أنماط الفعل وذخائره ودورات الاحتجاج
الزمان: الثلاثون من نوفمبر عام ١٩٩٩. المكان: سياتل، تلك المدينة التي أضحت، بفضل شركة مايكروسوفت، رمزًا للاقتصاد الجديد. الحدث: احتشاد ما يقرب من ٥٠٠٠٠ متظاهر احتجاجًا على مؤتمر منظمة التجارة العالمية الثالث المنعقد لإطلاق جولة الألفية، وهي سلسلةٌ جديدة من المفاوضات الرامية إلى التوسُّع في تحرير الأسواق، لا سيما سوقي الاستثمار والخدمات العامة. كان قد دُعيَ إلى الاحتجاج منذ بضعة أشهر في جنيف من قِبَل لجنة من التنظيمات المُنتمية إلى خلفياتٍ شتى ونجحت بالفعل في التعبئة للحيلولة دون توقيع الاتفاق المتعدِّد الأطراف بشأن الاستثمار. وكما هو الحال بالنسبة إلى الاتفاق المذكور آنفًا، تعرَّضت مفاوضات منظمة التجارة العالمية لانتقادات في ضوء تقييدها لقدرة فرادى الدول على التدخُّل في المسائل الاجتماعية والبيئية؛ وذلك بدعوى التجارة الحرة، وهو ما دفَع ما لا يقل عن ١٣٨٧ مجموعة (من بينها منظماتٌ غير حكومية، ونقاباتٌ عمالية، وأعضاء في الحركات البيئية، وعددٌ من المنظمات الدينية المختلفة الانتماءات) للتوقيع على دعوة للتظاهر ضد جولة الألفية، إلى جانب تنظيم آلاف اللقاءات في بلدانٍ كثيرة، وحملةٍ إعلاميةٍ عالمية بهدف الإعداد للاحتِجاجات. سار المُتظاهِرون مردِّدين شعاراتٍ من قبيل «نحن مواطنون، لا مستهلكون فقط»، و«منظمة التجارة العالمية = رأسمالية بلا ضمير»، و«التجارة: نظيفة وخضراء وعادلة».
منذ بزوغ شمس اليوم الأول، نسَّقت شبكة العمل المباشر سلسلةً من الاعتصامات أدَّت إلى منع أغلب المُوفَدين، البالغ عددهم ٣٠٠٠، القادمين من ١٣٥ دولة من الوصول إلى مراسم الافتتاح. واحتشد حوالَي ١٠٠٠٠ متظاهر، مقسَّمين إلى «مجموعاتٍ متجانسة» لا ترتبط فيما بينها ارتباطًا وثيقًا، وقد افترشوا الأرض متلاصقين في سلاسل، مستخدمين ما يُطلق عليه أساليب «الإغلاق» و«الحامل الثلاثي»، وهو ما جعل مهمة الشرطة في إزالة العراقيل أشدَّ صعوبة (سميث ٢٠٠٠). حين وصل رجال الشرطة لإخلاء الشوارع المؤدية إلى مقر انعقاد القمة، لم يُبدِ المتظاهرون أي مقاومة، بل طبقوا التكتيكات التي تعلَّموها أثناء الدورات التدريبية الخاصة باللاعنف. ظهر ناشطو السلام الأخضر في شوارع سياتل المكتظَّة بالفرق الموسيقية والمسرحية وقد رفعوا واقيات ذكرية عملاقة كُتِب عليها الشعار التالي «مارسوا التجارة الآمنة»، بينما عرض مُزارعون فرنسيون للبيع دون مقابل نحو ٢٥٠ كيلو من جبن الروكفور الذي أخضَعتْه الولايات المتحدة الأمريكية للرسوم الجمركية كردِّ فعلٍ انتقاميٍّ ضد تشريع الاتحاد الأوروبي التقييدي ضد «لحم الأبقار المحتوي على هرمونات». أما ناشطو يوبيل ٢٠٠٠، وهو ائتلاف مكوَّن من مجموعات (كثير منها دينية) تسعى إلى إسقاط الديون الخارجية للعالم الثالث، فقد تَراصُّوا في سلسلةٍ بشرية. شارك اتحاد المنظمات الصناعية للعمال والكونجرس في الحدث بالدعوة إلى مسيرةٍ حاشدة ضمَّت أكثر من ٢٠٠٠٠ عامل، وبخاصة عمال الشحن والتفريغ والعاملين في قطاع الخدمات العامة، ممَّن طالبوا بتطبيق حقوق العاملين في جميع أنحاء العالم، في حين تكاتَفَت تنظيمات المزارعين مع الناشطين في مجال حقوق المستهلك وأنصار الحركة البيئية للمطالبة باستبعاد المنتجات الغذائية من اتفاقيات تحرير السوق بدعوى الاحتراز.
تنكَّر ما يزيد على ٢٠٠ متظاهر على هيئة سلاحف بحرية — وهي فصيلة مهدَّدة بالانقراض — وراحوا يَجوبون بين الحشود بهدف اكتشاف أي واقعة عنف وعلاجها. يُفسِّر بين وايت، مُصمِّم تلك الملابس الزاهية الألوان والناشط في مشروع إنقاذ السلاحف البحرية، اختيار ذلك الزي قائلًا: «منذ فجر التاريخ، كانت السلاحف دائمًا رمزًا للحكمة؛ فالسلاحف لا تتعارك أبدًا ولا تستخدم العنف. نحن نمثل السلاحف وينبغي أن نكون صوتها … أيُّ فردٍ يُقدِم على التصرُّف بعدوانية، حتى لو بالقول فقط، عليه أن يخلع ذلك الزي … نحن لا نَنبذ العنف فقط، بل نرفض أيضًا استخدام الآخرين له. أينما تُصادف السلاحف عنفًا، فإنها تسعى لصنع السلام» (ورد في رايمون ٢٠٠٢: ٧٣). على الرغم من ذلك، انزلقت مجموعاتٌ صغيرة إلى العنف على هامش التظاهرات؛ فأقدمت على تحطيم نوافذ المحالِّ المتاجِرة في المنتجات المتعدِّدة الجنسيات، مثل نايك وليفايز وماكدونالدز، والمتهمة باستغلال عمالة الأطفال أو المنتجات غير الصحية. وقبل أن يَشرع الأناركيون في تخريب الممتلكات، تدخَّل رجال الشرطة بأعدادٍ غفيرة لمواجهة المتظاهرين السلميِّين، مستعينين بالغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل (سميث ٢٠٠٠: ١٣؛ أيضًا مورس ٢٠٠١). وعقب إعلان السلطات لحظر التجول، استمرَّ الحصار وهجمات الشرطة ثلاثة أيام بلياليها إلى أن انفضَّت القمَّة المنعقدة بين عدة حكومات دون إبرام أي اتفاق. كان من بين من اعتقلتهم الشرطة، وعددهم ٦٠٠ متظاهر، نشطاء من منظمة التبادل العالمي، والذين استغلُّوا ما في حوزتهم من تصاريح الدخول للوصول إلى حفل الافتتاح واعتلاء المنصة للتحدُّث إلى الوفود القليلة التي نجَحَت في الدخول إلى مقر القمة، مُنتقدِين منظمة التجارة العالمية. وعلى صعيد الفضاء الافتراضي، تداول ناشطو الإنترنت عريضةً احتجاجًا على افتقار المحادَثات للشفافية، وهي العريضة التي جمعت فيما لا يتجاوَز أربعًا وعشرين ساعة توقيعات ١٧٠٠ مجموعاتٍ من شتى الاتجاهات، يَنتمي كثير منها إلى شطر العالم الجنوبي (كالدور ٢٠٠٠: ١١٢).
وصِفَت أحداث سياتل باعتبارها نقطة تحول، بل ذروةً عمليةً تجميعيةً ضمَّت مجموعات وتنظيماتٍ ناشطة في بلدانٍ مختلفة في جميع أنحاء العالم: العمال والمُزارعين، المستهلكين وناشطي الحركة البيئية، الكنائس وناشطي الحركة النسوية، دعاة السلام وجمعيات حقوق الإنسان. بل إن الواقع يشهد بأن المجموعات المتباينة والمتصلة اتصالًا غير وثيق في بادئ الأمر قد احتشدت معًا، حتى قبل أحداث سياتل، في مواجهة المنظمات الدولية في المقام الأول مستخدمةً في ذلك أساليبَ شتَّى: مِن ممارسة الضغوط إلى المسيرات، من حملات المقاطعة إلى جمع التوقيعات على العرائض، من الإضرابات الواقعية وحتى الإضرابات الإلكترونية على شبكة الإنترنت. في سياتل وما تلاها، احتشَدَ المتظاهِرون من بلدانٍ عدة مُتحدِّين شرعية ما تتَّخذه بعض المنظمات الحكومية الدولية من قرارات، وساعين إلى عرقلة خططها. لم يُحقِّق المتظاهِرون ذلك عبر القنوات الدبلوماسية العادية أو الانتخابات، بل بمحاولة التأثير على الرأي العام بأساليبَ شتَّى.
