البعد الرمزي للفعل الجمعي
أفردت مجلة «بزنس ويك» في عددها الصادر في السادس من نوفمبر عام ٢٠٠٠، قسمًا خاصًّا تناولت فيه حملات العدالة العالمية، ورد فيه ما يلي: «ربما تكون العديد من القيادات الراديكالية للاحتجاجات على هامش المشهد السياسي، لكنَّهم أسهموا في إطلاق حملة لإعادة التفكير العميق في مفهوم العولمة بين الحكومات وخبراء الاقتصاد التقليديِّين والشركات، الذي جرت العادة حتى عهدٍ قريب على تناوله داخل غياهب المراكز البحثية وحلقات الدراسة الأكاديمية» (مقتبس من بيرتشم وتشارلتون ٢٠٠١: ٣٩٠). لقد صرَّح الخبير المالي جورج سوروس، في إطار فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، والذي يُعدُّ بمنزلة الملتقى السنوي للنخبة، قائلًا: «إن هذه الحركة الاحتجاجية تقتحم ميدانًا يدركه الكثيرون، وما أثارته من بلبلة خلق اهتمامًا لم يكن له وجود من قبلُ» (المصدر السابق).
تعكس هذه العبارات تغيراتٍ مثيرةً في كلٍّ من الحضور العام «للعولمة» كقضية والمواقف حيالها. فحتى تسعينيات القرن الماضي، كانت العولمة لا تزال مُصطلحًا بلا معنًى إلى حدٍّ كبير بالنسبة إلى الرأي العام العالمي وكثيرٍ من الفاعلين السياسيين، على الصعيدَين المؤسسي والشَّعبي على حدٍّ سواء، لكن ما إن انقضى عقدٌ واحد حتى صارت المفهوم الرئيسي لدى كلِّ مَن يتصدى لمناقشة التغيُّرات الاجتماعية والسياسية.
إنَّ التنامي الحديث في أهمية العولمة في الخطاب العام والإعلام (أندريتا وديلا بورتا وموسكا ورايتر ٢٠٠٢: الفصل الأول) زامَنَه تزايد في عدد الفاعلين — من المفكِّرين، والهيئات العامة، والشركات الخاصة، والزعماء الدينيين، والناشطين السياسيين، والمؤسسات غير الحكومية الوطنية والدولية — الذين يَسعون لتعريفها، والتشديد على مخاطرها، فضلًا عن إبراز الآمال المعقودة عليها (نيدرفين بيترسه ٢٠٠٠؛ إيرز ٢٠٠٤). وبالرغم من أن الأطراف التجارية الفاعلة العابرة للحدود والقوميات والمؤسسات المالية الدولية تَعترف على نحوٍ متزايد بالمشكلات المرتبطة بالعولمة، فإنهم لا يَزالون الأكثر تأييدًا لها على نحوٍ غير مشروط (أنهاير وجلاسيس وكالدور ٢٠٠١: ٩-١٠). تُصوَّر إجراءات تحرير النشاط الاقتصادي من القيود التنظيمية وما يترتب عليه من التجارة الحرة لرأس المال والسلع باعتبارها الشروط المسبقة الضرورية لبدء عمليات التنمية المُستدامة خارج حدود العالم الغربي. ولا يَقتصِر نفع العولمة الاقتصادية على حماية مصالح ذوي النفوذ، بل سوف تنشر الرفاه وسط أغلب سكان العالم، مُمهِّدةً الطريقَ أمام انتشار الممارسات الديمقراطية أيضًا. يترتب على كل ما سبق ضرورةُ المعارضة العنيفة للقيود المفروضة على التداول المالي والسلعي، وتمتع القوى الاقتصادية الكبرى بكافة المسوغات التي تُبرِّر لها أداءَ دورٍ سياسي فعَّال، بما في ذلك التحركات العسكرية، في تلك البلدان حيث تتعرَّض حرية الأسواق والحصول على الموارد الرئيسية للخطر.
من غير الممكن البتة اختزالُ مُنتقدي العولمة الليبرالية الجديدة فيما يُسمَّى بالحركة المناهِضة للعولمة أو حركة العولمة من الأسفل؛ فهم يَشملون أيضًا، بدرجاتٍ متفاوتة، مؤسساتٍ وهيئاتٍ عابرةً للحدود والقوميات، مثل منظمة الأغذية والزراعة أو اليونسكو، وخبراء مُتشكِّكين، ووسائل إعلام تقليدية، وكنائس … إلخ. لكنْ حتى هؤلاء الفاعلون المنتمون إلى المجتمع المدني ممَّن يرتبط ذِكْرُهم كثيرًا بالحركة (شبكات الناشطين الراديكاليين، والتنظيمات الدينية، واتحادات العمال الصناعيين والزراعيين، والناشطين المجتمعيِّين، والمجموعات البيئية، وأحزاب اليسار السياسي) لم يَزالوا يُعرِّفون القضيةَ ويعرضون أهم أهداف الحركة واستراتيجياتها بطرقٍ مختلفة كل الاختلاف. ونجحت هذه الحركة، بتعريفها للعولمة كموضوعٍ عام جامع، في ربط الكثير من المسائل والقضايا الأخرى؛ كقضايا حماية البيئة والعدالة الاجتماعية، وحقوق العمال في البلدان المتقدمة، وحقوق البلدان النامية في الحصول على فرصة لدخول الأسواق الشمالية بسهولةٍ أكبر، وهو الهدف الذي تعذَّرَ تحقيقُه في الماضي القريب في ظل مزيجٍ متنامٍ من السياسات الحمائية والنزعات القومية داخل الحركة العمالية الشمالية، بالإضافة إلى قضايا الموازنة بين حقوق المجتمعات المحلية وتقاليدها من ناحية، والتطلُّع إلى الثقافات العالمية الشاملة من ناحيةٍ أخرى.
ثمة نقاطٌ عدة جديرة بالملاحظة في النموذج المشار إليه أعلاه؛ أولًا: لا يمكن النظر إلى القضايا باعتبارها موضوعاتٍ مستقلةً دون الجهود البشرية الساعية إلى توصيفها بالاستقلالية. إن كثيرًا من المشكلات التي تواجهها الحركة المُناهِضة للعولمة في وقتنا الراهن كانت قائمةً بالفعل قبل أن يبدأ تداول مصطلح «العولمة» (تيلي ٢٠٠٤أ، والرستين ١٩٧٤، ٢٠٠٤)؛ فمشكلات مثل الجوع والمرض في الدول غير الغربية، بالإضافة إلى الحرب والإمبريالية والاستعمار، إنما هي ظواهرُ تناوَلَها الفعلُ الجمعي المتواصِل مراتٍ لا يحصرها عدٌّ في حقبةِ ما بعد الحرب، فضلًا عن نماذج أسبق عهدًا كالحركات الحقوقية، والحركات المُناهِضة للرق، أو الحركات القومية العابرة للحدود والقوميات (هوبزبوم ١٩٩٤: الفصل الخامس عشر؛ دانجو ١٩٩٦؛ هانَجن ١٩٩٨ب). إن اندراجهم حاليًّا تحت عنوان العولمة لا يمكن تفسيره حصرًا بالتكامل المتنامي بين الدول القومية والكيانات فوق الوطنية. فينبغي على المرء أيضًا أن يأخذ بعين الاعتبار الكيفيةَ التي صاغ بها الفاعلون الاجتماعيُّون تعريفات لتلك القضايا بحيث ترتبط بالعملية الأوسع نطاقًا، التي تُدعَى العولمة.
ثانيًا: لا يُمكن اعتبار نشأة تلك القضايا عمليةً بديهية؛ فهي تنبثق، على النقيض من ذلك، من صراعٍ رمزي وثقافيٍّ متواصِل بين مختلف الأطراف الفاعلة؛ فعلى صعيدٍ ما، تصير العولمة إما شعارًا جامعًا لجميع الإيجابيات والمكاسب التي قد ينالها المرء من جرَّاء إزالة العقبات التجارية والانتصار العالمي للسوق الحرة، أو تصبح كنايةً عن جميع الشرور والشقاء والاستغلال التي يُمكن أن تخلقها الهيمنة التامة لقوى السوق. لكن على صعيدٍ آخر، ثمة اختلافاتٌ جوهرية بين الأساليب التي تتبعها الأطراف الفاعلة لتعريف العولمة، رغم كونها أطرافًا مؤيدة للعولمة أو ناقدة لها بوجهٍ عام، بل إن القوى المؤيدة للسوق تختلف في درجة تأييدها لها؛ فربما يعارض النقاد العولمة بقضها وقضيضها — كما يحدث، مثلًا، بين التنظيمات القومية اليمينية — أو قد يُحبِّذون نسخةً ديمقراطيةً شعبية منها.
ثالثًا: يمكن أن تُعد الحركات أيضًا تعبيرًا عن قيمٍ محددة. لا تهدف الحركات الاجتماعية فقط إلى إجراء تغييراتٍ محددة في السياسات أو استبدال نخبٍ سياسيةٍ معينة، بل تسعى إلى تحقيق تحوُّلاتٍ أوسعَ في الأولويات المجتمعية أو الآليات الأساسية التي تدير بها المجتمعات شئونها. يُمكننا أن نلاحظ التأثير القوي للقيم المرتبطة بتجربة اليسار التاريخية والتجربة الدينية داخل الحركة العالَمية الجديدة، لكن يبقى السؤال: أي العوامل أعظم أهمية، أهي القِيَم التي تشكِّل نشاط الحركة الاجتماعية، أم أنها قدرة الأطراف الفاعلة في الحركة على عرض قضاياهم ومخاوفهم بطرقٍ تحفز الجماهير على الاضطلاع بالفعل وتوسيع نطاق دعمهم لقضيتهم؟ إن هذه الإشكالية تعكس منظورَين مختلفَين للعلاقة بين الثقافة والفعل الجمعي.
صُنِّف دور الثقافة في الفعل الجمعي على مدار التاريخ تحت عنوان الأيديولوجية. عادةً ما يُنظَر إلى الأيديولوجية باعتبارها «طائفةً متماسكةً ومستقرة نسبيًّا من القيم والمعتقدات والأهداف المتعلِّقة بحركةٍ ما أو كيانٍ اجتماعيٍّ أوسعَ وأشمل […] يُفترض أن تُقدِّم الأساس المنطقي للدفاع عن شتى الترتيبات والظروف الاجتماعية أو معارضتها» (سنو ٢٠٠٤: ٣٩٦). فكِّر، على سبيل المثال، في المناقشات الدائرة بين المفكِّرين والزعماء السياسيين الماركسيين القائلين إن الثقافة — وبالأخصِّ الثقافة الثورية — تَنبثِق من نمو قوى الإنتاج والظروف المادية المواتية، وبين مَن يُسندون إلى الأيديولوجية دورًا أكثر فاعليةً في حثِّ الناشطين والجماهير على التحرك والمشاركة في الاضطلاع بالفعل (جرامشي مثلًا). تأمَّلْ أيضًا ذلك الاهتمام الذي أعاره خبراءُ علم النفس الاجتماعي للشخصيات المنجذبة إلى التفكير الأيديولوجي، وذلك خلال عقدَي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي (مثل كورنهاوزر ١٩٥٩: انظر سنو ٢٠٠٤: ٣٨١ للاطلاع على مناقشة في هذا الشأن).
وقد شهدت السنوات القليلة الماضية استفاضةً في مناقشة دَوْر الثقافة في الحركات الاجتماعية، ويُمكن أن نجد الإطار العام لتلك القضية في جدلية البِنية والفعل (بورديو ١٩٧٧، ١٩٩٠، جيدنز ١٩٨٤، إميربير وميشه ١٩٨٨): يتحرَّك الفاعلون الاجتماعيون في سياق القيود البنيوية التي لا تتعلَّق بالموارد المادية فقط، بل ترتبط كذلك بالموارد الثقافية؛ فتفسيراتهم لأوضاعهم، وتصوراتهم المسبقة، وافتراضاتهم الضمنية بشأن الحياة الاجتماعية ومبادئها التوجيهية وما يَستحِق وما لا يستحق؛ كل ذلك يُقيِّد قدرتهم على الفعل ويُقيِّد نطاق الخيارات المتاحة أمامهم تقييدًا بالغًا. في الوقت ذاته يُحاول الفاعلون أيضًا تعديلَ البنى الثقافية التي يُمثلون جزءًا راسخًا منها، وذلك عن طريق الفعل، وأحيانًا ما يكون النجاح حليفهم في ذلك. في الواقع، يتجه الفعل الاجتماعي في الوقت ذاته نحو إعادةِ إنتاجِ بناه المُقيِّدة وخلْقِ أخرى جديدة. ويُمكن أن توجد هذه الازدواجية حتى في تجربة الحركات الاجتماعية، التي تُعَدُّ بحكم طبيعتها الأكثرَ توجُّهًا نحو التغيير (سيويل ١٩٩٢؛ كروسلي ٢٠٠٢؛ ليفساي ٢٠٠٣).
