التغيرات الاجتماعية والحركات الاجتماعية
شهدت فرنسا في أواسط التسعينيات من القرن العشرين «عودة المسألة الاجتماعية»، مَصحوبةً بتحالف «مُتقلقل» بين القطاع العام والعاطلين عن العمل والعمالة الهامشية. في عام ١٩٩٥، حظي إضراب العاملين في قطاع النقل العام، الذي امتدَّ لفترةٍ طويلة، بدعمٍ كبير غير متوقَّع من الرأي العام: لقد أدَّى إلى «خروج الملايين إلى الشارع في تظاهراتٍ تضامنية بارِزة عمَّت أرجاء البلاد، وتشكيل روابط تنظيمية ورمزية مباشرة بين الحركة العمالية ومجموعات مختلفة من المَنبوذين، منهم المهاجرون غير الشرعيين والعاطلون عن العمل والمشرَّدون، علاوة على طلاب المدارس الثانوية والجامعات والنُّخبة المثقفة التي نُبِذت على نطاقٍ واسع باعتبارها مثالًا للامبالاة وانعدام الاهتمام» (فانتيجا وستيبان – نوريس ٢٠٠٤: ٥٥٦). احتشدت مجموعاتٌ هامشية شتَّى فيما يُعرف باسم «حركات من دون» لتَمثيل «المحرومين»، وهم المُهاجرون من دون تصاريح إقامةٍ قانونية والمشرَّدون والعاطِلون عن العمل. وصف المحلِّلون ائتلافًا بين «اليسار الأخلاقي» للطبقة الوسطى الذي احتَشَد للدفاع عن حقوق الإنسان، و«اليسار الاجتماعي» الذي حشَد العمال؛ فالعاطِلون عن العمل، على وجه الخصوص، احتجُّوا عام ١٩٩٧ ضد إصلاحٍ أدَّى إلى تقليص التمويل المخصَّص لتعويضات البطالة، وحوَّل إدارتها إلى إدارةٍ مركزية، أما في عام ١٩٩٤، فقد نظَّمت مجموعة «العمل ضد البطالة!» خمس مسيرات انطلقت من المقاطعات والتقَت في باريس، مطالبةً بخفض ساعات العمل لخلق وظائف جديدة، فضلًا عن مزيد من الاستثمار «ضد الإقصاء»، وقد انتظم العاطلون، أثناء تلك المسيرات وعقبها، في تنظيمات على المستويَين المحلي والوطني. شهد شتاء ١٩٩٥-١٩٩٦ تنظيم مجموعات من العاطلين لحملة «طلبات وظائف»، سار هؤلاء العاطلون، في إطار تحركاتٍ مكثَّفة شهدت دعايةً واسعة، متجهين إلى المصانع والمؤسسات التجارية ذات الوظائف الشاغرة، تاركين سِيَرهم الذاتية، كما شهد الشتاء التالي تظاهراتٍ أسبوعية وسلسلة من الحملات الرامية لاحتلال وكالات التوظيف المحلية — آسيديك — فضلًا عن احتلال مدرسة المعلمين العليا ودور البلديات والمقر الرئيسي للحزب الاشتراكي؛ طلبًا لإعانات عيد الميلاد الخاصة التي تسبَّبَ الإصلاحُ في إلغائها.
احتجَّ العاطلون أيضًا في أوروبا؛ فقد تلاقى العاطلون من فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا في مسيراتٍ أوروبيةٍ مناهِضة للبطالة وانعدام الأمان الوظيفي والإقصاء، وذلك عام ١٩٩٧. وبعد عامَين من ذلك الحدث، احتشد ٣٠ ألف شخص دفاعًا عن القضايا نفسها في مؤتمر قمة الاتحاد الأوروبي المنعقِد في كولونيا، وقد توحَّد الحشد تحت اسم الشبكة الأوروبية للعاطلين عن العمل، وقد أتت الموارد اللازمة لتلك الاحتجاجات من ائتلاف متنوِّعٍ عابر للحدود والقوميات يضم مجموعاتٍ تروتسكية وكاثوليكية وحركاتٍ اجتماعيةً جديدة ونقاباتٍ عمالية، ومن بين تلك النقابات الكونفيدرالية العامة للعمل في فرنسا والاتحاد الإيطالي العام للعمل، ومجلة «إكسبرس» الألمانية (المقربة من الاتحادات الألمانية). وبالرغم من تكاليف التعبئة المرتفعة، فإن الجدل الناشئ بشأن البعد الاجتماعي للاتحاد الأوروبي عُدَّ نافذةَ أملٍ وفرصةً سانحة. لم تعارض التنظيمات المشاركة في المسيرة (عدا استثناءاتٍ قليلة) التكامل الأوروبي، وإنما طالبت باتحاد أوروبي يلعب أدوارًا اجتماعية وسياسية مختلفة (شابانيه ٢٠٠٢)، وقد صرحت مجموعة «العمل ضد البطالة!» في هذا الصدد: «لم يحدث قطُّ أن قدَّمَ لنا الرأسماليون والحكام نموذجًا لفرنسا الاشتراكية من تلقاء أنفسهم … وبالمثل، لن نتمتع بنموذج أوروبا الاشتراكية إلا من خلال التدخل الفعال والموحَّد للعمال الأوروبيين» (في سالمون ١٩٩٨: ٢١٨).
استطاع العاطلون الفرنسيون خلال هذه الدورة من الاحتجاجات تشكيلَ موارد جمعية للتعبئة؛ فبالرغم من أن العاطلين يُنعَتون باللامبالاة السياسية ولا يُبدون سوى ميلٍ محدود للغاية إلى الفعل الجمعي، فإن تنظيمات الحركة «نجحت في تغيير تصورات العاطلين عن العمل، ولو لفترة معيَّنة على الأقل، عن إمكاناتهم الخاصة في التعبئة، وشجعتهم على التعبير عن مطالباتهم الجمعية وأقنعت الآلاف منهم بالاحتشاد» (رويال ١٩٩٨: ٣٦٢). في الواقع، أسهمت تلك التنظيمات، في إفساح المجال للاحتشاد، مدمجةً الأفراد الذين عانوا كثيرًا من العزلة (ماورير ٢٠٠١)، كما أسهمت في تعزيز مهاراتهم العلائقية وحفظها، والمهارات الاجتماعية لتلك الفئة (ماورير وبييرو ٢٠٠١). شكَّلت التعبئة تحديًا للصورة الذهنية السائدة عن البطالة باعتبارها مشكلةً فردية، ومن ثمَّ تحديًا للوصم الاجتماعي المرتبط بها.
فضلًا عن كل ما سبق، تسنَّى للعاطلين عن العمل اجتذاب الحلفاء. فبالرغم من أن العاطلين التقليديِّين حظوا بدعم من أقصى يسار الطيف السياسي، فقد احتشدوا في المشهد الفرنسي ضد ما رأوه «خيانة» من تيار اليسار والحكومة الوطنية الاشتراكية المُنتخَبة في مايو ١٩٩٧، متهمين كلَيْهما بالتحول من «اشتراكيةٍ ذات طابع بشري إلى ليبراليةٍ ذات مسحة إنسانية خافتة» (بورنو ومارتن ١٩٩٣: ١٧٢). بالرغم من ذلك، نجح العاطِلون في الظفر بمسانَدة الرأي العام؛ إذ لم يتوقَّف الأمر على إعادة تقديم إعانات عيد الميلاد، بل أسهمت كذلك التغطية الإعلامية المُتعاطفة في تغيير الصورة العامة للعاطلين؛ من فقراء يصطفون لاستجداء الصدقات، إلى ثوَّار يُكافحون في سبيل نيل حقوقهم (سالمون ١٩٩٨؛ ماورير وبييرو ٢٠٠١: ٣٨٨). بالنظر إلى نشاطهم في ميدانٍ ذي طابعٍ مؤسَّسي، مع تركيز مؤسسات دولة الرفاه على قضية البطالة (فيليول ١٩٩٣ب)، واجه المحتجُّون القضيةَ السياسية الخاصة بالاعتراف بالعاطلين أنفسهم، مُحرِزين انتصارًا في معركة رمزية، وذلك حينما دُعِي تنظيمهم إلى مقابلة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران.
إنَّ روايتنا تلك لتعبئة العاطلين الفرنسيين من شأنها أن تؤكد بعضًا من أهم الأبعاد التي شكَّلت الجدل القائم بشأن التفاعل بين الخصائص المجتمعية والحركات الاجتماعية؛ فهي تدلُّ، بادئ ذي بدء، على أن الحركات عادةً ما تُشير إلى قاعدةٍ ترسم ملامِحُها، بطرقٍ شتَّى، بعضَ السمات الاجتماعية. على الرغم من أن نقد نظرية الانهيار (انظر الفصل الأول) في إطار الأبحاث المعنية بالحركات الاجتماعية الأمريكية صرف الانتباهَ ردَحًا من الزمن (باستثناءاتٍ قليلة، من بينها بيفن وكلاورد ١٩٩٢) عن المظالم البِنيوية (بيوتشلر ٢٠٠٤)، فلا مجالَ لإنكار تأثير البِنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع على نمط الصراعات التي تَظهر فيه. الحق أن الباحثين المعنيِّين بالحركات الاجتماعية الأوروبية، على وجه الخصوص، قد وجَّهوا تركيزهم منذ سبعينيات القرن العشرين على الصراعات الجديدة في الديمقراطية الغربية: كانت الحركات البيئية أو الحركات النسائية هي الموضوعات النمطية لهذا التيار البحثي. لقد اعتُبِرت الحركات الاجتماعية بالفعل حاملةً للقيم ما بعد المادية، بينما بدَت الانقسامات الطبقية التي احتشدت بشأنها الحركات العمالية وقد خفَّت وتيرتها. إنَّ «عودة» حركات الفقراء تمثل نقطة انطلاق يُمكن أن يُستفاد منها في مناقشة العلاقة بين التغيُّرات الطارئة في البِنية الاجتماعية والفعل الجمعي.
قد يؤثِّر التغيير الاجتماعي في خصائص الصراع الاجتماعي والفعل الجمعي بطرقٍ شتَّى؛ فربما يعمل على تيسير نشوء مجموعاتٍ اجتماعية ذات موقعٍ بِنيويٍّ محدَّد ومصالحَ محتملةٍ محدَّدة، أو يُقلِّص من أهمية المجموعات القائمة بالفعل، أو كلا الأمرَين، كما يوحي بذلك التحول من النشاط الزراعي إلى النشاط الصناعي ومنه إلى القطاع الخدمي. غير أن حديثنا السابق عن العاطلين الفرنسيين يَشِي بأن التوترات البنيوية لا تُترجَم مباشَرةً إلى تعبئة أو حشد؛ فشقاء العاطلين يُمثِّل عاملَ ردعٍ للاحتجاجات أكثر من كونه عاملَ تيسير، فضلًا عن ذلك، يُعزَى إلى الظروف المجتمعية تأثيرات مهمة على توزيع الموارد المؤدية إلى المشاركة في الفعل الجمعي، كالتعليم مثلًا، أو المُيسِّرة للتعبير عن المصالح، أو كلا النوعين من الموارد. لقد أدَّى التحوُّل إلى مصانع أصغر حجمًا والإنتاج الخارجي للأنشطة الصناعية دورًا مضادًّا لقدرة العمال على التصرُّف كطبقةٍ موحدة، بينما أسهمت الفرص المتنامية في حصول النساء على التعليم العالي وفي دخولهن سوق العمل؛ في نشأة روابط جديدة بينهن وبروزهن كفاعلٍ جمعيٍّ جديد.
سينصبُّ تركيزنا على ثلاثة أنماط من التحوُّل أثارت اهتمام المجتمعات الغربية منذ الحرب العالمية الثانية: الاقتصاد، والدور الذي تلعبُه الدولة، والميدان الثقافي، واضعين في اعتبارنا أنواع تلك التأثيرات. ليس من شأننا في هذا الصدد مُحاولةُ تغطية العمليات التي لا حصرَ لها، والتي تُشكِّل ما يُعدُّ عادةً تحوُّلًا إلى المجتمع ما بعد الصناعي (أو ما بعد الحداثي، وغير المنظَّم، وما بعد الفوردي … إلخ) (أمين ١٩٩٤؛ لاش وأوري ١٩٨٧؛ كاستيلز ١٩٩٦، ١٩٩٧؛ كومار ٢٠٠٥)، وإنما سنَكتفي بذكر عمليات التغيير التي وردت صراحةً في أدبيات الحركات الاجتماعية باعتبارها عنصرًا مؤثرًا في الحركات الاجتماعية، ثم سنَتعرَّض بالمناقشة للآثار الأوسع المترتبة لتلك التغيرات على تحليل التجديدات الناشئة في أشكال الفعل الجمعي، ومن المزمَع أن نتناول مشكلتَين على وجه الخصوص: كيف تؤثر تجربة الحركات «الجديدة» على استيعابنا لمفاهيم مثل «الصراع الطبقي» و«الفعل الطبقي»؟ كيف يتعيَّن علينا أن نفسِّر الوجود الطاغي لأعضاء ما يُعرَف باسم «الطبقة الوسطى الجديدة» في الحركات الاجتماعية بنهاية القرن العشرين؟ سوف نُركِّز في القسم التالي على التغيُّرات الطارئة على البنية الاجتماعية وانعكاساتها على الانقسامات السياسية (القسم ١)، ثم سنتناول التأثيرات الاجتماعية للتغيُّرات الطارئة في الميدان السياسي (القسم ٢) وآثار التغيُّرات الثقافية على الحركات الاجتماعية (القسم ٣)، وفي النهاية سنختم حديثنا بمناقشة الفرضية التي تَنظر إلى الحركات الاجتماعية الجديدة باعتبارها عناصرَ فاعلةً في صراعاتٍ طبقيةٍ جديدة (القسم ٤).