في الواقع، وكما سيتَّضح لنا في القسم ١، كان من إحدى سمات الحركات الاحتجاجية قدرتها على تعبئة الرأي العام من خلال أنماطٍ غير تقليدية من الفعل؛ ومِن ثمَّ ممارسة الضغوط على صناع القرارات. يَصف العرض الموجز لاحتجاجات سياتل، والذي استهلَلنا به هذا الفصل، سلسلة من الأفعال المختلفة والتي تُشكِّل، مجتمعةً، ما سوف نُطلق عليه في القسم ٢ ذخيرة الفعل الجمعي. في القسم ٣، سوف ترد إشارة إلى حركة العدالة العالمية وذلك في معرض استدلالنا على إمكانية التعايش بين أساليبَ غايةٍ في الاختلاف، من حيث راديكاليتها و«المنطق» الذي يوجِّهها، في إطار الذخيرة الاحتجاجية المعاصرة. بالنسبة إلى فاعلي الحركات الاجتماعية، تعد اختياراتهم لأنماط الفعل التي سيتبنَّونها قرارًا مهمًّا لكنه عسير؛ إذ لا ينطوي فقط على حساباتٍ استراتيجية، بل يضمُّ اعتباراتٍ قيمية وثقافية أيضًا. في الواقع، وكما سنرى في القسم ٤، إن حتمية مخاطبة أنماط مختلفة من الجماهير في آنٍ واحد تَخلق عددًا من المعضلات التكتيكية، إضافةً إلى أن مثل هذه الخيارات تتأثَّر بكلٍّ من المتغيِّرات الداخلية والتفاعلات مع الفاعلين الآخرين (القسم ٥)، داخل الحدود القومية وخارجها على حدٍّ سواء (القسم ٦). وتُؤدِّي الطبيعة المُتغيِّرة لتلك القرارات إلى تحليلٍ لديناميكيات الاحتجاج الدورية وطبيعة ما يطرأ على تلك القرارات من تغييرات عبر الزمن، وهو ما يُطالعنا به هذا الفصل في القسم ٧.
(١) الاحتجاج: تعريف
شهدنا خلال احتجاجات سياتل وما بعدها تنظيمَ الناشطين مسيراتٍ ومتاريسَ بشرية، وإقامتهم حفلاتٍ موسيقيةً وتجمُّعاتٍ مسائيةً، وتجوُّل بعض المتظاهرين مرتدين أقنعةَ السلاحف المُوشكة على الانقراض، وارتداء البعض الآخر أقنعةً سوداء، واحتلالهم لمواقعَ حقيقيةٍ وافتراضية. ما الذي يجمع، إذن، بين كل تلك الأفعال؟ بادئ ذي بدء، جميع تلك الأفعال هي من أنماط الاحتجاج؛ أيْ جميعُها أساليبُ غيرُ اعتياديةٍ للتأثير في العمليات السياسية والاجتماعية والثقافية. في الحقيقة، «تُوظِّف الحركات الاجتماعية أساليبَ للإقناع والإكراه وتكون، في أحيانٍ كثيرة، جديدةً ومثيرة وغير تقليدية، وتحيط بشرعيتها علاماتُ استفهام» (ويلسون ١٩٧٣: ٢٢٧). فالاحتجاجات هي «بُؤَرٌ للنزاع، تُوظَّف فيها كياناتٌ ورموزٌ وهوياتٌ وممارساتٌ وأحاديثُ من أجل إحراز تغييرات في علاقات القوى المؤسسية الراسخة أو منعها» (تايلور وفان دايك ٢٠٠٤: ٢٦٨).
بدا أن هذا التوسُّع في ذخيرة المشاركة السياسية «سمةٌ دائمة للجماهير الديمقراطية الحاشدة» (١٩٧٩: ٥٢٤). وبالفعل لاحظت بيبا نوريس (٢٠٠٢: ٢٢١)، بعدَ ما يزيد على عقدين من الزمان، واستنادًا إلى استطلاعات الرأي التي جمعتها رابطةُ وورلد فاليوز للدراسات الاستقصائية، أن «ثمة أسبابًا كثيرة تدعونا للاعتقاد بأن التحول من مجموعات المصالح التقليدية إلى الحركات الاجتماعية الجديدة قد خلَّفَ تأثيرًا على هيئات المشاركة السياسية وذخائرها وأهدافها. يُظهِر تحليلُ سياسة الاحتجاج أن كثيرًا من أنماط الأنشطة تلك، مثل العرائض والتظاهُرات ومقاطعة المستهلكين، صار واسعَ الانتشار إلى حدٍّ ما، واكتسب شعبيةً متزايدة خلال العقود الأخيرة. إننا نشهد صعودَ سياسة الاحتجاج كقناةٍ للتعبير السياسي والتعبئة.» يَكشف ما توصَّلَتْ إليه نوريس من بيانات (٢٠٠٢: ١٩٧) أنه في «الديمقراطيات الأقدم عهدًا» وقَّع ٦٠٫٧ بالمائة من السكان على عرائض، وحضر ١٩٫١ بالمائة تظاهرة، وشارك ١٧٫١ بالمائة في حملات مقاطعة. وبدراستها ثمانيةً من المجتمعات ما بعد الصناعية (بريطانيا وألمانيا الغربية وهولندا والنمسا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وسويسرا وفنلندا)، تبيَّنَ أن نسبةَ الموقِّعين على عرائض قد قفزت من ٣٢ بالمائة في منتصف السبعينيات إلى ٦٠ بالمائة في منتصف التسعينيات، وأن نسبةَ مَن شاركوا في تظاهرات قد ارتفعت من ٩ إلى ١٧ بالمائة، بينما ارتفعت نسبة مَن شاركوا في حملات مقاطعة من ٦ إلى ١٥ بالمائة، ومَن أقدموا على احتلال مبانٍ من ١ إلى ٢ بالمائة، بينما تضاعَفَتْ نسبةُ المشاركين في إضراباتٍ غيرِ رسمية من ٢ إلى ٤ بالمائة (المصدر السابق: ١٩٨).
من سمات الاحتجاج المهمة استعمالُ قنواتٍ غير مباشِرة للتأثير على صُنَّاع القرارات. فالاحتجاج، كما ذكر مايكل ليبسكي (١٩٦٥)، هو أداةٌ سياسية لعديمي النفوذ؛ فالوقائع التي هزَّت الولايات المتحدة الأمريكية خلال الستينيات — بدءًا من حملة «فريدم سمر» لتسجيل الناخبين السود في الولايات الجنوبية، التي أطلقها ناشطو الحقوق المدنية عام ١٩٦٤، وصولًا إلى «مسيرة إلى واشنطن» دعمًا للحقوق المدنية للأقليات العِرْقية — جمَعَها كلَّها شيءٌ مشترك: «لقد شاركت فيها مجموعاتٌ معدومة النفوذ نسبيًّا؛ ولم تَعتمد تلك المجموعاتُ في نجاحها على الاستغلال المباشر للنفوذ، بل على تنشيط مجموعاتٍ أخرى وتشجيعها على اقتحام المضمار السياسي. إن نجاح الاحتجاجات يتوقَّف على مدى تنشيط الأطراف الأخرى وتشجيعها على الانخراط السياسي؛ ولذلك فإن الاحتجاج يُعَدُّ واحدةً من استراتيجيات معدودة تُمكِّن حتى المجموعات العديمة النفوذ السياسي من التطلع إلى المشاركة» (ليبسكي ١٩٦٥: ١). ومما يؤكِّد ذلك أنَّ مَن شاركوا في تظاهرات سياتل كانوا يَعُدُّون أنفسَهم «ضحايا» السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة. حتى إن لم تَكُن «عديمةَ النفوذ» حرفيًّا، فإن الاتحادات، والمنظمات غير الحكومية، والزُّمر الشعبية التي أطلقت الاحتجاجات؛ كانت خارجَ دائرة السلطة (أو أطرافًا معارضة بحسب تعبير تيلي) في ساحةٍ سياسية عالَمية، حيث يكون مُمثِّلو المنظمات الحكومية الدولية والأمم ذات النفوذ والمؤسسات الكبرى داخلَ دائرةٍ السلطة.
