دراسة الحركات الاجتماعية: أسئلةٌ متكررة وإجاباتٌ متغيِّرة (إلى حدٍّ ما)
في أواخر الستينيات من القرن العشرين بدا واضحًا أن العالم يشهد تحولاتٍ عميقةً وهائلة، بل إن هناك مَن اعتقد أن العالم يمر بثورةٍ شاملة. الحركات الأمريكية المُدافِعة عن الحقوق المدنية والمُناهِضة للحرب، وعصيان مايو ١٩٦٨ في فرنسا، والاحتجاجات الطلابية في ألمانيا أو بريطانيا أو المكسيك، والائتلافات بين العمال والطلاب أثناء «خريف إيطاليا الساخن» عام ١٩٦٩، والحشود المؤيِّدة للديمقراطية في مناطقَ غايةٍ في التباين والاختلاف كمدريد الفرانكوية وبراغ الشيوعية، وتنامي التيار الكاثوليكي النقدي من أمريكا الجنوبية إلى روما، والبشائر الأولى لمولِّد الحركات النسائية والبيئية، التي من شأنها أن ترسم ملامح السياسة الجديدة لعَقد السبعينيات من القرن العشرين؛ كل هذه الظواهر، وغيرها الكثير، كانت تَشِي بأن ثمة تغيراتٍ عميقةً في طور التشكُّل.
وبناءً عليه، قد تطورت دراسة الحركات الاجتماعية، تبعًا لذلك، بوتيرة غير مسبوقة حتى أضحت واحدةً من أهم مجالات البحث. لو أن النقاد قد نعَوا في نهاية أربعينيات القرن العشرين «ضحالة المستوى الوصفي للإدراك والغياب النسبي للنظرية» (شتراوس ١٩٤٧: ٣٥٢)، وشكَوا في ستينيات القرن نفسه أن «الحركات الاجتماعية لم تلقَ سوى القليل من الاهتمام نسبيًّا في إطار دراسة التغيرات الاجتماعية» (كيليان ١٩٦٤: ٤٢٦)؛ فإن البحث المعني بالفعل الجمعي بات يُعتبر «واحدًا من أكثر مجالات علم الاجتماع زخمًا ونشاطًا» في أواسط السبعينيات (ماركس وود ١٩٧٥). لم ينقضِ عقد الثمانينيات حتى تحدَّث المُعلقون عن «انفجار في السنوات العشر الأخيرة في الكتابات النظرية والتجريبية التي تتناول الحركات الاجتماعية والفعل الجمعي» (موريس وهيرنج ١٩٨٧: ١٣٨؛ انظر أيضًا روشت ١٩٩١أ).
أما اليوم، فقد صارت دراسة الحركات الاجتماعية مبحثًا راسخ الأركان تُصدَر له الدوريات المتخصصة، وسلاسل الكتب، وتُؤسَّس من أجله الاتحادات المهنية. ربما خفَّت حدة الحماس والتفاؤل اللذَين ميَّزا حراك ستينيات القرن العشرين منذ أمدٍ طويل، غير أن الأحداث الاجتماعية والسياسية التي وقعت على مدار العقود الأربعة الماضية لم تُقلِّل من أهمية استقراء النشاط الشعبي أو تُضعف الحاجة الملحَّة إليه، بل العكس صحيح؛ فإن الحركات الاجتماعية والأنشطة الاحتجاجية، وبوجهٍ أعم المُنظَّمات السياسية غير المنحازة للأحزاب السياسية الكبرى أو النقابات العمالية؛ أصبحت مُكوِّنًا ثابتًا من مكونات الديمقراطيات الغربية، ولم يَعُد من المُمكِن توصيف سياسة الاحتجاج والمشاركة الشعبية والتحديات الرمزية باعتبارها «غير تقليدية»، بل إنَّ الإشارات المرجعية إلى ما يُطلَق عليه «مجتمع الحركات الاجتماعية» تبدو معقولة ووجيهة على نحوٍ متزايد (نايدهارت وروشت ٢٠٠٢؛ ميلوتشي ١٩٩٦؛ ماير وتارو ١٩٩٨ب).
لقد شهدنا بالتأكيد طوال تلك الفترة تذبذبًا كبيرًا في حدَّة الفعل الجمعي، ومدى راديكاليته، وأشكاله المحددة، وقدرته على التأثير في العملية السياسية، بيد أن التوقعات التي رجَّحت أن موجة الاحتجاج التي شهدتها أواخر ستينيات القرن العشرين سرعان ما ستَخبو جذوتها وتعقُبها عودة الأمور إلى مجراها المُعتاد، والمُتمثِّلة في السياسة المستندة إلى المصالح، والمنظَّمة حسب التقسيمات السياسية التقليدية؛ أثبتَت إلى حدٍّ كبير خطأها؛ إذ ما فتئت أنماطٌ احتجاجيةٌ مُتنوِّعة تبرز في السنوات الأخيرة، مُعتمدة على أساليبَ مختلفةٍ ومستندة إلى طائفةٍ واسعة من الأهداف والقيم (كريسي وآخرون ١٩٩٥؛ بيسينجر ٢٠٠٢؛ تايتارينكو ومكارثي ومكفيل وأوجوستين ٢٠٠١؛ سميث وجونستون ٢٠٠٢؛ فيليول وبيناني-شرايبي ٢٠٠٣؛ جوني ٢٠٠٤). لم يَقف الأمر عند هذا الحد؛ فمع بزوغ الألفية الجديدة، وربما لأول مرة منذ ١٩٦٨، بدَت موجة الحشود الداعية إلى ما يُسمَّى بالعولمة انطلاقًا من القاعدة (وكثيرًا ما توصف بحركة العدالة العالمية) قادرة على مواجهة تحدٍّ عالميٍّ عام؛ وذلك بجمعها بين سماتٍ عادةً ما تُميِّز الحركات الطبقية وخصائص مرتبطة بالحركات الاجتماعية الجديدة؛ كالتركيز على قضايا حماية البيئة والمساواة بين الجنسَين (أريجي وهوبكينز ووالرستين ١٩٨٩؛ فوكس وبراون ١٩٩٨؛ بريشر وكوستيلو وسميث ٢٠٠٠؛ والتون وسيدون ١٩٩٤؛ بيانتا ٢٠٠١ب؛ فيفيوركا ٢٠٠٣؛ ديلا بورتا وأندريتا وموسكا ورايتر ٢٠٠٥؛ وود ٢٠٠٤؛ تارو ٢٠٠٥).
والحق أن ربط مصطلحات مثل «حركة العدالة العالمية» بأطرافٍ فاعلةٍ موحَّدة ومُتجانسة سيكون ربطًا مُضلِّلًا للغاية؛ ذلك لأنَّ المبادرات المناهضة للعولمة الليبرالية الجديدة شديدة التبايُن، وليس بالضرورة أن يَربط فيما بينها رابط؛ فهي تتناول طائفة من القضايا التي تتراوح بين استغلال عمالة الأطفال من جانب العلامات التجارية العالَمية وظاهرة إزالة الغابات، ومرورًا بحقوق الإنسان في البلدان النامية والتدخُّلات العسكرية من جانب القوى الغربية. كما أنها تَتناول مثل هذه القضايا بأساليب شتى، تبدأ بالاعتراضات والأفعال الفردية وتنتهي بالفعاليات الجماعية الحاشدة، وتعالجها من وجهات نظر متنوعة. إنَّ التعرض لمثل هذه المبادرات بالدراسة الفاحصة هو خير مثال لما يَعنيه بالفعل إجراء «تحليل للحركات الاجتماعية»؛ فأغلب من يتصدَّون لدراسة الحركات الاجتماعية يُركِّزون في ممارساتهم البحثية إما على الأفراد أو المؤسسات أو الأحداث، مُحاولِين، في أفضل الأحوال، التوصُّل إلى علاقة الاعتماد المتبادل بينها.
بادئ ذي بدء، مِن المُمكن النظر إلى حركة المعارضة للعولمة الليبرالية الجديدة باعتبارها تجمُّعًا من الأفراد الذين يُعبِّرون عن آرائهم حيال قضايا معينة، سواءٌ أكانت آراءً مؤيدةً للتغير الاجتماعي أم مناهضةً له. لا شك أن ظاهرة العولمة أثارت مخاوف وآمالًا على حدٍّ سواء، غير أن توزُّع تلك المخاوف والآمال لم يكن متساويًا بين البلدان والبيئات الاجتماعية والاقتصادية؛ فلطالما أشارت استطلاعات الرأي العام إلى انتشار مخاوف بشأن تأثير العولمة على حياة الأشخاص، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. ورغم أن مثل هذه المخاوف قد تكون منتشرة في أوروبا الغربية أكثر من انتشارها في الولايات المتحدة الأمريكية، بل وأوسع انتشارًا في غيرهما من البلدان، فمِن المسلَّم به أن العولمة تقع حاليًّا في صميم اهتمامات الرأي العام (إنجلهارت ١٩٩٩؛ جراند وكال ٢٠٠٢؛ نولاند ٢٠٠٤)، ومن يتبنَّون موقفًا متشكِّكًا، ومعاديًا في كثير من الأحيان، يمثلون قطاعًا بارزًا مسموع الصوت من الرأي العام؛ فآراؤهم تتبلوَر وتلقى دعمًا في الحوارات التي تُجرى مع نخبة من صُنَّاع الرأي البارِزين والشخصيات العامة، كاشفين عن تكلفة العولَمة ومثالبها من منظورٍ غربي/شمالي وكذلك من وجهة نظر شرقية/جنوبية، ومن أمثال هؤلاء الكاتبة الهندية أرونذاتي روي، أو عالم الاجتماع الفلبيني والدين بيلو، أو الصحفي الأسترالي جون بيلجر، أو عالم الاقتصاد الحائز جائزة نوبل جوزيف ستايجلتس. ربما لن يكون من قَبيل المبالغة أن نَنسب إلى كتب مثل كتاب نايومي كلاين «بدون شعار» (١٩٩٩) تأثيرًا في هذا السياق يُناظر التأثير الذي حققه كتاب ريتشيل كارسون «الربيع الصامت» (١٩٦٢) أو كتاب «حدود النمو» (ميدوز وراندرز وبيرنس ١٩٧٢) الصادر عن نادي روما بالنسبة إلى انتشار الشواغل البيئية وهو ما يَرجع تاريخه إلى عقدَي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.
كثيرًا ما تتحول الآراء والمخاوف الفردية إلى أشكالٍ متنوعة من المشاركة السياسية والاجتماعية، ثم سرعان ما تسير الرُّؤى الكونية الأخلاقية والفلسفية والاعتقادات الراسخة مُتوازية مع محاولاتٍ محدَّدة من جانب الأفراد لوقف التطورات التي تُشكِّل تهديدًا ورفع المَظالم ودعم الخيارات البديلة لتسيير الحياة الاجتماعية والنشاط الاقتصادي؛ ومن ثمَّ فمن الممكن دراسة حركة العدالة العالمية من خلال التركيز على أولئك الأفراد الذين يُعبِّرون بفاعلية عن معارضتهم لسيطرة الليبرالية الجديدة على التحولات العالمية. قد يسهم فرادى المواطنين في الحملات المناهضة للعولَمة الليبرالية الجديدة؛ وذلك بتوقيع العرائض الداعية إلى إسقاط ديون البلدان النامية، أو المساهمة المالية في أنشطة منظَّمات مثل أتاك أو السلام الأخضر، أو تعبئة الحشود لوَقف إنشاء السدود في الهند أو إزالة الغابات في البرازيل، أو الاحتجاج على سلوك أفراد الشرطة في جنوة في يوليو ٢٠٠١، أو محاولات اعتراض السفن التي تُصدِّر النفايات السامة إلى البلدان النامية أو القطارات الحاملة للمُعدات العسكرية استعدادًا لغزو العراق في ٢٠٠٣. لكن الأفراد قد يُحقِّقون هذا الإسهام عن طريق أفعالٍ تؤثر كذلك على أنماط الحياة الفردية والسلوك الشخصي تأثيرًا لا يقل عن تأثيرها على الحياة العامة، بل ربما يفوقه. لقد شهدت السنوات الأخيرة انتشارًا في منظمات التجارة العادلة وممارساتها في مختلف أنحاء العالم الغربي، وربما يحاول الأفراد التأثير في موازين القوى الاقتصادية على نطاقٍ واسع؛ وذلك باستهلاك مُنتجاتٍ معيَّنة أو اتخاذ قرار بالتعامل الحصري مع البنوك التي تَلتزم بمراعاة المعايير الأخلاقية والأدبية (ميكيليتي وفوليسدال وستالي ٢٠٠٣؛ فورنو وشيكاريني تحت الطبع).
ورغم كل ما سبق، لا يُمكِن اختزال الحركة المناهضة للعولمة في مجموعات من الأفراد تجمعهم رؤًى وسلوكيات مُتشابهة؛ فبدلًا من التركيز على الخصائص الفردية، لعله من المثير للاهتمام أيضًا التركيز على سمات الفعاليات التي تعكس الصراعات بين أصحاب السلطة ومناوئيهم، إلى جانب الفعاليات التي تجمع الأفراد والمؤسسات المؤيدين لقضيةٍ ما؛ وذلك لمناقشة الاستراتيجيات ووضع برامج العمل واستعراض الأجندات. طالما أجاد ناشطو العدالة العالمية تنظيم الفعاليات أو إفساد فعاليات الخصوم، مُحقِّقِين أثرًا عاطفيًّا قويًّا على الرأي العام والمشاركين على السواء. قبل معركة سياتل، كانت اللقاءات الدورية التي تَعقدها المنظمات الدولية المرتبطة بالأجندة الليبرالية الجديدة، كمُنظَّمة التجارة العالمية أو صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو مجموعة الثمانية، تمثل فرصةً سانحة لسلسلة من التظاهرات البارزة ذات الحضور الكثيف، والتي يُحاول المشاركون فيها إفساد التجمُّعات المذكورة وجذب الأنظار إلى أجنداتٍ بديلة (بودوبنيك ٢٠٠٤). إن كل ما روَّج له ناشطو العدالة العالمية من فعاليات، أبرزها اجتماعات المنتدى الاجتماعي العالَمي في بورتو أليجري ومومباي، ونظيراتها الأوروبية في فلورنسا (٢٠٠١) أو باريس (٢٠٠٣) أو لندن (٢٠٠٤)، واللقاءات المُوازية في الجنوب؛ كالمُنتدى الاجتماعي الأفريقي الذي عقد دورته الأولى في باماكو عاصمة مالي، في يناير ٢٠٠٢، يثبت حيوية «حركة الحركات» وقوَّتها (بيانتا ٢٠٠١أ). في الخامس عشر من فبراير عام ٢٠٠٣ شكَّلت مئات الفعاليات المناهضة للحرب في مُختلف أنحاء العالم، ما قد يُعدُّ أكبر تظاهرة سياسية يجري تنظيمها عبر التاريخ؛ إذ نزل مناهضو غزو العراق على امتداد القارات الخمس إلى الشوارع بالملايين (والجريف وروشت تحت الطبع). ولو انتقلنا إلى الصعيدَين الإقليمي والمحلي، فسنجد أن نقاد ظاهرة العولَمة قد روَّجوا لآلاف من الفعاليات، تراوحت ما بين تظاهرات تتَّسم بطابع المواجهات وعرض لتقارير أو تصريحات صحفية، وبين التجمُّعات المسائية ذات الطابع الديني واستقطان المباني العسكرية، وتؤيد مثل هذه الفعاليات، التي تتراوح مستوياتها بين الوطني والمغرق في المحلية؛ الرؤى الشائعة بشأن وجود حركة متميِّزة تتَّخذ من مناهضة العولمة منهجًا لها.