(١) البنية الاجتماعية والانقسامات السياسية والفعل الجمعي
كثيرًا ما تناول الباحثون تأثيرات الخصائص الاجتماعية والاقتصادية على الصراعات الاجتماعية والسياسية، وذلك من خلال النظر إلى الانقسامات السياسية؛ أي من خلال النظر إلى أهم خطوط الصراع المسيَّسة (ليبسيت وروكان ١٩٦٧). جرت العادة على ربط الانقسامات السياسية بنموذج من الفعل الجمعي اتَّجه فيه الفاعلون إلى: (١) الصراع بعضهم ضد بعض في سبيل حماية مصالحهم المادية أو السياسية، و(٢) تعريف أنفسهم (باعتبارهم أعضاء في طبقةٍ ما أو طائفة أو مجموعةٍ قومية) بالنِّسبة إلى هذه المصالح.
تؤثِّر البنية على الفعل الجمعي، وتأثيرها لا يقتصر على خلق أنماط من الاعتماد بين المجموعات الاجتماعية، ومن ثمَّ إمكانية إيجاد مصالح متضاربة، بل إن الأنماط الراسخة من تنظيم الحياة الاجتماعية (من الفعل الاقتصادي إلى السياسي، ومن الحياة الأسرية إلى الجمعيات) تُؤثِّر أيضًا على تكوين الفاعلين الجمعيِّين وتشكيلهم. إن الفعل الجمعي الصادر عن مجموعاتٍ اجتماعيةٍ معينة يصبح ممكنًا في واقع الأمر حين تتصف هذه المجموعات بالسمتين التاليتين: (١) يَسهُل التعرف عليها وتمييزها بالنسبة إلى المجموعات الاجتماعية الأخرى. (٢) تتمتَّع بمستوًى عالٍ من التماسك الداخلي بالإضافة إلى هويةٍ محدَّدة، وذلك بفضل الشبكات الاجتماعية القائمة بين أعضائها. بناءً على ذلك، سوف يعتمد الفعل الجمعي على تواجُدٍ متزامن لسمات تصنيفية محدَّدة، إلى جانب الوجود المتزامن لشبكات تربط الأفراد محل الدراسة الذين يجمع بينهم مثل هذه السمات (أوبرشال ١٩٧٣؛ وتيلي ١٩٧٨). انطلاقًا من هذا المنظور، سيكون السؤال المِحوَري لتحليل العلاقة بين البنية والفعل هو عمَّا إذا كانت التغيُّرات الاجتماعية قد سهَّلت تكوُّن وتنمية مثل هذه العلاقات الاجتماعية ومشاعر التضامن والانتماء الجمعي ويسَّرت اكتشاف المصالح المحدَّدة وتعزيز التعبئة ذات الصلة. لم يُسهم التحرُّك نحو الرأسمالية في خلق تجمعات من الأفراد الذين يجمعهم امتلاكهم لوسائل الإنتاج (الرأسماليون) أو القوة العاملة الخاصة بهم (الطبقة العاملة أو البروليتاريا) فحسب، بل أسهم أيضًا في خلق أنظمة من العلاقات الاجتماعية التي مهَّدت الطريق أمام نمو مشاعر التضامن الداخلي في تلك التجمُّعات وتحوُّلها إلى أطرافٍ فاعلةٍ جمعية. وظهرت عدة عوامل سهَّلت إدماج الطبقة الرأسمالية؛ ألا وهي حجمها المحدود، وتداخُل الروابط الأسرية ووجود علاقات مُصطبغة بطابعٍ اقتصادي، إضافة إلى قدرة تلك الطبقة على الوصول إلى وسائل التواصُل بل والسيطرة عليها. ويترتب على كثير من التغيُّرات البِنيوية الواردة في الصفحات التالية — كتلك التغيُّرات المرتبطة بالتحولات الجارية في تنظيم العمل وفي حصر الأنشطة الإنتاجية محليًّا — تبعاتٌ مهمة فيما يتعلَّق بتنظيم التفاعُل داخل المجموعات الاجتماعية.
(١-١) التغيُّر الاقتصادي والتفكُّك الاجتماعي والحركات
كانت الطبقة العاملة فاعلًا محوريًّا في صراعات المجتمعات الصناعية، ليس فقط بسبب حَجمها أو أهمية وظيفتها الاقتصادية، وإنما كنتيجةٍ مترتبة أيضًا على مجموعةٍ أوسع من العوامل البِنيوية. لو ألقينا نظرة على المصنع الفوردي، فسوف نجد عددًا ضخمًا من العاملين يُؤدُّون مهامَّ متشابهة داخل وحداتٍ إنتاجيةٍ كبيرة لا تسمح بتنقل العمالة إلا في نطاقٍ محدود. لا شك أن مثل هذه العوامل ساعدت في تحديد فاعلٍ اجتماعيٍّ مُعيَّن وعزَّزت من التماسك الداخلي. كان من بين النتائج المترتِّبة على تركُّز الطبقة العاملة في وحداتٍ إنتاجيةٍ ضخمة وفي المناطق الحضرية إنتاج شبكاتٍ كثيفة تبلورت في إطارها هويةٌ طبقيةٌ محدَّدة جنبًا إلى جنب مع قدرة على فعلٍ جمعيٍّ حاشد (تومبسون ١٩٦٣؛ لوذي وتيلي ١٩٧٣؛ سنايدر وتيلي ١٩٧٢؛ كالهون ١٩٨٢؛ لاش وأوري ١٩٨٧؛ فانتيجا ١٩٨٨؛ أوري ١٩٩٥).
فضلًا عن ذلك، ازدادت معدَّلات البطالة في كثير من البلدان وصارت تُعدُّ إحدى السمات البنيوية للاقتصادات الرأسمالية، كما أن العلاقة بين العامِلين والعاطلين قد لحقها التغيُّر أيضًا من ناحية اعتباراتٍ أعمَّ؛ فقد ازداد تأخُّر الدخول إلى سوق العمل أكثر وأكثر؛ ما أدَّى بشدة إلى إطالة أمد نمط الحياة غير الناضج الذي يُميِّز غير البالغين، كما تناقصت القطاعات التي يُمكنها الاعتماد على أنماط العمل التي تتسم بالاستقرار وتتمتع بالحماية. بالرغم من صعوبة التحديد الفعَّال لمستويات البطالة ومحدداتها البنيوية في البلدان المُتقدِّمة، فإن معدلات انتشار الوظائف المؤقتة غير المستقرَّة قد ازدادت بصورةٍ هائلة (كاستيلز ١٩٩٦: الفصل الرابع)، كما برَزت إلى السطح صورٌ مُتزايدة لانعدام المساواة، لا تقتصر على العلاقة بين الشمال والجنوب (بيانتا ٢٠٠١ب) بل وداخل الشمال أيضًا، بل وفي أكثر المدن العالمية حداثةً (انظر ساسن ٢٠٠٠). كما اتَّسعت رقعة الفقر أكثر فأكثر؛ فوفقًا لما أورده تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة عام ١٩٩٩، انخفَضَ متوسِّط دخل الفرد في ٨٠ بلدًا مُنعطف هذا القرن مقارنةً بنظيره منذ عشر سنوات خلت؛ كما أن ١٫٢ مليار نسمة يعيشون في فقرٍ مُدقع، حتى مع الاستناد إلى الحد الأدنى المفرط في التدني الذي حدَّده البنك الدولي بقيمة دولارٍ واحد يوميًّا.
أدت الضغوط السكانية وغيرها من الصعوبات في عددٍ مُتزايد من المناطق الواقعة في نصف الكرة الجنوبي إلى ارتفاع معدلات الهجرة كثيرًا باتجاه الاقتصادات الأقوى؛ وهو ما زاد من توسُّع فئة ما دون البروليتاريا ذات طابعٍ عرقيٍّ قويٍّ داخل المجتمعات الغربية (كاستيلز ١٩٩٦: الفصل الرابع، خاصة الصفحات من ٢٣٣ إلى ٢٣٤). لا تعدُّ الهجرة ظاهرةً جديدة البتَّة (أوسوليفن سي ١٩٨٦؛ أولزاك ١٩٩٢)، بيد أن حجم الهجرات التي جرَت قرابة نهاية القرن العشرين قد زاد بالتأكيد من إمكانية اندلاع صراعاتٍ عرقية داخل الديمقراطيات الغربية، كما خلقت فرصًا لإعادة إحياء نشاط المجموعات اليمينية المتطرِّفة (هينسوورث ١٩٩٢؛ رينش وسولوموس ١٩٩٣؛ فيفيوركا ١٩٩٥؛ كوبمانس ١٩٩٦أ، ١٩٩٧).
برزت قوةٌ أساسية أخرى من قوى التغيير، ألا وهي الدخول الحاشد للنساء ضمن قوى العمل التي تتقاضى أجرًا، وتجلَّت هذه الظاهرة بوضوح في القطاع الخدمي داخل المجتمعات الغربية؛ مما يُوحي بوجود علاقة بين تقليص الاعتماد على الموارد المادية في الاقتصاد وبين الفرص المُتزايدة أمام النساء (كاستيلز ١٩٩٧: ١٦٣)، وقد أثَّرت هذه العملية في اتجاهات التمييز ومعايير تعريف المصالح داخل المجموعات الاجتماعية، والتي كان يُنظَر إليها فيما سبق باعتبارها متجانسة؛ فعلى سبيل المثال، يُمثِّل التفاوت الدائم في الأجور بين الرجال والنساء مصدرًا جليًّا من مصادر الانقسام والصراع المحتمَل داخل الطبقات التي تَتقاضى الرواتب (كاستيلز ١٩٩٧: ١٦٩) كما أسهم، في الوقت نفسه، التأثيرُ المركَّب للاستقلال الاقتصادي المتنامي للنساء والتزاماتهن المهنية المُتزايدة في زعزعة قواعد السطوة الذكورية داخل المنزل وفي العمل على حدٍّ سواء، بالإضافة إلى خلق فرص لظهور صراعاتٍ جنسانية أعمقَ في نطاق الحياة الخاصة (والبي ١٩٩٧).
لقد أضعفَت تلك العمليات من الشروط البِنيوية المسبقة التي سبق أن سهلت ظهور الانقسامات الطبقية، لا سيما في نموذج الفعل الجمعي الخاص بالطبقة العاملة. وقد تنامى، بوجه عام، حجم المجموعات الاجتماعية المحرومة من التمتُّع الكامل بالمواطنة واستحقاقاتها، إما لكونهم من المهاجرين (الشرعيين أو غير الشرعيين) أو لعملهم في وظائف تَندرِج تحت الاقتصاد الخفي، أو لاضطلاعهم بأعمالٍ متدنية الأجر. وقد أثار ذلك شعورًا بانعدام الأمن بوجه عام، رسخه تزايد تنقل الأفراد، وهو تنقل أفقي في الأساس؛ ومن ثمَّ يتَّجه المزيد من الأفراد إلى تغيير وظائفهم عدة مرات على مدار حياتهم، إما باختيارهم أو بحكم الضرورة (إيسبينج – أندرسن ١٩٩٣؛ كاستيلز ١٩٩٦). إن تعدد الأدوار والمهن والتدرجات ذات الصلة وظهور اتجاهات التفكك القائمة على العرق أو النوع الاجتماعي أو معاودة ظهورها داخل المجموعات الاجتماعية والاقتصادية زاد من صعوبة تمييز فئاتٍ اجتماعيةٍ محددة. فضلًا عن ذلك، كان لتكرار التغيرات الوظيفية المتزايد والصلات الواهنة بالمجتمعات الإقليمية دور في إضعاف العلاقات بين من كانوا يتقاسمون سابقًا ذات الوضع البنيوي؛ فأمست علاقاتٍ غيرَ مستقرة يمزقها التفكك والتشتُّت. يبدو، من مجموع ما سبق من العوامل، أن العمل في طريقه إلى فقد طبيعته الجمعية تدريجيًّا في إطار عملية عرَّفها مانويل كاستيلز باسم «سيطرة الصبغة الفردية على العمالة» (١٩٩٦: ٢٦٥)، فمِن الصعوبة بمكان استبعاد مصالح الفاعِلين من وضعهم البِنيوي وتنظيم حمايتهم بناءً على ذلك الأساس (دالتون ١٩٨٨: الفصل الثامن).
أسفَرَت هذه التغيُّرات عن تأثيرات، كان أولها إضعاف الحركة العمالية. لو أمكن تفسير التراجع المَشهود في الأنشطة الإضرابية كعلامةٍ دالَّةٍ على إضفاء الطابع المؤسسي على العلاقات الصناعية وعدم تسييس الصراعات الصناعية، لا سيما في تسعينيات القرن الماضي؛ فإن الانخفاض في عضوية النقابات قد أشار إليه الباحثون باعتباره مؤشرًا على أزمة لا يمكن أن تَتجنَّبها الحركة العمالية. يمكن ملاحظة الأمر نفسه في القطاع الخدمي؛ فمن الصعب تنظيم قاعدةٍ اجتماعيةٍ مُفكَّكة، خاصة مع تنامي طابع المرونة وسيطرته على سوق العمل وما يرتبط به من تفاقُم حالة انعدام الأمن، كما كان من الصعب تعبئة العاطلين والمهاجِرين، الذين يَزدادون عددًا أكثر فأكثر.