أسفرت تلك الجدلية أيضًا عن إعادة تقييم لدور الأيديولوجية وخواصها؛ فبالرغم من أن المصطلح ظل متداولًا على مرِّ السنوات (ترنر وكيليان ١٩٨٧؛ أوليفر وجونستون ٢٠٠٠؛ زالد ٢٠٠٠)، فقد تعرَّضَ منذ الثمانينيات لموجةٍ مُتزايدة من النقد لانطوائه على مستوياتٍ غير واقعية من الاتساق والتكامل الأيديولوجي، والتقارب الأيديولوجي بين المشاركين في الحركات الاجتماعية، والارتباط بين الأفكار والسلوكيات (للاطلاع على موجزٍ للنقاش، انظر سنو ٢٠٠٤: ٣٩٦ وما يليها؛ ميلوتشي ١٩٨٩، ١٩٩٦ وذلك للاطلاع على صيغةٍ قديمة من هذا النقد).
كان الانتقاد الرئيسي، على الأرجح، هو أن مفهوم الأيديولوجية يُقوِّض جانبَين مختلفَين كل الاختلاف من جوانب الثقافة: القيم والأدوات التفسيرية (العادات والذكريات والتحيُّزات والمخططات العقلية والميول والمعتقدات السائدة والمعرفة العملية … إلخ) التي تُمكِّن البشر من تفسير عالمهم وفهمه (سويدلر ١٩٨٦)، وليس بالضرورة أن يسير الجانبان في نفس الاتجاه؛ فعلى سبيل المثال، ليس بالضرورة أن يكون الأكثر استعدادًا والأشد تحمُّسًا للاحتشاد هم أصحاب أرسخِ القِيَم، بل هم مَن يقدم تفسيرهم للموقف أساسًا منطقيًّا واضحًا للفعل (من حيث إدراكهم ليس فقط للفرص المتاحة للقيام بالفعل، بل أيضًا للبدائل المتوافرة أو الضغوط العاطفية التي تُمارَس عليهم). سوف نتناول في القسم التالي هذين الجانبَين، كلٌّ على حدة، مستهلِّين نقاشنا بالقيم.
(١) الثقافة والفعل: دور القيم
لعلنا ننظر إلى الفعل الاجتماعي كظاهرةٍ مدفوعة إلى حدٍّ كبير بالمبادئ الأساسية التي يَعتنقها الفاعلون، وبناءً على هذا المنظور سوف تُؤثر القيم على كيفية تحديد الفاعلين أهدافهم، كما أنها سوف تُعيِّن الخطط المقبولة أخلاقيًّا والمتَّسمة بالكفاءة. فضلًا عن ذلك، سوف تُوفِّر القيم الدوافع اللازمة لتحمُّل تكاليف الفعل؛ فكلما قوي اعتناق الفرد لرؤيةٍ معينة للعالم، قوي الحافز للفعل. كما أن الخصائص المُميزة لمنظومةٍ قيميةٍ معينة سوف يكون من شأنها أن تُشكِّل مكوِّنات الفعل.
كيف يُصاغ هذا النموذج في حالة الفعل الجَمعي في الحركات الاجتماعية بعبارةٍ أخرى، كيف يُمكِن توصيف القيم باعتبارها المُتغيِّر التفسيري المحوري في حالة الأفعال التي تضع، بحكم طبيعتها، بعضًا، على الأقل، من أصول السلطة (ذات الشرعية الثقافية) في مجتمعٍ ما موضع تشكيك؟ يُمكننا، من ناحية، أن نربط ما بين الفعل الجمعي وفقدان التكامل الاجتماعي في المنظومة أو، بدلًا من ذلك، بين الفعل الجمعي وعجز المنظومة عن إعادة إنتاج قيمها الأساسية وتعزيزها. إنَّ الأبحاث التي أجرِيتْ قبل عقد الستينيات بشأن الحركات، والتي ركزت بصورةٍ أساسية على الحركات الثورية المُنتمية إلى تيارَي اليمين واليسار في الشطر الأول من القرن العشرين، أعارت اهتمامًا بالغًا لتفسيرات هذا النمط (كورنهاوزر ١٩٥٩)، ومن هذا المنظور، يُمكن أن نُفسِّر بروز حركات العدالة العالمية في الوقت الراهن كدليل على إخفاق المجتمع في ترسيخ قيم السوق الحرة في نفوس أعضائه، وبالأخص جيل الشباب. على سبيل المثال، يوجه رجال الأعمال في كثير من الأحيان اللوم إلى المدارس لموقفها المُعادي تجاه ثقافة ريادة الأعمال، وهو السبب نفسه الذي كثيرًا ما انتَقد لأجله سياسيو الليبرالية الجديدة (مثل توني بلير، الذي انضمَّ حديثًا إلى هذا المعسكر: بيك ١٩٩٩) المدارس.
بإمكاننا أيضًا، من ناحيةٍ أخرى، تفسير الفعل الجمعي باعتباره برهانًا على نشأة اتجاهات نحو إعادة الإدماج الاجتماعي بدلًا من التفكُّك الاجتماعي؛ أي بعبارةٍ أخرى باعتباره دليلًا على تشكُّل منظوماتٍ قيميةٍ جديدة وترسُّخها. وانطلاقًا من هذه الرؤية، يمكن ربط نجاح نشاط العدالة العالمية بانتشار قيمٍ جديدة تمزج اهتمامًا متساويًا بقضايا العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وحماية البيئة. وقد شهدت الآونة الأخيرة تشديدًا قويًّا على الرابطة بين نشأة صراعاتٍ جديدة والبُعد القيمي، وذلك في سياق أنماطٍ شتى من «السياسة الجديدة» المتصلة بالقضايا البيئية والنسوية والسلام والحقوق المدنية (دالتون ١٩٨٨؛ كريسي ١٩٩٣: ٦٠ وما يليها؛ رورشنايدر ١٩٨٨؛ نوريس ٢٠٠٢). يرتبط صعود الحركات السياسية «الجديدة» منذ عقد السبعينيات فصاعدًا، في الصياغة الأكثر طموحًا لهذا النموذج، بعملياتٍ أعم من التغيير القيمي (إنجلهارت ١٩٧٧، ١٩٩٠أ، ١٩٩٠ب؛ كلارك وإنجلهارت ١٩٩٨). وتستند حجة إنجلهارت إلى افتراضين. ذهب إنجلهارت، وفقًا لما أطلق عليه «فرضية الندرة» (إنجلهارت ١٩٩٠أ: ٥٦)، إلى أن الاحتياجات تترتَّب ترتيبًا هرميًّا وأن الاحتياجات الأعلى رتبة (المرتبطة مثلًا بالنمو الفكري والشخصي للفرد) لا يمكن تصوُّرها اللهم إلا إذا لُبِّيَت الاحتياجات الأدنى رتبة (المرتبطة مثلًا بالبقاء المادي على قيد الحياة). علاوةً على الفَرضية الأولى، تبنى إنجلهارت فرضيةً ثانية وهي «فرضية التنشئة الاجتماعية» (إنجلهارت ١٩٩٠أ: ٥٦)، والتي تنصُّ على وجود استمرارية في حياة البالغين تبقى في ظلِّها كلٌّ من المبادئ الأساسية وترتيب الأولويات التي تتشكَّل خلال سنوات التكوين المؤدِّية إلى النضوج دون تغيير بوجهٍ عام.
لقد كان لمن ولدوا في الغرب في الفترة التالية للحرب العالمية الثانية وصاروا بالغين خلال عقد الستينيات أو ما بعده تجاربهم وأنماط حياتهم التي اختلفت اختلافًا شاسعًا عن تجارب وأنماط نظائرهم من الأجيال السابقة؛ فقد تمتَّعوا، على وجه التحديد، بمعدلاتٍ غير مسبوقة من الترف، وتيسَّرت لهم فرص الحصول على التعليم العالي، كما تقلَّصت احتمالات تعرُّضهم لمخاطر الحرب. يرى إنجلهارت أن مثل هذا الوضع غالبًا ما يفرز ظروفًا مواتية للغاية لحدوث تغيُّرات في الاحتياجات والتوجُّهات الأساسية، منها على وجه الخصوص ضعفٌ تدريجيٌّ في منظومة القيم «المادية»، التي تعكس قضايا متعلِّقة بالرفاه الاقتصادي والأمن الشخصي والجمعي، واستبدالها بقيم «ما بعد مادية» موجهة، في المقابل، نحو تعضيد الاحتياجات التعبيرية. بعبارةٍ أخرى، تضع القيم المتجاوزة لنطاق المادية في صدارة الأولويات الإنجاز الفردي على المستوى الخاص، وتوسيع حرية التعبير والمشاركة الديمقراطية والحكم الذاتي على المستوى العام.
لقد أنتجت الشواهد التجريبية المرتبطة بالتغيُّر القيمي عددًا لا يُستهان به من التحليلات المعنية بالسياسة الجديدة، ونشأة أحزاب الخضر، وسمات ناشطي الحركات الجديدة وأنصارها (انظر مثلًا رورشنايدر ١٩٨٨، ١٩٩٣ب؛ دالتون ١٩٨٨، ١٩٩٤). أثبتت تلك التحليلات أن معتنقي القيم المتجاوزة للماديات يميلون بقوة نحو دعم الأشكال الجديدة من الفعل الجمعي أو المشاركة على نحوٍ ما في الأنشطة الاحتجاجية (إنجلهارت ١٩٩٠ب)، كما أشير، تحديدًا، إلى أن الوضع قد أسفر عن نشأة انقساماتٍ جديدة وما ارتبط بها من عمليات إعادة التقارب السياسي وفقًا للمنظور المادي مقابل المنظور ما بعد المادي (دالتون ١٩٨٨؛ جاننجز وآخرون ١٩٩٠).
أثارت فرضيات إنجلهارت جدلًا واسعًا، وبرزت بعض الأصوات القائلة بأن تنامي القيم ما بعد المادية قد لا يعدُّ دليلًا على تغيُّرٍ عميق، وإنما يُعدُّ مؤشرًا لظاهرة عابرة ونتاجًا لمزيج من الوقائع التاريخية المُتزامنة الفريدة، كتلك التي شهدها عقد الستينيات، بيد أن مثل هذه المزاعم قد دحضتها البيانات الدالَّة على أنَّ تبدُّل الأجيال قد تمخض في الحقيقة عن زيادةٍ مطردة في مُعتنقي القيم ما بعد المادية بين الجماهير الغربية وغيرهم (إبرامسون وإنجلهارت ١٩٩٢؛ إنجلهارت ١٩٩٠ب؛ دي جراف وإيفانز ١٩٩٦؛ إنجلهارت ١٩٩٧، ١٩٩٩؛ إنجلهارت وبيكر ٢٠٠٠؛ إنجلهارت ونوريس ٢٠٠٣).
ثارت الشكوك أيضًا بشأن الصلة بين التوجُّهات ما بعد المادية والحركات الاجتماعية الجديدة. لا شك أن النظرة العدائية حيال سياسة «القانون والنظام» هي واحدة من السمات المميِّزة لتلك الحركات، التي احتشَدَت بلا شك في عدد من المناسبات لنصرة حرية التعبير والديمقراطية المباشرة، لكنها دعمت بالمثل احتشاداتٍ أخرى (كالاحتشادات المناهضة للحرب، أو الطاقة النووية، أو التلوث البيئي) يَصعب النظر إليها بصورةٍ مستقلة عن انشغال تلك الحركات بالأمن الشخصي والجمعي، أو، بعبارةٍ أخرى، انشغالها بقضايا «مادية» محضة (بروكس ومانزا ١٩٩٤: ٥٥٨–٥٦٣).