نستخدم مصطلح «حركة العدالة العالمية» في أحيانٍ أخرى قاصدين به، في المقام الأول، المنظمات العاملة في نطاق تلك القضايا. إن المعارضة للعولمة الليبرالية الجديدة كانت تضطلع بها ائتلافاتٌ واسعة من المنظمات، وعادةً ما تمارس نشاطها على أساسٍ عابر للحدود والقوميات (بايستيدزينسكي وشاخت ٢٠٠١؛ باندي وسميث ٢٠٠٤)، ولبعضها — إن لم يكن لأغلبها — باعٌ طويل في النشاط السياسي والاجتماعي، وتنتمي لشتى ألوان الطيف السياسي. لقد شهدنا في سياتل كما شهدنا في جنوة وغيرهما مشاركة أحزابٍ سياسية قائمة ومعترف بها في التظاهرات، وكانت تنتمي في أغلبها، إن لم يكن بأكملها، إلى تيار اليسار؛ كان الأمر نفسه يَصدُق على النقابات العمالية، والمزارعين، وغيرها من المنظمات العمالية، والمنظمات العِرقية التي تمثل كلًّا من السكان الأصليين والمهاجرين، وجمعيات حماية المستهلك التي تواجه الشركات المتعددة الجنسيات، والمؤسسات الدينية والمجموعات الكنسية، وجماعات حماية البيئة، والجمعيات النسائية، ومراكز الشباب الراديكالية المستقلة (التي يُطلق عليها في إيطاليا «المراكز الاجتماعية»)، وما شابه ذلك. لكن حملات النقد الموجَّهة إلى العولمة الليبرالية الجديدة قد تمخَّضَ عنها أيضًا منظماتٌ مُعيَّنة، من بينها منظمة أتاك، تدافع عما يُسمَّى ضريبة توبين لتقليص المكاسب المالية في سوق الأوراق المالية الدولية؛ ومن أمثلتها الأخرى العمل العالمي للشعوب، وهو ائتلاف يضم مئات من المجموعات في الشمال والجنوب، أو ريتي ليليبوت، وهي شبكة في إيطاليا تشمل جماعات وجمعيات وأفرادًا، ولها نشاط في مجال القضايا البيئية والتجارة العادلة والعدالة الاجتماعية. تجدر بنا الإشارة إلى الدور الذي تَلعبه المؤسسات التي لا تحمل طابعًا سياسيًّا مباشرًا؛ فانتشار ممارسات التجارة العادلة يُسهِّله وجود شبكات موسَّعة من الجمعيات التعاونية وصغار البائعين بالتَّجزئة في الدول الغربية، ممن يحاولون بطريقةٍ ما تحقيق توازن بين الفعل الجمعي القائم على اعتباراتٍ أخلاقية وبين متطلبات السوق، كما أن انتشار شبكات الثقافة المضادة التي تربط الناشطين الراديكاليين من جميع أنحاء العالم يُمهِّد له وجود كياناتٍ بديلة من مقاهٍ ومكتبات ومراكزَ اجتماعيةٍ وثقافية، تُقدِّم إلى المنتسبين للأوساط المتطرفة نقاط التقاء، بل ومحل إقامة أحيانًا. بالنظر إلى هذه العلاقة من منظورٍ مختلف بالكلية، سنجد أنه من الممكن اعتبار شبكة المدارس الإسلامية والمساجد وغيرها من المعاهد الداعمة للإسلام الأصولي كجهاتٍ تُقدِّم البنية التحتية التنظيمية اللازمة لنشر هذا النموذج المعيَّن من نماذج مناهضة العولمة الغربية (فيليول وبيناني-شرايبي ٢٠٠٣؛ لوبيك وريفر ٢٠٠٤؛ لانجمان ٢٠٠٤). إن المؤسسات، أيًّا كانت سماتها الخاصة، تضمن للفعل الجمعي استمراريته، حتى عندما تضعف، نوعًا ما، احتماليةُ المشاركة التلقائية والمباشرة دون وساطة، كما أنها تُزوِّد الفعل بالموارد والفُرص اللازمة للتصعيد حين تكون الظروف أكثر ملاءمة، بالإضافة إلى تزويده بالمصادر اللازمة لخَلق الولاءات والهويات الجمعية وإعادة إنتاجها. رغم ما سبق، ومع إقرارنا بأهمية المؤسسات العاملة في مجال الحركات، علينا ألَّا نقع في خطأ الربط بين الحركات والمؤسسات. كانت حركة العدالة العالمية، إلى الآن، أقل عرضة لهذا الخطر مقارنةً بغيرها من الحركات، كالحركة المعنية بحماية البيئة؛ إذ كثيرًا ما كانت المؤسسات الكبرى العابرة للحدود والقوميات، مثل السلام الأخضر أو الصندوق العالمي للحياة البرية، أو شبكة أصدقاء الأرض، تَخطف الأضواء في نهاية المطاف، وربما عن غير عَمد منها.
(١) تحليل الحركات الاجتماعية: أربعة تساؤلات أساسية
إن دراسة الحركات الاجتماعية، كما يوضح مثال حملات العدالة العالمية، تعني التركيز على الجوانب التي قدَّمنا لها للتوِّ، أو بعضها على الأقل، كما تعني، وهو الأهم، الاهتمام بكيفية ارتباط الأفكار، والأفراد، والفعاليات، والمؤسَّسات بعضها ببعض في عمليات الفعل الجمعي الأوسع نطاقًا، مع شيء من الاستمرارية على مرِّ الزمن. بالنظر إلى طبيعة الحركات الاجتماعية المعقَّدة والمتعدِّدة الأبعاد، لا غرو أنه من المُمكن تناولها في إطار كوكبة من التساؤلات الفكرية الشديدة التنوُّع، لكن اهتمامنا في هذا الكتاب سينصبُّ على أربع مجموعات من تلك التساؤلات سنُعبِّر عنها بصيغةٍ عامةٍ شاملة، كما سنُحاوِل ربطها بالقضايا النظرية والعملية الأعم والأشمل التي كانت دافعًا مُلهمًا لتحليل الفعل السياسي الشعبي والمقاومة الثقافية منذ ستينيات القرن العشرين.
تشير المجموعة الأولى من التساؤلات إلى العلاقة الرابطة بين التغيرات والتحولات البِنيوية في أنماط الصراع الاجتماعي: هل بالإمكان النظر إلى الحركات الاجتماعية باعتِبارها تعبيرًا عن الصراعات؟ وأي نوع من الصراعات؟ هل شهدت الصراعات الرئيسية التي تتناولها الحركات الاجتماعية أي تغيُّرات؟ وعلى أي نسق سارت تلك التغيرات؟
تتعلَّق المجموعة الثانية من التساؤلات بدور التمثيلات الثقافية في الصراع الاجتماعي. كيف تُعتَبَر المشكلات الاجتماعية مادةً محتملة للفعل الجمعي؟ كيف تسهم طائفة معيَّنة من الفاعلين الاجتماعيِّين في تنمية حس المشاركة والتطابق والتماهي مع «الذات الجمعية» نفسها؟ وكيف يمكن اعتبار فعالياتٍ احتجاجيةٍ محدَّدة جزءًا من الصراع عينه؟ ما المصدر الذي تَنبثِق منه ثقافات الحركة الاجتماعية وقِيَمُها؟
أما الطائفة الثالثة من التساؤلات فتُعنى بتحليل العملية التي تتحوَّل خلالها القيم والمصالح والأفكار إلى فعلٍ جمعي. كيف يُصبِح بالإمكان تعبئة الجماهير ومواجهة أخطار النشاط الاحتجاجي وتكاليفه؟ ما طبيعة الأدوار التي تلعبها كلٌّ من الهويات والرموز والعواطف والمنظمات والشبكات في تفسير انطلاق الفعل الجمعي واستمراريته؟ ما الأشكال التي تتَّخذها المنظمات في مساعيها لتقوية المعارضة الجمعية ونتائجها إلى أقصى حد؟
وأخيرًا، لطالَما طُرِحت تساؤلات بشأن كيفية تأثير سياقٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ وثقافيٍّ معيَّن، أو أيٍّ من تلك التصنيفات، على فُرَص النجاح القائمة أمام الحركات الاجتماعية وعلى الأشكال التي تتَّخذها. ما الذي يفسر تفاوت حدة العنف الجمعي وغيره من أنواع التحديات الجمعية المناهِضة لأصحاب السلطة وذلك بمرور الزمن؟ هل تُؤثِّر سمات الأنظمة السياسية ومواقفها حيال مطالب المُواطِنين على ما يُمكن أن يُحدثه المنخرطون في هذه المواجهات من أثر في الساحة السياسية؟ كيف تتغيَّر الخطط والاستراتيجيات الاحتجاجية بمرور الوقت، ولماذا تتغير؟
لا شك أن هذه التساؤلات لا تَعكِس بالكامل ثراء الحوارات الدائرة بشأن الفعل الجمعي والحركات الاجتماعية، بَيد أنها لعبت بالتأكيد دورًا ملموسًا في تشكيل ملامح النقاشات على امتداد العقود السابقة. لقد كان لعقد الستينيات من القرن العشرين أهميةٌ بالغة بالفعل؛ إذ لم تشهد تلك الحقبة زيادة في الأنماط الجديدة للمشاركة السياسية فحسب، بل عاصرت تغيرًا في قضايا الصراع الرئيسية؛ فقد جرت عادة الحركات الاجتماعية على التركيز في الأساس على قضايا الطبقة العاملة والشعوب. لكن منذ مطلع الستينيات برزت «الحركات الاجتماعية الجديدة»، وقد تركز اهتمامها على قضايا مثل تحرير المرأة، وحماية البيئة، ونحو ذلك من قضايا، وقد تولَّدت عن هذه التغيرات الكمية والنوعية في حركة الاحتجاج تطوراتٌ ملحوظة في المنهج الذي اعتنقه علماء الاجتماع لتناول تلك التساؤلات، وبات يُنظر إلى أهم النماذج النظرية المتاحة آنَذاك لتفسير الصراع الاجتماعي — النموذج الماركسي والنموذج الوظيفي البِنيوي — باعتبارها قاصرةً عن أداء وظيفتها إلى حدٍّ كبير.
كثيرًا ما اعتمد الباحثون في أوروبا على الفكر الماركسي لتفسير الموجة الجديدة من الاحتجاجات التي واجهوها، غير أن محاولاتهم لتفسير التطورات التي طرأت على أنماط الصراع في ستينيات القرن العشرين صادفت عددًا من المشكلات؛ فالتحولات الاجتماعية التي شهدتها فترةُ ما بعد الحرب العالمية الثانية أثارت الشكوك والتساؤلات حول مركزية الصراع بين رأس المال والعمل، كما أن تَعاظُم فرص الحصول على التعليم الجامعي أو الدخول الجماعي للنساء إلى سوق العمل خلق احتمالاتٍ بِنيوية جديدة للصراع، وضاعَفَ من أهمية عدد من المعايير الأخرى للتدرج الاجتماعي — كالعلاقات بين الجنسَين على سبيل المثال. لو ألقينا نظرةً عابرة على عقد الستينيات، فلن يسعنا إلا أن نلاحظ كثيرًا من الفاعلين المُنخرِطين في تلك الصراعات (الشباب، والنساء، والفئات المِهَنية الجديدة) لم تَربِطهم سوى صلةٍ ضعيفة بالصراعات الطبقية، وهي الصراعات التي شكَّلت المكوِّن الرئيسي من مكونات الانقسامات السياسية داخل المجتمعات الصناعية (روكان ١٩٧٠؛ تيلي ٢٠٠٤أ). لم تكن الشكوك المحيطة باستمرار بقاء الطبقة العاملة في المجتمع ما بعد الصناعي هي السبب الوحيد الذي قوَّض مكانة التفسيرات الماركسية؛ إذ تعرَّض المنطق الذي يقوم عليه النموذج التفسيري للهجوم أيضًا؛ فقد رفض النقاد العنصر الحَتمي الراسخ في المأثورات الماركسية: الإيمان بأن تطور الصراعات الاجتماعية والسياسية مشروط بمُستوى تطور قوى الإنتاج وبالديناميكيات المُحدِّدة للعلاقات الطبقية. علاوةً على ذلك، أيَّد هؤلاء النقاد تلك النزعة (ذات الحضور القوي بوجهٍ خاص بين أصحاب الفكر الماركسي التقليدي) إلى إنكار كثرة القضايا والصراعات داخل الحركات الحقيقية وإلى الاستعاضة عنها بصورٍ غير مألوفة للحركات باعتبارها أطرافًا فاعلةً مُتجانسة تتمتَّع بمُستوًى عالٍ من القدرة الاستراتيجية (انظر على سبيل المثال تورين ١٩٧٧، ١٩٨١).
لقد صادَفَت المشكلات نفسها، إلى حدٍّ ما، أشهر نماذج المنهج الوظيفي البنيوي، ألا وهو نموذج نيل سميلزر (١٩٦٢)، الذي اعتبر الحركات الاجتماعية الأعراض الجانبية الناجمة عن التحولات الاجتماعية المتسارعة للغاية. ذهب سميلزر في نموذجه إلى أنه في الأنظمة التي تتكون من أنظمةٍ فرعية متوازنة، من شأن السلوك الجمعي أن يكشف عن توترات تعجز آليات إعادة التوازن الداخلي عن امتصاصها على المدى القصير. إنَّ لظهور السلوكيات الجمعية — كالطوائف الدينية والجمعيات السرية والفِرَق السياسية والرُّؤى الاقتصادية اليوتوبية — في أوقات التحولات السريعة الواسعة النطاق معنًى مزدوجًا؛ فهي تعكس، من جانب، عجز المؤسسات وآليات الضبط الاجتماعي عن إعادة خلق التماسك الاجتماعي، وتُبرز، من جانبٍ آخر، محاولات المجتمع الاستجابة للأزمات عن طريق تطوير مجموعة من المُعتقَدات المشتركة يتَّخذها قواعد لبناء أسسٍ جديدة للتضامن الجمعي.