لكن الألفية الجديدة أقبَلَت مصحوبة بتصاعدٍ آخر في الصراع الدائر بشأن القضايا العمالية، وإن اتخذ أشكالًا جديدة هذه المرة: العاطلون يَحتجُّون، ولو بصفةٍ عشوائية؛ نظَّم العمال أنفسهم في الجنوب، حيث كثيرًا ما نجحت النقابات في زيادة عدد أعضائها (نوريس ٢٠٠٢: ١٧٣ وما يليها)؛ ربطت الشبكات الشعبية العمال بصلات تتجاوز الحدود والقوميات (مودي ١٩٩٧)؛ نشأت نقاباتٌ شعبيةٌ جديدة (انظر أدناه) وبدأت النقابات التقليدية تزيد من استثماراتها المخصَّصة لتعبئة العمال؛ فعلى سبيل المثال، تُقدَّر الاستثمارات الحالية التي يرصدها اتحاد العمال الأمريكي ومؤتمر المنظمات الصناعية لتنظيم العمال بنسبة تصل إلى ٣٠ بالمائة من ميزانيتِه (في مقابل النسبة المعتادة وهي ٥ بالمائة) (فانتيجا وستيبان-نوريس ٢٠٠٤: ٥٧٠). بينما تتعرَّض العمالة للتسريح في القطاع الخاص، تعالت أصوات العمال في القطاع العام (كما هو الحال في مثال عمال السكك الحديدية الفرنسيين) بالاحتجاج رافضين الإصلاحات الليبرالية الجديدة الرامية إلى تقليص الخدمات الاجتماعية (إكشتاين ٢٠٠١). لاحظ كلٌّ من بيفن وكلاورد (٢٠٠٠) أن الولايات المتحدة الأمريكية شهدت عودة إلى الأنماط القديمة من الفعل الثانوي كحملات المقاطعة المُجتمعية وإضرابات التعاطف والإضرابات العامة، ومع إدبار ألفية وبزوغ ألفيةٍ جديدة، كانت فرنسا (وإيطاليا وإسبانيا أيضًا) مسرحًا لإضراباتٍ عامة ضد برامج إصلاح المعاشات التقاعُدية وخصخصة الخدمات العامة وتقليص الإنفاق على الصحة العامة والتعليم، وقد انضمَّ إلى النقابات العمالية، خلال تلك التحركات، حركاتٌ شتَّى أسهمت في ربط القضايا العمالية بالعدالة العالمية والدفاع عن البيئة والسلام والمساوة بين الجنسَين. في الواقع، يُنظر إلى نشوء إطار للظلم العالمي باعتباره اتجاهًا آخر حديثًا في الحركة العمالية؛ فقد تمخَّضت اتفاقيات التجارة الحرة لأمريكا الشمالية عن حملات عابرة للحدود والقوميات للعمال الكنديين والأمريكيين والمكسيكيين (إيرز ١٩٩٨؛ إيفانز ٢٠٠٠)، كما أن عمال موانئ مدينة سياتل، الذين سبق لهم المشاركة في الإضرابات العابرة للحدود والقوميات، التي أشعل عمال موانئ ليفربول شرارتها (مودي ١٩٩٧)، قد ساندوا كذلك الاحتجاجات المناهِضة لمنظمة التجارة العالمية، موسِّعين دائرة تضامنهم من المستوى المحلي إلى المستوى الدولي (ليفي وأولسن ٢٠٠٠). لقد أتاحت مثل هذه الموجات التعبوية الفرصة أمام الحركة العُمالية للالتقاء بغيرها من الحركات الأخرى، البيئية والنسوية والحضرية … إلخ (ديلا بورتا وأندريتا وموسكا ورايتر ٢٠٠٥)، كما أنَّ انعدام المساواة المتنامي كان من المحفِّزات التي أدَّت إلى بروز حركات التضامن مع المجموعات الهامشية في الشمال (جوني وباسي ٢٠٠١) إلى جانب تصاعد الاحتجاجات التي تَضطلع بها المجموعات الهامشية نفسها (سيميون ١٩٩٨؛ كوسيس وتيلي ٢٠٠٤؛ كريس تيلي ٢٠٠٤).
(١-٢) العولمة الاقتصادية والصراع الاجتماعي
إن للعمليات البِنيوية تأثيرًا أيضًا على البعد الإقليمي للصراعات؛ فقد جرت العادة على أن تُنظِّم الحركات الاجتماعية صفوفها على المستوى الوطني، مُستهدِفةً الحكومات الوطنية، أما الاحتجاجات القومية المعاصرة، كما يسلَّط الضوء عليها مثال العاطلين الفرنسيين، فهي تأتي مصحوبة في أكثر الأحيان باحتجاجات عابرة للحدود والقوميات؛ وذلك في إطار عملية مِن تحوُّل النطاق (ماكادم وتارو ٢٠٠٥)، لكن العلاقة بين الأنشطة الاقتصادية والجغرافيا نالت نصيبها من التغيير أيضًا، من حيث إن مثل هذه الأنشطة أصبحت تتخطَّى الحدود والقوميات على نحوٍ متزايدٍ في القطاعات «القوية» و«الضعيفة» على حدٍّ سواء؛ مما ترتب عليه تزايد في أهمية المؤسسات المتعدِّدة الجنسيات: لقد مهَّد التركيز على التقسيم الدولي للعمل الطريق أمام نقل الأنشطة ذات المخاطر البيئية المُرتفعة إلى المناطق الأشد فقرًا، وقد اقترنت لا مركزية الإنتاج بمركزية الهيمنة الاقتصادية، وذلك بالتوازي مع عمليات إدماج الشركات في مؤسساتٍ أكبر وأعظم.
رغم أن عملية الاعتماد العالمي المتبادَل تَضرب بأطنابها في الماضي البعيد (والرستين ١٩٧٤؛ تيلي ٢٠٠٤أ: الفصل الخامس)، فإنَّ الثورة التكنولوجية التي تفجَّرت في ثمانينيات القرن الماضي أسهمت في تعميق «كلٍّ من واقعية الاعتماد العالمي المتبادل وإدراك العالم كوحدةٍ واحدة أيضًا» (روبرتسون ١٩٩٢: ٨). بالالتفات إلى الأنظمة الاقتصادية، سنجد أن هذا الاعتماد المتبادَل المتنامي كان من معانيه نقل الإنتاج (وهو ما يُعرَف في النظرية الاقتصادية باسم «تحرير العمليات الإنتاجية من القيود المحلية») إلى بلدانٍ ذات أجورٍ منخفضة وتوطيد دعائم الشركات المتعددة الجنسيات، والأهم تدويل الأسواق المالية، إلى الحد الذي دفع البعض إلى التحدث عن «اقتصاد بلا حدود». وفي الوقت نفسه، صار الترابط الاقتصادي العالمي المتبادَل واحدًا من العوامل التي دفعت أعدادًا كبيرة من سكان جنوب العالم وشرقه نحو شماله وغربه، كما أدَّت إلى تحوُّل النمط السائد لتقسيم العمل الدولي من خلال تقليص حجم القطاع الصناعي في الشمال (حيث يَتزايد اعتماد الاقتصاد على القطاع الخدمي) والتوسُّع في قطاع الصناعة في بعض المناطق الجنوبية (لا سيما في أمريكا اللاتينية وآسيا الوسطى، علاوة على أوروبا الشرقية الآن) التي كان يعتمد اقتصادها في المعتاد على تصدير المواد الخام.
شكَّل نقل الإنتاج إلى المناطق ذات التكلفة المنخفضة لليد العاملة تهديدًا كان من شأنه أن أضعف كثيرًا الأهلية التعاقدية للنقابات العمَّالية (كاستيلز ١٩٩٦: الفصل الثاني)، كما تسبَّبت العولمة الاقتصادية في إثارة مشكلاتٍ محددة دفعت الأطراف الفاعلة، القديمة والجديدة على حدٍّ سواء، إلى الاحتشاد لمواجهتها؛ ففي شطر العالم الشمالي، جلبت العولمة الاقتصادية معها البطالة وأحدثت تصاعدًا في مستوى انعدام الأمن الوظيفي واستفحالًا في ظروف العمل المُفتقِرة إلى الحماية، إلى جانب تعبئة النقابات العمالية في القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية، كما نجد للعولمة الاقتصادية تأثيرًا مشابهًا في شطر الكرة الجنوبي؛ إذ أجبرت السياسات الليبرالية الجديدة التي فرضَتْها المنظمات الاقتصادية الدولية الكبرى البلدان النامية على تقليص الإنفاق الاجتماعي بصورةٍ كبيرة أشعلت سلسلة من الاحتجاجات الشرسة (والتون وسيدون ١٩٩٤؛ إكشتاين ٢٠٠١؛ أويرو ٢٠٠١). تجدر الإشارة إلى أن الأنظمة السياسية الضعيفة أصلًا كثيرًا ما كانت تسمح بالاستغلال الخاص للموارد الطبيعية، وكذلك بإنشاء مشروعاتٍ تنموية ذات تأثيراتٍ بيئيةٍ كبرى، وهو ما دفع السكان الأصليين إلى الاحتشاد رفضًا لتدمير بيئتهم الطبيعية، عن طريق تدمير غابات الأمازون، مثلًا، أو إنشاء السدود الضخمة، وهي مشروعات عادةً ما كانت تُنفَّذ تحت رعاية المنظمات الحكومية الدولية كالبنك الدولي أو صندوق النقد الدولي (باسي ١٩٩٩).
(٢) الدول والأسواق والحركات الاجتماعية
شهدت السياسة والدولة تغيُّرات على القدر نفسه من الأهمية؛ فتحرُّكات الدول قادرة على إفراز فاعلين جمعيِّين بطريقتَين على الأقل: تثبيت الحدود الإقليمية للفعل السياسي (أي رسم الحدود)، وتيسير — أو عرقلة — تكوين أو نمو مجموعات اجتماعية معينة، وذلك حسب أولويات السياسة العامة، وبالأخصِّ حسب وجهة الإنفاق العام.
(٢-١) الحدود الإقليمية والصراعات الاجتماعية: الاحتجاج عبر الحدود والقوميات
كان الفاعلون الجمعيون المعنيون، آنذاك، هم تلك المجموعات الاجتماعية القادرة على التأثير في صياغة السياسة الوطنية؛ كتلك المجموعات ذات الأدوار الاقتصادية والمهنية المحورية أو العمالة المنظمة. وكانت ثمة نزعةٌ نحو اعتبار الصراعات السياسية والطبقية صراعاتٍ بين المجموعات الاجتماعية المحدَّدة على نطاقٍ وطني، والمعنية ببسط سيطرتها على عملية وضع السياسات الوطنية. ولم يكن وجود صراعات غير قائمة على قضايا طبقية بين المركز والأطراف منافيًا لهذا التصور؛ فالقوميات التي تُشكِّل أقلية، وهي مجموعات تحمل هويةً معيَّنة، ثقافية أو تاريخية أو لغوية أو كل ما سبق، حدَّدت استراتيجياتها وصورها الذهنية بالنسبة إلى دولةٍ مركزية وإلى السيادة التي مارستها على إقليمهم، وكثيرًا ما كانوا يهدفون إلى إنشاء دولهم القومية. ولم يكن الهدف في هذه الحالة معنيًّا بسياسةٍ وطنية، بل بتعديل حدود الدولة القومية. ورغم ذلك، عرَّف الفاعلون أنفسهم بالفعل في إطار علاقتهم بالدولة وحدودها.
لم يَعُد التوافق بين الدولة القومية والمجتمع قويًّا في وقتنا الحالي مقارنةً بما كان عليه في الماضي، وأثارت العولمة الاقتصادية، من هذا المنطلق، الشكوك حول دور الدولة القومية، التي تراجَعَت قدرتها كثيرًا على بسط سيطرتها داخل حدودها الخاصة، بل وشكَّكت أيضًا، بصفةٍ أعم، في قدرة السياسة على التدخُّل في الاقتصاد وتنظيم الصراع الاجتماعي. في واقع الأمر، تسبَّبت الرأسمالية العالمية في نقض التحالف التاريخي الذي دام طويلًا بين الرأسمالية ودولة الرفاه والديمقراطية (كراوتش ٢٠٠٤)؛ فقد انطوى التحول من الاقتصاد القائم على نظرية كينز — والذي تلعب فيه الدولة دورًا محوريًّا في إدارة السوق — إلى الرأسمالية الليبرالية الجديدة على تقليص الحماية الممنوحة للأيدي العاملة، بالإضافة إلى خفض ما يتمتعون به من حقوق (بريكر وكوستيلو وسميث ٢٠٠٠)، ففي سبيل وقف نزيف رأس المال، اتجهت الحكومات، حتى الحكومات اليسارية، إلى تَبنِّي المفاهيم الليبرالية المرتبطة بإضفاء المرونة على القوى العاملة وتقليص الإنفاق الاجتماعي.
مما لا يَخفى على أحد أن قدرة الدولة على تنظيم السلوك داخل إقليمٍ معيَّن قد تراجَعَت بوجهٍ عام. بادئ ذي بدء، تنامَت أهمية البِنى السياسية الإقليمية داخل فرادى الدول، وقد تداخَلَ ذلك في أغلب الحالات مع عملية دمج لأنماطٍ شتى من اللامركزية الإقليمية (كيتينج ١٩٨٨؛ شارب ١٩٨٨؛ بوكوفسكي وبياتوني وسمايرل ٢٠٠٣). بل إنَّ التحركات نحو الحكم الذاتي، في بعض الحالات، أسفَرَت عن نشأة كياناتٍ قوميةٍ فرعية حقيقية، وغالبًا ما كان ذلك يتحقَّق في المناطق التي تقوى فيها التقاليد التاريخية للحكم الذاتي، بل وحتى في المناطق التي تَضعُف فيها تلك التقاليد (كما هو الحال في إسبانيا مثلًا). وفي الوقت ذاته، تُمثِّل علاقات الاعتماد المتبادَل المتنامية بين الدول وتدعيم مكانة بعض المنظمات الحكومية الدولية عوامل أضعفت من فكرة الدول باعتبارها الوحدات المعنية الوحيدة في المنظومة الدولية، علاوةً على أن انتقال القوة التنظيمية إلى المنظمات الحكومية الدولية، مثل الاتحاد الأوروبي، كان من شأنه زعزعة الحدود القومية (بارتوليني ٢٠٠٤).