من الضروري كذلك أن نتساءل إلى أي مدًى يُمكن الزعم بأن ما بعد المادية إنما تمثل الأساس لانقسامٍ سياسي جديد؛ ومن ثم فمن الأهمية بمكان، في هذا السياق، أن نضع نصب أعيننا العلاقة بين البُعد المادي – ما بعد المادي والتماهي الأعم مع اليسار واليمين؛ ففي ضوء ميل الحركات الاجتماعية الجديدة إلى اعتبار نفسها جزءًا من تيار اليسار، ربما يُقال إنَّ الانقسام بين المادية وما بعد المادية ما هو إلا إعادة صياغة للتقسيم التقليدي إلى يسار ويمين، وما يتبع ذلك من إنكار لوجود رؤًى سياسيةٍ جديدة ومختلفة، بيد أنه لم تتوافر حتى الآن دلائل قاطعة تؤيد هذه الفرضية أو تدحضها. وغنيٌّ عن القول إن كلًّا من المؤيدين الحزبيين وأعضاء النقابات العمالية المنتمين إلى اليسار «القديم» ينزعون نحو اعتناق القيم ما بعد المادية، كما هو الحال بالنسبة إلى المنتمين إلى اليسار الجديد وناشطي الحركات الجديدة والمتعاطفين معها (إنجلهارت ١٩٩٠أ: الفصل الحادي عشر؛ ١٩٩٠ب: ٩٠).
من ناحيةٍ أخرى، ليس واضحًا مطلقًا ما يشير إليه البُعد اليساري – اليميني على وجه التحديد. غير أنه من المُمكن، على أقل تقدير، تفكيكه إلى بُعدَين مُستقلَّين؛ بُعد يُقيِّم التوجُّهات نحو القضايا الاجتماعية الاقتصادية، والآخر يُقيِّم التوجهات نحو الموقف التحرُّري في مقابل الموقف السلطوي. في بعض الأحيان كان ينظر إلى ما بعد المادية باعتبارها مؤشِّرًا غير كافٍ للتنبؤ بكلا النوعَين من التوجهات (ميدندورب ١٩٩٢؛ انظر أيضًا كريسي ١٩٩٣). أما فيما يخصُّ العلاقة بين التوجُّهات والحركات اليسارية العامة، فيبدو أن قطاعاتٍ معيَّنة فقط من تيار اليسار — المنتمية إلى الفكر غير الشيوعي — هي التي تُظهِر تعاطفًا واضحًا مع الحركات الجديدة (إنجلهارت ١٩٩٠أ: الفصل الحادي عشر)، إضافة إلى أنه في حين يُقدِّم التماهي العام مع الفكر اليساري تفسيرًا وافيًا للاهتمام بالقضايا التي تثيرها الحركات الجديدة، فإن ما بعد المادية تُقدِّم تفسيرًا أفضل لما يُبديه الأفراد من استعداد للمشاركة في تلك الحركات (١٩٩٠أ). ولعل بوسعنا القول أيضًا إنه بدلًا من الزعم بأن ما بعد المادية هي الأساس لانقسامٍ سياسيٍّ جديد، فإن التفسير المقابل قد يكون صحيحًا على الأرجح. بعبارةٍ أخرى، حيثما ينشأ انقسامٌ جديد لأسبابٍ تاريخيةٍ محدَّدة (كما هو الحال في ألمانيا، حيث صارت أحزاب الخضر فاعلًا سياسيًّا بارزًا)، فإنه غالبًا ما يتمحور حول الانقسام بين المادية وما بعد المادية؛ لكن متى لم يحدث ذلك (كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا)، فربما لا يمكن الربط بين القيم ما بعد المادية وأي فصيلٍ سياسيٍّ محدَّد (ترامب ١٩٩١).
لقد شهدت السنوات الأخيرة تطورَين مختلفَين كل الاختلاف، كان من شأنهما تعزيز الشكوك التي تكتنف العلاقة بين الحركات وما بعد المادية. فمن ناحية، أثارت نشأة الحركة المناهضة للعولمة الشكوك بشأن الصلة بين النزعة ما بعد المادية والسياسة التقدمية. في الواقع، إن نقص الدراسات الاستقصائية التي تُقدِّم تقييمًا صريحًا للمواقف حيال هذه الحركة أو المشاركة فيها، أو كليهما، تجعل من العسير مُقارنتها بالحركات الاجتماعية الجديدة. لا يخفى بالتأكيد وجود قدرٍ معيَّن من التداخل حين يتعلَّق الأمر بعمليات التعبئة المعنية بقضايا السلام/البيئة/حقوق الإنسان؛ إذ يتضح بجلاء، عند الحديث عن هذه القضايا، الارتباط بما بعد المادية (نوريس ٢٠٠٢)، كما لا يخفى أيضًا أن الدراسات الاستقصائية التي أُجريت بين المشاركين في التجمعات الكبرى كالمنتدى الاجتماعي الأوروبي بجنوة أو فلورنسا تشير إلى أن كثيرًا ممَّن شملتهم الدراسات (حوالي ٢٠ بالمائة) يرفضون الانتساب إلى أيٍّ من معسكرَي اليمين أو اليسار. غير أن حركات العدالة العالمية تتناول، في الوقت ذاته، قضايا ذات طابعٍ مادي واضح، ترتبط بظروف العمل والمعيشة الأساسية، رغم أنها كثيرًا ما يجري تعريفها بأسلوبٍ يمزج الاهتمامات المادية بقضايا الاستدامة وحماية البيئة وما شابه. بالإضافة إلى ذلك، تنتسب الغالبية العظمى ممن لا يزالون يَعتبرون التفرقة بين اليسار واليمين ذات جدوى إلى يسار الطيف اليساري اليميني؛ إذ صنف ما يقرب من ٢٥ بالمائة من الناشطين الذين أجريت معهم مقابلات على هامش المنتدى الاجتماعي الأوروبي بفلورنسا أنفسهم ضمن أقصى يسار الطيف السياسي، بينما صنف ٥٠ بالمائة أنفسهم ضمن اليسار، بالإضافة إلى ١٠ بالمائة آثروا يسار الوسط (ديلا بورتا وأندريتا وموسكا ورايتر ٢٠٠٥). نشير ختامًا لهذه النقطة، إلى أنه بالرغم من أن البيانات المتوافرة (إنجلهارت ١٩٩٧؛ نوريس ١٩٩٩) تدل على وجود علاقة إيجابية بين النزعة ما بعد المادية والديمقراطية في الديمقراطيات القديمة والجديدة على حدٍّ سواء، فإنها تشير كذلك إلى أن معتنقي القيم ما بعد المادية يؤيدون الأسواق العالمية المفتوحة (مرةً أخرى، مثل هذه الدلائل يصعب تفسيرها؛ لأنها قد تعني عولمةً ذات طابعٍ ديمقراطي وغير ديمقراطي على السواء).
جلبت السنوات القليلة الماضية في جعبتها كذلك نموذجًا مختلفًا كليَّةً للصلة بين القيم والفعل الجمعي؛ ففي حين ركَّز النقاش الدائر على القيم (وبخاصة التغير القيمي) والسياسة الديمقراطية التشاركية، انبثقت أجندةٌ فكريةٌ مختلفة جذريًّا نتيجة لعودة الصراعات العرقية والقَبلية إلى الظهور في كثير من بقاع العالم وانتشار الأصولية بوجهٍ خاص (قبل الحادي عشر من سبتمبر بفترةٍ طويلة، ودون أن تقتصر على الإسلام حصريًّا (معدل ٢٠٠٢؛ بيناني-شرايبي وفيليول ٢٠٠٣؛ وودبيري وسميث ١٩٩٨)). إذا ألقَينا نظرة على أطروحة صامويل هانتنجتون (١٩٩٣، ١٩٩٦) الشهيرة بشأن «صراع الحضارات» وأطروحاته المشابهة، والتي تشير إلى قيام صراعٍ جوهري بين الإسلام والغرب، فسوف نلاحظ أنها قد أَسندت إلى القيم دورًا مختلفًا تمامًا عن ذلك الذي تنطوي عليه آراء مُنظِّري ما بعد المادية؛ إذ تطرح رؤيةً للحركات الاجتماعية باعتبارها كياناتٍ ضاربةً بجذورها في مجموعاتٍ راسخة من القيم تُمثِّل المحور الذي تدور حوله الصراعات الجوهرية، وقادرة على توجيه الروابط المستقبلية بين أهم بقاع العالم.
غير أن الاختبارات التجريبية للتحقُّق من صدق هذه الأطروحة تُشير إلى صورةٍ أكثر تعقيدًا؛ فقد وجد كلٌّ من نوريس وإنجلهارت (٢٠٠٢)، خلافًا للتوقُّعات، أن المواقف حيال الديمقراطية متشابهة للغاية في كلا المعسكرين، غير أنهما اكتشفا كذلك اختلافاتٍ عميقة لا سبيل إلى التغلب عليها في تعريف المعسكرين لأنماط الحياة الخاصة، وفي العلاقات بين الجنسين والحرية الجنسية على وجه الخصوص، وهو أمرٌ صحيح بالرغم من الوجود المعتبَر للقيم المسيحية المحافظة في بلدانٍ غربيةٍ مهمة، أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية (وودبيري وسميث ١٩٩٨). إن النتيجة التي خلص إليها الباحثان، والتي تنص على أن «القيم المحورية التي تفصل الإسلام عن الغرب إنما تتمحور حول الجنس أكثر بكثير من الديمقراطية» (٢٠٠٢: ٣)، تُقدِّم مزيدًا من الدعم لأطروحة التحول التدريجي في الأولويات من «السياسة العامة» إلى «السياسة الشخصية»، وغير متعارضة بالضرورة مع الأطروحات المتعلقة بالقيم ما بعد المادية في الغرب.
ثمة اعتراض آخر أكثر جوهرية على نظرية التغير القيمي، وهو ذلك الاعتراض الذي يتناول العلاقة بين القيم والفعل. لو أن بوسع قيم الأفراد أن تفسر حساسيتهم الجوهرية إزاء قضايا ومشكلات معينة، فليس بالضرورة أن يتجاوز أثرها هذا المستوى. ولعل من الأمثلة الدالة على ذلك ما اكتشفه ماكادم (١٩٨٦) خلال دراسته على ناشطي الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الستينيات؛ إذ وجد أن التزام الناشطين المحتمل بقيم الحرية والمساواة لم يكن يُنبئ بمشاركة فعلية من جانبهم. بالمثل، لم يجد كلٌّ من فوكس وروشت (١٩٩٤) أي ارتباط بين التأييد الواسع لحركات المحافظة على البيئة والمشاركة الفعلية في هذه القضية، وذلك من واقع تحليلهما للبيانات الاستقصائية المستمَدَّة من العديد من بلدان أوروبا الغربية. يُمكن تفسير هذه المفارقة بأن قرار الأفراد بالإقدام على الفعل — بصورةٍ جمعية على وجه الخصوص — لا يتوقَّف فقط على اعتناقهم لمبادئ أو مواقف أساسية، أو كلتَيهما، بل يعتمد أيضًا على تقييمٍ معقَّد للفرص المهيئة للمشاركة في الفعل والقيود الحائلة دون ذلك. فالقيم تُصاغ من خلال أهدافٍ محدَّدة، وترتبط باستراتيجيات السلوك اللائق؛ ومن ثم مِن الضروري تفسير الوضع الخارجي باعتباره مواتيًا للفعل، أو على الأقل يتطلَّب التعبئة الفردية، بدلًا من كونه مواتيًا للتراجع أو الامتثال. ومن الضروري أن تتوافر القدرة على تحويل القيم الفردية إلى قيمٍ جمعية، مع تعيين عناصر التقارب والتضامن مع الآخرين ممن يَعتنِقُون القيم ذاتها (كلاندرمانس ١٩٨٨؛ ميلوتشي ١٩٨٩، ١٩٩٦؛ جامسون ١٩٩٢أ).
بعبارةٍ أخرى، من الأهمية بمكان تَبنِّي رؤيةٍ واقعية تربط ميدان القيم بالميدان الاستراتيجي والتضامني بأسلوبٍ متَّسق لا يخلو من تماسك، فضلًا عن ذلك، لا بدَّ من النظر بعين الاهتمام إلى البُعد المعرفي للفعل، كما سوف نسعى في الأقسام التالية من هذا الفصل، وإلى العلاقة بين الفعل والهوية الجمعية، وهو الموضوع الذي سنَتناوله بالمناقشة في الفصل التالي.