يتكوَّن نموذج القيمة المضافة الذي وضعه سميلزر لتفسير السلوك الجمعي من ست خطوات: «السببية البنيوية»، التي تعني أن نسقًا معينًا للبِنية الاجتماعية قد يُسهل بروز أنماطٍ محدَّدة من السلوك الجمعي أو يَمنعه؛ و«الضغوط البنيوية»، وهو ما يَعني أن كيانًا جمعيًّا ما ينظر إلى سمةٍ واحدة، على الأقل، من سمات المنظومة الاجتماعية باعتبارها مصدرًا للتوتُّر والمشكلات؛ و«نمو الاعتقادات المعمَّمة وانتشارها»، والمقصود بذلك هو ظهور تفسيرٍ مُشترك لوضع المجتمع ومشكلاته على يد الفاعلين الاجتماعيِّين؛ و«العوامل المعجِّلة»، وهي الأزمات التي تدفع الفاعلين إلى التحرُّك واتخاذ إجراءٍ ما؛ و«استنفار الحشود»، الذي يتمثل في الأنشطة العلائقية والمؤسسية التي تُحوِّل الفعل المحتمل إلى فعلٍ حقيقي؛ و«عمل الضبط الاجتماعي»، وهو الدور الذي تلعبه هيئات الضبط الاجتماعي وغيرها من الأطراف الفاعلة في رسم ملامح تطور الفعل الجمعي وأشكاله (سميلزر ١٩٦٢؛ انظر أيضًا كروسلي ٢٠٠٢، الفصل الثاني).
يعتقد بعض الباحثين أنه من المؤسف أن بحث سميلزر ارتبط في نهاية الأمر بأزمة النموذج الوظيفي ارتباطًا وثيقًا؛ فبالرغم من مشكلاته، فإنَّ نموذجه يُعدُّ من أهم المساعي لربط عملياتٍ مُختلِفة، كانت ستُعامَل لاحقًا باعتبارها عملياتٍ منفصلة، في إطار نموذجٍ متكامل ولتأسيس العملية التحليلية للحركات الاجتماعية داخل إطار علم الاجتماع العام على قواعدَ راسخة (كروسلي ٢٠٠٢: ٥٣–٥٥)، غير أن المناخ الثقافي الذي ساد خلال السنوات التي أعقبت نشر كتاب سميلزر أدَّى إلى تصنيفه تحت مجموعة أوسع من المناهج التي كانت تَنظُر إلى الحركات الاجتماعية باعتِبارها ردود فعل محضة للأزمات الاجتماعية، ونتيجة مُترتِّبة على سوء الإدماج، وهو ما جعله هدفًا للانتقادات نفسها. لنرَ الآن كيف تبلورت الانتقادات الموجَّهة إلى المنهجَين الماركسي والوظيفي في ضوء التساؤلات الأربعة التي طرحناها سلفًا.
(١-١) هل تُهيئ التغيرات الاجتماعية الظروف لنشوء الحركات الجديدة؟
بالنظر إلى المكانة التي احتلَّها الفكر الماركسي في المناقشات الفكرية الأوروبية، ليس من المُستغرَب أن كانت العلوم الاجتماعية الأوروبية هي الأكثر حرصًا على تفسير صعود حركات عقدَي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين من خلال التناول الصَّريح بالنقد والتحليل للنماذج الماركسية المستخدمة في تفسير الصراعات الاجتماعية، وقد تناوَلَت هذه الانتقادات أكثر تيارات الفكر الماركسي التزامًا بالنسق البِنيوي، مرجعةً الصراعات الطبقية إلى أنماط الإنتاج مباشرةً، وتلك التيارات المُهتمَّة بتشكُّل الوعي الطبقي (أو الطبقات في ذاتها). مما لا شكَّ فيه أن إدراك تلك المشكلات لم يكن مقصورًا على الباحثين العاكِفين على دراسة الحركات الجديدة؛ فالصعوبات نفسها أثارها مَن درسوا الحركة العُمالية بغرض توضيح عملية خلق الفاعل الجمعي، في تحدٍّ للفكرة الشائعة القائلة بالتحوُّل شبه التلقائي للضغوط البنيوية في السلوك الواعي (تومبسون ١٩٦٣).
إن هذا الانفصام في الصلة بين الحركات الاجتماعية السائدة في المجتمعات الصناعية والحركات الجديدة قد أكَّده أيضًا عالم الاجتماع الألماني كلاوس أوف (١٩٨٥) في ثمانينيات القرن العشرين. يرى كلاوس أن الحركات تُكوِّن موقفًا نقديًّا جوهريًّا قائمًا على التحليل السياسي حيال المنظومة السياسية والديمقراطية النيابية ذات الطابع التمثيلي، مُتحديةً الافتراضات المؤسسية بشأن الأساليب التقليدية لممارسة العملية السياسية، وذلك باسم الديمقراطية الراديكالية. استحدثت الحركات الجديدة، خلافًا للحركة العمالية، مجموعة من الأفكار، من أهمها الأيديولوجية النقدية فيما يتعلَّق بالحداثة والتقدم، والهياكل المؤسسية اللامركزية القائمة على المشاركة، والدفاع عن التضامُن المتبادَل بين الأفراد ضد البيروقراطيات العظمى، واسترداد المناطق المستقلَّة بدلًا من إحراز المزايا المادية.
من الإسهامات الأخرى المعنية بتعريف الخصائص المُميِّزة للحركات الجديدة في المجتمعات المُبَرمَجة تلك التي قدمها ألبيرتو ميلوتشي (١٩٨٢، ١٩٨٩، ١٩٩٦). استعان ميلوتشي بالصورة التي طرحها يورجين هابرماس عن استعمار عوالم الحياة؛ وذلك ليَصِف المجتمعات المعاصرة كأنظمة على درجةٍ عالية من التمايُز والاختلاف، تَستثمِر مواردها على نحوٍ مُتزايد لخلق مراكز فردية مستقلَّة للفعل، بينما تتطلَّب في الوقت نفسه تكاملًا أوثق وسيطرةً أوسع على دوافع الفعل البشري. يَعتقِد ميلوتشي أن الحركات الاجتماعية الجديدة تَسعى لمُعارضة تدخُّل الدولة والسوق في الحياة الاجتماعية، محاولةً استرداد حق الأفراد في تحديد هوياتهم وتقرير حياتهم الخاصة والعاطفية في مواجهة قبضة النظام الشاملة المُتغلغلة في كل جوانب الحياة. بالإضافة إلى ما سبق، يرى ميلوتشي أنَّ الحركات الاجتماعية الجديدة، خلافًا للحركة العمالية، لا تقصر طموحها على السَّعي وراء المكاسب المادية، بل تتحدَّى المفاهيم المُبهمة عن السياسة والمجتمع في حد ذاتهما، ولا يُطالب الفاعلون الجدد كثيرًا بزيادة تدخل الدولة من أجل ضمان الأمن والرَّفاه، بل يَبذلون جهدًا خاصًّا لمقاومة توسُّع التدخل السياسي والإداري في شئون الحياة اليومية والدفاع عن الاستقلالية الشخصية.
سيكون من قبيل التضليل التحدُّث عن منهج الحركات الاجتماعية الجديدة دون الإقرار بأن أهمَّ دعاة هذا المنهج قد أخضعوا مواقفهم لتنقيحاتٍ وتعديلاتٍ بالغة بمرور الزمن؛ ففي أواخر ثمانينيات القرن العشرين، أدرك أوفِ (١٩٩٠) ما للفعل السياسي التقليدي من تأثير على مُمارسات الحركات، ثم وجَّه ميولتشي اهتمامًا متزايدًا بالآليات التي تُؤدِّي إلى إنتاج تمثيلات معيَّنة للعالم والهويات الفردية والجمعية كما تؤدِّي إلى تحوُّلها بمرور الزمن (١٩٨٩، فيما يخص هذه النقطة انظر بارتولوميو وماير ١٩٩٢)، بل وذهب ميلوتشي إلى ما أبعدَ مِن ذلك، فصرَّح بأن الجدل القائم حول «حداثة» الحركات المعاصرة إنما هو حديث عفا عليه الزمن أو لم تَعُد له أهمية (انظر، على سبيل المثال، ميلوتشي ١٩٩٤).
بيد أن مثل هذا المنظور كان له — ولم يزل — محاسنه العديدة، بادئ ذي بدء، لفت هذا المنهج النظر إلى العوامل البِنيوية المحدِّدة للاحتجاجات، معيدًا النظر في أهمية الصراع، وذلك في مرحلة كانت الصراعات غير الطبقية محل تجاهُل في كثير من الأحيان. ثانيًا، وبالمقارنة بالماركسيين، فإن لمُنظِّري الحركات الاجتماعية الجديدة ميزتَين محدَّدتين؛ لقد وضعوا الأطراف الفاعلة في قلب المرحلة مرةً أخرى، وسلَّطوا الضوء على السمات التجديدية للحركات التي لم تَعُد تَعتبِر نفسها ذات صلة في الأساس بمنظومة الإنتاج. علاوة على ذلك، يجدر بنا ألَّا ننسى وجود مجالاتٍ بحثية بارزة مستلهَمة إلى حدٍّ كبير من فرضياتهم الأولية (ميهيو ١٩٩٥).
بالرغم من التأثير الذي أحدثه منظور «الحركات الاجتماعية الجديدة»، فإنَّ الاهتمام بالعلاقة بين البِنية الاجتماعية والفعل الجمعي ليس مقصورًا على هذا المنظور بأي حال من الأحوال؛ فالماركسية لم تنفكَّ تُلهِم كثيرًا من مُحلِّلي الفعل الجَمعي ممَّن لا يَزالون يُولون مفهوم الطبقة الاجتماعية دورًا محوريًّا (انظر على سبيل المثال باركر وديل ١٩٩٩؛ لافاليت وموني ٢٠٠٠؛ كليفلاند ٢٠٠٣)، كما يُمكن النظر إلى المناهج البِنيوية المتأثِّرة بالفكر الماركسي تأثرًا شديدًا باعتبارها مرحلةً سابقةً ممهِّدة للحركة البحثية المزدهرة حاليًّا التي تتَّخذ من ظواهر العدالة العالمية موضوعًا للدراسة. لقد حاول الباحثون، متأثِّرين على نطاقٍ واسع بنظرية «النظام العالمي» لإيمانويل والرستين (١٩٧٤، ٢٠٠٤)، وضع الموجة الجديدة من تعبئة الحشود الشعبية في البلدان النامية والعالم الغربي على حدٍّ سواء في سياق العمليات الأوسع نطاقًا لإعادة الهيكلة الاقتصادية على نطاقٍ عالمي ومن منظورٍ تاريخيٍّ طويل المدى (أريجي وهوبكينز ووالرستين ١٩٨٩؛ سيلفر وسليتر ١٩٩٩، الفصل الثالث؛ مودي ١٩٩٧؛ ريفر ٢٠٠٤).
في انتقادٍ صريح للتحليلات القائلة بتلاشي الصراع الاجتماعي وإخضاعه للطابع الفردي، وفي انتقادٍ أشد صراحة لنهاية الصراع حول حصص الأفراد من الثروة، يرى الباحثون من هذا المنظور الأزمة التي واجهتها الحركة العمَّالية في عَقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، والتي أعقبت إعادة الهيكلة الاقتصادية على المستوى العالمي، باعتبارها ظاهرةً تُشكِّل نقطة تحوُّل إلى حدٍّ كبير. من المتوقع أن يؤدِّي الإخفاق الشامل في تلبية توقُّعات الطبقة العاملة المنتمية إلى البلدان النامية إلى تأجيج موجةٍ جديدة من الصراعات الطبقية المُتواصِلة، والتي ستَعكِس بدورها أيضًا ظاهرة التأنيث المُتنامي للقوى العاملة وطابعها العِرقي الأكثر وضوحًا؛ وذلك عقب ديناميكيات الهجرة الجماعية (أريجي وسيلفر ١٩٩٩). يبدو أن مثل هذه الحجج تدعمها الأهمية المتنامية لمفهوم «العدالة العالمية» كقضيةٍ محورية (أندريتا وديلا بورتا وموسكا ورايتر ٢٠٠٢، ٢٠٠٣)، بل إن الحركات الاجتماعية، وعلى غير المتوقَّع، شهدت تطورًا في شطر العالم الجنوبي، أسهم في تحقيق التقارب في الأطر والبِنى المؤسسية مع نظيراتها في الشطر الشمالي، وقد صاحب ذلك تطور في الأبحاث المعنية بالحركات الاجتماعية (لا سيما في بعض المناطق الجغرافية كأمريكا اللاتينية والشرق الأقصى) والمُعتنقة لمنهج أنطونيو جرامشي في كثير من الأحيان، مؤكدةً دور الهيمنة الثقافية.
من أبرز المساعي الأخرى لربط التغيُّرات الاجتماعية البِنيوية بالفعل الجمعي الجماهيري تلك المرتبطة باسم مانويل كاستيلز (١٩٨٣، ١٩٩٦). أسهم كاستيلز، في مرحلة مبكرة من أبحاثه، في تشكيل إدراكنا لنشأة الحركات الاجتماعية الحضرية؛ وذلك بتسليط الضوء على أهمية العمليات الاستهلاكية (وبخاصة الاستهلاك الجمعي للخدمات والمنافع العامة) بالنسبة إلى العلاقات بين الطبقات، وكذلك بتحويل تركيز التحليل الطبقي من العلاقات الرأسمالية داخل محل العمل إلى العلاقات الاجتماعية داخل المجتمعات الحضرية (كاستيلز ١٩٨٣). أقدم كاستيلز لاحقًا على ربط الأهمية المتنامية للصراعات حول الهوية في كل من الغرب (الحركة النسائية نموذجًا) والجنوب (حركة زاباتيستا والأصولية الدينية نموذجًا) بنشأة «المجتمع الشبكي»، حيث تلعب تكنولوجيات المعلومات الجديدة دورًا محوريًّا.
كان عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو مصدر إلهام لجهد رائد آخر يسعى لربط التحليل البِنيوي بتحليل الحركات الاجتماعية؛ فالباحثون المُنخرِطون في تحليل العادات الثقافية (أو الميول الثقافية التي تنتجها عمليات التنشئة الاجتماعية) ومحدداتها البنيوية استعانوا برُؤى بورديو لاستكشاف أمثلةٍ محدَّدة للصراعات السياسية، مع التركيز على دلالاتها الثقافية في إطار الميادين المُحددة التي يَنتمي إليها الأفراد. ذهب بعض الباحثين إلى ما هو أبعد من المصالح الاقتصادية، مُفسِّرين نشاط الحركات الاجتماعية باعتباره تابعًا للاحتياجات والرغبات المُستمَدة من القيم والمعايير المُميِّزة لثقافات (أو مجالات) محدَّدة؛ ومِن ثم فالفعل، من هذا المنطلق، ليس عقلانيًّا، بل معقولٌ ومبرَّر (بورديو ١٩٨٠: ٨٥-٨٦؛ إكشتاين ٢٠٠١؛ سومييه ٢٠٠٣). إلى جانب ذلك، استعان كروسلي (٢٠٠٢)، من زاويةٍ مختلفة وبإشارةٍ صريحة إلى النظرية العامة على طريقة سميلزر، بمفاهيم بورديو الرئيسية عن التطبُّع والبنية والوكالة، وذلك ليطرح نموذجًا نظريًّا جديدًا قادرًا على دمج الرُّؤى المُستقاة من المناهج الأوروبية والأمريكية التي تبلوَرت عبر السنوات. شرع كروسلي في هذه المهمة جنبًا إلى جنب مع عملٍ نظري آخر داخل الإطار الأوسع لنظرية الهيكلة (سيويل ١٩٩٢؛ ليفساي ٢٠٠٣).