لا تنطوي العولمة على مجموعة من التكنولوجيات الحديثة فحسب؛ بل تنطوي أيضًا على طائفة من الأدوات السياسية التي تُطبَّق لتنظيم أنماط الإنتاج واستنساخها، وذلك من خلال انتشار المنظمات الدولية، الحكومية وغير الحكومية (يو بيك ١٩٩٩، بولي وتوماس ١٩٩٩). وبينما لم يزل السياق السياسي القومي منشغلًا بتنقيح تأثير التحولات الدولية على السياسة الوطنية، مضى تنامي الاعتماد الاقتصادي المتبادل جنبًا إلى جنب مع ما يمكن أن نطلق عليه «إضفاءً بارزًا للطابع الدولي على السلطة العامة مصحوبًا بعولمةٍ مناظرة للنشاط السياسي» (هيلد وماكجرو ٢٠٠٠: ٢٧). وانطلاقًا من هذا المنظور، يبدو أن المنظومة الدولية القائمة على الدولة القومية في طور التحوُّل إلى منظومة سياسية تتألَّف من سلطاتٍ مُتشابكة متعدِّدة المستويات، يتراجع فيها التمايز الوظيفي وتتضاءل الشرعية الديمقراطية إلى أدنى حد. لقد جعلت العولمة، في المنظومة السياسية، العلاقات السياسية تتخذ بُعدًا متجاوزًا للحدود والقوميات، بل إن الأبحاث الحديثة في مجال العلاقات الدولية أبرزت حدوث تعددية في الفاعلين المعنيين (نيكلسون ١٩٩٨: ١٣١ وما يليها)؛ فقد شهدنا، منذ الحرب العالمية الثانية، وبصفةٍ متزايدة في السنوات الأخيرة، تناميًا في عدد المنظمات الحكومية الدولية التي يجمع نشاطها بين النطاقَين الدولي (كالأمم المتحدة) والإقليمي (كالاتحاد الأوروبي، والسوق المشتركة الجنوبية في أمريكا اللاتينية، أو ما يُعرف بميركوسور، واتفاقية التجارة الحرة في أمريكا الشمالية، أو نافتا)؛ ذات أهدافٍ عسكرية (كالناتو أو معاهدة وارسو الملغاة حاليًّا)، أو أهدافٍ تنموية معلَنة كتعزيز التنمية الاقتصادية (كصندوق النقد الدولي، أو البنك الدولي، أو منظمة التجارة العالمية) (برينسن وفينجر ١٩٩٤: ١).
لقد أسهمت المنظمات الدولية في انتشار اللوائح والقواعد الدولية، والتي تحلُّ في بعض الحالات محلَّ السيادة الوطنية. فكما طُرِح مرارًا، «ما من سلطةٍ رسمية تبسط سيطرتها على الدول في النظام العالمي المعاصر، غير أن كثيرًا من تلك السلطات تخضع لقوًى وضغوط وتأثيراتٍ قوية غير رسمية، تخترق ما يفترض أن يكون حصن الدولة القوي» (روسيت وستار ١٩٩٦: ٦٢). فضلًا عن ذلك، فبالرغم من أن أغلبية المنظمات الحكومية الدولية تُشكِّل مكانًا للقاء ومنتدًى للنقاش تُتخذ فيه القرارات بإجماع الآراء ثم تُصدِّق عليها الهيئات الوطنية، فإن عددًا متزايدًا من المنظمات الدولية يتخذ القرارات على أساس أغلبية الآراء، والتي تلزم جميع الدول الأعضاء (المصدر السابق)، وصارت المنظمات الحكومية الدولية أدواتٍ للعولمة الاقتصادية، عن طريق رسم سياسات تحرير التجارة وحركة رأس المال، وسبيلًا، في الوقت ذاته، إلى إدارة العمليات التي لم يَعُد من الممكن إدارتها على المستوى الوطني.
بيد أن هذا لا يَعني أن الدولة ككيان قد فقدت مركزيَّتها؛ فالمحللون الذين تناولوا بالدراسة النمو المبهِر الذي أحرزته حديثًا اقتصادات الشرق الأقصى يشيرون، على سبيل المثال، إلى دور الدولة كعنصر لتيسير التنمية (كاستيلز ١٩٩٦: ٨٩). ولكن لا شك أن وجود تحرُّكاتٍ متزامنة باتجاه تكوين سلطات قومية فرعية وسلطات فوق وطنية أدَّى إلى تغيراتٍ ملحوظة في تشكيل العناصر الجمعية الفاعلة. لنُلقِ نظرةً على مثال القوميات التي تُشكِّل أقلية في الدول المتعدِّدة الثقافات: عادةً ما يميل وجود كياناتٍ فوق وطنية في تلك الدول إلى تغيير المعايير التي يستند إليها الفاعِلون في تعريف أنفسهم وتعريف استراتيجياتهم كذلك. وقد أسهم التكامل الأوروبي بالتأكيد في إعادة حشد الأقليات العرقية في دول أوروبا الغربية، مانحًا إياهم شريكًا جديدًا وأهدافًا جديدة؛ فمنذ نشأة دولٍ جديدة عقب تفكك دولٍ أخرى كانت قائمة بالفعل، شهدنا، على نحوٍ متزايد، تحركًا نحو إعادة التفاوض بشأن العلاقات بين المناطق المركزية والمناطق الهامشية في دولةٍ ما داخل «أوروبا الإقليمية». ولاحظنا في الوقت نفسه تحوُّلًا من الهُويات القومية ذات المُكوِّن العرقي القوي إلى تلك الهويات التي تمزج الإشارة إلى الأمة باهتمامٍ متعاظم بالتعدُّدية الثقافية والتعايش بين المجموعات الثقافية المتنوعة (جونستون ١٩٩١ب؛ ميولتشي ١٩٩٦). إنَّ الصراع الذي تخوضه الشعوب الأصلية في سبيل الحصول على الحكم الذاتي لا يهدف إلى الحصول على حقوقٍ محدَّدة فحسب، بل والحصول أيضًا على الحقوق السياسية عينها التي تتمتَّع بها المجتمعات التي لا يَحدُّها إقليم (بريسك ٢٠٠٠؛ ياشار ١٩٩٦).
علاوة على ذلك، لم تَكتفِ العولمة بإضعاف سلطة السياسة على الاقتصاد، بل أفرزت أيضًا صراعاتٍ عابرة للحدود والقوميات حول سياسات المؤسسات الدولية، تولَّدت عنها نتائج تختلف حسب المنظمة وميدان التدخل محل المناقشة. فقد تصاعدت أصوات المعارضين للسياسات الليبرالية الجديدة التي ينتهجها ما يُدعى بالمؤسسات المالية الدولية (كصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي) التي تمارس سلطةً قسريةً طاغية عبر التهديد بفرض عقوبات وشروطٍ اقتصادية عند الإقراض الدولي. إلى جانب حيازة تلك الكيانات، غير الممثِّلة، والمفتقرة إلى الشفافية إلى حدٍّ كبير، للسلطة، فقد تركز النقد، بوجهٍ أعم، على قصورها الظاهر في تطبيق الديمقراطية. قد تَسري اعتباراتٌ مشابهة على هيئاتٍ دوليةٍ أخرى في دائرة الأمم المتحدة، على سبيل المثال، أو على غيرها من أنماط السياسات التي يسنُّها الاتحاد الأوروبي نفسه، بدءًا من القضايا البيئية مرورًا إلى حقوق الإنسان. في جميع تلك الحالات، سنَحَت فرصٌ جديدة للتعبئة وعقد الحملات على نطاقٍ يتجاوز الحدود والقوميات (تارو ١٩٩٥؛ تشاتفيلد وآخرون ١٩٩٦؛ ماركس وماكادم ١٩٩٨). وكما بدأت الحَوْكمة تضم مستوياتٍ إقليميةً متعددة، شرع المحتجُّون أيضًا يضعون استراتيجياتٍ متعدِّدة المُستويات (إيمج وتارو ٢٠٠١أ و٢٠٠١ب؛ ديلا بورتا وتارو ٢٠٠٤؛ ديلا بورتا ٢٠٠٤ب؛ ديلا بورتا وكاياني ٢٠٠٦؛ انظر أيضًا الفصل الثامن من هذا الكتاب).
(٢-٢) الدولة والطبقات الاجتماعية: الصراعات حول دولة الرفاه
لا تُمارِس الدولة تأثيرها في تشكيل العناصر الجمعية الفاعلة من خلال تعيين الحدود الإقليمية للفعل السياسي فحسب؛ فمن المعلوم تمامًا أن دور الدولة في الاقتصاد قد تعاظم باطِّراد خلال القرن العشرين، بالغًا ذروته في السبعينيات، ثم تراجَعَ مع انخفاض النفقات الاجتماعية في منعطف القرن، وإن لم يكن بالتساوي عبر مختلف البلدان (كراوتش ١٩٩٩). كيفما نظرنا إليها، فإنَّ الدولة قد تحوَّلت من كفيل للسوق وضامن لها إلى إدارة الأنشطة الاقتصادية عبر القطاع العام؛ علاوةً على ذلك، ضمت دولة الرفاه بين جنباتها صورًا من انعدام المساواة الاجتماعية (للاطلاع على مناقشةٍ عالمية لهذه النقطة، انظر روز ١٩٨٨)، وهو ما حدا ببعض المُراقبين إلى الاعتقاد بأن الانقسام الاجتماعي الرئيسي لم يَعُدْ قائمًا على مبدأ السيطرة على وسائل الإنتاج، بل يَرتبط بالأحرى بالحصول على وسائل البقاء، إما في السوق الخاصة أو عبر التدخل الحكومي (سوندرز ١٩٨٧، مقتبس في كروبتون ١٩٩٣: ١٠٣-١٠٤؛ انظر أيضًا تايلور-جوبي ١٩٨٦؛ باباداكيس وتايلور-جوبي ١٩٨٧). لا شك أنَّ معايير توزيع الموارد العامة، والتي كثيرًا ما تُعنى بتلبية الحاجات الأساسية كالإسكان أو النقل، قد شكَّلت أحد الميادين البارزة للفعل الجمعي، وبالأخص بالنسبة إلى المجموعات الاجتماعية القادمة من سياقٍ حضري (دُنليفي ١٩٨٠؛ كاستيلز ١٩٨٣؛ لو ١٩٨٦؛ بيكفانس ١٩٧٧، ١٩٨٥، ١٩٨٦).
تُؤثِّر العمليات ذات الطبيعة السياسية، لا تلك المستندة إلى ديناميكيات السوق، في وجود مجموعات اجتماعية معينة. إنَّ قضية البطالة، كما أسلفنا الذكر، تتأثَّر بشدة بمؤسسات الدولة التي تُؤثر بدورها في عدد العاطلين وأوضاعهم، وقد أضحت هذه الظاهرة أكثر وضوحًا في أعقاب الحرب العالَمية الثانية، تزامنًا مع نشأة دولة الرفاه إلى جانب بروز أنماط من تمثيل المصالح تعكس الهيمنة الجديدة لمجموعات المصالح (انظر الفصل الثامن من هذا الكتاب). وشهدت العقود الأخيرة انتقادات وجَّهتها الحركات الاجتماعية إلى نموذج الدولة المتدخلة وإلى نموذج الدولة كوسيط بين قوى الإنتاج على حدٍّ سواء، كما اجتمَعت عواملُ شتَّى في اتجاه تعميق احتمالات وقوع الصراع. بادئ ذي بدء، تزامن مع ازدياد وضوح الدور النشط الذي تلعبه الدولة في توزيع الموارد تنامٍ في الفرص القائمة للتعبئة من أجل حماية المزيد من المجموعات الاجتماعية والمصالح المتباينة. ثانيًا: على الرغم من أن توسيع نطاق الحقوق الاجتماعية أفرز بالتأكيد فُرصًا أعظم أمام المنتمين إلى الطبقات الاجتماعية الدنيا، فقد انطوى كذلك بالضرورة على إعادة توزيعٍ معتبر للموارد المالية، وقد اعتُبر ذلك، على المدى المتوسط، عبئًا كبيرًا على الطبقات الوسطى، وغير كافٍ أيضًا لتغطية التكاليف المتزايدة لدولة الرفاه، لا سيما إذا نظرنا إليها في سياق شيخوخة سكانها. كانت نتيجة هذه الإشكالية بروز أزمةِ رفاهٍ عالمية، لا تخلو في الوقت ذاته من البُعدَين المالي والسياسي؛ فقد أثارت الطبيعة السياسية الصريحة لمعايير توزيع الموارد الاجتماعية، في الواقع، حركةَ تعبئةٍ وسط الطبقات الوسطى، ليس فقط في شكل حركاتٍ مناهِضة للضرائب، بل انطلاقًا أيضًا من منظورٍ نقديٍّ عالمي لدولة الرفاه (فابريني ١٩٨٦؛ بريسيت ١٩٨٨؛ لو ١٩٨٢، ١٩٩٠).
ورغم هذه الانتقادات، شهدت الآونة الأخيرة تعبئة من جانب حركة العدالة العالمية استهدفت بصفة رئيسية الدفاع عن دولة الرفاه. وقد شاركت تنظيمات النقابات العمالية في الاحتجاجات، بطرقٍ مختلفة وفي بلدان شتَّى، متهمةً العولَمة الليبرالية الجديدة بإخضاع حقوق المواطنين إلى السوق الحرة؛ ومن ثم زيادة أوجه عدم المساواة بين الشمال والجنوب وكذلك بين بلدانهما. ومن الممكن أن نجد الإرهاصات المُمهِّدة لاحتجاجات سياتل، في الواقع في ميدان العمل، ولو بصفةٍ جزئية على الأقل؛ فقد شهد عقد التسعينيات، كما ذكرنا من قبل، تحوُّلًا في الحراك العمالي، وقد سلك هذا التحوُّل طرقًا شتَّى، وذلك حسب الأنماط السائدة لتمثيل المصالح في مختلف البلدان. ففي الوقت الذي قبلت فيه الاتحادات النقابية في الدول الأوروبية، بصفةٍ عامة، الخصخصة، وتحرير النشاط الاقتصادي من القيود التنظيمية، و«إضفاء طابع المرونة» على ظروف العمل؛ تصاعَدَت تحركات المعارضة في قطاعات أخرى داخل النقابات وخارجها على حدٍّ سواء؛ ففي فرنسا وإيطاليا وألمانيا، مثلًا، امتدَّت الاحتجاجات لتطال الخدمات العامة بصفةٍ خاصة، معربةً عن اعتراضها على الخصخصة وتبعاتها على ظروف العمل المحلية والكفاءة العالمية للخدمات. وكثيرًا ما سعت نقابات القطاع العام، المتهمة بحماية الامتيازات القديمة، إلى تحقيق توافق في الرأي العام بزعمها الدفاع عن القيم العامة في مواجهة القيم الخاصة والخدمات في مقابل السلع.