لا شكَّ أن الحركات الاجتماعية لا تقتصر على استخدام الاحتجاج فقط ولا تحتكره؛ إذ يستفيد منه أيضًا فاعِلون آخَرون، كالأحزاب السياسية أو مجموعات الضغط، ويتحالفون بين الحين والآخر مع الحركات الاجتماعية من أجل إطلاق حملاتٍ معينة. بيْدَ أن الاحتجاج (لا سيما في أشكاله الأكثر ابتكارًا والأشد راديكاليةً) كان يُعتبَر أحدَ أنماطِ الفعل المميِّزة للحركات الاجتماعية؛ نظرًا لأنها، خلافًا للأحزاب السياسية ومجموعات الضغط، تمتلك قنواتٍ أقلَّ تُمكِّنها من الوصول إلى دوائرِ صنَّاع القرارات. إن لأنماط الفعل أهميةً خاصة للحركات الاجتماعية؛ لأنها «غالبًا ما تُخلَّد في الأذهان بما تتبنَّاه من أساليب الإقناع أكثر مما تُخلَّد بأهدافها» (ويلسون ١٩٧٣: ٢٢٦).
(٢) ذخائر الفعل
مع بزوغ نجم الرأسمالية، تضاعفَت قوة الدول القومية وتراجَعَت أهمية الشئون المحلية المركزية والرعاة المحليين بالنسبة إلى مصير الأفراد العاديين، وذلك في ظل اتخاذ أصحاب رءوس الأموال الضخمة والسلطة الوطنية للقرارات التي باتت تُؤثر على حياتهم بصورة مُتزايدة؛ ومن ثم أضحى الاستيلاء على الحبوب والاقتحام الجماعي للحقول وما شابه ممارساتٍ باليةً فقدت فاعليتها وأهميتها. واستجابة للتحولات التي جرَت في السلطة ورأس المال، ابتكر العامة أنماطًا جديدة من الفعل وانتهجوها؛ ما أدَّى إلى ظهور الحملات الانتخابية، واللقاءات الجماهيرية، والحركات الاجتماعية، وغيرها من عناصر الذخيرة الأحدث.
استجابت الذخيرة الجديدة، إذن، لوضعٍ جديد تزايد فيه الطابع القومي للحياة السياسية، وتقلَّص دور المجتمعات، وانتشرت الجمعيات المنظمة، لا سيما بين الطبقات العاملة (تيلي ١٩٨٤ب: ٣٠٩). إلى جانب نطاقها القومي وطابعها المستقل، تتميَّز الذخيرة الحديثة بسمةٍ أخرى ألا وهي: طبيعتها المَرِنة، وهو ما نَعني به إمكانية استخدامها من قِبَل طائفة متنوِّعة من الفاعلين لإحراز مجموعةٍ متنوعة من الأهداف. كانت الذخيرة في المجتمعات التقليدية محدَّدة ومباشرة وجامدة: «في مجتمعٍ مقسم إلى رتب وطبقات، يعزله سوء التواصل والأمية، وينتظم أفراده في مجموعاتٍ مشتركةٍ متحدة، كان من النادر أن تجد أنماط الفعل الجمعي متمايزة عن الصراعات التي أفضت إلى نشأتها» (تارو ١٩٩٤: ٣٥). في المقابل، كان لتوطيد دعائم الدول القومية، والتوسُّع في وسائل الاتصال (سواءٌ أكانت طرقًا أم صحفًا)، ونمو الجمعيات الخاصة دور في تهيئة المجال لنشأة ذخيرةٍ جديدةٍ عامة غير مباشرة، تتَّسم بالمرونة، وهو ما مهَّد الطريق بدوره لانتشار ظاهرة الاحتجاج وتعبئة مجموعات جديدة ومتنوعة داخل المجتمع السكاني.
بحسب ما ذهب إليه تيلي وتارو، لم تَطرأ تغييراتٌ جمة على الذخيرة الحديثة التي نشأت تزامنًا مع الثورة الفرنسية. فلم يَزَل لحملات المقاطعة، وإقامة المتاريس، وتوقيع العرائض وتنظيم التظاهُرات وجود (ربما يكون طاغيًا في الواقع) ضمن المشهد الاحتجاجي، لكننا لو التفَتْنا مجدَّدًا إلى المثال الوارد في صدر هذا الفصل، يُمكننا تعيين عدد من العناصر الجديدة، عناصر يُمكن تفسيرها في ضوء تحوُّلاتٍ جرت في السمات نفسها التي تُعتبَر ضرورية لنشأة الذخيرة الحديثة. بادئ ذي بدء، تطوَّرت الرأسمالية من كونها صناعاتٍ قائمةً على مفهوم الدول القومية إلى شركاتٍ مُتعدِّدة الجنسيات. ثانيًا: بالتأكيد لم تختفِ الدول القومية، غير أنها مَحوطة الآن بكياناتٍ قوميةٍ فرعية وكيانات فوق وطنية ذات سلطاتٍ متنامية (انظر الفصلين الثاني والتاسع من هذا الكتاب). وتُعتبر عمليات التعبئة التي شهدتها سياتل مُتجاوزة للحدود والقوميات في طبيعتها. ثالثًا: أسهمت وسائل الإعلام الجديد مثل التلفزيون، ولا سيما أجهزة الفاكس والهواتف النقَّالة والإنترنت الأحدث عهدًا، في تغيير طموحات الحركات الاجتماعية وقدرتها على التواصل. بالحديث بصفةٍ خاصة عن الإنترنت، سنجد أن الناشطين يستغلونه من أجل التعبئة الإلكترونية وتحركات المعارضة؛ فيُشير مصطلح «الدعوة الإلكترونية» إلى «استعمال التكنولوجيا المتقدمة للتأثير في عملية صنع القرارات، أو استعمال التكنولوجيا سعيًا إلى دعم جهود تغيير السياسات» (هيك وماكنت ٢٠٠٢: ٨). علاوةً على ذلك، صارت الحملات المُتجاوِزة للحدود والقوميات أطول مدًى وأقل مركزيةً في قيادتها وأشقَّ في بدئها وإنهائها وقابلة للتغيير دائمًا من حيث الشبكات والأهداف، وهو ما يُعزى بصورةٍ جزئية إلى الإنترنت (بينيت ٢٠٠٣).
(٣) الأسس المنطقية للاحتجاج وأنماطه
إن المواطنين المعارضين للعولمة الليبرالية الجديدة والتنظيمات المناهضة لها يُعبِّرون عن رفضهم لها بطرقٍ شتى. أولًا: إن ما افتَتحنا به هذا الفصل من أنماط للفعل كانت راديكالية في طبيعتها بصورة أو بأخرى؛ إذ تراوَحَت من توقيع العرائض التقليدي إلى فرض الحصار الأشدِّ حدَّةً من حيث طبيعته التصادمية، وفيما بين هذا وذاك تتعدَّد وقائع العنف. وقد أجرى الدارسون بحثًا قائمًا على استطلاعات الرأي نجح في ترتيب أنماط المشاركة على مقياسٍ واحد من الأقلِّ تطرفًا إلى الأشدِّ تطرفًا، مُبرزًا علاماتٍ فارقةً شتى: «تدل العلامة الأولى على الانتقال من الممارسات السياسية التقليدية إلى الممارسات غير التقليدية؛ فتوقيع العرائض والمشاركة في التظاهرات القانونية هي أنشطةٌ سياسيةٌ غير تقليدية لكنها لا تزال في حدود الأعراف الديمقراطية المقبولة. تُمثِّل العلامة الفارقة الثانية التحول إلى أساليب الفعل المباشر، كحملات المقاطعة. يتضمن المستوى الثالث من الأنشطة السياسية أفعالًا غير قانونية لكنها غير عنيفة. وأخيرًا تشمل العلامة الفارقة الرابعة أنشطةً عنيفة كالإيذاء الشخصي أو الإضرار المادي» (دالتون ١٩٨٨: ٦٥).