كان من أهم الانتقادات التي وجِّهت إلى نظرية الحركات الاجتماعية الجديدة أنها اتخذت من سماتٍ معينة، لم تكن جديدة بالضرورة ولا قابلة للتعميم، خصائص أساسية للحركات الاجتماعية الجديدة، ومن أمثلة تلك السمات أصول الناشطين التي تعود إلى الطبقة الوسطى، أو الأشكال التنظيمية المُفكَّكة (دانيري وإرنست وكير ١٩٩٠؛ كالهون ١٩٩٣؛ روتس ١٩٩٢؛ روديج ١٩٩٠؛ كوبمانس ١٩٩٥؛ تارو ١٩٩٤؛ ديلا بورتا ١٩٩٦أ: الفصل الأول). إنَّ المناهج البِنيوية في العموم عِيبَ عليها أيضًا إخفاقها في تحديد الآليات التي تُسهم في الانتقال من التوتُّرات البنيوية إلى مرحلة الفعل. لكنْ، إحقاقًا للحق، لا يَنطبِق هذا النقد على أعمال ميلوتشي وينطبق جزئيًّا فقط على أعمال تورين، بينما ينطبق بالتأكيد على علماء مثل أوفِ أو كاستيلز، أو على منظِّري النظام العالمي، ممن لا ينصبُّ اهتمامهم على العمليات الصغيرة أو المتوسطة. مهما يكن من أمر، فلا بد من اعتبار المناهج المطروحة هنا بمثابة نظريات عن الصراع الاجتماعي في المقام الأول؛ وبوجهٍ أخصَّ عن تأثير التحولات البِنيوية على رهانات الصراع وأشكاله. ومن الإنصاف الإشارة إلى أن المسائل المتعلِّقة على نحوٍ مباشر بظهور الفعل الجماعي وتطوره قد تناولتها تقاليدُ فكرية أخرى على نحوٍ أكثر إقناعًا.
(١-٢) كيف نُقيِّم القضايا باعتبارها موضوعاتٍ جديرة بالمناقشة والفاعلين باعتبارهم أطرافًا جديرة بالفعل الجماعي؟
نزع طلاب السلوك الجمعي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين إلى تصنيف ظواهر على قدر من التنوُّع مثل الحشود، والحركات، ونوبات الهلع، وحالات الهوس، وصيحات الموضة، وغيرها تحت العنوان نفسه، وقد نتج عن ذلك مشكلتان؛ فمن ناحية، رغم أن كثيرًا منهم عرَّفوا الحركات كظواهرَ هادفة، فإن طلاب السلوك الجمعي وجَّهوا مزيدًا من الاهتمام إلى الديناميكيات غير المتوقَّعة — كردود الأفعال الدائرية — بدلًا من التركيز على الاستراتيجيات المؤسسية المتعمَّدة، أو بوجهٍ أعم، الاستراتيجيات التي وضعتها أطرافٌ فاعلة. حسبما ذكر جيمس كولمان (١٩٩٠: ٤٧٩)، فإن الفرضية القائلة بأن مشاعر الإحباط وفقدان الانتماء والحرمان والتأزُّم الاجتماعي من شأنها أن تنتج الثورات تلقائيًّا إنما هي تختزل الفعل الجمعي إلى مُجرَّد حشدٍ مختلط من السلوكيات الفردية؛ فالمذهب الوظيفي يتجاهل تلك الديناميكيات التي تولِّد فيها المشاعر الفردية ظواهر كبرى كالحركات الاجتماعية أو الثورات.
تكمن نشأة الحركات الاجتماعية في أن تُوجد منظوماتٌ قيميةٌ مُتناقضة جنبًا إلى جنب وأن تَتعايش مجموعاتٌ مُتعارضة؛ إذ تُمثِّل تلك المنظومات والمجموعات أجزاءً مميزة للحياة الاجتماعية (كيليان ١٩٦٤: ٤٣٣). يجري تفسير مثل هذه التغيرات في البِنية الاجتماعية والنظام المعياري في إطار عملية من التطور الثقافي، تتفتَّق من خلالها أفكارٌ جديدة في أذهان الأفراد؛ فحين تُخفق المعايير التقليدية في تقديم بِنيةٍ مقبولة للسلوك، يضطر الفرد إلى تحدي المنظومة الاجتماعية عبر أشكالٍ متنوعة من المخالفة والانشقاق، وحين تنتشر مشاعر السخط وتعجز المؤسسات عن الاستجابة لهذه المشاعر لافتِقارها إلى المرونة الكافية؛ فإن ذلك من شأنه أن يُمهد لظهور الحركات الاجتماعية وتبلورها.
بيد أنه في عقد التسعينيات من القرن العشرين تصاعَدَ تبرُّم بعض الباحثين بالرأي القائل بأهمية دور الثقافة في الفعل الجمعي، والذي اعتبروه مفرطًا في الطابع الاستراتيجي والعقلاني (وبخاصة باحثون مثل سنو وبينفورد [١٩٨٨، ١٩٩٢]، ممَّن لهم إلمام بنظرية تعبئة الموارد)؛ ومِن ثم بادَروا بإعادة التشديد على الدور الذي تلعبه العواطف في إنتاج الحركات الاجتماعية وإعادة إنتاجها؛ فالتوجه الاستراتيجي، من وجهة نظرهم، ليس هو التوجُّه الوحيد (أو الرئيسي) الذي يحكم عملية الإنتاج الرمزي، بل تضمُّ المزيد من المشاعر والعواطف، واستدلُّوا على ذلك بأن الصدمات الأخلاقية التي يصاب بها الأفراد حينما تُنتَهك القواعد والمعايير الراسخة غالبًا ما تكون الخطوة الأولى في التعبئة الفردية، وأن التنظيمات الاحتجاجية تعمل، في الواقع، على تحويل الخوف إلى أنَفَة للحق وشعور بالغضب (جاسبر ١٩٩٧: ١٠٧–١١٤). كما ذهب هذا الفريق إلى أن الحركات تُولِّد مجموعة من الرموز مكثَّفة الدلالات ولغةً خطابية موجَّهة لإثارة أشكالٍ شتَّى من العواطف في عملية وُصِفَت باقتصاد الحركات الشهواني. كما علَّق جاسبر (١٩٩٧: ٢٢٠) في كتابه قائلًا: «إن كل الملذات التي يستمدها البشر من الحياة الاجتماعية تكاد تكون مجتمعة في الحركات الاحتجاجية: رُوح الجماعة والهوية، والصحبة والصلات الدائمة بالآخرين، تنوُّع المناقشات وإمكانية المعارضة، والتعاون والتنافس. إنَّ بعض هذه الملذَّات يفتقدها المرء في خضم الحياة الروتينية.»
من الجدير بالذكر أن منهج السلوك الجمعي هذا أدَّى إلى إشكاليتَين مهمتَين على الأقل: فمِن ناحية، رغم نظرتهم إلى الحركات الاجتماعية كظواهرَ هادفةٍ، فإن كثيرًا من دارسي السلوك الجمعي وجَّهوا أغلب اهتمامهم إلى الديناميكيات غير المتوقَّعة — كردود الأفعال الدائرية — بدلًا من التركيز على الاستراتيجيات المؤسَّسية المتعمَّدة، أو بوجهٍ أعم، الاستراتيجيات التي وضعتها أطرافٌ فاعلة تتَّسم بالعقلانية والنظرة الاستراتيجية؛ ونتيجة لتركيزهم، من ناحية أخرى، على التحليل التجريبي للسلوك، فقد اقتصروا في كثير من الأحيان على تقديم وصف — وإن كان مستفيضًا — للواقع، دون توجيه كثير اعتِناء بالأصول البنيوية للصراعات، والتي تَبرز على السطح لاحقًا في حركاتٍ معينة. بالنسبة إلى الإشكالية الثانية، فقد تعامَلَت معها المناهج البِنيوية؛ كنظرية الحركات الاجتماعية الجديدة، أما الإشكالية الأولى فقد تناولَتْها المناهج التنظيمية، كنظرية تعبئة الموارد التي سنُلقي الضوء الآن على أهمِّ مبادئها.
(١-٣) كيف يَصير الفعل الجمعي ممكنًا؟
في تناقُضٍ متعمَّد للمفاهيم التي تُصوِّر الحركات الاجتماعية كظواهرَ غير عقلانيةٍ قائمة إلى حدٍّ كبير على ردود الأفعال، بادر علماء الاجتماع الأمريكيون في عقد السبعينيات من القرن العشرين بتأمُّل العمليات التي يَجري من خلالها تعبئة الموارد الضرورية للفعل الجمعي. يرى هذا الفريق من علماء الاجتماع الحركات الجمعية امتدادًا للأشكال التقليدية للفِعل السياسي؛ إذ تَنخرِط الأطراف الفاعلة في الفعل بطريقةٍ عقلانية متَّبعين مصالحهم الخاصة، وتلعب التنظيمات و«رواد» الحركات دورًا جوهريًّا في تعبئة الموارد الجمعية التي يقوم عليها الفعل؛ فالحركات إذن جزء من العملية السياسية المُعتادة. عمد الكثير من الجهود البحثية إلى دراسة الطائفة المتنوعة من الموارد اللازمة تعبئتها، وفحص الصلات التي تَربط الحركات الاجتماعية بحلفائها، ورصد الخطط التي ستُعين بها المجتمع لمراقبة الفعل الجمعي أو ضمه إلى البناء المجتمعي، ونتائج هذا الفعل الجمعي. وقد أقدمت هذه الجهود البحثية على تلك المهمة مركزةً على العقبات والحوافز الخارجية. تتصل المسائل الأساسية التي تناولتها هذه المجموعة من علماء الاجتماع بتقييم التكاليف والمكاسب المترتِّبة على المشاركة في تنظيمات الحركات الاجتماعية.
من الإسهامات المُبكِّرة في هذا الصدد تلك التي قدَّمها كلٌّ من ماير زالد (زالد وآش ١٩٦٦؛ مكارثي وزالد ١٩٨٧أ، ١٩٨٧ب) وأنطوني أوبرشال (١٩٧٣، ١٩٨٠) وتشارلز تيلي (١٩٧٨)، الذين عرَّفوا الحركات الاجتماعية بأنها أفعالٌ عقلانية وهادِفة ومنظَّمة. يَنبع الفعل الجمعي، بناء على هذا المنظور، مِن تقديرٍ دقيق للتكاليف والمكاسب، يتأثر بوجود الموارد، وبخاصة التنظيمات والتفاعُلات الاستراتيجية اللازمة لتَكوُّن الحركات الاجتماعية. في سياقٍ تاريخيٍّ ما، حيث دائمًا ما تُوجَد مشاعر انزعاج وخلافات في الآراء وتضارب في المصالح وتعارُض في الأيديولوجيات، لا يُمكن تفسير نشأة الفعل الجمعي بأنها مجرد ظاهرةٍ ناتجة عن تلك العناصر، ولا يكفي أن نكتشف وجود توترات وصراعاتٍ بنيوية، بل علينا كذلك أن ندرس الظروف التي تُمكِّن من تحويل مشاعر السخط إلى تعبئة واحتشاد؛ فالقدرة على تعبئة الحشود تعتمد على الموارد المتاحة للجماعة سواءٌ كانت موارد مادية (العمل والمال والمكاسب الملموسة والخدمات)، أو موارد غير مادية (السلطة والالتزام الأخلاقي والإيمان والصداقة)، أو كلتَيهما. ويجري توزيع تلك الموارد على عدة أهداف طبقًا لتقديرٍ عقلاني للتكاليف والمكاسب. إلى جانب وجود التوتُّرات، تنشأ عملية التعبئة من الكيفية التي تتمكَّن بها الحركات الاجتماعية من تنظيم حالة السخط، وتقليص تكاليف الفعل، وخلق شبكات التضامُن واستغلالها، وتقاسم المحفزات بين أعضاء الحشد وإحراز التوافُق الخارجي. إن نوعية الموارد المتاحة وطبيعتها تُفسِّر الخيارات التكتيكية التي تتَّخذها الحركات وتبعات الفعل الجمعي على المنظومة الاجتماعية والسياسية (مكارثي وزالد ١٩٧٧؛ إدواردز ومكارثي ٢٠٠٤).
لقد أثار وجودُ شبكات التضامن الشكوكَ مجددًا حول افتراضٍ شائع آنذاك، ألا وهو أن أعضاء الحركات الجدد هم في الأساس أفراد مُنعزلون لا انتماء لهم، يسعون للانخراط في خضمِّ الحشد الجماهيري، كخيارٍ بديل عما يُعانونه من تهميشٍ اجتماعي؛ ومِن ثَمَّ يُمكن تفسيرُ تعبئة الحشود، طبقًا للمناهج العقلانية، باعتبارها أكثرَ من مجرد إشباع للرغبة في تحقيق الصالح العام؛ فهي تُعزِّز وجود روابط التضامن الأفقية داخل الجماعة الواحدة والروابط الرأسية بين جماعاتٍ مختلفة؛ ومن ثَمَّ بإمكان المرء أن يتوقَّع، استنادًا إلى طائفةٍ واسعة من الأبحاث التجريبية، أن «المشاركين في الاضطرابات الشعبية والناشطين المنخرطين في تنظيمات المعارضة سيجري استقطابهم في الأساس من بين الأفراد المندمجين على نحوٍ جيد نسبيًّا في الكيان الجمعي وممَّن لهم أنشطة سابقة، أما الأفراد المنعزلون اجتماعيًّا، والمُنفرِدون والمُستبعَدون، فلن يحظوا إلا بتمثيلٍ ضعيف، على الأقل إلى أن تُوطِّد الحركة دعائمها وترسِّخ أقدامها» (أوبرشال ١٩٧٣: ١٣٥). وبناءً على تلك الرؤية، يركز الباحثون في نظرية تعبئة الموارد على كيفية عمل الفاعلين الجمعيين وكيفية حصولهم على الموارد وتعبئتهم للدعم، بين جماعة أتباعهم وخارجها على حدٍّ سواء.
لقد عمدت الأبحاث المعنية بتنظيمات الحركات الاجتماعية في الآونة الأخيرة إلى توسيع نطاق اهتمامها ليَشمل العلاقات بين التنظيمات والديناميكيات الجارية في التجمُّعات التنظيمية، وقد تناولت الدراسات المعنية بالشبكات، التي تزداد تطورًا، التفاعُلات بين التنظيمات والأفراد المُرتبطين بالحركات الاجتماعية (دياني وماكادم ٢٠٠٣)، في حوارٍ نقدي مع الدراسات المهتمَّة برأس المال الاجتماعي (دياني ١٩٩٧) واهتمام مُتنامٍ بالبُعد العابر للحدود والقوميات والصِّلات التي تربط التنظيمات العاملة في ذلك المستوى (كانيجليا ٢٠٠١؛ سميث ٢٠٠٤أ). لقد طبق الباحثون المفاهيم والأساليب المقتبسة من علم البيئة التنظيمية على دراستهم للعوامل الكامنة وراء فرص البقاء المتاحة للتنظيمات، وبالإشارة مجدَّدًا إلى الصعيدَين الوطني (مينكوف ١٩٩٣، ١٩٩٩؛ إدواردز ومارولو ١٩٩٦) والعالمي (بولي وتوماس ١٩٩٩؛ جونسون ومكارثي ٢٠٠٥).