فضلًا عن قطاع النقل العام، اتسعت دائرة المعارضة التي تَستهدِف السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة لتشمل قطاعَي التعليم والصحة على وجه الخصوص؛ فقد شهد القطاعان في البلدان ذات العلاقات الصناعية التي تتَّخذ أنماطًا تعدُّدية (أي توجد عدة تنظيمات مُمثِّلة تتنافس فيما بينها) صعودَ النقابات الجديدة التي تتخذ موقفًا نقديًّا شديدًا تجاه الخصخصة بشتَّى أشكالها وتوسِّع هذه النقابات — بدايةً من رابطة التنسيق والتجمُّع والبناء، ورابطة التضامن والوحدة والديمقراطية في فرنسا (بيرو وموريو وفاكالولي ١٩٩٨: ٤٩؛ سومييه ٢٠٠٣)، وانتهاءً باتحاد اللجان الشعبية الإيطالي (ديلا بورتا ٢٠٠٥ﺟ). من الملاحظ أن المُنتمين إلى نقابات القطاع العام في البلدان التي تُوصف بأنها تخضع للهيمنة الجديدة لمجموعات المصالح؛ قد اتخذوا أشدَّ المواقف راديكاليةً، في ظل حصر التمثيل المهني في نقابةٍ واحدة (على سبيل المثال: النقابة العُمالية للخدمات العامة والنقل والمرور أولًا، ثم النقابة العمالية المتَّحدة للخدمات في ألمانيا)، ولم يكن محض مصادَفة أن كانت تلك النقابات هي أشد الجهات انخراطًا في الحملات الاحتجاجية المناهِضة للعولَمة الليبرالية الجديدة (ديلا بورتا ٢٠٠٥ﺟ، ٢٠٠٥د).
إيجازًا للقول: إنَّ تنامي دور الدولة ضاعَفَ من عدد الفاعِلين الاجتماعيِّين الذين يرتبط وجودهم وفرصهم، ولو جزئيًّا، بآليات صنع القرار السياسي. كما أسهمت عمليات العولمة المذكورة للتو، في الوقت نفسه، في تقويض قدرة الفاعلين السياسيين الموحَّدين على الوساطة الفعالة بين شتَّى المصالح. وقد شجعت التغيُّرات التي طرأت على معايير تعريف الفاعلين وتحديد المكاسب التي تُراهن عليها الأطراف الفاعلة على مُضاعَفة الهويات الجمعية والمصالح المنخرطة في التعبئة، ومن ثَمَّ تقسيمها إلى قطاعات.
(٣) المعرفة والثقافة والصراعات
إنَّ للحركات الاجتماعية ردودَ فعلٍ أيضًا حيالَ التغيرات التي تطرأ على منظومة القيم والثقافة في العموم. ولسوف نناقش في فصلٍ لاحق «الفرص الخطابية» المتاحة أمام الحركات (انظر الفصل الثامن)، وانعكاساتها على القيم والمعرفة والمواقف، لكننا نودُّ في هذا الجزء أن نفرد بالذكر بعضًا من التغيُّرات الثقافية العامة التي لطالما ورد ذكْرُها مرتبطًا بالحركات، والنظر بالأخص إلى مفهوم العام والخاص، وتنامي الثقافات المضادة التي تتبناها الحركات، بالإضافة إلى نشأة الثقافة العالمية.
(٣-١) تحول الحدود الفاصلة بين العام والخاص
أسهم التوسُّع في دور الدولة قديمًا في تعديل الحدود التي تفصل ما هو عام عما هو خاص؛ فقد تدخَّلت الدولة بتواتُرٍ مُتزايد في مجالات ترتبط بالحياة الخاصة، على وجه الخصوص، عبر تقديم الخدمات الاجتماعية وتحرُّكات الهيئات والجهات المعنية بالرفاه. بيد أنَّ الشكل الرئيسي للدعم الذي تقدمه الدول للمُواطِنين جاء مصحوبًا بمزيد من السيطرة على مناحي الحياة التي كانت متروكة فيما سبق للفاعلين الاجتماعيين ليُنظِّموها ذاتيًّا. ومن الأمثلة الدالة على ذلك ما أحدثه توسيعُ مظلةِ الخدمات الصحية العامة من إقرارٍ لتوحيد الأساليب العلاجية والتعامل مع الأحداث الفاصلة في خبرات الأفراد، كالأمومة مثلًا، وما تبع ذلك من نزوعٍ نحو التحوُّل إلى البيروقراطية وإلباس ميدان الحياة الخاصة ثوبَ العقلانية وإخضاعه لقواعدها (هابرماس ١٩٧٦، ١٩٨٧؛ ميلوتشي ١٩٨٩، ١٩٩٦).
من الملاحظ أن ثَمَّةَ فارقًا واضحًا (نسبيًّا) بين ما هو عام وما هو خاص في المجتمعات الصناعية؛ مما سمح لأفرادها بتعريف حقوق المواطنة باعتبارها مزيجًا مركبًا من الفرص المدنية (المرتبطة، مثلًا، بحرية التعبير والتجمُّع)، والفرص السياسية (المرتبطة بحق التصويت، على سبيل المثال)، والمزايا الاجتماعية (المرتبطة بالحصول على أدنى مستويات الرفاه والتعليم) دون أي قيودٍ إضافية (مارشال ١٩٧٦). وقد ارتبطَت تلك الحقوق، في واقع الأمر، بالمُواطِن بمفهومه العام؛ أي المُواطِن الذَّكَر البالغ ذا الأصول الغربية، كما جرت العادة. وانطوت حملات التعبئة الرامية إلى توسيع نطاق حقوق المواطنة على منح جملة الاستحقاقات ذاتها إلى المجموعات الاجتماعية التي لطالما كانت مُستبعَدة منها في السابق: الأميِّين وغير المُوسِرين، بل النساء والأقليات العِرْقية أيضًا (بارباليت ١٩٨٨).
بَيْدَ أن عواملَ شتى كشَفَت عن الطبيعة الإشكالية لمفهوم المُواطَنة، وقد برزت تلك العوامل مع دنوِّ شمس القرن العشرين من الأفول؛ فقد اتَّضح أن نموذج مارشال يصعب تطبيقه في دولٍ أخرى خلاف بريطانيا (جيدنز ١٩٨٣؛ بارباليت ١٩٨٨)، لكن الأمر لم يَقتصِر على تلك الحقيقة، بل انكشف النِّقاب أيضًا عن أن سلسلة من العمليات البِنيوية قد قوَّضت تفاهُمات كانت تُعَدُّ في السابق من قبيل المسلَّمات. فمع رسوخ أقدام النساء في ميدان الحياة العامة (من الناحيتَين المهنية والسياسية)، صار التناقُض واضحًا بين الحقوق المتعارَف عليها رسميًّا كحقوقٍ عالَمية والأشكال القائمة من تنظيمات الأسرة والحياة المهنية التي قَيَّدت تمتُّع النساء بتلك الحقوق. كما أن موجات الهجرة إلى البلدان الغربية قد جعلت من كيفية صياغة حقوق المواطنين بطريقة تَسمح بوجود مجموعات ثقافية مختلفة مشكلةً أكثر إلحاحًا. وبوجه خاص، دفعت الأعداد المُتزايدة من المقيمين الأجانب باتجاه تكييف مفهوم حقوق المواطنة في حد ذاته، وما يَترتَّب على ذلك من درجاتٍ مختلفة من الحماية المَمنوحة لمختلف «أشكال» المُواطَنة (بوناتسي ودون ١٩٩٤؛ سويسال ١٩٩٤؛ سيزاراني وفُلبريك ١٩٩٦).
علاوةً على ما سبق، أُطلِقت مبادراتٌ عدة للدفاع عن حقوق الأطفال، وبوجهٍ أعمَّ حقوق القُصَّر. واكتسبَت حركات التعبئة تلك، في بعض المناسبات، معنًى سياسيًّا واسعًا، ولعل أبرز الفعاليات التي أُقِيمت حتى وقتنا هذا «المسيرة البيضاء» التي جرت في أكتوبر من عام ١٩٩٦ في بلجيكا، والتي اعتُبِرت منبرًا معبرًا عن السخط العام من الحماية التي قدَّمتها بعض الهيئات الحكومية لجماعة من المُجرمين المتحرِّشين بالأطفال. وتُعَدُّ هذه المسيرة، التي كان في مقدمة المُروِّجين لها ذوو الضحايا، نقطة الذِّروة في موجة من الاحتجاجات الحاشدة التي شكَّكت في شرعية النخب البلجيكية ككلٍّ. في هذه الحالة، كان من شأن التَّماهي مع قضيةٍ محدَّدة نسبيًّا — بصرف النظر عن مدى كونها مَشحونة بالعواطف — أن يمنح الأساس لحركات تعبئةٍ أخرى ذات تأثيرٍ سياسي أوسع كثيرًا (كارتفيلز وآخرون ١٩٩٧؛ توندور ١٩٩٧؛ ريهو ووالجريف ١٩٩٧؛ والجريف وميسنز ٢٠٠٠).
(٣-٢) الثقافات والثقافات المضادة
يُشكِّل التمايُز المتنامي في أنماط الحياة مصدرًا آخر من مصادر «مَشْكَلَة» الهويات الاجتماعية؛ ففي عالمٍ يشهد تشرذم الولاءات الطبقية وتأزُّم الأيديولوجيات السياسية، يمكن للاستهلاك الثقافي، أو استغلال الفرد لوقت فراغه، أو أساليب تنظيم المرء لحياته العاطفية، أو عادات تناول الطعام، أو أنماط الثياب أن تُمثِّل جميعها عاملًا قويًّا من عوامل التنويع، وفي نهاية المطاف، التصنيف الجديد، بين المجموعات الاجتماعية (بورديو ١٩٨٤؛ إدر ١٩٩٣). ولا يعدو الأمر في كثير من الحالات كونه مسألة سلوكٍ استهلاكيٍّ فرديٍّ، لا يختلف عن غيره من ظواهر الموضة، لكن في حالاتٍ أخرى، يُصبح نمط المعيشة هو المحك في الصراعات التي تتعلَّق بشرعية أشكالٍ ثقافيةٍ ناشئة أو الدفاع عن أشكالٍ تقليديةٍ قائمة.
عُنيَ الفعل الجمعي المرتبط بأنماط الحياة، في حالاتٍ أخرى، بالذود عن القيم والتقاليد التي كان يُعتقد أنها مُهدَّدة بالزوال؛ فالحركاتُ مثلُ حركة الأغلبية الأخلاقية الأمريكية، أو تلك المناهضة لإدخال تشريعات الطلاق في إيطاليا أوائل عقد السبعينيات قد اختارَت أيضًا مجال الحياة الخاصة والمعايير التي يَتسنَّى للمرء من خلالها توصيف نمطِ حياةٍ معينٍ باعتباره مُحبَّذًا أخلاقيًّا باعتباره ميدانًا مُفضَّلًا لها تُمارس عن طريقه الحشد السياسي (وود وهيوز ١٩٨٤؛ واليس وبروس ١٩٨٦؛ أوبرشال ١٩٩٣: الفصل الثالث عشر).
فضلًا عن ذلك، أسفَرت الأهمية المُتزايدة لنمط الحياة إلى تحوُّل النزعة الاستهلاكية إلى هدفٍ محدَّد للفعل الجمعي؛ فقد تزايدَت النظرة إلى المستهلك باعتباره فاعلًا سياسيًّا، وليس مجرد فاعلٍ اقتصادي فحسب. ووجَّهت منظمات حماية المُستهلك مَساعيها التعبوية نحو العامة بصفةٍ عامة؛ فأُنشئت هياكل لإنتاج السلع البديلة وتوزيعها في قطاع الأغذية مثلًا، وأُطلقت كذلك حملات وحشد للموارد لصالح المستهلكين. وقد اتخذت هذه المساعي أشكالًا عدةً، تراوحت من ثقافات شبه مضادة (والمتمثِّلة، على سبيل المثال، في الشبكات البديلة التي تُروِّج للأغذية العضوية وتوزعها في المراحل المبكرة من الحركات البيئية)، إلى الفعل العام التقليدي لمجموعات المصالح (على هيئة تنظيماتٍ مهنيةٍ جماهيرية كمنظَّمة «كومن كوز»، مثلًا) (ماكفارلاند ١٩٨٤؛ فوربز ١٩٨٥؛ جرونمو ١٩٨٧؛ ماير ١٩٨٩؛ بينتو ١٩٩٠؛ رانسي ١٩٩٢). وقد شهدت السنوات الأخيرة نموًّا هائلًا في حملات التجارة العادلة والمقاطعات، وسجَّلت نجاحًا خاصًّا في أوساط الشباب (ميكيليتي ٢٠٠٣؛ انظر أيضًا الفصل السابع من هذا الكتاب).