ثانيًا: بالرغم من تركيز أنماط الفعل المُنتَهَجَة على المنظومة السياسية إلى حدٍّ كبير، ينبغي الإشارة إلى أن الحركات قد استَغلَّت أيضًا (بدرجاتٍ متفاوتة) الاستراتيجيات الثقافية الهادفة إلى تغيير منظومات القيم. فبينما تسعى الاستراتيجيات السياسية، في المقام الأول، إلى تغيير الواقع الخارجي، تسعى الاستراتيجيات الثقافية إلى إجراء تحوُّلٍ داخلي. وكما أشرنا سلفًا، فإن بعض الحركات الاجتماعية موجَّهة في الأساس إلى المنظومات القيمية، في حين يُركِّز البعض الآخر على المنظومة السياسية (على سبيل المثال، روشت ١٩٩٤)، بل إنَّ الحركات نفسها تتردَّد بين أطوار «التسييس» المتزايد والتراجُع إلى النشاط المُرتبط بالثقافات المضادة (ميلوتشي ١٩٨٤أ؛ فيما يخصُّ إيطاليا، ديلا بورتا ١٩٩٦أ). إلى جانب ذلك، تتَّسم الاستراتيجيات الثقافية والسياسية بدرجاتٍ متفاوتة من التطرُّف، تتراوح في الحالة الأولى من تطور ثقافةٍ فرعيةٍ مُعتدلة إلى المعارضة الراديكالية المتعلِّقة بالثقافات المضادة، وفي الثانية من التفاوض إلى المواجهة (روشت ١٩٩٠أ).
غير أن أنماط الفعل، وكما سنَسعى فيما يلي للتدليل بصورةٍ أشمل، يُمكن تمييزها أيضًا استنادًا إلى «الأسس المنطقية» أو الطريقة المُعتادة لسير الأمور، والتي يُسندها الناشطون إلى أنماط الفعل.
(٣-١) منطق الأعداد
يُشكِّل منطق الأعداد، الذي أشار إليه جيمس ديناردو في كتابه «قوة الأعداد» (١٩٨٥)، أساسًا للعديد من الأنماط الاحتِجاجية؛ فنظرًا لما «يبدو دائمًا من قوة في الأعداد» (١٩٨٥: ٣٥)، يتوقَّف مصير الحركات إلى حدٍّ كبير على عدد مؤيِّديها. وكما ذكر ديناردو، فإن «حجم تظاهرات المُعارضين يؤثِّر على نظام الحكم بطريقة مباشرة وغير مباشرة. فلا شكَّ أن اختلال الروتين اليومي يَشتدُّ مع ازدياد الأعداد، وأن قدرة نظام الحكم على السيطرة على الحشود من شأنها أن تَتراجع لا محالة مع تنامي أعدادهم. وعلاوةً على الاضطراب الفوري الذي تُسبِّبه التظاهُرات، فإنها تُرسل بحجمها مؤشرًا إلى النظام بحجم الدعم الذي يتمتَّع به المعارضون» (١٩٨٥: ٣٦). ومثلما تحاول الأحزاب السياسية زيادة أعداد الناخبين الداعمين لها، وتسعى مجموعات الضغط إلى مضاعفة أعداد أتباعها إلى أقصى حدٍّ ممكن، يجدر بالحركات الاجتماعية السعي إلى تعبئة أكبر عددٍ مُمكن من المُتظاهرين.
انطلاقًا من تلك الرؤية، تحلُّ الاحتجاجات محل الانتخابات، والمنطق الكامن وراء هذا المفهوم هو نفسه الكامن وراء الديمقراطية التمثيلية: تطبيق قرارات الأغلبية. تُفيد الاحتجاجات في جذب انتباه المُمثلين المُنتَخبين إلى حقيقة أن الأغلبية في الشارع ليست هي نفسها الأغلبية في البرلمان، فيما يخصُّ قضايا معينةً على الأقل؛ ومن ثم فإن الخوف من فقدان الدعم الانتخابي يفترض أن يَدفع ممثلي الشعب إلى تغيير مواقفهم، وإعادة الاصطفاف إلى جانب الشارع «في مجمله».
تُعدُّ المسيرات واحدةً من أهم الأساليب المقصود منها إظهار القوة العددية الكامنة خلف الاحتجاج. فقد أطلقت تظاهُرات سياتل موجةً جديدة من «سياسة الشارع»، وذلك بإطلاقها مسيراتٍ ضخمةً بدت مجرد ذكرى من الماضي. تُنظَّم التظاهرات الضخمة خلال اجتماعات القِمَم المضادة، والتي تُعرف بأنها ساحات «لمبادرات على المستوى الدولي تُعقَد أثناء القمم الرسمية وتتناول القضايا نفسها لكن من منظور نَقدي، قاصدةً رفع مستوى الوعي عبر الاحتجاج والمعلومات، سواءٌ أكان ذلك من خلال علاقات بالنسخة الرسمية من هذه القمم أم لا» (بيانتا ٢٠٠٢: ٣٥). عقب بعض التجارب الأولية التي شهدها عقد الثمانينيات، تضاعف عدد القِمَم المضادَّة على مدار العقد التالي، تزامنًا مع مؤتمراتٍ واسعة النطاق للأمم المتحدة، وذلك بدعم من نشاطٍ محمومٍ من جانب مُنظَّماتٍ غير حكومية زعمت أنها لا تُمثِّل فقط أعضاءها المقدَّرين بمئات الآلاف، بل تمثل، بصورةٍ أعمَّ، مليارات المواطنين ممن لا يملكون منبرًا عامًّا للتعبير عن آرائهم. وشارك ملايين الأشخاص في اليوم العالمي للاحتجاج على حرب العراق الذي وافق الخامس عشر من فبراير عام ٢٠٠٣ (ديلا بورتا ودياني ٢٠٠٥؛ والجريف وروشت تحت الطبع).
يتَّسق منطق الأعداد مع مبادئ الديمقراطية التمثيلية؛ فهو بمنزلة محاولة للتأثير على الرأي العام، الذي هو بمنزلة المُستودع الأخير للقوة السياسية. بالنظر إلى أن المتظاهرين هم أيضًا ناخبون، فمن المُفترض أن مُمثليهم سوف يُغيِّرون مواقفهم بدلًا من المخاطرة بعدم انتخابهم مرةً أخرى. بيد أن قصف العراق على يد التحالف العسكري الدولي بقيادة الإدارة الأمريكية، في تحدٍّ للاحتجاجات الحاشدة، أثبت أن منطق الأعداد لا يَنجح دائمًا. فبالرغم من أن استطلاعات الرأي في أغلب البلدان المُنخرطة في الحرب قد أظهرت معارضة أغلبية الشعوب لها، أرسلت حكومات البلدان الأوروبية (مثل إيطاليا وإسبانيا) قواتها دعمًا للاحتلال الأمريكي.
لا شك أنه سيكون من السذاجة افتراض أن آراء المُمثلين المُنتخَبين تتبع ببساطةٍ آراءَ عموم الجماهير في جميع المواقف (ماكادم وسو ٢٠٠٢). إنَّ التصويت، بادئ ذي بدء، تُحدِّد معالمَه سلسلةٌ كاملة من التساؤلات، ويَعتمد على تحقيق توازن بين دوافعَ مختلفةٍ. من غير المؤكَّد إطلاقًا أن فردًا ما سيَنصرف عن اختياره الانتخابي التقليدي استنادًا إلى تفضيلٍ ما بشأن قضيةٍ معينة، حتى وإن اتَّفق هذا الفرد مع الحركة بشأن تلك القضية؛ ولذلك لا يتعيَّن على ناشطي الحركات زيادة الدعم الذي يَحظَون به فقط، بل أيضًا إنتاج «تفضيلاتٍ قوية» لصالح مطالبهم. ثانيًا: لا تستمرُّ الحملات الاحتجاجية إلا لفتراتٍ محدودة؛ ومن ثم فإن تأثيرها السياسي أقل مباشرة ووضوحًا. وبالفعل، «إن المشكلة التي تُعاني منها جميع تحالفات الحركات، لا سيما تلك التي تَعقدها مع الأحزاب، هي كيفية الإبقاء على متانة الالتزام وثباته متى خفَتَ هتاف المسيرات الهادرة» (روتشن ١٩٨٨: ١٧٤). ثالثًا: حتى الفعاليات الجماهيرية — كالعرائض الإلكترونية، والحملات، والإضرابات الإلكترونية — غالبًا ما تلقى تجاهلًا ممن تَستهدفهم (روشت ٢٠٠٣أ)، ويتوقَّف تأثيرها في الجمهور على مدى اجتذابها لانتباه وسائل الإعلام (جوراك ولوجي ٢٠٠٣: ٢٦). علاوةً على ذلك، وكما أشارت مجددًا أحداث سياتل، فإن النفوذ يُحوِّل وجهته نحو صناع القرارات الأقل خضوعًا لمساءلة الرأي العام والمُواطنين الناخبين (انظر الفصل الثامن من هذا الكتاب). فحسبما تُظهِر الإخفاقات العديدة التي مُنيَت بها الاستفتاءات التي أوعزت بها الحركات الاجتماعية، فإن ثَمَّةَ عاملًا آخر، ولعله أشد حسمًا، من شأنه أن يُضعِف موقف منطق الأعداد؛ فالمحتجُّون (الذين يُشار إليهم أحيانًا باعتبارهم «أقليات نشطة») لا يعكسون دائمًا آراء غالبية الجمهور (ويسلر وكريسي ١٩٩٨)؛ ولذلك فإن اعتماد الحركات الاجتماعية حصرًا على ذلك المنطق لهو أمرٌ محفوف بمخاطرَ جمةٍ؛ فهو منطق لا يعكس بصورةٍ كاملة، على أي حال، مفهومها الخاص عن الديمقراطية، والذي يُؤكِّد على المشاركة لا تصويت الأغلبية (انظر الفصل التاسع من هذا الكتاب). بالرغم من ذلك، بوسعنا أن نُضيف أنه بخلاف الاعتبارات الاستراتيجية ذات التوجُّه الخارجي، يَلعب منطق الأعداد أيضًا دورًا رمزيًّا مهمًّا بالنسبة إلى ناشِطي الحركات أنفسهم؛ فالتظاهُرات الضخمة تُسهِم في تمكين المشاركين ببثِّها مشاعر الانتماء إلى مجموعةٍ كبيرة يتمتع أعضاؤها بالمساواة والتكافؤ.