إن تعريف الحركات الاجتماعية باعتبارها عناصرَ فاعلةً واعيةً قادرة على اتخاذ خيارات عقلانية رشيدة إنما هو من أهم الابتكارات المنسوبة إلى منهج تعبئة الموارد، بيد أن المنهج نفسه قد وجَّه إليه الناقدون اتهامات بتجاهل المصادر البنيوية للصراع والمصالح المُحدَّدة في السيطرة على الموارد التي يَحشدها الفاعلون الاجتماعيُّون (ميلوتشي ١٩٨٢؛ بيفن وكلاورد ١٩٩٢). وكان تركيز هذه النظرية على الموارد التي تسيطر عليها قِلَّة من رواد الأعمال المُنخرطين في عالم السياسة، وذلك على حساب إمكانية التنظيم الذاتي التي تَمتلكها أشد الفئات الاجتماعية حرمانًا؛ محل انتقاد أيضًا (بيفن وكلاورد ١٩٩٢). وأخيرًا، من الملاحظ أن هذا المنهج، في تفسيره للفعل الجمعي، يبالغ في تركيزه على عقلانية الفعل الجمعي، دون أن يُعير الدور الذي تلعبه العواطف قدره في الاهتمام (فيري ١٩٩٢؛ تايلور وويتير ١٩٩٥؛ جاسبر ١٩٩٧). في واقع الأمر، وكما أَقرَّ مؤخرًا بعضٌ من أشد مؤيِّدي هذا المنهج تأثيرًا، «تُغالي النماذج المبكِّرة لتعبئة الموارد في مركزية القرارات الاستراتيجية المتأنية بالنسبة إلى الحركات الاجتماعية» (ماكادم وتارو وتيلي ٢٠٠١: ٧)، مبالغةً في التأكيد على أوجه التشابُه بين الحركات الاجتماعية والسياسة القائمة على المصالح.
(١-٤) ما العوامل التي تُحدد أشكال الفعل الجمعي وحِدَّته؟
أُضيفت إلى المُتغيِّرات السابقة مجموعةٌ أخرى مرتبطة بالظروف المؤسسية المنظمة لعمليتَي ترتيب الأولويات وصنع القرار، كما تناول الباحثون الخصائص المرتبطة بالتقسيم الوظيفي للسلطة واللامركزية الجغرافية بالتحليل؛ من أجل فهم أصول النشاط الاحتجاجي والأشكال التي اتخذها. كان هدف الباحثين، في العموم، هو تحديد خصائص النظام السياسي الثابتة أو «المتحرِّكة» التي تؤثر في نمو الفعل السياسي الأقل في طابعه المؤسسي خلال ما يُعرَف باسم الدورات الاحتجاجية (تارو ١٩٨٩أ)، إلى جانب الأشكال التي تتَّخذها تلك الأفعال في سياقات تاريخية مختلفة (تيلي ١٩٧٨). لقد عزز التحليل المقارن من فهمنا للقضية المِحوَرية المتمثلة في العلاقة بين الحركات الاجتماعية والنظام السياسي المؤسسي (كيتشيلت ١٩٨٦؛ ديلا بورتا ١٩٩٥؛ كريسي وآخرون ١٩٩٥؛ روشت ١٩٩٤؛ جوني ٢٠٠٤).
لقد نجح منهج «العملية السياسية» في تحويل الاهتمام نحو التفاعلات الجارية بين الفاعلين الجُدد والفاعلين التقليديِّين، وكذلك تلك التي تجري بين أشكال الفعل غير التقليدية والأنظمة المؤسسية الخاصة بتمثيل المصالح؛ وهكذا لم يَعُد من الممكن تعريف الحركات كظواهر تُمثِّل، بحكم الضرورة، تعبيرًا هامشيًّا ومناهضًا للطابع المؤسسي، يعكس أوجه القصور والخلل في المنظومة؛ فقد مهَّد هذا المنهج سبيلًا أجدى نفعًا نحو تفسير البُعد السياسي للحركات المعاصرة.
غير أنَّ علينا ألا نتجاهل بعض الصعوبات الملحَّة؛ فمن ناحيةٍ، يواصل مؤيدو هذا المنظور مناقشة مشكلاتٍ دقيقة كاختيار أنسب المؤشرات لتقدير الظواهر المؤسسية المعقدة. بادئ ذي بدء، إن عدم وجود توافُق بشأن الأبعاد ذات الصلة لمفهوم الفرص السياسية (ماكادم ١٩٩٦) أدَّى إلى تزايدها باطِّراد (ديلا بورتا ١٩٩٦ﺟ). لقد ركزت الدراسات المبكرة للفرص السياسية على عددٍ ضئيل من المتغيرات، بيد أن عقد الثمانينيات من القرن العشرين شهد إجراء عدد من دراسات الحالة ومقارنات بين البلدان أسفرت عن إضافة متغيِّراتٍ جديدة إلى المجموعة الأصلية (انظر، على وجه الخصوص، براند ١٩٨٥؛ كيتشيلت ١٩٨٦؛ روشت ١٩٨٩؛ كريسي ١٩٩١)؛ مما أدى إلى اتساع نطاق قوة المفهوم التفسيرية، لكنه قلَّص من خصوصيته وإطاره التحديدي، وصار المفهوم معرَّضًا ليصير «سلة مهملات»، يُلقى إليها بأي متغيرٍ ذي صلة بنشأة الحركات الاجتماعية وتطورها. إن أغلب مشكلات المفهوم منشؤها الطريقة التي وُضِع بها، جامعًا مُتغيِّرات من طائفةٍ متنوِّعة من الدراسات المتناولة لحركاتٍ شتَّى، وقد خلق هذا الحشد من المتغيرات غير المتجانسة، التي تعكس اهتمامات وأفكارًا شتَّى لكتَّاب مختلفين، مفهومًا ذا معنًى ظاهريٍّ كبير لكنه ضيق في دلالته، على حدِّ تعبير سارتوري (١٩٧٠، وكذلك ١٩٩٠). من غير الممكن، لا سيما في الدراسات الدولية المقارنة، معالجة هذا العدد الضخم من المتغيرات وتقييم قوَّتها التفسيرية كما يَنبغي، كما أن التركيز على المُتغيِّرات البِنيوية قد يصرف الاهتمام عن كيفية تأثير المعايير والقيم، لا سيما المُرتبِطة بأهداف الحركات (أو الفرص الخطابية)، على استراتيجيات الحركات وفرص نجاحها (جودوين وجاسبر ٢٠٠٤أ).
تَبرُز مشكلةٌ ثانية حين نرغب في التمييز بين الحقيقة «الموضوعية» وتفسيرها الاجتماعي (بيرجر ولوكمان ١٩٦٦)؛ فبعض التغيُّرات في بِنية الفرص السياسية لا يكون لها أدنى تأثير على حركةٍ اجتماعيةٍ معيَّنة إلا لو اعتبرتْها الحركة نفسها تغيراتٍ مهمَّة. لا بد من تنقيح مفهوم الإتاحة البِنيوية عبر عَملية «التحرير المعرفي»؛ وذلك من أجل إطلاق موجات الاضطراب (ماكادم ١٩٨٦). فلكي تنطلق الحركات الاحتجاجية، ينبغي أن يثق الناشطون في سنوح فرصةٍ ما وأن لدَيهم القدرة على إحداث التغيير، ويجب أن يُلقوا باللائمة فيما يتَّصل بالمشكلة على النظام؛ وعليه، فإن النظر إلى الفُرَص البِنيوية دون اعتبار العمليات المعرفية التي تقع وسطًا بين البِنية والفعل؛ يمكن أن يكون مدعاة للتضليل (جامسون وماير ١٩٩٦؛ دياني ١٩٩٦)، ولذلك فمِن الأهمية بمكانٍ تحليل فهم الناشطين للفرص المتاحة أمامهم والمنظور الذي يَرون من خلاله الفُرَص المحتمَلة أمام حركاتهم (ماكادم ومكارثي وزالد ١٩٩٦). إن تصوُّرات الناشِطين عن ردِّ فعل الدولة قد تتأثَّر بوجهٍ خاص بمظاهرِه الأعنف، كالقمع على سبيل المثال؛ مما يُؤدي إلى إغفال ردود الأفعال الأقل وضوحًا، كالتفاوُض (ديلا بورتا ١٩٩٦ﺟ).
تلقَّى منهج العملية السياسية أيضًا انتقاداتٍ خارجية، مِن منظوراتٍ شتَّى، فقد انتقد باحثون مثل بيفن وكلاورد (١٩٩٢) مُنظِّرَي العملية السياسية (وتعبئة الموارد) لرفضهم نظرية سوء الإدماج (أو الانهيار) على خلفية زعم لم تدَّعِه النظرية البتَّة، ألا وهو أن التغيُّرات الاجتماعية السريعة الناتجة عن عمليات التحضُّر أو الأزمات الاقتصادية الواسعة النطاق … إلخ؛ تُولِّد الفعل الجمعي. بيد أن نظرية الانهيار تركز في واقع الأمر على العنف الجمعي والسلوك الفوضوي، لا على النطاق الأوسع لأشكال الخلاف، التي أدرَجَها منظِّرون مثل تيلي في دراساتهم (بيفن وكلاورد ١٩٩٢). علاوة على ذلك، أثار منظِّرو العملية السياسية الانتقادات بسبب ميلهم إلى اعتناق ما يشبه «الاختزالية السياسية» (ميلوتشي ١٩٨٧، ١٩٨٩)؛ ففي الواقع، لم يُعِر أنصار تلك النظرية عظيم انتباه إلى الحقيقة التي مفادها أن الكثير من الحركات المعاصرة (التي يقوم بها الشباب أو النساء أو الشواذ جنسيًّا أو الأقليات العرقية) قد تأثَّرت بسياقها الثقافي بقَدرِ تأثُّرها بسياقها السياسي، إن لم يكن أكثر (ميلوتشي ١٩٩٦؛ روب وتايلور ١٩٨٧، ٢٠٠٣؛ روتشن ١٩٩٨). وأخيرًا، وكما أشرنا سلفًا عند التمهيد لنظريات تعبئة الموارد، فإن المناهج العقلانية في دراسة الفعل الجمعي اتَّجهت إلى تجاهل الأصول البنيوية للفعل الاحتجاجي، بينما أقدم باحثون آخرون، ممن لهم ارتباط بمنهج الحركات الجديدة في كثير من الأحيان، على التطرق لذلك الجانب سابرين أغواره.
أمام بعض التحولات المهمة التي طرأت في أهم مصدرَين للفرص المتاحة للحركات — الدولة القومية والأحزاب السياسية — سلك البحث اتجاهَين رئيسيَّين. لقد تركَّز الاهتمام، من ناحية، ولا سيما في أوروبا، على الدور الذي تلعبه الحركات، ليس فقط داخل النظام السياسي، بل في إطار الحياة العامة أيضًا. وقد شدَّد الباحثون، في هذا الاتجاه، على الفرص الخطابية، أي وجود خطاباتٍ عامةٍ مهيمنة بشأن قضايا خلافيةٍ معينة، من المرجَّح أن تؤثر في فرص نجاح الحركات (كوبمانس وستاثام ١٩٩٩). فضلًا عن ذلك، وجَّه الباحثون مزيدًا من الاهتمام إلى الفرص العابرة للحدود والقوميات، أو بالأحرى، إلى بِنية الفرص المتعدِّدة المستويات التي تحظى بها الحركات (ديلا بورتا وتارو ٢٠٠٥)، وناقشوا بمزيد من الاستفاضة تَنامي دور الاتحاد الأوروبي كساحةٍ لمطالب الحركات (إيمج وتارو ٢٠٠١؛ بالمِ وشابانيه ورايت ٢٠٠٢). كما اهتمَّت دراساتٌ حديثة بالتأثيرات الناجمة عن الحركات، لا سيما ما يخصُّ العمليات والقرارات المرتبطة بالسياسات، وذلك باعتبار الحركات الاجتماعية جزءًا لا يتجزَّأ من النظام السياسي (ديلا بورتا ٢٠٠٤ﺟ؛ جوني وماكادم وتيلي ١٩٩٩؛ جوني ٢٠٠٤).
(١-٥) هل هذه التساؤلات تتعلَّق حصرًا بتحليل الحركات الاجتماعية؟
هنالك العديد من الأمثلة الدالَّة على ذلك؛ فعلى سبيل المثال، تواجه الأحزاب السياسية أيضًا مشكلة حشد أعضائها وتحفيزهم على الانضمام إلى تنظيماتها ودعمها على نحوٍ ما، ولو عن طريق سداد رسوم العضوية. والأمر نفسه يصدُق على مجموعات المصالح المعنية حصرًا بالمصالح الفئوية — الضيقة للغاية في كثير من الأحيان — الخاصة بجماعاتها المرجعية المحدَّدة (نوك ١٩٩٠أ؛ جوردن ومالوني ١٩٩٧). علاوة على ذلك، حتى الأحزاب السياسية أو مجموعات المصالح الضيقة تُعاني من مشكلة تكييف استراتيجياتهم وخططهم بما يلائم محيطهم المُتغيِّر؛ إذ قد يتغيَّر السياق الذي يعملون في إطاره إيجابًا أو سلبًا؛ نتيجة، مثلًا، لتحوُّلات في مواقف أصحاب السلطة حيال مَطالبِ مجموعةٍ معينة من الأحزاب أو مجموعات المصالح، أو تغيرات في الفرص القانونية المتاحة لتَمثيل المصالح، أو تغيُّرات في النماذج الثقافية التي يعتمد عليها العامة في تفسير محيطهم السياسي والاجتماعي (بانيبيانكو ١٩٨٨). ومن زاوية أخرى، كثير من التنظيمات التطوعية لا تُعيِّن أي خصم اجتماعي أو سياسي للاحتجاج ضدها، بل تَنصبُّ استراتيجياتها بالكامل على تقديم الخدمات لا مُناصرة قضيةٍ ما، أو التمثيل السياسي، أو تحدِّي المعايير أو أنماط الحياة السائدة. ورغم ذلك، فحتى هذه المنظمات تواجه مشكلات بشأن جذب الأعضاء واستبقائهم وتوفير الموارد اللازمة للترويج للفعل وبلورة النماذج الثقافية اللازمة لتحقيق الأهداف وفق الخطوط المنشودة وصياغة قضاياهم بحيث تبدو جذابة قدر الإمكان بالنسبة إلى مؤيديهم/أعضائهم المُحتمَلين (ويلسون ٢٠٠٠).