(٢) الثقافة والفعل: المنظور المعرفي
(٢-١) الفعل الجمعي باعتباره ممارسةً معرفية
إنَّ الفكرة القائلة بإمكانية اختزال الثقافة، ولا سيما تأثيرها على الفعل الجمعي، في مجموعة من القيم ظلت محل جدل لفترةٍ طويلة؛ فقد لوحظ، بالتحديد، أن «الثقافة تؤثِّر على الفعل، لكن ليس عن طريق تقديم القيم الجوهرية التي يوجَّه إليها الفعل، وإنما عن طريق تشكيل ذخيرةٍ أو «مجموعة من الأدوات» تشتمل على عادات ومهارات وأساليب يعتمد عليها الأفراد في إنشاء «استراتيجيات الفعل»» (سويدلر ١٩٨٦: ٢٧٣). وهذا يعني أن الثقافة، بعبارةٍ أخرى، تُوفِّر الأدوات المعرفية التي يحتاج إليها الأفراد لتحديد وجهتهم في هذا العالم. تتكوَّن هذه الأدوات من عناصرَ ثقافيةٍ وفكرية عديدة تتضمن معتقدات، وطقوسًا، وأشكالًا فنية، وممارساتٍ غيرَ رسمية؛ كاللغة، والمحادثات، والقصص والطقوس اليومية (سويدلر ١٩٨٦: ٢٧٣). أما محتوى النماذج الثقافية، التي تعدُّ القيم إحدى مكوناتها الأساسية، فإنها ذات أهميةٍ ثانوية في هذا السياق فيما يتعلق برؤية الثقافة كطائفة من الأدوات التي يستخدمها الفاعلون الاجتماعيون لتفسير تجاربهم الحياتية الخاصة وفهمها (انظر أيضًا آيرمان وجاميسون ١٩٩١).
إنَّ هذا المنظور من شأنه أن يَسمح لنا، فيما يتعلق بالفعل الجمعي، بأن نضع في اعتبارنا تلك المشكلات التي كانت ستتجاهلها التحليلات المنصبَّة حصريًّا على القيم؛ فهي تُساعدنا على التفكير مليًّا في الأسباب التي تَجعل منظومات القيم المشابهة قادرة، تحت ظروفٍ معينة، على دعم الفعل الجمعي وعاجزة، في ظل ظروفٍ أخرى، عن تقديم الحافز الملائم. من الأمثلة الدالة على ذلك هو ما لوحظ خلال عقد الثمانينيات من التنامي الكبير في القدرة التعبوية للحركات البيئية والمناهضة للطاقة النووية في ألمانيا مقارنةً بنظيراتها في فرنسا، رغم التشابه الكبير في معدَّلات انتشار القيم ما بعد المادية في كلا البلدَين. ثانيًا: يتجلَّى بوضوح ما يتمتَّع به الفاعلون من مرونة ومهارات في التكيُّف مع مختلف الظروف السياقية؛ إذ يكمن واحدٌ من الشروط المسبقة المهمَّة لنجاح الحركات في قدرة ناشطيها على إعادة صياغة قيمهم ودوافعهم في سبيل تكييفها بأكفأ الطرق مع التوجُّهات الخاصة لقطاعات الرأي العام التي يودُّون تعبئتها (سنو وآخرون ١٩٨٦؛ تارو ١٩٩٤). وفي إطار هذه الحاجة إلى المرونة والقدرة على التكيُّف، فإن التماهي القوي مع معايير وقيمٍ معيَّنة ربما يُمثل حجر عثرة أمام حرية الفاعِلين؛ مما يُقيِّد قدرتهم على الفعل (كيرتسر ١٩٨٨؛ سويدلر ١٩٨٦؛ لوفلاند ١٩٩٥).
بناءً على ذلك، من المُمكن دائمًا تفسير تجربة الحركات الاجتماعية كعملية لا تتوقَّف لإنتاج الرموز الثقافية وإعادة إنتاجها (ميلوتشي ١٩٨٩، ١٩٩١؛ بينفورد وهَنت ١٩٩٢؛ هَنت وبينفورد ١٩٩٤؛ بينفورد ١٩٩٣). خلص بعض المراقبين إلى تشبيه الحركات بنمط من الدراما «يَتنافس فيه الأبطال وخصومهم للتأثير على تفسيرات المشاهِدين بشأن العلاقات بين القوى في شتى الميادين» (بينفورد وهَنت ١٩٩٢: ٣٨؛ انظر أيضًا ميلوتشي ١٩٨٤ب، ١٩٨٩؛ ساسون ١٩٨٤أ، ١٩٨٤ب؛ جاسفيلد ١٩٩٤؛ روب وتايلور ٢٠٠٣). غير أننا لسْنا بحاجة إلى قبول كل التداعيات النظرية لهذه الأطروحة كي ندرك أن نشاط الحركات الاجتماعية يتألَّف إلى حدٍّ كبير من ممارسات ترتبط ارتباطًا مباشرًا، بطريقة أو بأخرى، بالإنتاج الرمزي، وأن هذا العنصر لا يمثِّل شرطًا مسبقًا لنشوب الصراع، وإنما واحدًا من مكوناته.
(٢-٢) الأطر التفسيرية ومفهوم الأيديولوجية
أثبت مفهوم المخطط أو الإطار التفسيري، المُستَوحى من الإسهامات النظرية التي قدَّمها إرفينج جوفمان (١٩٧٤)، تأثيرًا واسعًا بين الباحثين المعنيين بالجوانب الرمزية للفعل الجمعي. عُرِّفت الأطر كمُخطَّطاتٍ تفسيرية تُمكِّن الأفراد من «اكتشاف الوقائع الجارية في حياتهم وفي العالم ككل، وتصوُّرها، وتحديد ماهيتها، وتصنيفها» (سنو وآخرون ١٩٨٦: ٤٦٤)؛ ومن ثم يُمكن تعريف الإطار بأنه «بنيةٌ عامةٌ موحَّدة محدَّدة سلفًا (بمعنى أنها تنتمي بالفعل إلى معرفة المتلقي بالعالم) تسمح بإدراك العالم وتوجِّه التصور؛ مما يتيح للفرد بناء توقعاتٍ محددة بشأن ما سوف يجري، أي تمكِّنه من تفسير واقعه» (دوناتي ١٩٩٢: ١٤١-١٤٢؛ انظر أيضًا جونستون ١٩٩١أ، ١٩٩١ب، ١٩٩٥أ، ٢٠٠٢).
يَسمح لنا تحليل الأُطر بتوصيف عملية إسناد الدلالة والتي تَكمُن خلف نشوب أي صراع. إن الإنتاج الرمزي يُمكِّننا، في الواقع، من أن نُسند إلى الوقائع والسلوكيات المرتبطة بالأفراد أو الجماعات دلالة مِن شأنها تيسير تفعيل التعبئة. تتكون هذه العملية من ثلاث مراحل، تتعلَّق بإدراك وقائعَ معينةٍ باعتبارها مُشكلاتٍ اجتماعية، والخطط المُمكنة التي من شأنها حل هذه المشكلات، والدوافع للتصرف بناءً على هذه المعرفة. وقد عرَّف كلٌّ من سنو وبينفور (١٩٨٨) هذه الخطوات بأنها الأبعاد «التشخيصية والتنبُّئية والتحفيزية» للتأطير. وسوف نَستعرض فيما يلي تلك المراحل، مُستمدِّين معلوماتنا بصورةٍ أساسية من الوثائق المقدَّمة خلال مختلف لقاءات المنتدى الاجتماعي العالمي والأوروبي التي شهدتها السنوات القليلة الماضية.
(أ) العنصر التشخيصي
بادئ ذي بدء، تتيح الأُطُر التفسيرية الملائمة الفرصة لتحويل ظاهرةٍ ما كانت تُعزى أصولها في السابق إلى العوامل الطبيعية أو المسئولية الفردية إلى مشكلةٍ اجتماعية ربما تصير هدفًا للفعل الجمعي (ميلوتشي ١٩٨٩، ١٩٩١؛ سنو وآخرون ١٩٨٦)؛ فالمشكلات الاجتماعية ليس لها وجود في واقع الأمر إلا حين يفسر عموم الناس ظواهر معينةً باعتبارها مشكلات. تنشأ المشكلات وتنمو ثم تختفي، لكنها تُعاود الظهور بين الحين والآخر وقد تصاعَدت أو تقلَّصت (بلومر ١٩٧١؛ هيلجارتنر وبوسك ١٩٨٨؛ بيست ١٩٨٩؛ جاسفيلد ١٩٦٣، ١٩٨١؛ داونز ١٩٧٢؛ روبنجتون وواينبرج ٢٠٠٣).
دائمًا ما يستدعي تشخيص مشكلةٍ ما تعيين الفاعلين الجديرين بتكوين آراء بشأنها، ودائمًا ما تكون هذه عمليةً خلافية للغاية. فيُحاول شتى الفاعلين الاجتماعيِّين (الهيئات الحكومية، والأحزاب السياسية، والمجموعات ذات المصالح المعادية، والمؤسسات الإعلامية) إثبات تحكُّمهم في قضايا محدَّدة، بفَرض تفسيراتهم الخاصة لها، وذلك على حساب التمثُّلات التي تطرحها الحركات الاجتماعية؛ لذلك يكون على الحركات الاجتماعية أن تدَّعي أولًا امتلاكها الشرعية اللازمة للتعامل مع مشكلاتٍ محدَّدة بأساليبَ متسقةٍ مع توجُّهاتها العامة (جاسفيلد ١٩٨٩؛ شيمتوف ١٩٩٩). يُمثِّل الصراع الرمزي إحدى الطرق التي يَنجح من خلالها فاعلون مُعيَّنون في انتزاع الاعتراف بحقِّهم في التحدث باسم مصالح ونزعاتٍ معينة. بالنظر إلى التعبئات المعنية بقضايا عالمية، سنَجد أن تفسيرات الصراع قد أكَّدت على التنوُّع الشديد الذي امتاز به الفاعلون المنخرطون في مثل هذه الحملات، وهو ما يَشي ضمنيًّا بجدارتهم بالتحدث نيابةً عن الجنس البشري: «لقد اجتمَعَت القوى الاجتماعية من جميع أنحاء العالم هنا في المُنتدى الاجتماعي العالمي المُنعقِد ببورتو أليجري: اتحادات ومنظَّمات غير حكومية، حركات وتنظيمات، مُفكِّرون وفنانون، نساء ورجال، مزارعون وعمال، عاطِلون، ومهنيُّون، وطلاب، سود وشعوب أصلية؛ أتوا جميعًا من الجنوب والشمال» (مقتبس من الوثيقة التحضيرية للمنتدى الاجتماعي الأول في بورتو أليجري، يناير ٢٠٠١؛ مذكور في أندريتا ٢٠٠٣).
إن شدة الحكم الأخلاقي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعتقدات المتعلِّقة بالأفعال أو الظروف التي تسبَّبت في معاناة الناس من محنة أو خسارة غير مبرَّرة. والبُعد الحاسم هنا هو مدى تجريدية الهدف؛ فحين ننظر إلى قوًى لا شخصية ومجرَّدة باعتبارها الطرف المسئول عن معاناتنا، نعتاد أن نتقبَّل ما لا سبيل إلى تغييره ونتعلَّم أن نستفيد منه أقصى استفادة. لكن على النقيض، لو عزا المرء معاناته غير المبررة إلى أفعالٍ مؤذية أو أنانية من قِبَل مجموعات يمكن تحديدها بوضوح، سوف يتبلوَر المكون العاطفي للإطار التصوُّري للظلم على نحوٍ شبه مؤكد.
عودةً إلى وثائق بورتو أليجري، حيث نجد إسنادًا جليًّا للمسئولية: «إن العولمة الليبرالية الجديدة، التي تُروِّج لها وتدعمها وتدافع عنها طائفة من المنظمات الحكومية الدولية (منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وحلف الناتو، وغيرها)، وقوةٌ عظمى مهيمنة (الولايات المتحدة الأمريكية)، والمجموعات الاجتماعية المسيطرة (الشركات المتعددة الجنسيات) … وفقًا لما نصَّت عليه وثيقة المنتدى الاجتماعي العالمي الأول، فإن المظالم المنسوبة إلى العولمة الليبرالية الجديدة كثيرة؛ «بدايةً من استغلال العمالة في ظل ضعف الحقوق النقابية وانتهاءً بالفقر والتمييز على أساس النوع الجنساني والعنصري والعرقي، ومن الأمراض البيئية إلى انعدام حقوق المهاجِرين، وهكذا»» (مقتبس في أندريتا ٢٠٠٣).