(٣-٢) منطق الإضرار
إلى جانب منطق الأعداد، لا بد أن نضع في الحسبان منطق إلحاق الأضرار المادية، قياسًا على الطريقة المعتادة لسير الأمور في الحرب، وهو منطق ينعكس، في أشد أشكاله تطرفًا، في العنف السياسي. مِن بين مَن اتَّبعوا هذا المنطق مجموعة البلاك بلوك في سياتل وغيرها؛ إذ استعانت بعنفٍ موجَّه على نطاقٍ ضيق. وتمتد تلك الظاهرة فيما قبل سياتل بأمدٍ بعيد، وذلك حين شكَّلت ثورات الجياع الحضرية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا معارضةً شديدة لسياسات التجارة الحرة، وما ارتبط بها من تدابيرَ تقشفيةٍ طالب بها صندوق النقد الدولي، مطالبة ﺑ «عمل وخبز وعدالة وحرية» (والتون وسيدون ١٩٩٤؛ انظر أيضًا إكشتاين ٢٠٠١ بشأن أمريكا اللاتينية وبيناني-شايبري وفيليول ٢٠٠٣ بشأن الدول الإسلامية). لم تَزَل تكاليف العنف ضد الممتلكات اقتصادية في أغلبها، أما فيما يخصُّ العنف ضد الأشخاص، فإن المنطق الكامن خلفه صار «عسكريًّا» على نحوٍ مُتزايد. غير أن العنف، في جميع تلك الأحداث، له أغراضٌ رمزية وأداتية على حدٍّ سواء. كثيرًا ما يُبرَّر العنف باعتباره رفضًا رمزيًّا لنظامٍ قمعي، لكنه يُستخدَم أيضًا، كما هو الحال في أعمال الشغب المناهضة للتقشُّف، لكسب معارك محددةٍ أو لجذب الاهتمام الإعلامي. من الجدير في هذا السياق أن نقتبس كلمات أحد أعضاء البلاك بلوك، إذ يقول: «إن المنفعة العائدة من تدمير المُمتلكات كأسلوبٍ احتجاجي، محدودة لكنها مؤثرة؛ فهو يدفع مُراسِلي الصحف إلى الهرع نحو موقع الحدث وبثِّ رسالة مفادها أن ثمة شركاتٍ معينةً ليست مَنيعة حقًّا كما تبدو. ويُمكن للمشاركين في الاحتجاجات وللمُشاهدين الماكثين في المنازل أمام شاشة التلفزيون أن يُعاينوا بأنفسهم كيف يمكن لحجرٍ صغير في يد شخصٍ شديد العزم أن يُسقط جدارًا ذا قيمةٍ رمزية. إن تهشيم إحدى نوافذ شركة نايك لا يُعرِّض حياة أي شخص للخطر» (مقتبس في نوتاربارتولو ٢٠٠١: ٨١). إن ما شنَّته الأقليات العرقية المهمَّشة من أعمالِ شغبٍ في المناطق الحضرية وكذلك أعمال الشغب الإقصائية الموجَّهة ضدهم عادةً ما كانت تستهدف الحصول على تنازلاتٍ محدَّدة، كما أن مُثيري الشغب عادةً ما كانوا يمارسون قدرًا من ضبط النفس يفوق كثيرًا ما يُقرُّون به (هوبزبوم ١٩٥٢؛ برجمان ٢٠٠٢).
غير أنه مع تنحية العنف جانبًا، يُوجد قدرٌ معين من الاختلال المادي في كثير من الأشكال الاحتجاجية. فما تتخذه الحركات الاجتماعية من أفعالٍ غالبًا ما تكون مخلَّة بالنظام بطبيعتها، وذلك من ناحية عرقلتها للسير الطبيعي للأمور من خلال ما تشكِّله من تهديد بإحداث فوضى (تارو ١٩٩٤: ١٠٣)، ومعارضتها للنُّخب تبرز اللَّايَقِين، وهي بذلك تُحدِث خسائرَ ملموسة ومادية في بعض الأحيان. تُركِّز بعض الخطط الاحتجاجية على تحقيق أضرارٍ اقتصادية، وتُمثِّل الإضرابات العمالية الشكل التقليدي لهذا النوع؛ إذ تَنزع إلى تعليق الإنتاج ومِن ثم تقليص ما يَجنيه أصحاب المصانع من مكاسب؛ فالعمال، بإضرابهم، يُعطِّلون الإنتاج ويُلحِقون ضررًا بأرباب أعمالهم؛ ومثل هذه التكلفة الاقتصادية يُفترض أن تدفع أرباب الأعمال العقلانيِّين إلى التوصُّل إلى اتفاق مع القوى العاملة. يستعين العمال أحيانًا بأنماطٍ من الفعل أشدَّ تطرفًا، كإضرابات العمال دون إقرار نقاباتهم العمالية، أو الإضرابات المُتدرِّجة، وتخريب المنشآت الصناعية، وذلك في سبيل زيادة الضغوط المبذولة على أرباب الأعمال بمُضاعَفة تكاليفهم الاقتصادية.
ليس من اليسير ترجمة المنطق الذي تقوم عليه فكرة الإضرابات الصناعية بحيث يُفهَم في سياق الخلافات غير الصناعية؛ ففي هذه الحالات يَصير تعيين الطرف المعارض أمرًا أقلَّ سهولة وتضطلع الاضطرابات بدورها عادةً من خلال المشكلات التي تُسبِّبها لأطرافٍ ثالثة غير ذات مسئوليةٍ مباشرة عن القرارات العامة والتي قد تنقلب، من جرَّاء ذلك، ضد المحتجين. أما الإضرابات في نطاق الخدمات العامة فهي حساسة بحق؛ نظرًا لأن أول ضحاياها هم المواطنون المنتفعون من تلك الخدمات. وهكذا فإن أهم مُعضِلات الاحتجاج تكمن في المتطلبات المتناقضة غالبًا، المتمثلة في التهديد بإحداث فوضى من ناحية، والسعي لاتقاء التشهير والوصم من جانب الرأي العام من ناحيةٍ أخرى. ومثل هذه المعضلات دفعت بالفعل النقابات نفسها في مجال الصناعات الخدمية إلى تَوخِّي مزيدٍ من الحذر إزاء استعمال سلاح الإضرابات؛ لإدراكها أنها تُجازف بفقدان التأييد العام بدلًا من تقويض شرعية القرارات الحكومية.