الحق أن التحليلات المتعلِّقة بالفعل الجمعي وتلك المرتبطة بالحركات الاجتماعية بمنزلة صنوَين لا يفترقان. دعونا نُشِر إلى أن تجربة الحركات الاجتماعية تعكس ظواهر تجمعها بأمثلةٍ أخرى للفعل الجمعي السياسي أو الثقافي الواقع داخل الأحزاب السياسية أو مجموعات المصالح أو الفِرَق الدينية أكثر من مُجرِّد تَشابُهاتٍ عارضة؛ ولذلك حين نتعرض للحركات الاجتماعية بالتحليل، فإننا في الواقع نتعامل مع عملياتٍ اجتماعية قد تهمُّ باحثين لا يعدُّون أنفسهم مطلقًا من بين محللي الحركات الاجتماعية.
شهدت الآونة الأخيرة محاولاتٍ عدة لدمج المنجزات البحثية المتعلِّقة بالحركات الاجتماعية بُغية ربطها بقضايا أوسع نطاقًا ذات طابعٍ نظريٍّ أو تجريبي، أو كليهما، وقد رَمَت بعض هذه المحاولات إلى دمج نظرية الحركات الاجتماعية بأُطرٍ اجتماعيةٍ عامة، وفي هذا الصدد يُعدُّ برنامج ديناميكيات الخلاف (ماكادم وتارو وتيلي ٢٠٠١) واحدًا من أكثر المُنجزات طموحًا وتطلُّعًا التي تحقَّقت على يد باحثي الحركات الاجتماعية، وهو يَنتقِد صراحةً تقوقع القائمين على الدراسات المعنية بالحركات الاجتماعية ويستند إلى حدٍّ كبير على مصادر غير غربية. إن أهم ما يَطرحه هذا المنهج هو إمكانية مزج المعارف المكتَسبة في ميادين الحركات الاجتماعية بالمجالات التي أسسها الباحثون حول ظواهر الثورات والدمقرطة (التحول إلى النظام الديمقراطي) والصراعات العرقية، مع التركيز على سياسة الخلاف التي تُعرَّف على أنها «تفاعلٌ عرضيٌّ عامٌّ جمعي بين مُطالِبين ومطلوب منهم، يتحقَّق فيه شرطان: (أ) تكون حكومةٌ واحدة على الأقل مطالبة، أو مطلوبًا منها، أو طرفًا في المطلب. (ب) لو تحقَّقت المطالب فسوف تؤثر على مصالح واحد من المطالبين على الأقل» (ماكادم وتارو وتيلي ٢٠٠١: ٥). حاول الباحثون المنخرطون في هذا المشروع تسليط الضوء على الآليات العامة للخلاف، داعين إلى استخدام ديناميكي للمفاهيم بدلًا من الاستخدام الجامد لها (انظر دياني وآخرين ٢٠٠٣ للاطلاع على مناقشة لهذا الموضوع).
(٢) ما أهم ما يُميز الحركات الاجتماعية؟
لو أن التساؤلات الأساسية التي يتناولها مُحلِّلو الحركات الاجتماعية ليست بالضرورة مقصورة عليها فقط، فربما يتبادَر إلى أذهاننا سؤالٌ عما إذا كان للحركات الاجتماعية خاصيةٌ تحليلية مميَّزة تُبرِّر تخصيصها بمجالٍ بحثيٍّ منفصل. لكي نتناول هذا السؤال، ينبغي علينا مناقشة مفهوم الحركة الاجتماعية.
(٢-١) مفهوم الحركة الاجتماعية
-
الانخراط في علاقاتٍ تصادمية مع خصومٍ محدَّدين بوضوح.
-
الاتصال بشبكات غير رسمية كثيفة.
-
تقاسُم هويةٍ جمعيةٍ مُتميِّزة.
«الفعل الجمعي التصادمي»: يَنخرِط الفاعلون داخل الحركات الاجتماعية في صراعاتٍ سياسية أو ثقافية أو كلتَيهما؛ بغرض الترويج لتغيُّرٍ اجتماعيٍّ ما أو معارضته. وحين نتحدث عن صراع فإنما نعني علاقة تعارضية بين فاعلين يسعون إلى السيطرة على المكاسب نفسها — سواءٌ أكانت سلطة سياسية أم اقتصادية أم ثقافية — وخلال هذه العملية يُطلِقون ادِّعاءاتٍ سلبية بعضهم ضد البعض عبارة عن مطالب من شأنها أن تضرَّ بمصالح الفاعلين الآخرين في حال تحقيقها (تيلي ١٩٧٨؛ تورين ١٩٨١: ٨٠–٨٤). وعليه، فإنَّ تناول مشكلات جمعية، أو تقديم المنافع العامة، أو إبداء التأييد لبعض القيم أو المبادئ الأخلاقية ليس مرادفًا تلقائيًّا لأفعال الحركات الاجتماعية؛ فأفعال الحركات الاجتماعية تتطلَّب تحديدًا لأهداف الجهود الجمعية، بحيث تُصاغ تلك الأهداف بدقة من الناحية الاجتماعية أو السياسية. حين يَقصُر الفعل الجمعي تركيزه، في المقابل، على سلوك أفراد محدَّدين أو شرعيتهم أو كليهما، أو يُلقي بتبعة المشكلات على عاتق الإنسانية جمعاء أو الكوارث الطبيعية أو الإرادة الإلهية؛ فمن العسير حينها الحديث عن عمليات تُنسَب إلى حركةٍ اجتماعية (جامسون ١٩٩٢أ؛ ميلوتشي ١٩٩٦، الجزء الأول). من الأمثلة الدالَّة على تلك النقطة الفعل الجمعي المرتبط بالعولمة؛ إذ يتَّسم هذا الفعل الجمعي بطابعٍ تصادمي من القوة بحيث تُلام منظمات مثل منظمة التجارة العالمية أو صندوق النقد الدولي ليس بسبب انحرافات مسئوليها أو أخطاءٍ معينة في سياساتها، بل لكونها ممثِّلة ائتلافاتٍ منفصلة من المصالح.
«شبكات غير رسمية كثيفة»: تسهم الشبكات غير الرسمية الكثيفة في التمييز بين عمليات الحركات الاجتماعية والأمثلة التي لا تُحصى لوقوع الفعل الجمعي وتنسيقه داخل نطاق تنظيمات محدَّدة في أغلب الأحيان. تظل عملية الحركة الاجتماعية قائمة طالما بقيت الجهات الفاعلة الفردية والمنظَّمة منخرطةً في تبادلات متواصلة للموارد سعيًا وراء أهداف مُشتركة، وذلك بينما يحافظ الطرفان على ذاتيتهما واستقلاليتهما. إنَّ تنسيق مُبادرات محددة وتنظيم سلوك الفاعلين المُنفردين وتحديد الاستراتيجيات، كل ذلك يعتمد على المفاوضات الدائمة بين الأفراد والتنظيمات المُنخرِطة في الفعل الجمعي. لا يمكن لجهة فاعلة منظَّمة، مهما كانت قوَّتها، أن تدَّعيَ منفردَة تمثيلها لحركة معينة ككل. يستتبع هذا أن مزيدًا من الفرص تَسنح أمام الأفراد أصحاب الالتزام والمهارة الشديدَين أو أي منهما لأداء دور مستقل في العملية السياسية مقارنةً بما سيكون عليه الحال لو تركز الفعل داخل تنظيمات رسمية.
«الهوية الجمعية»: إنَّ الحركات الاجتماعية ليسَت مجرَّد مجموع الفعاليات الاحتجاجية بشأن قضايا معينة، أو حتى مجموع حملات محدَّدة، بل إن عملية الحركات الاجتماعية، على النقيض، تصير في طور التحقُّق حين تتبلوَر الهُويات الجمعية، والتي تتجاوز نطاق فعاليات ومبادراتٍ محدَّدة. ترتبط الهوية الجمعية ارتباطًا وثيقًا بالاعتراف وخلق حالةٍ من الترابط (بيتسورنو ١٩٩٦)، وتجلب في طياتها إحساسًا بوحدة الغاية والالتزام المشترك حيال قضيةٍ ما، وهو ما يُمكِّن فرادى الناشطين أو التنظيمات، أو كليهما، من اعتبار أنفسهم في ارتباط لا تنفصم عراه مع الفاعلين الآخرين في تعبئةٍ جمعيةٍ أوسع نطاقًا، وليس بالضرورة أن يكونوا مُتماثِلين، لكنهم بالتأكيد، متوافِقون (تورين ١٩٨١). إن المعايير الضابطة للعضوية داخل الحركات الاجتماعية تتَّسم بالتغيُّر الشديد وتعتمد اعتمادًا كاملًا على الاعتراف المُتبادَل بين الفاعلين، وإن تعيين الحدود — وهي عملية يتحدَّد من حلالها مَن يُعدُّ جزءًا من الشبكة ومن لا يُعدُّ جزءًا منها — يلعب بالفعل دورًا محوريًّا في نشأة الفعل الجمعي وتشكيله (ميلوتشي ١٩٩٦، الفصل الثالث).
من الأمثلة الدالة على ذلك ما تشير إليه الأبحاث الحديثة المعنية بحركة حماية البيئة بأن نشاط الدفاع عن حقوق الحيوان أكثر تميزًا وأقل ارتباطًا بنشاط حماية البيئة في بريطانيا مقارنةً بإيطاليا؛ ومن ثَمَّ فإن اعتبار النشاطين أكثر انخراطًا في عملية الحركة نفسها في إيطاليا مقارنة ببريطانيا سيكون أقرب إلى المنطق (روتس ٢٠٠٣؛ دياني وفورنو ٢٠٠٣). على نحوٍ مماثل، لا تعكس بالضرورة كل الشبكات القائمة بين أفرادٍ متقاربين في التفكير عمليات للحركات الاجتماعية؛ فعلى سبيل المثال، لا يَعتبر كثيرٌ من المحلِّلين الشبكة الدولية الداعمة لحركة زاباتيستا حركةً اجتماعية؛ نظرًا لافتقارها إلى الهوية المحدَّدة الواضحة وما يترتب عليها من روابط، وذلك بالرغم من أن موارد التضامُن تدور عبر هذه الشبكة (أوليسن ٢٠٠٤).
تستلزم عملية بناء الهوية الجمعية أيضًا أن يُقيم الفاعلون روابط بين مختلِف الوقائع، الخاصة والعامة، المختلفة في زمانها ومكانها والمتصلة بتجربتهم؛ ومن ثم يعمدون إلى دمجها جميعًا في نسيجٍ واحد من التفسيرات الشاملة الأوسع نطاقًا (ميلوتشي ١٩٩٦). يترتَّب على ذلك ألا تَقصُر الجهات الفاعلة، أفرادًا وتنظيمات، نشاطها على مجرَّد السعي وراء أهداف محدَّدة، وإنما تَعتبر نفسها عناصر في عملياتٍ أكبر وأشمل تنشد التغيير أو تُقاومه. لنتناول حركة العدالة العالمية مثالًا لذلك. لعلَّ من المُمكن الربط بين المشاركين في فعالياتٍ مُتباعدة أشد التباعد مثل «معركة سياتل» والفعاليات المناهضة لسد قرية نارمادا في الهند كعناصر مشتركة في الحركة نفسها، وذلك من خلال عمليات بناء الهوية القائمة على التواصُل الشبكي التنظيمي والتواصل المُتجاوِز للحدود والقوميات.
إن النظر إلى التوليفات المختلفة من تلك العناصر الثلاثة يُمكِّننا من اكتشاف الفروق بين الحركات الاجتماعية والعمليات الأخرى للفعل الجمعي. نحن نُقدِّم هنا القليل من النماذج، غير أن علينا أن نضع نصب أعيننا أنه ما من حالة عملية واحدة من حالات الفعل الجمعي — تلك الحالات التي جرى الاصطِلاح على تسميتها «حركات بيئية» أو «حركات التضامُن» أو «حركات الدفاع عن حقوق المعاقين» أو ما شابه — يُمكن إدراجها تحت أي فئة خالصة، وإنما، على النقيض، يُمكننا عادةً رصد أكثر من عمليةٍ واحدة داخل أي مثالٍ تجريبي من أمثلة الفعل الجمعي، واكتِشاف الكيفية التي تتفاعَل من خلالها تلك العمليات يُمثِّل خطوة رئيسية في التحليل المعني بالحركات الاجتماعية.
(٢-٢) الفعل الجمعي التصادمي والتوافقي
لكن الإصرار على وجود الصراع كسِمَةٍ مميِّزة للحركات يجب ألَّا يصرف مُحلِّلي الحركات الاجتماعية عن دراسة أمثلة الفعل الجمعي التي يصعب فيها تعيين الصراع، كتلك الموجَّهة إلى التغيير الشخصي (مثل ما يُسمَّى ﺑ «حركة القدرات البشرية الكامنة» أو كثير من الشبكات المروِّجة لأنماط حياةٍ بديلةٍ منافيةٍ للثقافة السائدة) وتلك التي تركِّز على تقديم نوع من العون أو المساعدة إلى كيانٍ جمعيٍّ ما يُعاني تضرُّرًا (مثل ما يُسمى ﺑ «حركة التضامن»، جوني وباسي ٢٠٠١). إنَّ هذا المنظور يدلُّ، على النقيض، على ضرورة أن يُدرِك المحلِّلون وجود العديد من الآليات أو الديناميكيات الاجتماعية داخل كل مثال من أمثلة الفعل الجمعي وتركيز جهودهم على اكتشاف كيفية عمل تلك الآليات وتفاعُلها بعضها مع البعض.
(٢-٣) الحركات الاجتماعية والفعاليات والائتلافات
يُمكننا أن نعتبر أن ديناميكية من ديناميكيات الفعل الجمعي سارية حين يُنظَر إلى الحالات المنفردة من الفعل الجمعي باعتبارها مكوِّنات من فعلٍ أطول أمدًا لا مجرد فعالياتٍ منفصلة، وحين يشعر المنخرطون في تلك الحالات بأن ثمة صلات تضامن وتشاركًا مثاليًّا يربطهم بأهم مؤيدي الحشود الأخرى المشابهة. إن مسار حركة مكافحة النفايات السامة في الولايات المتحدة الأمريكية يُقدِّم مثالًا جيدًا لهذه الديناميكية، ونجحت هذه الحركة — انطلاقًا من سلسلة من المبادرات المنبثقة من قاعدة محلية مرتبطة بأهدافٍ محدَّدة كمنع إنشاء مصانع التخلُّص من النفايات في مناطق معيَّنة — أن تتطور تدريجيًّا لتصير قوةً جمعية ذات قاعدةٍ وطنية معنية بجوانب عديدة للعلاقة بين الطبيعة والمجتمع، وبعملية تَشكُّلٍ ثقافي أشد تعقيدًا وأكثر تطورًا (ساس ١٩٩٤: ٦٩–٩٩).
