقنعة. غير أني أخشى أن تكون هذه الأمثلة من الأمور الشاذَّة، وألا يكون في تعميمك لمدلولات هذه الأمثلة شيءٌ من الخروج على ما يقتضيه التفكير العلمي من الدقة في الحكم والاحتراز في التعميم … واسمح لي أن أقول بصراحةٍ أزيَد: أنا أعرف مبلغ تقيُّدك بالطرق العلمية في مباحثك، غير أني أخشى أن تكون قد استعجلت في تعميم هذه الأمثلة — خلافًا لاعتيادك العام — مدفوعًا بحرصِكَ على تزكية ابن خلدون من جهة، وعلى الدفاع عن العرب من جهةٍ أخرى … فهل تأكَّدتَ من أن ابن خلدون استعمل كلمة العرب بمعنى البدو في كل أقسام المقدمة؟
شكرتُ الشاب على صراحته في هذا الباب، فقُلتُ: تأكَّدوا بأنني درستُ هذه المسألة بنزعةٍ علمية بحتة مجرَّدة عن كل أنواع الاندفاعات العاطفية، وعن جميع الأفكار القَبْلانية … لقد أشَّرتُ على جميع كلمات العرب والعربي الواردة في مقدمة ابن خلدون، من أولها إلى آخرها. وأحصيتُ هذه الكلمات وصنَّفتُها حسب مواقع استعمالها … ولم أقُل ما قلتُه في هذا الباب إلا بعد هذا الدرس الشامل التام.
فقد وجدتُ في أكثر من ثمانين موضعًا من الكتاب دلائلَ وقرائنَ قطعية على استعمال كلمة العرب بمعنى البدو. وهذه المواضع لم تكن مجتمعة في فصلٍ واحد، أو في فصولٍ متقاربة، بل هي مبعثرة في جميع أبواب الكتاب، من فصوله الأُولى إلى فصوله الأخيرة ولا أُراني في حاجةٍ إلى القول بأن وجود هذا المقدار الكبير من القرائن القاطعة، في هذا القدر المهم من المواضع المختلفة، مما يُخوِّلنا حق تعميم الأمر بدون تردُّد.
هذا وأستطيع أن أؤكِّد لكم بأن الأمثلة التي ذكرتها لم تكن أبرز الأمثلة الموجودة في الكتاب، فإنني لم أختر تلك الأمثلة لشذوذ في وضوحها، بل اخترتها لمجيئها في فصولٍ تحتوي على أقسى الأحكام على العرب؛ فصل في أن العرب إذا تغلَّبوا على أوطانٍ أسرع إليها الخراب، فصل في أن العرب أبعد الأُمَم عن سياسة المُلْك، فصل في أن العرب أبعد النَّاس عن الصنائع … وأما في الفصول الأخرى فيُوجَد من الدلائل والقرائن ما هو أوضحُ وأصرحُ من التي ذكرتُها في مقالتي.
قلتُ ذلك، وأتيتُ بمقدمة ابن خلدون، وأخذتُ أراجع فهرستها:
أولًا: اسمحوا لي أن أَستَلفِت أنظاركم إلى نقطةٍ هامة، جديرة بالاعتبار، انظروا إلى الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون «إن العرب إذا تغلَّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب»، ولاحِظوا موقع هذا الفصل من أبواب الكتاب، تَرَوْا أنه من فصول الباب الثاني. اقرءوا عنوان هذا الباب: «الباب الثاني: في العمران البدوي والأُمَم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال»، تَرَوْا من ذلك بأن هذا الباب يبحث عن «العمران البدوي»، ويترك أمر البحث عن الدول إلى الباب الثالث، والبحث عن «البلدان والأمصار وسائر العمران» إلى الباب الرابع.
لاحظوا أن الفصل الذي يقول بأن «العرب لا يستولون إلا على البسائط»، والذي يدَّعي بأن «العرب أبعد الأُمَم عن سياسة المُلْك»، والذي يقول بأن «العرب لا يحصل لهم ملْك إلا بصبغةٍ دينية» … أيضًا من أقسام الباب الثاني، من أقسام الباب الباحث «في العمران البدوي».
قلتُ ذلك، ووضعتُ الكتاب بين يدَي الشاب، واستلفتُّ أنظاره إلى عنوان الباب، وإلى فهرست فصول هذا الباب.
فصاح الشاب: هذا دليلٌ حاسم تمامًا. لم يبقَ عندي مجالٌ للريب في صحة تفسيرك للأمر.