تُمثِّل الحركات الحديثة العابرة للحدود والقوميات مثالًا جيدًا للطبيعة الانتقائية التي تتَّسم بها الأُطر التفسيرية؛ فقد تبنَّت هذه الحركات في أغلبها إطارًا اختزل سلسلة من الظواهر الاجتماعية المُتباينة إلى فكرةٍ واحدة مهيمنة، ألا وهي العولمة الليبرالية الجديدة، ومن ثمَّ فإن الظواهر التي ربما نُظِر إليها ابتداءً باعتبارها مختلفة قد أُدمِجت جميعًا في الإطار التفسيري ذاته. لعل أُطرًا أخرى قد استُحدِثت؛ فلو أن التوتُّرات بين الشمال والجنوب، مثلًا، قد مُثِّلت عبر إطارٍ مناهض للرأسمالية فقط، لما تحقَّقت التحالفات مع قطاعات الطبقة الوسطى المعتدلة المعنية بالمسائل الأخلاقية، بتلك السهولة. يُقدِّم كل واحد من الأطر الموجزة فيما سبق تفسيراتٍ محدَّدة، جميعها وجيهة ومقبولة، بيد أن أيًّا منها لم يكن ليُحقِّق نجاحًا باهرًا.
في المقابل، سعى معارضو الحركات المناهضة للعولمة إلى إنكار وجود ما يُسمَّى ﺑ «مسألة العولمة»، وذلك من خلال التأكيد على التَّبِعات الإيجابية لتحرير الأسواق، على سبيل المثال: قد سلَّطوا الضوء على ما تحقَّق من نمو في إجمالي الدخل والرفاه في البلدان النامية، والإحصائيات المدلِّلة على ازدياد الحصة السوقية في البلدان النامية عن ذي قبل، وارتفاع الأفراد فوق خط الفقر، وتَنامي طبقةٍ وسطى موسرة، إضافة إلى إنكار المسألة، فقد حاوَلوا أيضًا إلقاء المسئولية في الاتجاه المضاد؛ فالحرمان الاقتصادي إنما هو نتاج الحكومات الوطنية الفاسدة التي ستَبقى سياساتها كارثية ما دام أنها لا تخضع للرقابة الدقيقة من المؤسسات الدولية، كمنظمة التجارة العالمية أو صندوق النقد الدولي؛ فضلًا عن ذلك، يرى هؤلاء المعارِضون أن من يَحتجُّون ضد العولمة إنما يُقدِّمون العون في الحقيقة للقوى المؤسسية القوية في الشمال (التي تُمثِّلها الشركات التجارية والنقابات على السواء) وذلك بدعوتهم إلى فرض إجراءاتٍ حمائية من شأنها أن تحرم البلدان الفقيرة من فرصة التنافُس في السوق العالمية، وهو اتهام نجح الناشطون المناهِضون للعولمة في دحضه (انظر أيضًا هيدو ١٩٩٩، أينفونر ٢٠٠٢، للاطلاع على المزيد من أمثلة التأطير المضاد الذي يمارسه معارضو الحركة المناهضة للعولمة).
إن تعيين المشكلات الاجتماعية والمسئولين عنها هو عمليةٌ شديدة الانتقائية لا محالة؛ فالتركيز على مشكلةٍ واحدة بعينها يؤدِّي إلى إغفال مصادر أخرى محتملة للاحتجاج أو التعبئة لمجرَّد أنها لا تبدو متسقة مع التفسير المعتمد للواقع. ففي المجتمعات الغربية، مثلًا، سببت الهيمنة الطويلة لتمثُّلات الصراع المستندة إلى البعد الوظيفي/الطبقي أو البعد القومي صعوبةً شديدة في تعيين مصادرَ أخرى للصراع، كالاختلافات الجنسانية مثلًا. إن التنمية الثقافية تضع الفاعلين في مكانة تمكنهم من اختيار مصادرَ معينةٍ من الإحباط والانتقام، من بين مجموعة متنوِّعة من المصادر الممكنة، بحيث يتوجَّب عليهم توجيه كل طاقاتهم ضدها، ناهيك عن توجيه تماهيهم العاطفي. ومن هذا المنظور، يمكن أن تُعتبَر العملية اختزالًا للتعقيد الاجتماعي، لكن في الوقت ذاته، متى تكوَّنت أُطرٌ تفسيرية راسخة، تتضاءَل إمكانية تعيين صراعات أخرى محتملة وتبرز الحاجة إلى أساليب أخرى لتمثيل الموضوع نفسه. وانطلاقًا من هذه الرؤية، فإن بناء الواقع على يد أطرافٍ فاعلة هامشية نسبيًّا تضطلع بمسئولية تعبئة الحركات يرتبط ارتباطًا وثيقًا بانعدام التكافؤ في ميزان القوى.
(ب) العنصر التنبُّئي
بالرغم من كل ما سبق، فإن عملية تفسير العالم تتخطَّى محاولة تعيين المشكلات إلى ما هو أبعد من ذلك، لتشمل أيضًا التماس الحلول، وافتراض أنماطٍ اجتماعية جديدة، وأساليب جديدةٍ لتنظيم العلاقات بين المجموعات، وصيغًا جديدة للتوافق وممارسة السلطة. وكثيرًا ما يوجد بُعدٌ يوتوبيٌّ قوي في هذا المسعى؛ ولذلك فليس بالضرورة أن يقتصر التشكُّل الرمزي لحركةٍ ما على الانتقاء على أساس ضوابط العقلانية الأداتية، والأهداف «العملية» في سياقٍ اجتماعي وثقافي مُعيَّن، بل تتيح هذه العملية أيضًا فرصًا وآفاقًا جديدة للفعل، مفسحةً المجال للتفكير في الأغراض والأهداف التي تنزع الثقافة السائدة إلى استبعادها من البداية. ومن ثمَّ فمن المُمكن تَصوُّر الحركات باعتبارها وسائط تُبَثُّ من خلالها المفاهيم والرؤى في المجتمع، ولولاها لربما بقيت هذه المفاهيم والرؤى على الهامش. ويمكن الاستدلال بما أشار إليه ميشيل فوكو (١٩٧٧) كمثال على ذلك؛ إذ لاحظ أن أفكار الأفراد تتغيَّر بمرور الزمن، بل ويتغير أيضًا ما «يُمكن» أن يَعتنقوه من أفكار أو تصورات، وهو ما ينطبق على كلٍّ من مراحل التمرد في الفعل الجمعي: بل إنه في ظل هذه الظروف، تتجلَّى فجأة فرص لم يكن من المُمكن تصوُّرها في السابق، ممهدةً الطريق أمام وقوع الفعل (ألبيروني ١٩٨٤؛ ميلوتشي ١٩٨٩، ١٩٩١).
قد توجد عناصرُ تنبُّئية شتى داخل الحركة ذاتها؛ فنُقَّاد العولمة، على سبيل المثال، يتبنَّون رؤًى مختلفةً تمامًا بشأن البدائل؛ فبعضهم يعتنق منهجًا أسماه أنهاير وآخرون (٢٠٠١) «الرفضي»؛ فهم يُعربون عن رفضهم المجمل للعولمة كتجسيد للرأسمالية العالمية. غير أنَّ هذه الجبهة تتَّسم بتنوعٍ شديد بوجهٍ عام، وهو ما يتماشى مع حقيقة أن معارضي الرأسمالية تحدَّروا تاريخيًّا من أصولٍ مختلفة كل الاختلاف؛ فالتنظيمات اليسارية والحركات الاجتماعية المناهضة للرأسمالية قد تُشدِّد على الممارسات الاستغلالية التي تمارسها الأسواق الحرة العالمية، داعيةً إلى الإطاحة بالرأسمالية، أما المعارضون القوميون، فربما يؤسسون معارضتهم للرأسمالية على أسبابٍ مختلفة بالكلية؛ إذ يؤكدون على التهديد الذي تواجهه السيادة الوطنية من قبل القوى العابرة للحدود والقوميات، ومِن ثم يُطالبون بفرض سياساتٍ اقتصاديةٍ حمائية وقيودٍ أشدَّ صرامة على تداول السلع وانتقال الأشخاص. إذا ألقَينا نظرة على معارضة الأصوليين الدينيين، فسنجد أنهم قد يستهدفون في المقام الأول انتشار الرؤى العالمية وأنماط الحياة ذات النزعة الفردية والتي تَطغى عليها الثقافة الأمريكية، وما يترتب عليها من تهديدات للهوية والقيم الأخلاقية لفئاتٍ سكانيةٍ محددة. وأيًّا كانت الأصول التي تنبثق منها أصوات النقد، فإن التدخل السياسي في الساحة العالمية، سواءٌ من القوى العسكرية العظمى أو من الأمم المتحدة، لهو أمر يستوجب الإدانة باعتباره تدخلًا إمبرياليًّا في الشئون المحلية.
ثَمَّة موقفٌ نقديٌّ آخر صادر عمن أسماهم أنهاير وآخرون (٢٠٠١) «البدائل»؛ إن كثيرًا من المجموعات الشعبية، وشبكات الثقافة المضادة، والمجموعات الباحثة عن بدائلَ ممكنةٍ للمُمارسات الاقتصادية وأنماط الحياة السائدة لا تهدف إلى تقويض الرأسمالية بقَدر ما تهدف إلى التمكُّن من «الانسحاب» منها؛ أي بعبارةٍ أخرى يسعى هذا الموقف النقدي إلى تشجيع التجارب في ميدان التنمية الاقتصادية المحلية المُستدامة، والمشروعات العاملة في مجال الزراعة المستدامة الخالية من المواد المعدَّلة وراثيًّا، وكذلك تلك العاملة في التجارة البديلة ذات المسئولية الاجتماعية. وهكذا نُلاحظ أن العنصر السياسي، من هذا المنظور، يشغل مساحةً هامشية نسبيًّا مقارنةً بالمواقف النقدية الأخرى. قد يكون التدخُّل السياسي في الصراعات الجارية حول العالم مُجديًا ما كانت خاضعة لرقابة منظمات المجتمع المدني، وتَعتمد حصرًا على الوسائل السِّلمية؛ ألقِ نظرة مثلًا على التحركات السلمية ومبادرات حل الصراعات في بؤر النزاع كما كان الحال في إسرائيل أو البلقان خلال تسعينيات القرن الماضي.
لكن ثمة موقفٌ آخر تجاه العولمة يشهد انتشارًا واسعًا، وهو الموقف الذي يضم منظماتٍ دوليةً غير حكومية، ومُمثلين لمؤسسات دولية، وحكومات، بالإضافة إلى كثير من الحركات الاجتماعية، ويُمكن توصيفه بأنه موقفٌ «إصلاحي» (أنهاير وآخرون ٢٠٠١). بالرغم من النظرة الإيجابية إلى الزيادة المُتنامية في تنقُّل الأفراد وتداول السلع والمعلومات عبر الحدود الإقليمية والقومية، فإن ما يقع تحت مقصلة الانتقاد — بل والانتقاد الشرس — هو الشكل الذي تتخذه مثل هذه العمليات حتى وقتنا الراهن؛ ولذلك يلزم تطبيق مجموعة متكاملة من الإجراءات لتقليص نفوذ المؤسسات التجارية والمالية العابرة للحدود والقوميات، وتوسيع الدور الذي تلعبه المؤسسات الاقتصادية والسياسية في تنظيم تدفُّق التبادلات. كذلك سيكون من الملائم وضع إجراءات فعَّالة لمعالجة مظاهر الظلم وانعدام المساواة في المجتمع. ربما يَقبل هؤلاء المُعارضون مشاركةً سياسية أكثر فاعلية من المؤسسات الدولية ما دامت تهدف صراحةً إلى تعزيز حقوق الإنسان وحماية المجتمعات المدنية المحلية في البلدان غير الديمقراطية، لا حماية الدول الغربية والمصالح التجارية الخاصة.