فضلًا عما سبق، فإن بناء الهوية من شأنه أن يَعني أيضًا إمكانية المحافظة على شعور بالانتماء الجمعي حتى بعد ختام مبادرةٍ محدَّدة أو حملةٍ معينة، وسوف يكون لاستمرار هذه المشاعر على الأقل تَبعتان مهمتان؛ الأولى، أنه سوف ييسر إعادة إنعاش الحشد وإحيائه بالنسبة إلى الأهداف نفسها متى تكرَّرت الظروف المواتية؛ فالحركات كثيرًا ما تتأرجَح بين فترات وجيزة من النشاط العام المكثف وفتراتٍ طويلة من «السكون» (ميلوتشي ١٩٨٤ب؛ تايلور ١٩٨٩)، يسودها التأمل في الذات والإنتاج الثقافي. إنَّ روابط الثقة والتضامن التي نشطت في الحركات الأوروبية المناهضة للطاقة النووية خلال موجات التعبئة التي ميَّزت النصف الثاني من عقد السبعينيات من القرن العشرين، على سبيل المثال، شكَّلت قاعدة استندت إليها موجةٌ جديدة من الاحتجاجات في حشد الزخم عقب حادثة تشيرنوبيل عام ١٩٨٦ (فلام ١٩٩٤د). أما التبعة الثانية فهي أن التمثلات التي تكوَّنت عن العالم والهويات الجمعية التي تبلورت في فترةٍ معينة يمكن كذلك أن تُسهِّل، عبر تحولٍ تدريجي، في تكوين حركاتٍ وعلاقات تضامن جديدة، ومثال ذلك ما لوحظ في عدد من المناسبات من علاقة وثيقةٍ قائمة في عدة بلدان بين حركات اليسار الجديد التي ميَّزت أوائل السبعينيات وما تَبعها من حركات البيئة السياسية (دالتون ١٩٩٤؛ دياني ١٩٩٥أ؛ دايفينداك ١٩٩٥).
إن ربط الحركات بهوية جمعية مميزة لا ينطوي على أي افتراضات بشأن تجانُس الفاعلين المتقاسمين لتلك الهوية (وهو ما يُناقض ما ذهب إليه، مثلًا، روتس [٢٠٠٠] أو ماكدونالد [٢٠٠٢]) يُمكن أن نعتبر أن لدينا ديناميكية لهوية الحركة الاجتماعية بقدر ما تَشعر المجموعات والأفراد، أو كلاهما، بأنهم جزء من كيانٍ جمعي حُشِد لدعم تغير اجتماعي أو معارضته، وبقدر ما يُحدِّدون عناصر مشتركة في تجاربهم الماضية والحاضرة والمستقبلية، وبقدر ما تُلقى مسئولية الأوضاع محل المعارضة على الفاعلين الاجتماعيين أو السياسيين الآخرين. والأسئلة المتحوِّرة حول ما إذا كانت ستصبح هويةً جمعيةً محددةً استيعابية أم إقصائية ومدى اشتراك أصحاب تلك الهوية في سمةٍ واحدة أو عدة سمات، إنما هي أسئلةٌ تجريبية (انظر الفصل الرابع).
(٢-٤) الحركات الاجتماعية والعمليات التنظيمية
كثيرًا ما تُعقَد مقارنات بين كلٍّ من الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية ومجموعات المصالح، استنادًا إلى افتراض أنهم جميعًا يُجسِّدون أنماطًا مختلفة من التنظيم السياسي (على سبيل المثال، ويلسون ١٩٧٣). أحيانًا ما يجري الربط بين هذه الكيانات والفِرق والطوائف الدينية (على سبيل المثال، روبنز ١٩٨٨)، بيد أن الفارق بين الحركات الاجتماعية وتلك الكيانات والتنظيمات الأخرى لا يتكوَّن في الأساس من فروق في الخصائص التنظيمية أو الأنماط السلوكية، وإنما يتكون من حقيقةٍ قائمة، ألا وهي أن الحركات الاجتماعية ليست تنظيمات، ولا حتى من طرازٍ فريد (تيلي ١٩٨٨؛ أوليفر ١٩٨٩)، وإنما هي شبكات قد تشمل تنظيماتٍ رسمية أو لا، حسبما تُحتِّم الظروف المتغيِّرة؛ ومن ثمَّ فلا يمكننا اعتبار تنظيمٍ منفرد، مهما كانت سماته السائدة، حركةً اجتماعية؛ فبالرغم من أن تنظيمًا ما قد يكون جزءًا من إحدى عمليات الحركة الاجتماعية، فإن الاثنين ليسا متماثلَين؛ لأنهما يعكسان مبادئ تنظيميةً مختلفة.
صحيح أنَّ الكثير من الباحثين المؤثِّرين في المجال كثيرًا ما استخدموا مصطلح «الحركة الاجتماعية» قاصِدين شبكات تفاعل وتنظيماتٍ محدَّدة على السواء: جماعات حقوق المُواطِنين مثل جماعة القضية المشتركة (كومن كوز)، أو التنظيمات البيئية مثل نادي سييرا، أو حتى الفِرَق الدينية مثل نيتشيرين شوشو (ماكادم وآخرون ١٩٨٨: ٦٩٥؛ انظر أيضًا لوفلاند ١٩٩٦)، غير أنه يتوجَّب علينا ألا نُبادِر بالتطبيق الأعمى للمفاهيم المُقتبَسة من النظرية التنظيمية على تحليلنا للحركات الاجتماعية: «ما أكثر ما نتحدَّث عن استراتيجيات الحركات وخططها وقادتها وأعضائها وعمليات استقطابهم وتقسيم العمل داخلها ونجاحها وإخفاقها — وهي مصطلحات تَنطبِق حصرًا على كيانات صنع القرار المُتماسكة (أي التنظيمات أو الجماعات)، لا على حشود أو كياناتٍ جمعية أو حركاتٍ اجتماعية برمَّتها» (أوليفر ١٩٨٩: ٤).
إنَّ الحديث عن كيانات مثل القضية المشتركة أو نادي سييرا أو نيتشيرين شوشو باعتبارها «حركاتٍ اجتماعية» يدفع المرء إلى صياغة مفاهيم مثل «الحركات الاجتماعية المهنية» (مكارثي وزالد ١٩٨٧أ) أو «حركات التنظيم الواحد» (ترنر وكيليان ١٩٨٧: ٣٦٩-٣٧٠) للتشديد على الفَوارق الواضحة بين هذه الحالات وبين طبيعة الحركات الاجتماعية كشبكاتٍ غير رسمية. لكن تَصنيف مجموعة القضية المشتركة باعتبارها «حركةً اجتماعية مهنية» لا يُضيف الكثير إلى الرؤى العميقة التي تفيدها مفاهيم مثل «مجموعة المصلحة العامة» (انظر، من بين مراجع أخرى، إتسيوني ١٩٨٥)، وبالمثل، ربما يكون من الملائم تحليل تنظيماتٍ دينية مثل نيتشيرين شوشو أو هاري كريشنا باعتبارها «فِرقًا»؛ إذ يأخذ هذا المفهوم في الاعتبار ما تتَّسم به هذه التنظيمات من قدرٍ أكبر من الجمود التنظيمي والبِنية الهرمية مقارنةً بشبكات الحركات الاجتماعية (روبنز ١٩٨٨: ١٥٠–١٥٥)، كما يقر بالقدر الأكبر مِن الضبط الاجتماعي الذي يُمارَس على أعضائها. لكن في المقابل ما تعجز بالفعل مصطلحات «مجموعة المصلحة العامة» و«الفرقة» عن وصفه هو عمليات التفاعل التي يتمكَّن من خلالها الفاعِلون من مختلف الهويات والتوجُّهات من وضع منظومةٍ مشتركة من المعتقَدات وشعور بالانتماء يتجاوز كثيرًا حدود أي جماعة أو تنظيمٍ منفرد، ويحفظ في الوقت نفسه خصوصيتهم وسماتهم المميزة.
إن عدم استقرار العلاقة بين الهويات التنظيمية وهويات الحركات إنما يعني أن الحركات بحكم طبيعتها ظواهرُ مُتقلِّبةٌ غير ثابتة. إن شعورًا بالانتماء الجمعي، في مرحلتَي التكون والتوطيد، يطغى على روابط التضامن والولاء التي قد تُوجد بين الأفراد والمجموعات أو التنظيمات المحدَّدة، وتذْوي الحركات وتنطفئ جذوتها حين تطغى الهويات التنظيمية مرةً أخرى أو حين يشير «الشعور بالانتماء» في المقام الأول إلى التنظيم ومكوناته بدلًا من أن يشير إلى مجموعةٍ أوسع دون حدودٍ واضحة (دياني ٢٠٠٣أ).
لو أنَّ الحركات الاجتماعية مختلفة من الناحية التحليلية عن تنظيمات الحركات الاجتماعية، فإنَّ هذا يعني أن أي تنظيم داخل في إحدى ديناميكيات الحركات الاجتماعية قد يُعدُّ «تنظيمًا خاصًّا بحركةٍ اجتماعية». قد ينطبق الأمر نفسه كذلك على مجموعات المصالح ذات الطابع البيروقراطي وحتى على الأحزاب السياسية، غير أن قولنا بأن أحزابًا سياسية قد تَصير جزءًا من حركاتٍ اجتماعية لا يعني أن «الحركات الاجتماعية» باب نظري رحْب تندرج تحته عدة أنواع من التنظيمات (مجموعات المصالح ومجموعات مجتمعية وأحزاب سياسية وهكذا) كأنواعٍ فرعيةٍ متعدِّدة، بل ما نعنيه هو أن حزبًا سياسيًّا ما قد يشعر، تحت ظروف معيَّنة ومحدَّدة، أنه جزء من حركةٍ ما، وهو ما قد يُقِرُّ به الفاعلون الآخرون في الحركة ويُقرُّ به عامة الناس كذلك، وغالبًا ما يكون هذا الوضع هو الاستثناء لا القاعدة، ويَقتصِر إلى حدٍّ كبير على الأحزاب التي تعود جذورها إلى الحركات الاجتماعية، كما هو الحال بالنسبة إلى أحزاب الخضر (كيتشيلت ١٩٨٩؛ ريتشاردسون وروتس ١٩٩٤).
قد يحقُّ للمرء أن يعترض على تلك الرؤية محتجًّا بأن الأحزاب السياسية، بصرف النظر عن مدى قوة تماهيها مع حركاتٍ ما، تؤدي بالفعل وظائف محدَّدة على مستوى تمثيل المصالح، وهي مختلفة، من تلك الزاوية، عن الحركات الاجتماعية. إنَّ وجود اختلافات على المستوى الوظيفي مسألة مقطوع بها، لكن أهم ما يميز الحركات الاجتماعية لا يكمن في أسلوبها الخاص الذي تتبعه في أداء وظيفة تمثيل المصالح. لا شك أن شبكات التفاعل الخاصة بالحركات الاجتماعية تُحبِّذ صياغة المطالب والترويج لحملات التعبئة وبلوَرة المعتقدات والهويات الجمعية ونشرها، وكل هذه العوامل تسهم، بدورها، في إعادة تعريف الأوضاع الثقافية والسياسية التي يَجري في ظلها تمثيل المصالح. ورغم ذلك، حين نركِّز على وظيفة تمثيل المصالح بالمعنى الدقيق للمُصطَلح، فلا ننظر إلى الأسلوب الذي تؤدي به «الحركة» هذه الوظيفة، إنما نَنظُر إلى الأسلوب الذي تؤديها به التنظيمات المحددة المختلفة للحركات الاجتماعية. يتوقَّف قرارهم بإدراج المشاركة في الانتخابات ضمن ذخيرة الفعل الخاصة بهم أو استبعادها على عوامل عدة، من بينها الفرص الخارجية والاعتبارات التكتيكية أو الأيديولوجية، أو كلتيهما، وعلاقاتهم بالفاعلين الآخرين في الحركة، غير أن مجرَّد قرارهم بفعل هذا لن يؤدي إلى استبعادهم تلقائيًّا من الحركة، بل سيؤدِّي إلى اعتبارهم جزءًا من منظومتَي فعل مختلفتَين (منظومة الحزب ومنظومة الحركة الاجتماعية) حيث ستَلعب هذه التنظيمات أدوارًا مختلفة، أما فيما يخص الطريقة الفعلية التي تتشكَّل بها تلك الأدوار فسوف تُمثِّل أحد المجالات الحيوية للبحث والدراسة (كيتشيلت ١٩٨٩).
(٢-٥) الحركات الاجتماعية والاحتجاج
كانت النقاشات التي دارت حول الحركات الاجتماعية حتى أوائل السبعينيات من القرن العشرين تُؤكِّد على الطبيعة غير المؤسسية للحركات (ألبيروني ١٩٨٤)، وحتى يومنا هذا، لا تزال الفكرة القائلة بإمكانية تمييز الحركات الاجتماعية عن الفاعلين السياسيين الآخرين باعتناقها لأنماط «غير معتادة» من السلوك السياسي تلقى رواجًا شديدًا. يؤكد عديد من الباحثين على أن الاختلاف الرئيسي بين الحركات وغيرها من الفاعلين الاجتماعيِّين والسياسيِّين يكمن في المفارقة القائمة بين الأساليب التقليدية للمشاركة السياسية (كالتصويت أو ممارسة الضغط والتأثير على الممثلين السياسيين) وبين الاحتجاج العام (روشت ١٩٩٠أ، ١٩٩٥).
تُوجد بعض الاعتراضات على اعتبار الاحتجاج سمةً محورية من سمات الحركات الاجتماعية. أول تلك الاعتراضات هو أن الاحتجاج العام لا يَلعب إلا دورًا هامشيًّا في الحركات المعنية بالتغييرات الشخصية والثقافية والحركات الدينية وما شابه. كثيرًا ما تتَّخذ الصراعات الثقافية والمواجهات الرمزية أشكالًا، مثل ممارسة أنماط حياة محدَّدة أو تبنِّي أنماطٍ معيَّنة من الملابس أو قصات الشعر أو اعتناق شعائرَ معينةٍ، ولا يُمكننا اعتبار هذه الأشكال نوعًا من الاحتجاج ما لم نُوسِّع من دلالة المفهوم إلى حدٍّ كبير للغاية (سنو ٢٠٠٥). إضافة إلى ذلك، تعدُّ مسألةُ ما إذا لم يزل بالإمكان اعتبار الاحتجاج نشاطًا «غير تقليدي» أو حتى عنيفًا أو «تصادميًّا» مثارَ جدلٍ متصاعد، حتى في الميدان السياسي؛ إذ صارت أشكالٌ شتى من الاحتجاجات السياسية جزءًا من الذخيرة المدمجة للفعل الجمعي، وذلك على نحوٍ متزايد، على الأقل في الديمقراطيات الغربية. بوجهٍ عام، لم يعد الاحتجاج مقصورًا على القطاعات الراديكالية، وإنما صار خيارًا متاحًا لطائفةٍ أوسع من الفاعلين متى أحسوا أن موقعهم النسبي في العملية السياسية يَتعرَّض للتهديد (على سبيل المثال، دالتون ١٩٩٦).