تهدف حملات المقاطعة (وهو أسلوب تزايَدَ رَواجُه كثيرًا في حركة العدالة العالمية) أيضًا إلى خفض مبيعات الشركات المُستهدَفة ومِن ثم خفض أرباحها؛ حيث تقوم الكثير من حملات الحركات على منطق «الفضح والتشهير» الذي يَهدف، لا سيما حين يمارَس ضد الشركات المتعددة الجنسيات، إلى توعية الرأي العام بنماذجَ صارخةٍ للغاية لتجاهل حقوق الإنسان، وذلك بنَشرِ معلوماتٍ مفصَّلة عنها، ومطالبة الجمهور في كثير من الأحيان بمُعاقبة الشركات الضالعة في تلك الانتهاكات بمقاطعة منتجاتها. على سبيل المثال، شهد عام ١٩٩٣ إطلاق حملة تُسمى «ملابس نظيفة»، أطلقها ائتلاف من اتحاداتٍ طلابية، وجماعاتٍ دينية، ومنظَّماتٍ حقوقية، ونقاباتٍ عمالية، حيث قاطَعَت تلك الحملة كبرى المحالِّ التجارية مثل سي آند إيه، وبيك آند كلوبينبرج، وإم آند إس مود، وذلك في ضوء مَزاعم ببَيعها مُنتجاتٍ جرى تصنيعها في ظل استغلال مُفرِط للعمال متمثِّلًا في تقديم رواتبَ ضعيفةٍ وظروف عمل غير آمِنة، وذلك في بلدان مثل كوريا الجنوبية وبنجلاديش وهونج كونج والمكسيك وجواتيمالا وهندوراس (ميس ٢٠٠٢). ومن نماذج حملات المقاطعة التي أُطلقت لاحقًا واستهدَفَت الشركات المتعدِّدة الجنسيات تلك الحملات الموجَّهة ضد شركة شِل، لاتِّهامها بتلويث بحر الشمال ونهر النيجر (ومسئوليتها غير المباشرة عن القمع الوحشي لاحتِجاجات شعب أوجوني)، وضد شركة نايك؛ لاتِّهامها بالتعاقُد من الباطن مع مؤسساتٍ تجاريةٍ صغيرة في إندونيسيا وفيتنام لتصنيع منتجاتها باستخدام عمالة الأطفال ومنتجات شديدة التلوث، وضد شركة نستلة المتَّهمة بالإسهام في نشر أمراض الأطفال في البلدان النامية بإضعاف استجابتهم المناعية؛ وذلك بتَرويجها للألبان المجفَّفة هناك، وضد شركة مونسانتو لإنتاجِها بذورًا عقيمة، وضد شركة يونيليفر لاتهامها بطرح حُبوب معدَّلة وراثيًّا من فول الصويا في الأسواق، وضد شركة دل مونتي، عقب بث مقطع فيديو يُظهِر قتلَ دلافين أثناء صيد أسماك التونا، وضد شركة ماكدونالدز، في إطار ادِّعاءات باستخدامها للحوم حَيوانات اعتادت تلقِّي جرعاتٍ مكثَّفة من المضادات حيوية (وهو ما يُسبِّب إدمانًا لدى المُستهلِكين)، وضد شركة بريدجستون/فايرستون، التي اضطرَّت إلى إعادة تعيين عاملِين سبق طردهم، وضد شركة فايزر للمُستحضرات الدوائية التي أُجبِرت على التنازُل عن حُقوقها في براءات اختراع عقاقير مضادَّة للإيدز؛ لإنقاذ حياة الآلاف في بلدانٍ فقيرة في أفريقيا وفي البرازيل. إن حملات المقاطَعة التي تُلحِق أضرارًا مباشرة بالمؤسسات الاقتصادية المُستهدَفة تَتكيَّف مع ظروف تحظى في ظلها الشركات المتعدِّدة الجنسيات بنفوذٍ مُتنامٍ (وهو نفوذ يرى الناشطون أنه يفوق نفوذ كثير من الدول القومية). ويُتبع هذا المنطق مِن قِبَل حملات لمقاطعة شركاتٍ محددةٍ متعدِّدة الجنسيات، مستغلةً أيضًا حاجة تلك الشركات إلى الحفاظ على صورتها البراقة، معتمدة في ذلك على شعاراتها أكثر مِن اعتمادها على جودة مُنتجاتها. يَستعمِل ناشطو الإنترنت تكتيكًا مشابهًا وذلك باستِهزائهم بالمنظمات الدولية من خلال إنشاء مواقع إلكترونية مزيَّفة باسمها؛ لجذب المُستخدمين الباحثين عن مواقعها الرسمية أو بإنشائهم مواقع إلكترونية تَحمل أسماءً مشابهة.
إن لمثل هذه الأنماط الاحتجاجية مثالبها، رغم أنها ليست موصومة كالأنماط العنيفة؛ فالمقاطعة، مثلًا، تعتمد اعتمادًا كبيرًا على التغطية الإعلامية لتصير فعَّالة في إفقاد الأطراف المُستهدفة «ماء وجهها» (فيج ٢٠٠٣؛ جامسون ٢٠٠٤: ٢٥٨)، فضلًا عن ضرورة توخِّي الحذر في إدارة حملات المقاطعة للحدِّ من خطورة آثارها السلبية على عمال الشركات أو البلدان المُستهدفة. بل إنه حتى الحلفاء المُحتملين قد يَصيرون ضحايا غير مقصودين لحملات المقاطعة؛ فمقاطعة جبن الروكفور الفرنسي خلال موجة مِن الاحتِجاجات ضد تجارب فرنسا النووية إبان التسعينيات قد هدَّد بالإضرار بالفلاحين الفرنسيين الذين كان من المزمع أن يُشاركوا في احتجاجات سياتل ضد منظمة التجارة العالمية. إضافةً إلى ذلك، حين يُمارس نشاط المقاطعة فرادى المواطنين، دون اتصال فيما بينهم، قد تتحوَّل إلى نشاطٍ فائق الأنانية مُتمحورٍ حول الذات و«طريقة معيبة لاستدامة إحساس بالضيم والمهانة» (جاسبر ١٩٩٧: ٢٦٥).
(٣-٣) منطق الاستشهاد
إلى جانب الأنماط الاحتجاجية القائمة على منطق الأعداد أو إلحاق الأضرار، تبلورت أنماطٌ أخرى قائمةٌ على منطق الاستِشهاد، لا سيما منذ سبعينيات القرن الماضي. لا يهدف هذا الشكل الاحتِجاجي إلى إقناع الجماهير أو صنَّاع القرار بأن المُحتجين يُشكِّلون أغلبيةً أو تهديدًا، بل يسعى إلى إظهارِ التزامٍ مَتين بهدف يُعَدُّ ذا أهميةٍ حيوية لأجل مُستقبل الإنسانية. لعل هذا المنطق هو الأشد اتساقًا مع مفهوم الديمقراطية التشاركية الرائج بين ناشطي الحركات الاجتماعية (انظر الفصل التاسع من هذا الكتاب). فالحق في التأثير على عمليات صنع القرار لا يَنبع من تنصيبٍ رسمي ولا من سلطة متأصِّلة، وإنما يُستمَدُّ من قوة الالتزام. يُقدِم الناشطون طواعيةً في مثل هذا النوع من الأنشطة على تعريض أنفسهم لمخاطرَ شخصيةٍ، وذلك في سبيل إظهار قناعاتِهم وتعزيز الرسالة الأخلاقية التي يبثُّونها من خلال احتجاجهم.
يَتجسَّد منطق الاستشهاد، ابتداءً، من خلال المشاركة في أفعالٍ تَنطوي على مخاطرَ أو تكاليفَ شخصيةٍ جسيمة، وهو المنطق الذي يَستند إليه العصيانُ المدني الذي يهدف إلى مُخالَفةِ ما يُعَدُّ قوانين مُجحِفة. وكان مِن الأفعال النمطية المميِّزة لهذا النوع من الذخيرة تدميرُ كونفيدرالية الفلاحين لحقول الذرة المُعدَّلة وراثيًّا، وهجماتُ ناشطي السلام الأخضَر على قوارب صيدِ الحيتان، وإغلاقُ المواقع النووية، وأيضًا سلسلةٌ من وقائع المُقاوَمة السلبية لتدخُّل الشرطة. وفي إطار مساعيهم لاختراق «المناطق المَحظورة» خلال جلسات القِمَم المضادَّة، أتقَنَ المتظاهِرُون في براج وجوتنبرج وجنوة ما يُسمَّى في بريطانيا العظمى «الضغط والتدافُع»، وهو أسلوب يُمارسه رجال الشرطة والمُضرِبون في مواقع الإضرابات، وذلك بالتراصِّ والدفع بالأكتاف، كما أن الاستفزاز الرمزي له أثرٌ حيوي في إحياء العصيان المدني خلال التظاهرات المناهِضة للعولمة، فبحسب تعبير الناشطة البارزة نايومي كلاين، «تندلع المواجَهات عند الحواجز، لكنَّها لا تقتصر على تلك المواجهات المتضمَّنة للهِرَاوات والطوب؛ فقد كانت عبواتُ الغاز المُسِيل للدموع تُصَدُّ بعِصيِّ الهوكي، ويستخِفُّ المتظاهرون بمَدافع المياه فيعترضونها بمُسدسات الماء، ويَتهكَّمون على أزيز المروحيات المحلِّقة بإلقاءِ أسرابٍ من الطائرات الورقية» (كلاين ٢٠٠٢: ٢٥). يَستعِدُّ «العُصاة»، باعتبارهم جزءًا من حركة العدالة العالمية، للمواجهات بتغطية أجسادهم بموادَّ واقيةٍ واستعمالِ دروعٍ بلاستيكية لحماية أنفسهم من هِرَاوات الشرطة، لكنهم يَمضون رافعين أيديهم إلى أعلى دلالةً على سِلْميَّتهم. في كثير من تلك الأفعال، يُبرهِن خطرُ الاعتقال على قناعة الناشطين بأن إجراءً ما كان ينبغي اتخاذُه بشأنِ قرارٍ يُعَدُّ ظلمًا بيِّنًا، حتى وإن اشتمل ذلك على تعريض النفس لتكاليفَ شديدةِ الفداحة حقًّا.