يُمكننا إيجاز ما سبق بالقول إنَّ الحركات المناهضة للعولمة لا يُمكن اعتبارها مجرد حركاتٍ رافضة للرأسمالية، وهي النَّظرة التي تُصوِّرها في أعين الناظرين كحركات «بالية»؛ كما أنها ليست قائمة على الإيثار المحض بالمعنى التقليدي (وهي فكرةٌ بالية أيضًا)؛ بل إنها حتى ليسَت قوًى رجعيةً صِرْفة (وهو توجُّه عفَّى عليه الزمن). إن محاولة إيجاد أساليبَ جديدةٍ لتعريف هذا العالم، والتي تتلخَّص في شعار «من المُمكن بناء عالمٍ آخر» لا تَتجاوز كثيرًا المسعى الرامي إلى تحديد هدفٍ أسمى يسهل على أي شخص أن يُميِّزه. ولا يزال النقاش مفتوحًا بشأن ما إذا كان من الأفضل النظر إلى الحركة المناهضة للعولَمة باعتبارها حركةً ذات أُطرٍ متعددة فضفاضة لا إطارٍ أوحد مُهيمن (وهي سمةٌ ينسبها البعض، مثل ويستبي ٢٠٠٢، إلى أغلب الحركات على أيِّ حال)، أم أن بإمكاننا، رغم كل ما سبق، أن نُميِّز بعض الأفكار الجوهرية المُتجانسة نسبيًّا، كما يشير البعض الآخر (مثل أندريتا ٢٠٠٣).
(ج) العنصر التحفيزي
بالانتقال إلى مستوًى آخر، سنلاحظ أن التشكُّل الرمزي هو خطوةٌ ضرورية لإنتاج الدوافع والمحفِّزات اللازمة لاتِّخاذ الفعل؛ إذ لا يمكن للفاعلين التغلُّب على النتائج والتكاليف المَجهولة المرتبطة بالفعل الجَمعي اللهم إلا إذا اقتَنعوا (بالحدس قبل العقلانية) بوجود فرصةٍ سانحة للتعبئة وإمكانية تنفيذ الفعل وشرعيته؛ ولذلك من المُهم ألا تقتصر الأُطر على تناول المُستوى الخاص بالمجموعات الاجتماعية والفاعلين الجمعيِّين، بل ينبغي أيضًا أن تربط الصعيد الفردي بالخبرة الجمعية. من اللازم كذلك أن تعمد هذه الأُطر إلى تعميم مشكلات أو خلافاتٍ معينة، بحيث تُظهر الصلات التي تربطها بوقائع أخرى أو ظروف المجموعات الاجتماعية الأخرى، كما يجب أن تُدلِّل على ارتباط مشكلةٍ معيَّنة بالتجارب الحياتية الفردية (بينفورد وسنو ٢٠٠٠: ٦١٩؛ ويليامز ٢٠٠٤: ١٠٥). ومن ثم، يَجب على الأطر التفسيرية، إلى جانب التقييم النقدي للتمثُّلات السائدة للنظام والأنماط الاجتماعية، العمل على إنتاج تعريفات جديدة لأسس التضامُن والتماسك الجمعي، من أجل تغيير هوية الفاعلين بطريقة تصبُّ في مصلحة الفعل. وقد نجح جامسون (١٩٩٢ب) في تجسيد هذه التعدُّدية في الأبعاد حين ميز ثلاثة مكوِّناتٍ محورية للبناء الجمعي لمصطلحات: الظلم، والفعل، وأُطُر الهوية. ونظرًا لارتباط التأطير التحفيزي ارتباطًا وثيقًا ببناء الهوية، فسوف نتناول هذه النقطة بمزيد من الاستفاضة في الفصل التالي، وذلك في معرض حديثنا عن دور الهوية.
(د) الأُطر الرئيسية
يُفترض الآن أن يصير إدراك الفوارق بين الأطر والأيديولوجية أيسر بعد استعراضنا للأبعاد الثلاثة؛ إذ يُعدُّ التأطير منتَجًا ثقافيًّا أكثر مرونةً من الأيديولوجية، كما أنه أعم منها وأكثر تحديدًا في الوقت نفسه؛ فهو لا يتطلب مجموعة متماسكة من المبادئ والافتراضات المتكاملة، بل يقدم، في المقابل، مفتاحًا لتفسير هذا العالم. تنبثق الأطر، في كثير من الحالات، من أيديولوجيات؛ فحين يَستشهد، مثلًا، عمال الطبقة الكادحة الذين يعانون من تدهور الظروف المعيشية الحضرية بالأيديولوجية الماركسية للإشارة إلى أن الأزمة البيئية الحضرية، يُمكن أن نَعتبر هذا الموقف نتاجًا لانتشار آليات الاستغلال الرأسمالي الذي تُمارسه المصانع وسوق العمالة تجاه المجتمع المحيط بها، لكن في حالاتٍ أخرى، يُمكن أن تؤثِّر الأُطر في الأيديولوجيات؛ فعلى سبيل المثال، في مطلع القرن التاسع عشر، لم تَقتصِر التمثُّلات العامة للآلات الصناعية وظروف العمل كمظاهر للشر في المجتمعات على منظِّمي الطبقة العاملة، بل تقاسمها أيضًا فاعلون يتبنَّون رؤًى وأهدافًا مختلفة تمامًا، مثل المؤسسات الخيرية أو الكنائس، لكنها قدَّمت لناشطي الطبقة العاملة طائفة من الصور والرموز التي أمكنهم استخدامها في بلورة أيديولوجياتٍ سياسية أفصح تعبيرًا.
عرَّفت الحركات الاجتماعية التي ظهرت في إيطاليا في مطلَع السبعينيات الصراع من زاوية النزاع الطبقي، وفي تلك الحقبة كثيرًا ما كانت تُفَسَّر شتى أنواع الصراعات وتُصنَّف في ضوء النموذج الماركسي؛ فكان يُنظَر إلى الحركة النسائية في بادئ الأمر من منظور التحرُّر وانتزاع فرصٍ متساوية لا من منظور التأكيد على الفروق الجنسانية. على النحو ذاته، كثيرًا ما ربطت تمثُّلات الحركات الشبابية فِعلها الجمعي بمكانتها الاجتماعية ووضعها الهش، على صعيدٍ سياسيٍّ أوضح، نجد أن التحوُّل السريع في الحركة الطلابية إلى مجموعاتٍ محدودة نُظِّمت بحيث تشبه — أو تسخر من — الحزب اللينيني؛ يمكن أن يعدَّ أيضًا دليلًا على الهيمنة الثقافية للماركسية. إن نماذج الثقافة المضادة والأطروحات السياسية كتلك التي تبنَّاها أعضاء حركة حماية البيئة، والتي لا يَجمعها بالتمثُّلات ذات الطبيعة الطبقية إلا القليل المشترك، لم تُمنَح إلا حيزًا ضئيلًا في عملية تكوُّن الحركات، بالرغم من أنها كانت موجودة أيضًا (لاملي ١٩٩٠)، ولم تسنح الفرصة لتأطير الفعل الجمعي في إطار نماذج ثقافيةٍ مختلفة كحركة حماية البيئة إلا بعد التراجع الحادِّ في أهمية الانقسامات السائدة خلال عقد الثمانينيات (دياني ١٩٩٥أ). على المنوال ذاته، يظهر تحليل نونان (١٩٩٥) لاحتشادات النساء التشيليات أن نشاطهن خلال السنوات السابقة على عهد بينوشيه قد صيغ إلى حدٍّ كبير في إطار الأمومة، نتيجةً لمزيج من التأطير الماركسي المكثَّف الذي اتسمت به الحركاتُ الاجتماعية إلى جانب المشاعر المحافظة المعادية للنسوية. ولم يُتَح المجال لأطرٍ نسويةٍ جديدة كي تعاود الظهور إلا حينما نجح إطار «عودة الديمقراطية»، الذي يتَّسم بقدرٍ أقل من الصراع الطبقي، في توطيد دعائمه في قطاع الحركات الاجتماعية خلال حقبة الثمانينيات.
يرى بعض المُراقبين أن حركة المعارضة للعولمة الليبرالية الحديثة لعبت، في الآونة الأخيرة، دور الإطار الرئيسي (أندريتا ٢٠٠٣). إنَّ فكرة تصاعد الاعتماد المتبادل داخل الحياة الاقتصادية وما يتبعه من تقلص القيود المفروضة على تداول رأس المال من شأنه أن يهدِّد الظروف المعيشية للأغلبية العظمى من سكان العالم إنما هي فكرة أسهمت في توحيد فلاحي الجنوب المتضررين من هيمنة المؤسسات التجارية الزراعية المتعددة الجنسيات وانتشار الكائنات المعدَّلة وراثيًّا، مع نقابيي الشمال ممن يرون أن إلغاء القيود على المستوى العالمي وما يتبعه من تراجع في عائدات الضرائب على الشركات يُعَدُّ ضربةً ساحقةً لدولة الرفاه الحديثة. لقد برَزَت إلى السطح طائفة من المخاوف أرست قاعدةً مشتركة جمعت بين ناشطي الحركات التحرُّرية الراديكالية في الغرب والمؤسسات الخيرية العاملة في البلدان النامية، وهي تلك المَخاوف المُتعلِّقة بالقيود المفروضة على حرية انتقال الأفراد، في تناقضٍ صارخٍ مع حرية تداول السلع والأصول المالية، والأرباح التي كثيرًا ما تُدرُّها العولمة على الأنظمة السُّلطوية الفاسدة في البلدان الجنوبية (تيلي ٢٠٠٤أ: الفصل الخامس)، وما نشهده من تجاهلٍ متصاعد لحقوق الإنسان حتى في الديمقراطيات الغربية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. بالمثل، اتَّحد المدافعون الغربيون عن البيئة والائتلافات العريضة المناهضة لتدمير البيئة والاستغلال الاجتماعي في البلدان النامية على أرضيةٍ مُشتركة أوجدها تجاهل قضية المحافظة على البيئة من قِبل الفاعلين أنفسهم الذين يقودون حركة النمو الاقتصادي في البلدان النامية على أسسٍ سلطوية، غاضِّين الطرف عن حقوق العمال، بالإضافة إلى العداء الصريح الذي تبديه الحكومات اليمينية الغربية، وأبرزها إدارة بوش في الولايات المتحدة الأمريكية، حيال المعايير البيئية (روثمان وأوليفر ١٩٩٩؛ دويل ٢٠٠٢). لا شك أنه من السابق لأوانه الجزم بما إذا كانت قدرة الإطار العامة على ربط هذه الطائفة الكبيرة من التجارب المُختلفة تقابلها قدرةٌ مماثلة على صياغة القضايا والخطط والتعبير عنها في السياقات المحلية (تارو ٢٠٠٥)، لكن يبدو أن الحركة المناهضة للعولَمة الليبرالية الجديدة تُمثِّل رمزًا موحِّدًا فعَّالًا بالنسبة إلى كثير من الفاعلين البالغي الاختلاف حول العالم.
(٢-٣) الأنشطة التفسيرية: ربط القيم بالأُطر
تنبثق الأُطر الناجحة عبر طائفةٍ متنوعة من أساليب الإنتاج الثقافي وأنماطه حتى إنه لن يكون من المنطقي أن نُحاول عرضها في هذا السياق عرضًا منهجيًّا. لكن بعبارة بسيطة للغاية، بل ولعلها مُفرِطة في البساطة، يُمكننا القول إن الشرط الأساسي المسبق لكي تحرز الأُطر نجاحًا هو أن تجري عمليات «تقريب الأطر» بين ناشطي الحركات والجماهير الذين يستهدفون تعبئتها أو حشدها؛ أي أن المهم هو وجود «رابطة بين التوجهات التفسيرية الفردية والتوجُّهات التفسيرية الخاصة بتنظيمات الحركات الاجتماعية، بحيث يتحقَّق توافقٌ وتكامل بين طائفة ما من المصالح والقيم والمعتقدات الفردية وأنشطة التنظيمات وأهدافها وأيديولوجيتها» (سنو وآخرون ١٩٨٦: ٤٦٤؛ انظر أيضًا جامسون ١٩٨٨؛ جامسون وموديجلياني ١٩٨٩). ومن ثم يُصبح الفعل الجمعي ممكنًا حين تندمج الرسائل التعبوية مع إحدى المكوِّنات الثقافية الخاصة بالجمهور الموجهة إليه تلك الرسائل.