بالرغم مِن أن كل هذه الأنشطة لا ترتبط دومًا بعضها ببعض، فإنها تلفت انتباهنا مجددًا إلى الأهمية الجديدة التي يكتسبها الفعل الجمعيُّ المعنيُّ بالدفاع عن نماذجَ معينةٍ من السلوك والقوانين الأخلاقية، لا بالاستيلاء على السلطة السياسية أو حماية المصالح الاقتصادية. ويبدو أن تحوُّلاتٍ متنوعةً جرت في ميدان الحياة الخاصة وفي أنماط الإنتاج الثقافي، تمخَّض عنها زيادة في احتمال وقوع صراعاتٍ ذات طبيعةٍ رمزية. إنَّ الطائفة المُتنوِّعة من التجارب الحياتية التي يَتعرَّض لها الفرد ما هي إلا نتاج لتضاعف ولاءات المجموعات؛ فكلُّ واحد من هذه الولاءات يُمكِن أن يكون مصدرًا لموارد العلاقات والهويات اللازمة لتحويل بعض المصادر المُحتملة لانعدام المساواة إلى جدلٍ عام يَصفها كمشكلاتٍ اجتماعية بدلًا من كونها مجرَّد مصاعبَ فرديةٍ، وهذا ما لاحظه بيير بورديو بالفعل حين ذهب إلى أن «كل مجتمع يُبلوِر، في كل لحظة، طائفة من المشكلات الاجتماعية التي يَعدُّها مشروعة، وجديرة بالمناقشة، وبطرحها في سياقٍ عام، بل وبإضفاء الطابع الرسمي عليها أحيانًا، وبأن تتكفل الدولة بحلها، على نحو ما» (١٩٩٢: ٢٣٦؛ التمييز كما ورد في المصدر الأصلي). وعادةً ما تلقى جهود التعبئة فيما يخص قضية البطالة ما يُعيقها، نتيجة لما يسود جموع العاطلين من شعور بأن مشكلاتهم الاقتصادية نابعة من إخفاقاتهم الفردية؛ لذلك فمن الشروط الأساسية التي ينبغي أن تسبق النشاط الاحتجاجي هو أن تتحوَّل هذه المشاعر إلى تصورٍ للبطالة باعتبارها مشكلة مجتمع تستلزم تدخُّل السلطات العامة.
بيد أن أيًّا من تلك المشكلات الاجتماعية المحدَّدة لم يُفلح في أن يصير المصدر الرئيسي للهوية، القادر على تجسيد المعايير المحورية لتنظيم الفعل، على نحوٍ مشابه لهوية الولاء الطبقي أو الوطني في المجتمعات الصناعية (انظر، على سبيل المثال، ميلوتشي ١٩٩٦). بالتوازي مع ذلك، تتنوَّع خارطة الخصوم، الذين قد تحتشد الطاقات الجمعية ضدهم من آنٍ إلى آخر، تنوُّعًا مماثلًا: وسائل الإعلام الجماهيري، ونخب التكنوقراط والعلماء، ومؤسسات التعليم والرعاية الاجتماعية، وطبقات رواد الأعمال المسيطرة على الاستهلاك الجماهيري … إلخ. في مثل هذا الموقف الذي يكتنفه الغموض والالتباس، عادةً ما يصير تعريف الهوية الجمعية مشكلةً مستقلة ومحلًّا للفعل الجمعي بالمعنى الدقيق للعبارة (رغم أن هذا قد يَنطبِق كذلك على الصراع الطبقي: بيتسورنو ١٩٧٨) بدلًا من أن يُمثِّل الشروط المسبقة للفعل المعنيِّ بأهدافٍ اقتصادية أو سياسية. ويُمكن أن يسري القول ذاته على عملية البحث عن أنماط الحياة وأساليب التصرُّف المحبَّذة واللائقة أخلاقيًّا. هذه الحاجات لا تؤدي بالضرورة إلى نشأة الحركات الاجتماعية؛ فالاستياء من نمط الحياة الحضري المعاصر، مثلًا، لا يترتب عليه بالضرورة دعم للحركات البيئية، بل قد يأخذ أشكالًا شتَّى، تبدأ من الانخراط السياسي في حزبٍ سياسيٍّ تقليدي وتَنتهي، ببساطةٍ شديدة، بتحوُّل في السلوك الاستهلاكي الفردي، أو شعور بالاغتراب الشخصي، أو سلوكٍ مُنحرِف. غير أن نمو الحاجات المتصلة بالهوية يُمثِّل احتمالًا لنشوب صراع يمكن أن ينشأ في فلكه، إن توافرت الظروف الملائمة، الفعل الحركي.
(٣-٣) بين العالمية والمحلية
يتزايد توصيف الهويات في إطار عملية من العولمة الثقافية المتسارعة؛ فقد أنتجت العولمة تغيُّراتٍ ثقافيةً بارزة في العالم المعاصر، منشؤها الاعتماد المتبادل المتنامي الذي يزداد في ظله تأثر الأفعال الاجتماعية في زمانٍ ومكان محدَّدين بأفعالٍ تقع في أماكنَ بعيدة. وكما أشار جيدنز (١٩٩٠: ٦٤)، فإن العولمة تنطوي على خَلْق وتقوية «علاقةٍ اجتماعيةٍ عالمية تربط مواقعَ منفصلةً بحيث تُشكِّل الوقائع الجارية على بُعد أميال الأحداث المحلية والعكس صحيح.» إن لتقليص المسافة والزمان في عمليات التواصُل تأثيرًا على إنتاج السلع والثقافات وأدوات التنظيم السياسي وإعادة إنتاجها، ويؤكد ذلك بالفعل تعريف العولمة باعتبارها «عملية (أو مجموعة عمليات) تُجسِّد تحولًا في التنظيم المكاني للعلاقات والمعاملات الاجتماعية — من حيث اتساعها وقوَّتها وسرعتها وتأثيرها — منتجةً تدفُّقات وشبكات من النشاط عابرة للقارات أو أقاليمية» (هيلد وآخرون ١٩٩٩: ١٦).
ولعل من المخاطر الملحوظة في ظاهرة العولَمة هيمنة مسلكٍ واحد في التفكير، وهو الذي برَز بوضوح على إثر هزيمة «الاشتراكية الحقيقية». فقد ظل النظام الدولي مرتبطًا ببنية ثنائية القطب، مثَّلت فيها كلٌّ من الكتلتين أيديولوجيةً مختلفة؛ فانهيار جدار برلين، الذي حمل إشارةً رمزية إلى زوال الكتلة الشرقية، جعل الرأسمالية تبدو النموذج الأوحد المهيمن. بالنظر إلى الأمر من زاويةٍ ثقافية، سنجد أن عمليات «التحديث» التي عززها العلم وصناعة الترفيه قد مهَّدت السبيل لما أسماه سيرج لاتوش «تغريب العالم» (١٩٨٩)، وهو ما يعني انتشار القيم والمعتقدات الغربية على نطاقٍ عالمي. وبالرغم من أن الحديث عن ثقافةٍ عالمية «ماكدونالدية» موحَّدة (ريتزر ١٩٩٦: ٢٠٠٠) إنما هو من قَبيل المبالغات، فإن ثمة تزايدًا لا يخفى على الرائي في التفاعلات الثقافية مع تصدير المنتجات والقيم الثقافية الغربية، رغم تنقيحها عبر الثقافة المحلية (روبرتسون ١٩٩٢)، كما أن المصطلح المجازي «القرية العالمية» يؤكد استهدافنا برسائلَ آنيةٍ تُبعث من أشد الأماكن تنائيًا وبُعدًا، في ظل انتشار البث الفضائي والإنترنت اللذين جعلا من التواصل الفوري واقعًا ممكنًا، يَجتاز بسهولةٍ الحدودَ القومية.
صحيح أن الهويات القومية والقومية الفرعية لا تَضمحِلُّ، بيد أن تأثير القيم المُستعارة من ثقافاتٍ أخرى وتنامي التفاعل بين الثقافات؛ من شأنه أن يزيد من عدد علاقات التماهي التي تتداخَل مع تلك الراسخة إقليميًّا وتُنافسها؛ فالعولمة لا تقتصر على ما «بالخارج»، بل تمتد آثارها إلى ما «بالداخل» أيضًا (جيدنز ١٩٩٠: ٢٢)، إنها تُحدِث تحوُّلًا في الحياة اليومية وتَستدعي مقاومةً محلية موجَّهة نحو الدفاع عن التقاليد الثقافية في مواجهة اختراق الأفكار الأجنبية والقضايا العالمية. ولذلك فإن عودة أشكال من الفكر القومي، والحركات العرقية، وحركات التعبئة الدينية، والأصولية الإسلامية (وغيرها من التيارات الأصولية) تُعدُّ، إلى حدٍّ ما، ردَّ فعل لهذا النمط من الاختراق. وبالرغم مما تُنذِر به العولمة الاقتصادية من التسبب في ضياع الهوية القومية، تُقدِّم التكنولوجيات الجديدة طائفةً هائلة من أدوات التعبئة العالمية التي تُيسِّر التواصُل بين بقاع كانت مُتنائية من قبلُ، مستخدمةً لغة تَستعصي على الرقابة، كما أن تنامي النظر إلى القضايا باعتبارها ذات بُعدٍ عالَمي مِن شأنه أن يرفع من جاهزية الأفراد للتعبئة على مُستوًى يتجاوز الحدود والقوميات. فضلًا عن كل ما سبق، يُسهِم وجود شبكات من مجتمعاتٍ عرقيةٍ ثقافية عابرة للحدود والقوميات في تحرُّر التقاليد المحلية من مؤثِّراتها المحلية وإعادة تكييفها لتُلائم سياقاتٍ جديدة (تومبسون ١٩٩٥).
(٤) التحولات البنيوية والصراعات الجديدة والطبقات الجديدة
إن عمليات التغيير البنيوي التي تناولناها بإيجاز في الصفحات السابقة تُساهم بطرقٍ شتَّى في إضعاف قواعد الصراعات الاجتماعية التقليدية، وبروزها مرةً أخرى في الآونة الأخيرة في أشكالٍ جديدة. وصارت إمكانية إنشاء توصيفٍ عالمي للصراعات الجديدة على هذا الأساس أكثر عرضة للجدل. يبدو لنا أن التحوُّلات التي ناقَشناها — بل والتفسيرات التي قدَّمها مختلف الباحثين لتلك التحولات — تُشير نحو اتجاهاتٍ متباينة ومتضاربة في بعض الأحيان.
(٤-١) طبقات لم تزل قائمة؟
تُشير مجموعةٌ متنوعة من التغيُّرات التي ذكرناها إلى عنصرَين مشتركَين؛ الأول هو وجود زيادة ملحوظة في الأنشطة المتَّصلة بالإنتاج المعرفي والمعالجة الرمزية. والثاني هو عنصر التماهي الكامن في السيطرة على تلك الأنشطة كأحد المحاور الكبرى في الصراع. إنَّ بروز قطاع إداري/خدمي مُتقدِّم إنما يعكس في الواقع الأهمية المتنامية لمعالجة المعلومات في الميدان الاقتصادي، مقارنةً بالأهمية التي يحتلُّها تحويل الموارد الطبيعية، كما أن التوسُّع ذاته في مجالات تدخُّل الدولة، والذي يؤدِّي إلى مضاعفة الهويات والمصالح المستندة إلى السياسة، يزيد من الأهمية البالغة لدور صناع القرار والإعلاميين القادِرين على الدمج الفعال بين القضايا والقيم المتباينة.
أما العنصر الثاني، فيتمثَّل في أن كثيرًا من التحولات الأخيرة قد أوجدت إمكانية لخَلقِ صراعاتٍ تتجاوَز الفروق التقليدية بين الميدانين الخاص والعام، والدلائل على ذلك كثيرة؛ منها التأثير الذي تمارسه أنماطٌ معيَّنة من المعرفة العلمية وأساليب معيَّنة لتنظيمها على السلامة النفسية والبدنية للفرد (كما هو الحال، مثلًا، في مجال الأساليب العلاجية والخدمات الصحية). وفي المُقابل قد يفكر المرء في الأهمية العامة والجمعية للسلوك الاستهلاكي الفردي وأنماط الحياة الفردية والتي كانت فيما مضى تُنحَّى داخل دائرة الحياة الخاصة، أو ربما ينظر بعين الاعتبار، مجددًا، إلى أهمية السمات المنسوبة كالعرق أو النوع في صراعات تتعلَّق بتوسيع نطاق حقوق المواطنين ونيلها كاملةً.
تُشير هذه العمليات إلى زاويةٍ محدَّدة من الصراعات غير المادية، ويتمثَّل دورها في السيطرة على الموارد المنتجة للمعاني والتي تُتيح للأطراف الفاعلة التدخل ليس فقط فيما يتعلَّق ببيئتهم، بل فيما يتعلَّق أيضًا بدائرة الحياة الخاصة، وفوق ذلك فيما يتعلَّق بالصلة بين هذَين المُستويين. فبدلًا من أن تتَّخذ من السلطة الاقتصادية أو السياسية مقصدًا تدور حوله، تَنشغِل الصراعات الاجتماعية المعاصرة، حسب هذه الرؤية، بإنتاج المعلومات وتداولها، والشروط الاجتماعية للإنتاج واستغلال المعرفة العلمية، وخلق الرموز والنماذج الثقافية المَعنية بتعريف الفرد والهويات الجمعية. وقد صيغت هذه الأطروحة بعدد من الأساليب وبمُستوياتٍ شتى من التعميم النظري (تورين ١٩٨١؛ لاش وأوري ١٩٨٧؛ ميلوتشي ١٩٨٩، ١٩٩٦؛ إيدر ١٩٩٣)، رغم استِخلاص استنتاجات مختلفة نوعًا ما فيما يخصُّ العلاقة بين البِنية والصراع والحركات.