من السمات الأخرى المميِّزة للحَراك القائم على منطق الاستِشهاد حساسيتُه إزاءَ القِيَم والثقافات البديلة. إن المؤتمرات، والصحف، والمجلات، والحفلات الموسيقية، والوثائقيات تضطلع بمهمَّة تثقيف الجماهير لتعتنق فهمًا مختلفًا لهذا العالم. وعلى الرغم من أن الحركات الاجتماعية المعاصرة تسعى في أغلب الحالات إلى إحراز تحوُّلاتٍ سياسية، فإنها تتقاسَم جميعًا قناعةً مفادُها أن الإصلاح لا يمكن أن يُفرَض من أعلى؛ فلا بد أن تأتي التحوُّلاتُ في البِنى السياسية مصحوبةً بتغييراتٍ موازية في الوعي الفردي؛ ولذلك ينبغي تبنِّي استراتيجياتٍ ثقافية جنبًا إلى جنب مع الاستراتيجيات السياسية. ويتجلَّى هذا المنطق بوضوح في نشاط المستهلكين الذي يُوصَف بحقٍّ بأنه «يَتحدَّى شعورَنا بأن المال والأخلاق كيانان مُنفَصلان لا يَمتزجان» (ميكيليتي ٢٠٠٣: ٣). تُشدِّد الاستهلاكية الأخلاقية، باعتبارها نظريةً تطرح الاستهلاك كفعلٍ سياسي محتمل، على الدور المحوري للأفراد في الاضطلاع بمسئوليتهم عن اختيار السلع العادية المشتركة في حياتهم اليومية؛ فمقاطَعةُ المنتجات السيئة، بل والإقبال على شراء المنتجات العادلة (الصديقة للبيئة والتضامنية)، إضافة إلى تشجيع الاستثمارات ذات المسئولية الاجتماعية، هي أساليبُ لا تُفيد فقط في إعادة تأهيل المخطئين وتغيير طبيعة الأنشطة التجارية، بل تُسهِم أيضًا في ممارسةِ قِيَمٍ معيَّنة (فولسدال ٢٠٠٤). إنَّ الاستهلاكية السياسية، كما تُؤكد ميكيليتي (٢٠٠٣: ١٥٠)، تقف مُدافِعةً عن موقفٍ معياري «ينبغي غرس الفضائل في معاملات السوق بحيث تصير جزءًا لا يتجزَّأ منها. إن الاستهلاكية السياسية الديمقراطية هي نشاطٌ ينطوي على ممارسة إحدى الفضائل». فضلًا عن ذلك، فهي أحد أنماط الفعل المُنسجِم مع الثقافة الفردية (ستول وهوج ٢٠٠٤: ٢٧٣)؛ إذ «يعالج المواطنون الكوزموبوليتانيون في المجتمعات العالمية خياراتهم السياسية بصورةٍ متزايدة من ناحيةِ كيفيةِ تأثيرِ تلك الخيارات على أنماط حياتهم الخاصة» (بينيت ٢٠٠٤أ: ١٠٢).
وتُعَدُّ القدرةُ على البثِّ المباشِر للرسائل خاصيةً أخرى تميِّزُ أنماطَ الفعل الأشد اعتمادًا على منطق الاستشهاد. فنظرًا لمعارضتها لفكرة الغاية تبرِّر الوسيلة، سعَتِ الحركاتُ الاجتماعية المعاصرة لاعتناق أنماطٍ من الفعل تعكس بأكبر قدرٍ ممكن الهدفَ الذي ترمي إليه؛ فالاهتمامُ المُوجَّهُ إلى تأثيرِ الرموز المباشِر يسعى إلى تيسير نشر رسائل الحركات الاجتماعية في ظلِّ وضعٍ لا تُغطِّي فيه وسائلُ الإعلام الحقائقَ إلا تغطيةً سطحيةً فقط: «إذا كانت الرسالة مُتضمَّنةً في النشاط، فإن تغطية النشاط من شأنها أن تَدفع الجمهورَ إلى التفكير في القضية كذلك» (روتشن ١٩٨٨: ١٢٠). إن «مسرَح العصابات» وغيره من أشكالِ توظيفِ الدراما «يجسِّد أُطُرًا مفضلة في أسلوب الرمزية المستخدَم؛ إنه في واقع الأمر تجسيدٌ للإطار عبر الأزياء، والإكسسوار، والدُّمَى المتحرِّكة وغيرها من الصور البصرية» (جامسون ٢٠٠٤: ٢٥٣).
من الآثار المُترتِّبة على منطق الاستشهاد إبرازُ الحِدَّة العاطفية للمُشارَكة. كثيرًا ما استعارَتِ الحركةُ الداعية إلى السلام عناصرَ من الذخيرة القديمة الخاصة بالتظاهر العام وكيَّفَتْها في هذا الصدد؛ فمن وحي التقاليد الدينية (ولا سيما نموذج الحج)، نظَّمَ دعاةُ السلامِ العديدَ من المَسِيرات الطويلة، إضافةً إلى الاحتشادات والتجمُّعات المسائية ذات الطابع الديني، ومواكب حَملة المشاعل، وصلوات الجماعة، وطقوس دَرْب الصليب يومَ جمعة الآلام. شكَّل المتظاهرون بأجسادهم سلاسلَ بشريةً ربطوا بها بين مواقع ذات دلالة رمزية وحاصروا لقاءاتِ زعماءِ العالَم بصورةٍ رمزية، وتحوَّلت تظاهراتُ الشوارع إلى «فعاليات» مسرحية مثَّلَ خلالَها المتظاهرون التبعاتِ المتخيَّلةَ للحروب النووية. ثم تَعمِد حركةُ العدالة العالَمية فيما بعدُ إلى «استعمال بعض الأدوات التقليدية في الذَّخائر القديمة — دُمًى عِملاقة وأقنعةً ساخرة … — لكنها تُكيِّفها بأساليبَ مُبتكَرةٍ، ويكون ذلك في كثير من الأحوال نتيجةً لمشاركة ائتلافاتٍ واسعة في الاحتجاجات» (ويتير ٢٠٠٤: ٥٣٩). من الأمثلة الدالة على ذلك توارُثُ الحركة النسائية ممارسةَ الفعل المُباشِر، لكن مع محاولةِ الحركة «استحداث وسائلَ معقَّدةٍ لضمان المساواة بين جميع أعضاء الجماعة في المشاركة في عملية صنع القرار التوافقي، والتأكيد على الصلات اللوجستية والعاطفية بين المشاركين» (المصدر السابق).