غير أنَّ الاحتجاج، في الوقت نفسه، لا يَزال يُميِّز الحركات الاجتماعية عن الأشكال الأخرى من الشبكات، كتلك التي يشار إليها باسم «الجماعات المعرفية» (هاس ١٩٩٢؛ كيك وسيكينك ١٩٩٨). تتمحوَر تلك الجماعات حول شبكات من الأفراد والمجموعات من أصحاب الكفاءات المحدَّدة في التخصُّصات العلمية أو الإدارية أو كلتيهما، وذلك في مجالاتٍ سياساتٍ مستقلَّة. تُشبه تلك الشبكات الحركات الاجتماعية في أن أعضاءها يَتقاسمون إطارًا مرجعيًّا مُشتركًا ويتبنَّون مواقف حيال القضايا التصادُمية، غير أن أنماط الروابط البِنيوية وتبادُل الموارد داخل تلك الشبكات تَختلِف عن نظرائها داخل الحركات الاجتماعية. فضلًا عن ذلك، تختلف الجماعات المعرفية عن الحركات الاجتماعية في أنها تضمُّ فاعِلين عادةً ما يَحظَون بسلطة صنع القرار والمعرفة المُعتمَدة، إلى جانب سلطة المحاسبة الانتخابية في كثير من الأحيان، أما الفاعلون في الحركات الاجتماعية فعادةً ما يحتلون موقعًا هامشيًّا في عمليات صنع القرار ويحتاجون إلى حشد الرأي العام للمحافظة على قدرتهم على ممارسة الضغوط. حتى لو تحوَّلت بعض الأشكال الاحتجاجية إلى أنشطةٍ «عادية»، فإن الحركات الاجتماعية عادةً ما تَستحدِث أشكالًا جديدة من الفعل المخلِّ بالاستقرار، متحديةً الدولة فيما يخص القانون والنظام. في الوقت الذي وطَّدت فيه الموجة الجديدة من التعبئة الجمعية الداعية إلى العدالة العالَمية مُنعطَف القرن، لا تزال سياسة الحركات الاجتماعية لا تعدو إلى حدٍّ كبير أن تكون «سياسة ميادين»؛ فإن لاستخدام الاحتجاج كمَصدر رئيسي من مصادر الضغط تأثيراتٍ مهمةً على بِنية الحركات الاجتماعية واستراتيجيتها.
(٣) حول هذا الكتاب
بالنظر إلى حملات التعبئة الأخيرة الداعية إلى العدالة العالَمية، عمدنا في هذا الفصل، بادئ ذي بدء، إلى تحديد أربعة تساؤلات أساسية جذبت اهتمام محلِّلي الحركات الاجتماعية منذ ستينيات القرن العشرين. تتناول تلك التساؤلات النقاط التالية: كيف يُمكن للتغيُّرات الواقعة في البِنية الاجتماعية للبلدان الغربية، وبالأخص تحول تنظيمها الاجتماعي من النمط الصناعي إلى ما بعد الصناعي، أن تُؤثر في أشكال الفعل الجمعي؟ (القسم ١-١)، كيف يمكِّن الإنتاج الثقافي والرمزي على يد الفاعلين الاجتماعيِّين من تمييز المشكلات الاجتماعية كموضوعاتٍ جديرة بالفعل الجمعي ومن بناء الهوية الجمعية؟ (القسم ١-٢)؛ كيف لا تجعل الموارد التنظيمية والفردية الفعل الجمعي ممكنًا فحسب، بل وناجحًا أيضًا، أو على الأقل يمكن أن يكون ناجحًا؟ (القسم ١-٣)، كيف يمكن لأشكال الفعل التي تتبناها الحركات الاجتماعية وتطورها عبر الزمن وتجمعها في موجاتٍ أوسع من الخلاف أن تتأثر بسمات الأنظمة السياسية والاجتماعية التي تعمل في ظلها الحركات الاجتماعية؟ (القسم ١-٤).
إلى جانب طرح تلك التساؤلات، حدَّدنا لكلٍّ منها بعضًا من الإجابات الأكثر تأثيرًا، والتي جاد بها باحثو الحركات الاجتماعية على مدار السنوات؛ وهو ما أتاح لنا أن نُقدِّم، ولو إيجازًا، أبرز المناهج المُميزة للمجال خلال العقود السابقة، خاصة، إن لم يكن حصرًا، مناهج الحركات الاجتماعية الجديدة والسلوك الجمعي وتعبئة الموارد والعملية السياسية. ورغم أن أيًّا من تلك المناهج لا يُمكن اختزالها إلى أيٍّ من القضايا التي طرحناها، فإنها تتناول بعضًا منها على نحوٍ أدقَّ مِن البعض الآخر. يُمكننا أن نعتبر منهج الحركات الاجتماعية الجديدة، في المقام الأول، نظرية تعالج كيفية تعرُّض المصالح والأطراف الفاعلة الرئيسية في الصراع الاجتماعي للتعديل في ظل الظروف البنيوية المتغيرة؛ إذ يُعنى منهج السلوك الجمعي بالدرجة الأولى بوضع نظرياتٍ تُفسِّر دور الإنتاج الرمزي في تشكيل الفعل الجمعي والظروف الملائمة لبروز قضايا أو هوياتٍ جديدة، أو كلتيهما. بالنسبة إلى نظرية تعبئة الموارد، فهي تدرس الظروف المؤدية إلى نشوء الفعل الجمعي بين الأشخاص الذين قد يكون لديهم أكثر من سببٍ وجيه لعدم الانخراط فيه: وأخيرًا، يتناول منهج العملية السياسية أنماط الفعل الجمعي وتنوَّعها عبر الأنظمة السياسية والمراحل الزمنية المختلفة.
استعرضنا، في الجزء الثاني من هذا الفصل، كيف أن الحركات الاجتماعية قد تُعتبر عملياتٍ اجتماعيةً وسياسية مختلفة، وحدَّدنا وجه اختلافها في تكوُّنها من شبكاتٍ غير رسمية تربط الجهات الفاعلة الفردية والتنظيمية المنخرطة في علاقاتٍ تصادمية بجهاتٍ فاعلة أخرى، وذلك استنادًا إلى هويةٍ جمعيةٍ مشتركة (القسم ٢-١)، وهو ما مكَّننا من التفرقة بين الحركات الاجتماعية وعدد من العمليات والظواهر الأخرى المرتبطة بها، من بينها الأفعال الجمعية الموجَّهة لأهدافٍ غير تصادمية، كما هو الحال في ميدان العمل الخيري (القسم ٢-٢)؛ والائتلافات المضطلعة بالتعبئة بشأن قضايا أو وقائعَ محدَّدةٍ من أجل أسباب أداتية (قسم ٢-٣)؛ والتنظيمات السياسية كالأحزاب ومجموعات المصالح التقليدية (القسم ٢-٤)؛ والذخائر الاحتجاجية (القسم ٢-٥).
كما سبق أن دلَّلنا مرارًا، فإن التساؤلات التي حددناها ليست مقصورة على تحليل الحركات الاجتماعية ولا خاصة بها على سبيل الحصر، وإنما يُمكن أن تهمَّ طائفةً أوسع كثيرًا من المحلِّلين الاجتماعيين والسياسيين، ولا شك أنها تُمثل، في الوقت نفسه، أهميةً محورية للجهد البحثي المَعنيِّ بالحركات الاجتماعية منذ نشأته في ستينيات القرن العشرين، ومن هنا كان قرارنا بتنسيق بقية الكتاب حول تلك التساؤلات. نَستهلُّ بحثنا بمناقشة الأسس البِنيوية للحركات المعاصرة (الفصل الثاني)، وهو ما نعني به، من جهة، الآليات التي تتشكَّل من خلالها المجموعات الاجتماعية الجديدة والمصالح الجديدة، بينما تشهد المجموعات والمصالح الأخرى، التي سبق أن احتلت صدارة الاهتمام، تراجعًا في أهميتها؛ ونعني به من جهةٍ أخرى التأثير الذي تُخلِّفه التغيُّرات البِنيوية، كنمو الرفاه العام وانكماشه وانتشار التعليم العالي، على أنماط المشاركة السياسية وعلى المشاركة غير المؤسسية، على وجه الخصوص، كما أن تأثير عمليات العولمة ذو صلةٍ خاصة بنقاشنا.
ثم يتبع ذلك فصلان خصَّصناهما للإنتاج الرمزي؛ يستعرض الفصل الثالث كيف يمهِّد التشكُّل الثقافي الطريق أمام تعريف المشكلات الاجتماعية كنتاجٍ لأوجه عدم التكافؤ في ميزان القوى وتضارب المصالح، كما يسهل رصد أسبابها الكامنة في العوامل الاجتماعية والسياسية محل التدخل البشري. أما في الفصل الرابع، فإننا نبين كيف أن عملية خلق الرموز وتعزيزها تمثل أيضًا ركيزة لتنامي مشاعر الهوية والتضامن، والتي لولاها لا يمكن لأي فعلٍ جمعي أن يتم.
يَتكوَّن المستوى الثالث المهم في تحليلنا من العوامل التنظيمية التي تتيح كلًّا من إنتاج الدلالة وتعبئة الموارد اللازمة لإتمام الفعل، واضعين في اعتبارنا التواصل الشبكيَّ غير الرسمي والمكوِّن الأكثر منهجية في البُعد التنظيمي على حدٍّ سواء. يتناول الفصل الخامس على وجه الخصوص تحليل المشاركة الفردية، إذ نُلقي نظرة في هذا الفصل على الآليات الكامنة وراء قرارات الأفراد بالانخراط في الفعل الجمعي والاستمرار في التزامهم بمرور الوقت، لكننا نتعرَّض أيضًا إلى الكيفية التي يُخلق بها الأفراد، عبر مشاركتهم، فُرصًا عدة لتكوُّن الشبكات التي تحافظ على الترابط بين الحركات الاجتماعية وأوساط المعارضة. يسلط الفصل السادس الضوء على بعض الخصائص المعينة المُميزة لتنظيمات الحركات، متناولًا العوامل — الداخلية والخارجية — المؤثِّرة في تبنِّي نماذجَ تنظيميةً معينة وانعكاسات ذلك على التعبئة.
أما البُعد الرابع في تحليلنا فذو أهمية حيوية؛ إذ يتعلَّق بالتفاعل بين الحركات والمنظومة السياسية؛ فالحركات تمثِّل عناصر ابتكارية، بل وراديكالية أحيانًا، ويتجلَّى ذلك في الكيفية التي تعمل بها المنظومة السياسية وفي بِنيتها نفسها. إن لسمات المنظومة السياسية دورًا في توفير فرصٍ جوهرية لنشأة الفعل الجمعي وتطوُّره أو منعها، كما يُمكننا تقييم أثر الحركات الاحتجاجية وتبعاتها في المدى المتوسط بالإشارة أيضًا، إن لم يكن حصرًا، إلى المنظومة السياسية. أفردنا الفصل السابع من هذا الكتاب لإعادة تصور لبعض خصائص الدورات الاحتجاجية التي ميَّزت العقود الأخيرة، فضلًا عن إعادة تصور لذخائر الفعل الجمعي التي تشكَّلت داخل نطاق تلك الدورات. نعرض في الفصل الثامن جوانبَ معينةً من العلاقة بين تشكيلات الفرص السياسية ونشأة التعبئة ونموها. وأخيرًا، خصصنا الفصل التاسع لمناقشة مسألة الآثار المُترتبة على الحركات؛ على الرغم من أن التغير السياسي هو لُبُّ تحليلنا، فإننا سوف نسعى إلى تسليط الضوء أيضًا على تأثير الحركات على المجالَين الاجتماعي والثقافي.
بوجهٍ أعم، لا يُمثِّل هذا الكتاب إعادة تقديم لأحدث ما توصل إليه الباحثون في هذا المجال أو ليس بوسعه الاعتراف بقيمة جميع الإسهامات المهمة في هذا المسار البحثي، ومن حسن الحظ أن نُشِرت في الأعوام القليلة الماضية أعمالٌ بارزة تولت التغطية المستفيضة والشاملة للجهود البحثية الخاصة بالحركات الاجتماعية؛ وذلك من منظورٍ منهجي في أسلوبه (كلاندرمانس وستيجينبورج ٢٠٠٢) وأعم في نطاقه (سنو وسول وكريسي ٢٠٠٤ب). أما هذا الكتاب فيُعدُّ محاولة لتقديم قضايا رئيسيةٍ معينة صارت محلَّ نقاش في الآونة الأخيرة. إلى جانب دراساتٍ جوهرية مرتبطة بتحليل الحركات، وقع اختيارنا على مجموعةٍ منتقاة من الأعمال الأخرى التي شَعرنا، لأسبابٍ شتَّى، أنها تُمثِّل أدواتٍ توضيحية مُفيدة لما نطرحه من أفكار. انطلاقًا من هذه الرُّؤية، أعرنا اهتمامًا خاصًّا، وإن لم يكن حصريًّا، للدراسات التي مزجت التحليل النظري بالبحث التجريبي (كما يُفهم في معناه الأوسع والأشمل: دياني وآيرمان ١٩٩٢؛ كلاندرمانس وستيجينبورج ٢٠٠٢). من بين أشهر الأعمال، وجَّهنا تركيزنا إلى تلك الأعمال التي تخالف إلى حد ما العناصر التنظيرية والبحثية التي كانت سائدةً في السابق، ولكي تبدو معالجتنا للموضوع أكثر تماسكًا، اخترنا أن نستهلَّ القضايا المطروحة في كل فصل بأمثلةٍ مستقاة من حركةٍ معينة، مع التركيز الانتقائي على الأبحاث ذات الصلة.
دفعتنا أسباب عدة لئلا نولي سوى اهتمام عرضي لكثير من وجهات النظر، التي اشتملت، رغم ذلك، على إشاراتٍ ذات أهميةٍ معتبرة بالنسبة إلى التساؤلات التي طرحناها، وهي أسباب عملية في جانب منها، تتراوح بين ضيق المساحة وصعوبة إخضاع الأدبيات الغزيرة للغاية التي أُنتجت في هذا المجال للفحص والدراسة. لكنْ ثمَّة جانبٌ نظري في تلك الأسباب أيضًا؛ إذ تعكس تباين الأدوات المفاهيمية المستخدَمة في تحليل الحركات والفعل الجمعي حتى وقتنا الحالي، بل وما يزيد من صعوبة وضع نماذج قادرة على التعامل مع مثل هذا القدر الكبير من التباين بين الظروف «المحلية» للفعل هو ذلك التنوُّع في السياقات الاجتماعية والسياسية التي تنشأ في إطارها الحركات. مما لا شك فيه أن التغلُّب على هذه المصاعب يستحوذ على اهتمام دارسي الحركات الاجتماعية، غير أن دمج كل هذه المحاور الفكرية كان من شأنه أن يتطلَّب محاولة لترجمة المفاهيم والنظريات إلى لغةٍ متجانسة، وهو ما لا يزال يبدو هدفًا بعيد المنال، ليس لمؤلفَيْ هذا الكتاب فحسب، بل وللأوساط العلمية ككل (انظر أيضًا ماكادم وتارو وتيلي ١٩٩٦، ٢٠٠١).