(٤-٢) طبقاتٌ وسطى جديدة لحركاتٍ اجتماعيةٍ جديدة؟
غير أنه ليس واضحًا لنا ما إذا كانت الصلة بين الطبقة الوسطى الجديدة والحركات الجديدة وأنماط الصراع الجديدة تُدلِّل بالفعل على وجود قاعدةٍ بِنيوية محدَّدة لتلك الأنماط من الصراع؛ فالوجود «الجماعي» للطبقة الوسطى الجديدة في الحركات الاحتجاجية قد لا يعكس، في الواقع، إلا النزوع التقليدي للطبقة الوسطى المثقفة إلى المشاركة في أي نوع من الصراع (باجولي ١٩٩٢، ١٩٩٥أ؛ باكولسكي ١٩٩٥)، وهي نزعة ناشئة عن ثِقتهم المُتزايدة في حقوقهم الخاصة وقُدرتهم على الجهر بآرائهم والمشاركة في الحياة السياسية (بورديو ١٩٨٤)، وانطلاقًا من هذا المنظور، فإنَّ الإشارة إلى وجود تناقضات بنيوية محدَّدة في قاعدة الصراعات الجديدة تَفتقِر نوعًا ما إلى الاتساق. غاية الأمر أن الانتماء إلى الطبقة الوسطى يُيسِّر، من ناحية، الاضطلاع بقضايا ملائمة في عمومها للمشاركة العامة، ويضع تحت تصرُّف المرء، من ناحيةٍ أخرى، موارد وكفاءاتٍ فردية يُمكن بذلها في شتى أنماط الفعل السياسي.
في الواقع، لقد أفصح التحليل المقارن للمشاركة السياسية في مَواضعَ عدةٍ أن المُتغيِّرات ذات الطابع الاجتماعي السكاني عادةً ما تُفسَّر المشاركة غير التقليدية (المنتشرة على وجه الخصوص بين المُتعاطفين مع الحركات وناشطيها) والمشاركة التقليدية على السواء وبفاعليةٍ متساوية. على سبيل المثال، توجد صلةٌ وثيقة بين عاملين عادةً ما يُعتبَران من مؤشِّرات الطبقة الوسطى الجديدة — هما الشباب والمستوى التعليمي المرتفع — وبين أنماطٍ مُتنوِّعة من المواقف السياسية أو المشاركة السياسية أو كلتيهما (بارنز وآخرون ١٩٧٩؛ جاننجز وآخرون ١٩٩٠؛ أوب ١٩٨٩: الفصل السابع؛ نوريس ٢٠٠٢: ٢٠١ وما يليها)، وجرت العادة على أن يُشكِّل المثقفون العنصر القيادي للحركات العرقية (سميث ١٩٨١)، كما تُظهر بعض المقارنات بين حركات البيئة السياسية والتيارات البيئية الأكثر تقليدية أن الناشطين المُنتمين إلى الطبقة الوسطى الجديدة لهم حضورٌ مُتساوٍ في كلا القطاعين، بالرغم من صعوبة النظر إلى المجموعات الداعية إلى حماية البيئة باعتبارها حركاتٍ اجتماعيةً جديدة (دياني ١٩٩٥أ: ٥٨).
ربما تعتمد تلك العلاقة الأكيدة بين الانتماء إلى الطبقة الوسطى الجديدة والانخراط في الحركات الاحتجاجية المعاصرة على عناصرَ أخرى خلاف الديناميكيات الطبقية ذات الخصوصية. فربما تكون، مثلًا، نتاجًا للزيادة الهائلة في فرص الحصول على التعليم العالي، والتي تعود مجدَّدًا إلى عقد الستينيات؛ فالتعليم العالي، بوجهٍ أكثر تحديدًا، قد لا يهبُ الأفراد مهاراتٍ فكرية مُتميِّزة فحسب، بل ربما يُعزِّز نمو مجموعة من القيم المرتكزة على مبادئ المساواة ورفض السلطوية، وهي قيم لها حضورٌ مفرِط وسط بعض قطاعات الطبقة الوسطى الجديدة على أقل تقدير (روتس ١٩٩٥). في المقابل، قد ترتبط الراديكالية الشبابية بتجارب جيلٍ معين؛ إذ تعرَّض جميع أبناء الطبقات الوسطى الجديدة المعاصرون لذلك المزيج الخاص من الظروف الاجتماعية، وهو مزيج قوامه نهاية الحرب الباردة وامتداد آثار ازدهارٍ اقتصادي غير مَسبوق إلى الطبقات الوسطى (باكولسكي ١٩٩٥: ٧٦؛ براونجارت وبراونجارت ١٩٨٦، ١٩٩٢)، أو لعل العلاقة تخضع لتأثيرات دورة الحياة؛ إذ قد يتوقف الانخراط السياسي للأفراد الأصغر سنًّا على جاهزيتهم الشخصية، في ظل وضعهم الأكثر عرضة للتقلب، وحياتهم المهنية غير المستقرة بعدُ، واستقلالهم المتزايد عن الروابط الأسرية والمجتمعية (بيفن وكلاورد ١٩٩٢؛ كروك وآخرون ١٩٩٢؛ ١٤٦-١٤٧؛ في مقابل إنجلهارت ١٩٨٥، ١٩٩٠أ).
إنَّ الوعي بمُختلف مكوِّنات الطبقة الوسطى الجديدة وتقييم تأثيرها على المشاركة السياسية، جنبًا إلى جنب مع تأثير المُكوِّنات المنتمية إلى الطبقات التقليدية (الطبقة الوسطى القديمة والطبقة العاملة) يُساعد في الوصول إلى تفسيرٍ أدقَّ للعلاقة بين الحالة الطبقية والأنماط «الجديدة» من المشاركة. وقد كشفت دراسة استقصائية أُجريت في هولندا أن المديرين والمهنيين في المجال الاجتماعي الثقافي هم الأكثر ميلًا بالفعل من أي فئةٍ اجتماعية واقتصاديةٍ أخرى إلى الاحتشاد في الحركات الجديدة، حتى في حالة التحكُّم في المتغيرات ذات الصلة، من الناحية النظرية، كمُستويات التعليم والرواتب (كريسي ١٩٩٣: ١٩٦ وما يليها). بالإضافة إلى ذلك، يقوى هذا الميل بين مَن تقلُّ أعمارهم عن ٤٠ عامًا، وهي حقيقة تدعم الفرضية القائلة بوجود صلة بين الحركات والتحوُّلات الأخيرة في الطبقات الوسطى (١٩٩٣: ١٩٨)، وهو أمر يبدو أكثر أهمية لو وضعنا في اعتبارنا أن المركز الطبقي، بوجهٍ عام، يُفسِّر المشاركة في الحركات أفضل من تفسيره للمشاركة في السياسة الحزبية التقليدية، وأن هذا ينشأ عن سياق يبدو فيه لكثير من المحلِّلين أن تأثير المُتغيرات الطبقية على السياسة يَشهد تراجُعًا (انظر أيضًا دالتون ١٩٨٨: الفصل الثامن؛ في مقابل هيث وآخرين ١٩٩١).
تتَّسق تلك البيانات مع ما تمخَّض عنه تحليل الكفاح المسلَّح للدفاع عن البيئة (كوتجروف وداف ١٩٨٠؛ جاميسون وآيرمان وكرامر ١٩٩٠؛ دالتون ١٩٩٤، الفصل الخامس؛ دياني ١٩٩٥أ). إن مَن يَشغلون أرفع المناصب في المجموعات المنخرطة في هذا النوع من النشاط لا يتمتَّعون فقط بمُستوى تعليم مرتفع وينتمون إلى الطبقة الوسطى — بأوسع مفاهيمها — بل أيضًا يُسخِّرون كفاءاتٍ محدَّدة في سبيل إنجاز مهام الجماعة. ويُظهِر التحليل الذي أجراه كريسي لحركة الدفاع عن البيئة والحركات الجديدة، بوجهٍ أعم، ما تتَّسم به العلاقة بين الطبقات الوسطى المتعلمة والمشاركة السياسية من اتصال وانقطاع على السواء؛ فالتطورات الأخيرة لم تناهض الموقع المركزي الذي تحتله المجموعات المثقفة في الفعل الجمعي — وهي سمةٌ ثابتة في المجتمعات الحديثة — لكن في الوقت ذاته، يبدو أن كفاءات ناشطي الطبقة الوسطى وتوصيفهم العام تتَّجه نحو التكيف مع ما كل ما هو على المحك في الصراعات «الجديدة».
في المقابل، من المُستحسن أن نُحلِّل الطبقات باعتبارها أطرافًا فاعلةً جمعية ذات هويةٍ محدَّدة ووعي ذاتي وارتباط بالمجموعات الاجتماعية الأخرى بصلاتٍ ذات طبيعة تعاونية أو تصادُمية. واستنادًا إلى هذا المنظور، لا توجد الطبقة إلا في ظروفٍ معينة يتحقَّق فيها اعترافٌ متبادَل بين الأفراد ومن الأطراف الخارجية بكونهم جزءًا من مجموعةٍ اجتماعيةٍ متمايزة، إذا تحدَّدت مصالح وعلاقة تضامن معينة بين أصحاب مراكز اجتماعية محدَّدة وإذا توجَّبَ، بناءً على ذلك، الترويج لأنماطٍ محددة من الفعل الجمعي (تومبسون ١٩٦٣؛ تيلي ١٩٧٨؛ تورين ١٩٨١؛ فانتيجا ١٩٨٨؛ أوري ١٩٩٥).
يؤكد هذا المنظور على أن التغيُّرات البِنيوية (في الاقتصاد، مثلًا، أو في نطاق الحياة الخاصة) تُوفِّر أساسًا لنشأة هوياتٍ سياسيةٍ جديدة ومعايير جديدة لتنظيم الصراع، لكن هذا يَقتصِر على الحالات التي تكون فيها هذه الهويات والمعايير هي موضوع الفعل السياسي الصريح (بارتوليني ومير ١٩٩٠؛ كريسي وآخرون ١٩٩٥). إنَّ الانقسام، كما لاحظ مارتن ليبست وشتاين روكان (١٩٦٧)، هو في حقيقة الأمر شكل من المصالح ذات الطابع السياسي؛ فقد كانت الفوارق الطبقية الكبرى في المجتمعات الصناعية بمنزلة معايير لتنظيم الصراعات السياسية؛ إذ أمكن تحقيق التعبئة الطبَقية بفضل الشبكات الموسَّعة التي تربط التنظيمات القائمة على أساسٍ طبقي والمجتمعات الطبقية فيما بينها، فضلًا عن ربطها بقطاعات من مجموعاتٍ اجتماعية أخرى ذات موقع أكثر التباسًا، ولا سيما الطبقات الوسطى. وقد أفرزت أخيرًا البِنية المعقَّدة للمجتمع ما بعد الصناعي، بتلك الطريقة، خصمَين محدَّدَين، وهما الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية. وعلى المنوال نفسه، لا بد من نشأة تنظيمات سياسية محدَّدة ومنظومات من علاقاتٍ فردية وجماعية على السواء من أجل بروز انقسامٍ جديدٍ قائم على الطبقة الوسطى الجديدة — مهما يكن تعريفها — أو من أجل توفير صياغةٍ سياسية مستقرة للتوترات البِنيوية الجديدة، أو لتحقيق كلا الهدفين. غير أن ما يبدو لنا أن هذا لم يتحقَّق، إلى يومنا هذا، إلا بصورةٍ جزئية للغاية.
بادئ ذي بدء، لم يتَّضح بعدُ إلى أي مدًى ستتمكن الطبقة الوسطى الجديدة/الطبقة الخدمية من ترسيخ دعائمها كفاعلٍ جَمعيٍّ محدَّد، وتكوين هويةٍ جمعيةٍ مُستقرَّة نسبيًّا، وهو تساؤل له وجاهته الخاصة، بالنظر إلى تعدُّد المراكز والأدوار الاجتماعية التي يُعاني في إطارها ما يُعرف باسم الطبقة الوسطى الجديدة من التفكُّك في واقع الأمر، وبالنظر أيضًا إلى أن التنقُّل المتكرِّر — بين المراكز الاجتماعية والموقع أيضًا — يُعدُّ واحدًا من السمات المميزة للمجتمع ما بعد الصناعي (وهي خاصية نادرًا ما تؤدي إلى إنشاء الشبكات اللازمة لتحويل تجمُّعٍ ما إلى فاعلٍ جمعي) (كروك وآخرون ١٩٩٢: ١١٧؛ إيدر ١٩٩٥؛ أوري ١٩٩٥؛ ميلوتشي ١٩٩٥، ١٩٩٦).
انطلاقًا من تلك الرؤية، لا تُعدُّ المعارضة الموجَّهة إلى الطاقة النووية، ولغيرها من المنشآت الصناعية الخطرة في الواقع، دليلًا فقط على تحولٍ تدريجي نحو معارك حول الصراعات «ما بعد الصناعية»، كتِلك المرتبطة بالرقابة على الإنشاءات، بل تُظهِر كذلك الاستحياء الذي تُظهره الطبقات الوسطى التقليدية تجاه الأنشطة والكفاءات الفنية التي تفوق نطاقهم التقليدي، كالتطبيقات التكنولوجية المُتطوِّرة، كما تظهر أيضًا إرهاصات ثورةٍ أخلاقية ضد إخضاع القيم «التقليدية» لمقتضيات الكَفاءة والحداثة، وردَّ الفعل حيال تهديداتٍ نابعة من العيش مع مَصدرٍ محتمل للأضرار البيئية. يُمكن تطبيق اعتباراتٍ مشابهة على نزوع الطبقات الوسطى إلى التعبئة لمعارضة مواقف يَرونها تحمل تهديدًا لوجاهتهم وقواعد اللياقة الاجتماعية التي يَعتنقونها، كما هو الحال في الاحتجاجات المناهضة للجريمة والانحراف السلوكي في المناطق الحضرية، أو تلك الموجَّهة ضد المهاجرين. ولا تَقتصِر هذه السمات على الحركات ذات الطابع اليَميني الواضح؛ بل على النقيض من ذلك، فإن كثيرًا من الحركات الاجتماعية «الجديدة» (كالحركة المعنية بحماية البيئة على سبيل المثال لا الحصر) تُبدي أيضًا ما هو أكثر من مجرَّد السمات العشوائية التي عادةً ما تُميِّز الاحتجاجات الأخلاقية ذات الطابع الدفاعي للطبقة الوسطى التقليدية (إيدر ١٩٩٣؛ ١٩٩٥).