غير أني رأيتُ أن أُتابع حديثي وقُلتُ: لا، والآن اسمحوا لي أن أعرض على أنظاركم أدلةً واضحة من كل ما كتَبتُه قبلًا، ومن كل ما قلته إلى الآن:
كنتُ قد تطرَّقتُ في مقالتي إلى الفصل القائل بأن «العرب أبعد النَّاس عن الصنائع»، وذكرت قرائنَ عديدة تدُل على استعمال كلمة العرب في هذا الفصل بمعنى البدو. وقد لاحظتُ في محلٍّ آخر من المقدمة بعضَ الفِقرات التي تؤيد ذلك بصراحةٍ ما بعدها صراحة: عندما يبحث ابن خلدون — في الباب الأخير من مقدمته — عن العلوم يشبِّهها بالصنائع، فيقول في هذا الصدد ما يلي:
«وقد كنا قدَّمنا أن الصنائع من مُنتحَل الحضر وأن العرب أبعدُ النَّاس عنها؛ فصارت العلوم لذلك حضرية، وبَعُدَ عنها العرب …» (ص٥٤٤).
تَرونَ في هذه العبارات أن ابن خلدون يذكُر كلمة العرب مرتَين، مقابلًا لكلمة الحضر بصراحةٍ تامة، وبشكلٍ لا يترك مجالًا للشك في أنه يقصد منها «البدو» على وجه التخصيص، ويُخرج من نطاق شمولها «الحضر» على الإطلاق …
تصفَّحوا الفصول الباحثة عن اللغة والشعر تجدوا فيها أيضًا أمثلةً صريحة وأدلةً حاسمة لذلك:
اقرءوا الفصل الخمسين: «في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد» (ص٥٨٢) تَرَوا أن العنوان نفسه يميِّز «العرب» عن «أهل الأمصار» بصراحةٍ تامة.
اقرءوا الفصل نفسه تجدوا بين سطوره أيضًا ما يؤكِّد ويؤيِّد دلالة العنوان:
«كذلك الحضر أهل الأمصار. نشأَت فيهم لغةٌ أخرى، خالَفَت لسان مُضَر في الإعراب وأكثر الأوضاع والتعاريف، وخالَفَت أيضًا لغة الجيل من العرب لهذا العهد» (ص٥٨٢).
تَرونَ من هذه العباراتِ أن ابن خلدون يميِّز «لغة الحضر» عن «لغة العرب» لعهده، وهذا التمييز لا يمكن أن يُفسَّر إلا باستعمال كلمة العرب مقابلًا لكلمة الحضر كما في الفِقرات التي ذكرتُها آنفًا …
وهناك فصلٌ آخر، يؤيِّد كل ذلك، بتعبيراتٍ وأشكالٍ أخرى:
«الفصل التاسع والثلاثون: في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها»، يبدأ ابن خلدون هذا الفصل بالعبارات التالية:
«اعلَم أن عُرْف التخاطُب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مُضَر القَديمة، ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغةٌ قائمة بنفسها، بعيدة عن لغة مُضَر وعن لغة هذا الجيل الذي لعهدنا» (ص٥٥٨).
أليس من الواضح بأن كاتب هذه الفِقرات يترك أهل الحضر والأمصار خارجًا عن نطاقِ شمول تعبير «الجيل العربي»؟
وفي الأخير: اقرءوا الفصل الثامن والثلاثين «في أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مُضَر وحِمْيَر» (ص٥٥٧)، يقول ابن خلدون في هذا الفصل بأن «أفراد الجيل العربي لهذا العهد» لا ينطقون بالقاف كما ينطق بها «أهل الأمصار»، وبعد أن يُوضِّح كيفية هذا النطق يقول ما يأتي:
«وصار ذلك علامةً عليهم من بين الأُمَم والأجيال مختصًّا بهم، لا يشاركهم بها غيرهم. حتى إن مَن يريد التقرُّب والانتساب إلى الجيل والدخول فيه يحاكيهم في النطق بها، وعندهم إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري، بالنطق بهذه القاف» (ص٥٥٧).
هل تريدون صراحة أكبر من هذه الصراحة؟ اقرءوا العبارة التي يُنهِي بها ابن خلدون الفصل الذي نحن بصدده:
«هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقًا وغربًا في النطق بها، وأنها الخاصية التي يتميز بها العربي من الهجين والحضري …» (ص٥٥٨).
هل يمكن لأحدٍ أن يطلب دليلًا أوضحَ من هذه العباراتِ، على استعمال كلمة العربي بمعنى البدوي، ومخالفًا لكلمة الحضري؟