من الأشكال الرئيسية لتقريب الأطر ذلك الذي أسماه سنو وزملاؤه «جَسْر الأطر»، والذي يتحقَّق حين تجمع التمثُّلات الصادرة عن منظمي الحركات بين تفسيراتٍ للواقع أنتجتها قطاعات من الرأي العام، ولولا ذلك لبقيَت بمعزل بعضها عن بعض. يمكن أن يتحقق جسر الأُطر على مختلف الأصعدة؛ فعلى سبيل المثال، ليس بالضرورة أن تتخذ الانتقادات الموجَّهة إلى تجاوُزات العولمة الليبرالية الجديدة شكلًا معاديًا للرأسمالية أو الإمبريالية، كذلك قد يتبناها فاعلون لا يعارضون العولمة في ذاتها، وإنما يعارضون عدم إخضاع الأطراف الفاعلة الاقتصادية العالمية للتنظيم والرقابة ويعارضون تداعيات العولمة على الديمقراطية (وهم من يشير إليهم أنهاير وآخرون بالإصلاحيِّين [٢٠٠١]). من النماذج الدالة على هذا النمط ما تقدمه لنا الكاتبة وخبيرة الأعمال والإدارة نورينا هرتز في كتابها الأكثر مبيعًا «السيطرة الصامتة» (٢٠٠١). إن إقرار الكتاب بأن الأنشطة التجارية سلاح ذو حدَّين ومركز كاتبته كمُستشارةٍ أكاديمية وتجارية عاملان يُمكِن أن يَجعلا الكتاب مفهومًا وواضحًا للقطاعات الناقدة من مجتمع الأعمال التجارية وكذلك من مُنتقدي العولمة المنتمين إلى اليسار (رغم أن بعضًا من الفئة الأخيرة ربما يُعدُّون شخصياتٍ مثل هرتز خصومًا لا رفقاء دعوة). على صعيدٍ مختلف، يمكن أن نجد نماذج عدة لجسر الأُطر في وثائق أصدرتها منظماتٌ عاملة في حركة العدالة العالَمية؛ فالمنظمة العالمية للنقابات العمالية مثلًا، وهي شبكة من النقابات تضم أيضًا النقابات العمالية الأوروبية، تربط العدالة الاجتماعية بالعدالة البيئية على النحو التالي: «يتعيَّن على المؤسسات الدولية المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة لجميع البلدان، مع الحرص على ممارسة التجارة واستغلال الموارد الطبيعية في إطار سياسات التنمية المستدامة التي تحترم البيئة، في البلدان المنتجة والمستهلكة على السواء» (مقتبس في أندريتا ٢٠٠٣).
إنَّ لتقريب الأُطر شكلًا آخر مهمًّا وهو ما أطلق عليه سنو وآخرون (١٩٨٦) التوسع الإطاري، وهي عملية تُتيح ربط الاهتمامات المحددة لحركة أو تنظيمٍ ما بأهدافٍ أعمَّ في سياقات ربما لا تتَّضح فيها هذه الأهداف على الإطلاق. لنلقِ نظرةً مثلًا على شبكة «أتاك» (جمعية فرض الضرائب على المعاملات المالية وتقديم المساعدة للمواطنين)، وهي شبكة نشأت أصلًا في فرنسا مُستلهمةً أفكارها من إسهامات مُفكِّرين يَساريِّين مثل إجناسيو رامونيت (أنسلوفيتشي ٢٠٠٢). بالنظر إلى هدف الجمعية الأصلي والأساسي المتمثِّل في فرض ضريبة على المعاملات المالية (ضريبة توبين، التي تَحمل اسم من طرح فكرتها، عالم الاقتصاد جيمس توبين)، قد يكون مِن السهل اعتبارها تنظيمًا معنيًّا بقضيةٍ واحدة يعمل في نطاقٍ محدود نسبيًّا؛ ولذلك فإن للتوسع الإطاري أهميةً قصوى بالنسبة إلى أتاك أو التنظيمات المشابهة؛ إذ ينتج عنه رسائل مُعبِّرة عن الرابطة بين العولمة المالية وما تُفرزه من طائفةٍ واسعة من المشكلات: «إن العولمة المالية تُفاقِم من انعدام الأمن الاقتصادي ومظاهر عدم المساواة الاجتماعية، كما تتخطَّى عملية صنع القرار الشعبي، والمؤسسات الديمقراطية، والدول ذات السيادة المسئولة عن المصلحة العامة وتُقوِّضها؛ إذ تعمد العولمة المالية إلى استبدال تلك الكيانات بمنطقٍ قائم على المضاربة المحضة لا ينطق إلا باسم مصالح الشركات المتعددة الجنسيات والأسواق المالية. إن ما تُحصِّله غالبًا الدول الصناعية حيث تقع الأسواق المالية الرئيسية [من أموالٍ مصدرها ضريبة توبين] يُمكن أن يوجَّه إلى المساهمة في مكافحة مظاهر انعدام المساواة، ودعم التعليم والصحة العامة في البلدان الفقيرة، وتحقيق الأمن الغذائي والتنمية المستدامة» (مقتبس في أندريتا ٢٠٠٣).
ثانيًا: تُعوِّل الحركات الناشئة على تراثها التقليدي الخاص فضلًا عن تراث حركات المعارضة الأوسع في بلدٍ ما، لكنَّها تعرض هذه الموروثات من منظورٍ جديد. على سبيل المثال، كثيرًا ما نجحت الحركات القومية العرقية الغربية خلال عقدَي الستينيات والسبعينيات في ربط الموضوعات التقليدية المميزة للقومية الهامشية؛ كالإقليم أو اللغة، والتي كان يُنظر إليها سابقًا باعتبارها قضية محافظة بالدرجة الأولى، بالرؤى الراديكالية المعادية للمؤسسة الحاكمة التي تميز الثقافات الشبابية المضادة أو حركات النضال ضد الهيمنة العسكرية والطاقة النووية الذي شهدته تلك الفترة. لقد قدَّمت الأصوات الناقدة لتشويه النمو الرأسمالي قاعدةً مشتركة استندت إليها الاعتراضات الموجَّهة إلى التبعية الاقتصادية «للمُستعمرات الداخلية» وتيار التضامن مع الحركات المعادية للاستعمار في بلدان العالم الثالث (تورين ودوبيه وهيجيدوش وفيفيوركا ١٩٨١؛ تورين ودوبيه وفيفيوركا وشترالتسكي ١٩٨٣؛ بير ١٩٨٠؛ ميلوتشي ودياني ١٩٩٢؛ كونر ١٩٩٤). بالمثل، عوَّل ناشطو الحركات المناهضة للعولمة على كثير من تقاليد الفعل الجمعي الحديثة المختلفة، مثل الدفاع عن البيئة والعدالة الاجتماعية والأممية، ونجحوا بطريقةٍ ما في دمجها أو على الأقل في تعيين بعض الموضوعات المشتركة التي بدت معقولة بما يكفي لتحفيز الجمهور على الفعل.
كثيرًا ما تَتشكَّل أُطر الحركات الاجتماعية في سياق عناصر تمثل جزءًا من الثقافة المؤسسية الخاصة بشعبٍ ما، وللدِّين دَور حيوي للغاية في هذا السياق؛ فدور الدين كمصدر للرموز والهوية لا مجال للاستهانة به مطلقًا حتى في الديمقراطيات الصناعية المتقدمة (بلات وويليامز ٢٠٠٢؛ يانج ٢٠٠٢؛ ويليامز ١٩٩٩ و٢٠٠٢؛ إنجلهارت ونوريس ٢٠٠٥). وقد لخَّص ريس ويليامز (٢٠٠٤: ١٠٧-١٠٨) مؤخرًا أسباب أداء الدين لهذا الدَّور المحوري في الولايات المتحدة الأمريكية كالآتي: التحدي المُتأصِّل الذي يمكن أن يجده المرء في أي رسالةٍ دينية بصرفِ النظر عن محتواها، وإحجام الإنسان عن قبول العالم كما هو؛ توافر الرموز واللغة الدينية لطائفةٍ واسعةٍ جدًّا من المجموعات الاجتماعية، من أعظمها احترامًا ورسوخًا وحتى أشدها حرمانًا وتجاهلًا؛ قدرة معظم الأديان — باستثناءٍ مُحتمَل لأشدِّها طائفية — على أن تخاطب أغلبية الجمهور وأن تبدو وجيهة حتى بالنسبة إلى غير المتدينين أنفسهم (تأمل موقف بابا الفاتيكان في المبادرات المناهضة لغزو العراق).
لقد أعربت شبكة «كنائس العالم»، مثلًا، عن معارضتها للعولمة الليبرالية الجديدة بالكلمات التالية: «نحن جزء من الرفقة المسكونية الرسولية الناظرة بعين النقد إلى العولمة. ونظرًا للاستدلال بإشارات من الكتاب المقدس، ضمن مراجع أخرى، لتسويغ العولمة، فإن مهمَّتنا هي التصدي لهذا المسعى في ضوء قراءتنا للكتاب المقدس» (مقتبس في أندريتا ٢٠٠٣). كذلك استُعمِلت التجمعات الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية كبيئةٍ تُرسَل من خلالها رسائل إلى جماهير ليسوا مؤهَّلين بوجهٍ خاص لتلقِّي الرسائل السياسية الصريحة، وهذا ما فعلته المجموعات الدينية المدافعة عن حقوق الإنسان في أمريكا الوسطى على سبيل المثال؛ إذ استعانت بالتجمعات الدينية لبث الحنق والاستياء حيال حوادث قتْل شخصياتٍ دينيةٍ مرموقة مثل المطران روميرو في السلفادور (وود ٢٠٠٣؛ نيبستاد ٢٠٠١، ٢٠٠٤).
نموذج آخر شهير هو ذلك الذي يُمثله مارتن لوثر كينج، خلافًا لغيره من قادة حركة الحقوق المدنية للأمريكيِّين من أصولٍ أفريقية خلال ستينيات القرن الماضي، كان كينج حريصًا في خُطبه على عدم إبراز الفروق بين السود والبيض. بل كان يَميل في الواقع إلى تحاشي فكرة «الهويات المتنازعة»، وكان يستعين، بدلًا من ذلك، بإشارات إلى موضوعاتٍ وقيم مُرتبطة بموروث النخب الأمريكية من البيض خلال تلك الحقبة؛ كالعلاقة بين الحرية الفردية والإحساس بالمسئولية تجاه المجتمع (ماكادم ١٩٩٤: ٣٨)، وتلك القيم ذاتها، لا القيم العدائية، هي التي منحَتْه قاعدة انطلق منها في حجاجه بشأن الشرعية الكاملة للمطالب التي تدعو إليها حركة الحقوق المدنية (ماكادم ١٩٩٤؛ آيرمان وجاميسون ١٩٩١: ١٦٦–١٧٤).
إنَّ هذه الأمثلة لإعادة التشكيل الرمزي تُذكِّرنا، بطرقٍ مختلفة، بأن الفعل الجمعي هو معالجة خلَّاقة للرموز الجديدة وإعادة تأكيد على التقاليد على حدٍّ سواء. إن ثوران موجةٍ جديدة من التعبئة لا يُمثِّل، في الواقع، مجرد إشارةٍ دالة على التجديد والتغيير فيما يتعلَّق بالثقافة والمبادئ السائدة في حقبةٍ معينة، بل إنه تأكيد أيضًا، وإن كان بدرجاتٍ متفاوتة، على الاستمرارية الجوهرية للقيم والذكريات التاريخية التي صارت، في الآونة الأخيرة، محلَّ تجاهل أو في طي النسيان (انظر أيضًا ستاماتوف ٢٠٠٢؛ يانسن ٢٠٠٣).
إنَّ الإشارة إلى الماضي قد تكون حجر عثرة وفرصةً سانحة للفعل على حدٍّ سواء؛ فقد تُمثل عقبة من ناحية أن أساليب التفكير والمنظومات القيمية الراسخة منذ أمدٍ بعيد يُمكن أن تُقلِّص على نحوٍ ملحوظ نطاق الخيارات المتاحة للفاعلين (لوفلاند ١٩٩٥؛ جونستون وكلاندرمانس ١٩٩٥). إنَّ التماهي المفرط مع التقاليد أو، بالمثل، التباعد الزائد بين ثقافة ناشطي الحركات والمتعاطِفين معها وبقية المجتمع قد يحدُّ في حالاتٍ معينة من كفاءة إعادة التشكيل الرمزي (سويدلر ١٩٨٦)، وربما يُسبِّب، بوجهٍ خاص، صعوبةً كبيرة في إنجاز عمليات إعادة تقريب الأُطر التفسيرية، وهي عملياتٌ حيوية لضمان نجاح التعبئة. في المقابل، تُسهم قدرة الفرد على الإشارة إلى موروثه الثقافي في إتاحة الموارد المَعرفية والقيمية لتكون في متناول الفاعلين. وبناء على تلك الموارد، يُمكن إقامة مشروعاتٍ بديلة وتشكيل هويةٍ سياسيةٍ بديلة. أما في غياب الإشارات إلى تاريخ الفرد والطبيعة الخاصة لجذوره، فإن الدعوة إلى أمرٍ جديد عرضة لأن تَبدو متناقضة ومُفتقرة، في نهاية المطاف، إلى الشرعية.