بعبارةٍ أخرى، يبدو أن الظروف المُواتية لعودة شتى أنماط سياسة المكانة الاجتماعية قد أُعيد إنتاجها، وفي ظلِّ هذه الظروف، يَضطَلِع بالدَّور المحوري تلك المجموعات الاجتماعية التي تجمعها مُستوياتٌ معينة من الوجاهة الاجتماعية وقوانينُ أخلاقية محدَّدة (ترنر ١٩٨٨؛ إيدر ١٩٩٣). لا شك أنَّ الاهتمام الذي تُعيره الطبقة الوسطى لهويتها الجماعية وتحديد مكانتها الخاصة ليست سمةً مقصورة على الحشود الحديثة حصرًا، وهو ما يُناقض الصورة الأكثر بِنيوية لأطروحة الطبقة الوسطى (كالهون ١٩٩٣؛ دانيري وآخرون ١٩٩٠). إن الطبقة الوسطى، كما تُذكرنا التجربة التاريخية للحركة المناهضة للكحوليات (جاسفيلد ١٩٦٣)، قد ميَّزت نفسها عبر الزمن باعتنائها المتواصِل بالقوانين الأخلاقية، والقواعد السلوكية المَقبولة اجتماعيًّا، والمبادئ المحدِّدة لما يُسمى «الحياة الصالحة». ويُمكننا أن نجد أسباب هذا الموقف كامنةً في احتلال الطبقات الوسطى لمكانةٍ متوسِّطة بين البرجوازية الصناعية والطبقة العاملة، وهي المكانة التي اكتنفها الغموض على مر التاريخ. لقد وجهت البرجوازية الصغرى تركيزها بالفعل إلى الإنتاج الرمزي والدفاع عن مكانتها الاجتماعية الخاصة؛ وذلك نظرًا لموقعها غير المستقر في النظام الطبقي. ولعل أفرادها شعروا لأسبابٍ مشابهة بالحاجة إلى تمييز أنفسهم عن المجموعات الاجتماعية الرئيسية، ولا سيما أولئك الذين شكَّلوا أكبر تهديد لوجاهتهم الاجتماعية؛ ألا وهم أفراد البروليتاريا الصناعية، وذلك على مدار القرن العشرين (ترنر ١٩٩٤؛ كالهون ١٩٩٣؛ أوبرشال ١٩٩٣: الفصل الثالث عشر؛ إيدر ١٩٩٣، ١٩٩٥). هناك ما يدعو، في الوقت ذاته، إلى القول بوجود اختلافاتٍ جوهرية تميز الكثير من النماذج الحديثة لسياسة أنماط الحياة عن الصورة التقليدية لسياسة المكانة الاجتماعية. إن الإشارة إلى القيم وأنماط الحياة لا تميز بالضرورة، كما يذكر فيذرستون (١٩٨٧)، مَجموعاتٍ مُتمايزةً ذات هُويات محدَّدة وبِنًى راسخة منذ أمدٍ بعيد. فربما لا يَتشابه الفاعلون المنخرطون في الفعل الجمعي حقيقة، بخلاف الإشارة المشتركة إلى مجموعةٍ معينة من القيم والخيارات التفضيلية، إلا في القليل (انظر أيضًا وود وهيوز ١٩٨٤؛ كروك وآخرون ١٩٩٢، لا سيما صفحة ١٤٤؛ أوري ١٩٩٥).
إنَّ العلاقة بين الطبقة الوسطى الجديدة والطبقة العاملة ليست أكثر جلاءً، ولم تكن محلَّ استقصاء متعمق مُعتبَر. يبدو، مثلًا، في دراسة كريسي للنموذج الهولندي أنه حتى الانتماء إلى الطبقة العاملة يمكن أن ييسر التعبئة في الحركات الجديدة، وبالأخص فيما يتعلق بالشباب؛ ومن ثم قد يبدو أن ثمة تقاربًا جزئيًّا على الأقل في الحركات الجديدة لتلك المجموعات الاجتماعية التي كانت نشطة بالفعل في حركات المعارضة «التاريخية»: أي بعبارةٍ أخرى، يوجد اتصال بين الأنماط «القديمة» و«الجديدة» للمعارضة الطبقية، وهو ما يلاحظ أيضًا في حركة العدالة العالمية؛ إذ برزت قاعدةٌ اجتماعيةٌ متباينة العناصر باعتبارها ملمحًا تجديديًّا أو تعزيزًا مقارنةً بالحركات القديمة (إبستاين ٢٠٠٠؛ جيل ٢٠٠٠؛ إيرز ٢٠٠٤؛ بيفن وكلاورد ٢٠٠٠؛ أندريتا وديلا بورتا وموسكا ورايتر ٢٠٠٢ و٢٠٠٣).
إجمالًا لما سبق، يُمكننا القول إنه على الرغم من وجود دلائلَ وافرةٍ تشير إلى نشأة صراعاتٍ بِنيوية جديدة، فإن أنماط تلك الصراعات وقدرتها على البقاء بمرور الزمن لهي مسائل أبعد ما تكون عن الوضوح. ونودُّ أن نَختَتِم نقاشنا بإيراد بضعة أسبابٍ أخرى للحذر في تناول هذا الموضوع. أولًا: ما من براهينَ دالةٍ على أن البُعد المادي المنطوي على إعادة توزيع الموارد قد فقد كل ما له من أهمية في الصراعات التي تكون فيها الحركات المعاصرة غير ذات الصلة بالطبقة العاملة طرفًا رئيسيًّا (بروكس ومانزا ١٩٩٤: ٥٦٢-٥٦٣). على سبيل المثال، ما من شكٍّ في أن عمليات التعبئة الداعية إلى تنمية الخدمات الجمعية في المناطق الحضرية وتجديد تلك المناطق قد تشكَّلت ملامحها بفعل اهتماماتٍ فعَّالة بسلعٍ جمعية غير مادية، كتلك المرتبطة بنوعية الحياة، لكنها ركزت كذلك على إعادة توزيع الموارد المادية، واضعةً أشدَّ المجموعات الاجتماعية تضرُّرًا من التحولات الطارئة على النشاط الصناعي ومن عمليات التجديد الحضري؛ في مواجهة المجموعات الاقتصادية التي قادَت تلك العمليات وروَّجت لها (كاستيلز ١٩٧٧، ١٩٨٣، ١٩٩٧؛ لو ١٩٨٦؛ فيجن وكابك ١٩٩١؛ باجولي ١٩٩٤). وكثيرًا ما شهدت هذه النزاعات بروز تحالُّفاتٍ جديدة بين الطبقة العاملة والمجموعات المجتمعية (بريكر وكوستيلو ١٩٩٠). علاوةً على ذلك، نشأت أنماطٌ جديدة من الفعل الجَمعي استنادًا إلى حالاتٍ معيَّنة من القلق، تُعنى، على سبيل المثال، بمكافحة «أشكال الفقر الجديدة»؛ فنشأت حركات المشرَّدِين واحتشاداتهم (كريس وسنو ١٩٩٦)، وانبثقت المبادَرات الداعمة للعاطلين والمجموعات المهمَّشة في كل مكان، وهو غالبًا ما يتمُّ في ظل تعاونٍ وثيق مع القطاع التطوعي (باجولي ١٩٩١، ١٩٩٥ب؛ بيرس ١٩٩٣). كان الصراع معنيًّا مرة أخرى، في كل تلك الحالات، ليس فقط بإيجاد مفهومٍ عام لنوعية الحياة، بل أيضًا بتوزيع المكاسب المادية بين مختلف المجموعات الاجتماعية، وأمسى الاهتمام بقضايا العدالة الاجتماعية والأوضاع المادية ﮐ «الفقر» عنصرًا محوريًّا في موجة الاحتجاجات الأخيرة ضد العولمة الليبرالية الجديدة، كما يُشار إلى ذلك في كثير من الأحيان.
لكن في الوقت ذاته — وكما ألمح ألبيرتو ميلوتشي، بوجهٍ خاص، في أكثر من موضع (١٩٨٨، ١٩٩٤، ١٩٩٥، ١٩٩٦) — فإن مسألة حداثة الظواهر المعاصرة للفعل الجمعي ينبغي معالجتها على صعيدٍ تحليلي لا تجريبي. إنَّ إلقاء نظرة على السمات التجريبية لحركةٍ اجتماعية تاريخية ما (بدءًا من الحركة البيئية (جوردان ومالوني ١٩٩٧)، مرورًا بالحركة النسائية (روزنيل ١٩٩٥؛ والبي ١٩٩٧)، وانتهاءً بحركة الطبقة العاملة (كالهون ١٩٨٢)) سيُفضي حتمًا إلى اكتشاف مزيج من أطرافٍ فاعلة «جديدة» و«قديمة» وصراعات «جديدة» و«قديمة» على السواء (ناهيك عن ذخائرَ «جديدةٍ» و«قديمة» للفعل: الفصل السابع من هذا الكتاب). لكن ما يهمُّ حقًّا — وفقًا لرأي ميلوتشي — هو تقييم حداثة عملياتٍ محدَّدة من ناحية أهميتها المِحورية للخصائص المنهجية للمجتمعات المتقدمة؛ فالتركيز مثلًا على الهوية الجمعية لمجموعةٍ اجتماعيةٍ ما لا يَقتصر البتة على الحركات المعاصرة، لكن ما يجعل تلك العملية ذات خصوصية، ومن ثم «جديدة»، في المجتمع ما بعد الصناعي هو أهميتها المحورية؛ نظرًا للهيمنة الراهنة للإنتاج الرمزي والعلاقات الاجتماعية التي تُشكِّلها (للاطلاع على نقد لرؤية ميلوتشي، انظر بيكفانس ١٩٩٥).
(٥) خلاصة القول
تساءلنا في هذا الفصل عمَّا إذا كان النظر إلى البِنية الاجتماعية والتغيُّرات التي تطرأ عليها قد يُفيد في تفسير الفعل الجمعي. وتطرقنا إلى سلسلة من التعديلات الحديثة التي خضعت لها البنية الاجتماعية والسياسية، وقُدرة تلك التعديلات على التجديد فيما يتعلَّق بالخطوط الراسخة لتَنظيم بِنية الصراع. إن التحوُّل في الميدان الاقتصادي — بخاصة الانتقال إلى قطاعٍ خدمي وإداري أكثر أو أقل تطوُّرًا وتحقيق اللامركزية في الإنتاج الصناعي — لم يُقوِّض الاتساق العددي للطبقة العاملة فقط، بل قوَّض كذلك ظروف المعيشة والعمل التي طالما مهَّدت الطريق أمام الفعل الطبقي؛ فنحن نواجه حاليًّا تنوعًا أكبر في الأدوار والمصالح المهنية. إذا التفتنا إلى الصعيد السياسي، فسنَجد أن شرعية الدولة أضحت محلَّ تشكيك؛ نتيجة للنزوع نحو العولمة ونحو إضفاء الطابع المحلي، وكذلك جراء تراجع الدولة في مواجهة السوق. فضلًا عن ذلك، أسفرت قدرة الدولة على خلق المجموعات الاجتماعية وإعادة إنتاجها عبر التدخل في الحياة العامة؛ عن عددٍ متزايد من المطالب المتشرذمة التي يصعب التنسيق بينها. وبناءً على ذلك، تَبرُز إلى الوجود إمكانيةٌ جديدة للصراع، نتيجة ازدياد ضبابية الحواجز بين الميدان العام والميدان الخاص، وهو ما نشأ بالأخص من مضاعفة المعايير اللازمة لتحديد حقوق المواطنة، بالإضافة إلى القدرة المتزايدة للمؤسسات العامة والخاصة على التدخل في مجالات الحياة الخاصة كالصحة البدنية والعقلية. لقد نشأت صراعات تدور حول تعريف الهويات الجديدة، مع إيلاء اهتمامٍ خاص بالقضايا الثقافية وأنماط الحياة والمعرفة.
تمحوَرَت عمليات التعبئة والحركات التي نشأت في السنوات الأخيرة حول مصالح تتضمَّن فاعلين يُمكِن ربطهم بطرق عدة بالتحولات التي استعرضناها للتو، وعمد باحثون، مثل تورين، إلى وصف الصراعات المركزية في المجتمع ما بعد الصناعي باعتبارها نزاعات من أجل السيطرة على الإنتاج الرمزي، بينما شدَّد آخرون على الانخراط الكبير لأفراد الطبقة الوسطى الجديدة في الصراعات الجديدة؛ نظرًا لوضعهم المِهَني الخاص والموارد الفكرية الخاضعة لسيطرتهم. غير أنَّ إضفاء طابع المرونة على سوق العمل رفع، في المقابل، من معدَّلات الفقر في الشمال والجنوب، كما أن الهجوم الذي شنَّته السياسات الاقتصادية السائدة لليبرالية الجديدة والسوق الحرة على دولة الرفاه قد أسفَرَ عن عودة الحركة الاحتجاجية ضد الإشكاليات «المادية» للعدالة الاجتماعية.
غير أنه من الضروري أن نتذكَّر أن الفعل الجَمعي لا يَنبثق تلقائيًّا من التوتُّرات البِنيوية؛ فمِن غير المؤكد حتى الآن، على هذا الصعيد، نشأة انقسامٍ سياسيٍّ جديدٍ قادر على تشكيل صراعاتٍ شبيهة بتلك التي أبداها الانقسام بين رأس المال والعمل أو بين المركز والأطراف في المجتمع الصناعي، ناهيك عن ترسُّخه وتوطد دعائمه. فثمة عوامل عدة تتدخَّل في تحديد وقوع هذا الأمر من عدمه، تتضمَّن توافُر مواردَ تنظيميةٍ كافية، وقدرة قيادات الحركات على إنتاج تمثُّلاتٍ أيديولوجيةٍ ملائمة، بالإضافة إلى وجود سياقٍ سياسيٍّ مُواتٍ. وسوف نفرد بقية كتابنا لمناقشة الآليات التي تسهم في إيجاد تفسير للتحول من البِنية إلى الفعل.