(٣) مشكلات وحلول
شهدت الآونة الأخيرة أيضًا مناقشةً مستفيضة بشأن الدور الذي تلعبه الأُطر. إن التحليلات المتناولة للفعل الجمعي التي ترتكز حول مفهوم الأطر التفسيرية — تمامًا كتلك التي تُركِّز على دور الموارد التنظيمية أو الفرص السياسية — ليست بمنأًى عن التفسيرات المرتجَلة. فمن المُمكن الكشف في أيِّ لحظة عن وجود كثرة من النماذج الثقافية داخل مجتمع مُعيَّن؛ ومن ثمَّ فإن تعيين العناصر الثقافية التي يتوافَق معها إطار الحركة التفسيري المحدَّد ليس بالمهمة العسيرة على مَن يدرسون أيِّ حركة تتمتَّع بقَدرٍ معيَّن من النجاح، وهو ما يَطرح مشكلة صياغة فرضياتٍ منهجية بشأن العلاقة بين أنشطة الإنتاج الرمزي ونجاح مساعي التعبئة التي تقوم بها تنظيمات الحركات؛ ولذلك من الضروري ربط خصائص الأنماط المختلفة لتصنيف الواقع بالطبيعة الخاصة للحركات والصراعات التي تُمثِّلها، لكن من اللازم، كخطوةٍ أوليَّة، تعيين المعايير التصنيفية للأطر التفسيرية (انظر آيرمان وجاميسون ١٩٩١؛ دياني ١٩٩٦ للاطلاع على بعض الأمثلة).
ثار جدل أيضًا بشأن القُدرة التفسيرية التي تتمتع بها الأُطر في مقابل التفسيرات البديلة للفعل الجمعي؛ أيهما أهم لنجاح الحركات الاجتماعية: أن تَحظى بمُمثلين أكْفاء يتحدَّثون باسمها، أم أن تُمارِس أنشطتها في ظل ظروفٍ سياسيةٍ مواتية، كوجود نخبٍ سياسيةٍ منقسمة؟ على سبيل المثال، ذهب كوبمانس ودايفينداك (١٩٩٥) في دراستهما الاستقصائية للصراعات الدائرة بشأن الطاقة النووية خلال عقدَي السبعينيات والثمانينيات في العديد من البلدان الغربية، إلى أنه بالرغم من الأهمية البالغة للتواصُل، فإن ما ساعد بعض الحركات المناهضة للطاقة النووية دون غيرها على الظفر بالمعركة الخطابية في النهاية هو وجود تشكيلةٍ مواتية من الفرص. بيد أن دراسات أخرى أظهرت خلاف ذلك؛ فقد أظهر التحليل الذي أجراه كريس وسنو (٢٠٠٠) للتجارب الناجحة لخمس عشرة منظمة من المنظمات المدافعة عن حقوق المشردين في مدنٍ أمريكيةٍ مختلفة أن الأسلوب الذي أُطِّرت به قضية التشرُّد قد أثَّر فعليًّا على فرص تلك المنظمات في الحصول على الاعتراف السياسي أو المساعدات الملموسة. الأمر ذاته يصدق على دراسةٍ حديثة تناولت المنظمات المدافعة عن حق التصويت في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام ١٨٦٦ وحتى ١٩١٤ (مكامون ٢٠٠١؛ هيويت ومكامون ٢٠٠٤). عند تقييم هذه النتائج، ينبغي بالطبع أن نضع في اعتبارنا وحدات التحليل المختلفة؛ ففي حين يصعب تعيين أثر استراتيجيات التأطير عند المقارنة بين الأمم، فإن العوامل الرمزية غالبًا ما ستَحظى بأهميةٍ أكبر في دراسات أدقَّ لحالات محددة.
لم تنجُ النظرة التأطيرية للفعل الجمعي من انتقادات الباحثين الأشد اهتمامًا بالديناميكيات الثقافية، بمَن فيهم المؤيدون الأوائل لهذا المفهوم (بينفورد ١٩٩٧؛ بينفورد وسنو ٢٠٠٠؛ جودوين وجاسبر ٢٠٠٤أ؛ ميشه ٢٠٠٣). لقد عُومِلت الأُطر بالفعل، في كثير من الحالات باعتبارها بنًى معرفية جامدة؛ فوفقًا لهؤلاء النقاد، لم يُعِر الباحثون إلا اهتمامًا ضئيلًا للغاية إلى كيفية إنتاج الأطر وتطوُّرها عبر الزمن، وهو ما يَحدث عادةً في علاقة حوارية بين مختلف الفاعلين. وسعت العديد من الدراسات خلال العقد الماضي إلى تناول هذه المشكلة بالتركيز على العناصر الديناميكية في المُمارسات الحوارية. ففي دراسةٍ كبرى للصراعات الدائرة في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا بشأن الإجهاض، أبرز كلٌّ من فيري وجامسون وجيرهاردز وروشت (٢٠٠٢) الطبيعة الخلافية والمجالات المتعدِّدة المتضمَّنة في العمليات التي تَصير من خلالها قضايا الإجهاض موضوع الخطابات العامة المتعارضة. كذلك عمد شتاينبرج (١٩٩٩) إلى توثيق التحوُّلات الحاصلة في الأنماط البلاغية التي تبناها العاملون في صناعة غزل القطن في إنجلترا خلال القرن التاسع عشر مع تطور احتشاداتهم بمرور الوقت (انظر أيضًا إلينجسون ١٩٩٥؛ بوليتا ٢٠٠٢؛ مكافري وكيز ٢٠٠٠). أما ميشه (٢٠٠٣)، فقد ذهبَت إلى ما هو أبعد من ذلك، فأوضحت دور الآليات الخطابية والتحاورية ليس فقط في خلق تمثُّلاتٍ جديدة للتجربة، بل أيضًا في تشكيل علاقات بين الفاعلين الاجتماعيين (انظر أيضًا سومرز ١٩٩٢). وقد أَولى أبرز أنصار المنهج الإطاري تركيزًا أكبر للمُمارسات التأطيرية والعمليات التي تتحوَّل من خلالها الأُطر، وليس الأطر في ذاتها (سنو ٢٠٠٤: ٣٩٣–٣٩٦؛ انظر أيضًا كادينا-روا ٢٠٠٢).
فضلًا عن ذلك، استَرعى الدور الديناميكي للإنتاج الثقافي اهتمام عدد من الباحثين المُنتمين إلى خلفيةٍ مختلفة عن علم الاجتماع الثقافي، ممَّن هم أقرب إلى المنظور القيمي للثقافة من المنظور الإطاري. ففي دراسته الواسعة للتغيير الثقافي التي غلب عليها ورود إشاراتٍ كثيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإن لم تَقتصِر عليها، شدَّد روتشن (١٩٩٨) على عناصره الديناميكية الموجَّهة نحو العمليات. إن التغيير القيمي هو نزاعٌ نقدي يضم عدة فاعلين، وليس مجرَّد نتاجٍ لتحولاتٍ بِنيوية كُلِّية (كارتفاع مستويات التعليم أو الترف) تؤثِّر على تصورات الأفراد لوضعهم ومشروعاتهم الحياتية، وهي الرؤية التي كان يتبناها إنجلهارت. وتلعب المجتمعات النقدية دورًا جوهريًّا في ترسيخ القيم النقدية؛ فمِن تلك المجتمعات — التي قد تضمُّ بين الحين والآخر ناشطين وفنَّانين ومُفكِّرين ومن على شاكلتهم — تنبثق الحركات الاجتماعية كعواملَ رئيسيةٍ للتغيير الثقافي (انظر أيضًا ميلوتشي ١٩٨٩، ١٩٩٦؛ روب وتايلور ٢٠٠٣؛ ويليامز ٢٠٠٤: ٩٩).
من القضايا الأخرى ذات الصلة بنقاشنا ما إذا كان يَنبغي التعامل مع الأطر — ولا سيما المهارات التأطيرية — كنوعٍ مُحدَّد من الموارد خاضع للاستعمال الاستراتيجي من قبل البارعين من روَّاد الأعمال المُنخرطين في عالم السياسة، وهي رؤية تطرحها بالفعل فقرات عديدة واردة في الصياغات الأولى للمنظور التأطيري (سنو وآخرون ١٩٨٦؛ جامسون ١٩٩٠، ١٩٩٢أ). تعرض هذا الموقف لانتقادات، كان أشدها تلك التي وجهها المنظِّرون الذين أعادوا مؤخرًا دراسة العواطف إلى مكانها في تحليل الحركات الاجتماعية. يرى هؤلاء المُنظِّرون أن التفسيرات الثقافية المؤدية إلى الفعل الجمعي لا تنشأ من العمليات المعرفية والتأطير الاستراتيجي بقدر ما تنشأ من العمليات الجمعية ذات البُعد العاطفي القوي. إن ما يحرك الجماهير في الغالب هو المواجهة الصريحة مع الغضب والظلم، أو تجربة التضامن الجمعي المباشرة، لا التلاعب البارع من قبل رواد الأعمال المنخرطين في السياسة (جودوين وجاسبر وبوليتا ٢٠٠١ و٢٠٠٤؛ على سبيل الإيضاح انظر: باركر ٢٠٠١؛ بريزين ٢٠٠١).
(٤) خلاصة القول
ثمَّة طريقتان على الأقل لدراسة العلاقة بين الفعل الجمعي والثقافة؛ الطريقة الأولى تُشدِّد في المقام الأول على دور القيم، ومن ثمَّ تَعتبر الفعل نابعًا من تماهي الفاعلين الاجتماعيين مع مجموعاتٍ معيَّنة من المبادئ والاهتمامات. وقد شدَّدت تفسيرات الحركات المستندة إلى تلك الفرضيات والتي شهدتها العقود الأخيرة، بوجهٍ خاص على التحول من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية، غير أنَّ الأهمية المُتزايدة الأحدث عهدًا للحركات الدينية الأصولية (ليس في نطاق الإسلام فقط، بل المسيحية أيضًا) قد لفتت انتباه المُحلِّلين إلى صيغةٍ أخرى مُختلفة تمامًا للعلاقة بين القيم والفعل الجمعي.
أما المنهج الثاني، والذي تناولناه في معرض حديثنا، فيُبرز في المقابل العناصر المعرفية للثقافة؛ فلا تَعتمد التعبئة، في هذا السياق، على القيم بقدر اعتمادها على كيفية إسناد الفاعلين الاجتماعيِّين الدلالات لتجاربهم؛ أي تعتمد على عمليات تفسير الواقع التي تُعرِّف المشكلات الاجتماعية بكونها «اجتماعية»، وتجعل الفعل الجمعي يبدو كاستجابةٍ ملائمة ومُمكنة لوضع يُعتَبر جائرًا. ويُسهِّل هذا الفعل «تقريب الأُطر»؛ أي التقريب بين نماذج تفسير الواقع التي يتبناها ناشطو الحركات وتلك التي يَعتنقها الجمهور الذي يعزمون على تعبئته.
تنطوي عملية الإنتاج الثقافي للحركات على علاقة تتضمن جوانب (أو على الأقل بعض الجوانب) تسهم في إخضاع تقاليد جمهورٍ معين وتُعيد إحياءها في آنٍ واحد، وهو ما يمثل عقبةً أمام الفعل وموردًا له على حد سواء. يجدر بنا أيضًا الإشارة إلى أن تفسيرات الفعل الجمعي المتمحوِرة حول مفهوم «الإطار التفسيري» كثيرًا ما تَحمل في طياتها خطر التفسيرات المرتجَلة. لكن ثمة مخرجًا من ذلك المأزق، يكمن في ربط شتَّى أنواع الأُطر التفسيرية التي يبلورها الفاعلون بتصورات معينة للفرص السياسية التي تُتيحها البيئة المحيطة. وقد تعرَّض منظور التأطير مؤخرًا لانتقاداتٍ؛ نظرًا لاعتماده المُفرِط على العناصر المعرفية على حساب العناصر العاطفية للفعل الجمعي. وسوف نرى في الفصل التالي، الذي يتناول آليات إنتاج الهوية، كيف ترتبط الأبعاد الثقافية والرمزية بالتجربة الذاتية للفرد.