(٤) الخيارات الاستراتيجية والاحتجاج
بادئ ذي بدء، بالنظر إلى أن لكل فعل تكلفةٌ مرتبطة به لكنه قد يكون ذا جدوى في ذاته أيضًا (هيرشمان ١٩٨٢)، من الضروري بالنسبة إلى الحركات الاجتماعية أن تجد أساليبَ ملائِمةً أيضًا لإدراك أغراضها الداخلية؛ فالكثير من أنماط الاحتجاج «له آثارٌ بالغة على رُوح الجماعة لدى المشاركين فيها»؛ ذلك لأنه «في نهاية المطاف ما من وسيلة يُمكنها توليدُ شعور التضامُن مثل تجربة دمج أهداف المجموعة في أنشطة الحياة اليومية» (روتشن ١٩٩٨: ١١٥). يَضطلع الفعل الاحتجاجي بوظيفة داخلية مهمَّة؛ أَلَا وهي: خلق ذلك الشعور بالهوية الجمعية، الذي يُعَدُّ شرطًا للتحرك نحو هدفٍ مُشترك (بيتسورنو ١٩٩٣). في الحقيقة، «إن الخبراء الاستراتيجيين لدى الحركات على درايةٍ تامة بأن بعض أساليبهم على الأقل يَنبغي أن تُوسِّعَ دائرةَ الناشطين وتُنمِّي «علاقات التضامن»، بدلًا من «مجرد» التأثير على السياسيين» (روتشن ١٩٩٨: ١٥٩). إن الإضرابات بالنسبة إلى الحركة العمالية هي أكثر من مجرد نمطٍ احتجاجيٍّ له وظيفةٌ أداتية (فانتيجا ١٩٨٨)، وهو ما يصدق أيضًا على حملاتِ احتلالِ المواقع بالنسبة إلى الحركة الطلابية (أورتوليفا ١٩٨٨)؛ فكلا النمطين يُعزِّز الشعور بالهوية. فالشعور بالتضامن يُولَد من رَحِم المخاطر المشتركة عند الحواجز والمتاريس: «فبينما يقفون مُتَحَدِّين القواتِ المعادِية أو أفراد الحرس الوطني، يتعارف المدافعون عن المتراس باعتبارهم رفقاء، ويقسمون أنفسَهم إلى مُقاتلين وبنَّائين ومورِّدين، ويُشكِّلون شبكاتٍ اجتماعيةً من شأنها أن تجمع الناجين منهم في مواجهاتٍ مُستقبلية» (تارو ١٩٩٤: ٤٤). بالمثل لعبت معسكرات السلام، التي انتشرت في أرجاء أوروبا في أعقاب توقيع الاتفاقية الأوروبية الأولى للسلام ونزع السلاح في بروكسل عام ١٩٨١؛ دورًا حيويًّا في تشكيل هويةٍ داعية إلى السلام. وفقًا لما أعرَبَ عنه المشاركون فيها، كان من أهم ثمرات تلك الطائفة الكبيرة من مؤتمرات القمم المضادة المتعدِّدة الجنسيات تنميةُ المعرفة والفهم المُتبادلَيْن (بيانتا ٢٠٠١أ). وكانت مؤتمرات القمم الحكومية الدولية المُنعقِدة تحت رعاية الأمم المتَّحدة بشأن قضايا المرأة والبيئة والفقر، بوجهٍ خاص، بمنزلة ساحاتٍ للتواصُل وتجسير الأُطُر والتدريب على الاحتجاج (للاطلاع على استعراض لتلك الفكرة، انظر سميث ٢٠٠٤ب: ٣٢٢). إنَّ الفعل السلمي المباشِر يُعضِّد الشعورَ بالانتماء؛ «فالجماعة التي تَشكَّلت ملامحُها تحت أوار الصراع لَهِي كيانٌ عظيمُ القيمة، وبوسعها أن تُشبِع كثيرًا من الاحتياجات التي لا يُمكن إشباعها في سياق الحياة اليومية» (إبستاين ١٩٩١: ٨).
تنشأ مشكلاتٌ مُشابِهة فيما يخصُّ علاقاتِ الناشطين بالإعلام؛ إذ تلعب وسائلُ الإعلام دورًا حيويًّا في تحديدِ ما يَلْقاه الاحتجاجُ من أصداء؛ ومن ثَمَّ ما يُحقِّقه من فاعلية. وبالرغم من وجود جدلٍ بشأن مدى اعتبار الفعاليات الاحتجاجية «تظاهُراتٍ صحفيةً» في المقام الأول — أيْ تظاهراتٍ تستهدف في الأساس جذْبَ التغطية الإعلامية (نوفو ١٩٩٩: ٢٨ وما يَليها) — تُعَدُّ وسائل الإعلام بحقٍّ أبرزَ الأطراف المشكِّلة للوعي العام (جاسبر ١٩٩٧: ٢٨٦). لا شك أن نجاح الفعل الاحتجاجي مرتبطٌ بمقدار الاهتمام الإعلامي الذي يَلْقاه، وهو ما يُؤثر أيضًا على طبيعة تنظيمات الحركات الاجتماعية (جيتلين ١٩٨٠).
إحدى المصاعب التي تُواجهها الحركاتُ السياسية هي عرضُ وسائل الإعلام عمومًا صورًا من احتِجاجاتها دون أدنى إسهابٍ أو تفاصيلَ بشأن القضايا الجوهرية التي تتناولها تلك الاحتجاجات. تُنعَت التظاهُرات بالضخامة أو الضآلة، بالسِّلْمية أو العنف، بضمِّها لقطاعٍ كبير من فئات المجتمع أو اقتصارها على عناصرَ مُهمَّشةٍ مُتعصِّبة؛ أما القضايا التي جمعَتْ أولئك المحتجين معًا فلا تُطرَح إلا على نحوٍ مُقتضبٍ مختزل، ذلك إن طُرِحت أصلًا. إن المشكلة لا تتعلَّق بالتحيُّز السياسي بقدرِ تعلُّقها بالمعايير القاسية التي يستند إليها الإعلامُ في تحديدِ ما هو جديرٌ بالنشر؛ فحجمُ الاحتجاجات، ورُوحُها الابتكارية، ونزعتُها القتالية هي مسائل تَستحِق النشر، أمَّا الرُّؤى السياساتية المحورية فلا.
إجمالًا للقول، تستخدم الحركاتُ الاجتماعية في أغلبها أنماطًا من الفعل يُمكن وصفها بأنها مُخِلَّة بالنظام، ساعيةً إلى التأثير على النُّخَب عن طريقِ استعراضِ قوة الأعداد وإصرارِ الناشطين على إحراز النجاح. لكن يَنبغي ألَّا ننسى في الوقت نفسه أن الاحتجاجات تُعنَى ببناءِ قاعدةِ دعمٍ لها؛ ولذا فعليها أن تتَّسِم بالابتكار أو أن تكون جديرةً بالنشر بما يَكفي بحيث يَتردَّد صداها في جميع وسائل الإعلام؛ ومن ثَمَّ تبلغ قطاعًا جماهيريًّا أوسعَ تسعى الحركات الاجتماعية (باعتبارها «أقلياتٍ نَشِطة») إلى إقناعه بعدالة قضيتها وضرورتها المُلِحَّة. لذلك يَتعيَّن على الأنماط الاحتجاجية التكيُّف، متى اقتضَتِ الحاجة، مع ما تتطلَّبه الأهدافُ التي ربما تكون متعارِضة، كتهديد النُّخب واستمالة الجماهير (من خلال تدخُّل طرفٍ فاعلٍ ثالث، أَلَا وهو الإعلام، الذي يَمتلك أجندته الخاصة).
في مسعاها لتجاوز تلك القيود، تُحاول تنظيماتُ الحركات الاجتماعية بالفعل صقْلَ مهاراتها في التواصُل وإيلاء بالغ اهتمامها إلى الحملات الإعلامية، والمؤتمرات الصحفية، والملفات المُعَدَّة بعنايةٍ بصفةٍ خاصة (كتلك التي تُكتَب بشأن التعايُشات البيئية مثلًا، انظر ديلا بورتا ودياني ٢٠٠٤). علاوةً على ذلك، تُنشِئ الحركاتُ الاجتماعية آلتَها الإعلامية الخاصة بها؛ فالحركات العمالية كان لها صُحفُها اليومية وناشِروها، بل دشَّنَتِ الحركاتُ الأحدث عهدًا أيضًا محطاتها الإذاعيةَ ومواقعها الإلكترونية (انظر الفصل الثامن من هذا الكتاب).
(٥) العوامل المؤثرة في اختيار الذخيرة
يجد قادة تنظيمات الحركات الاجتماعية أنفسهم في مواجهة سلسلة من المعضلات الاستراتيجية عند اختيار النمط الذي ينبغي أن يتَّخذه الاحتجاج؛ فمن الضروري لأي شكل من أشكال الفعل أن يُغطي طائفةً واسعة من الأهداف التي قد تتناقَض أحيانًا، كما أن الخيارات الاستراتيجية تحدُّها سلسلة من العوامل داخل الاحتجاج نفسه وخارجه أيضًا. إن الموارد المادية من شأنها أن تقيِّد الخيارات الاستراتيجية، لكن الذخائر الاحتجاجية ليست مجرد أدوات؛ فهي تنتمي إلى ثقافة الحركة وتمثلها، ومن ثم ترتبط بقيم الناشطين. ولذلك فإن الغايات، بهذا المعنى، لا تُبرر الوسائل تمامًا، وأغلب الجدل الدائر داخل الحركات الاجتماعية بشأن مسائل الذخائر لا تتناول فاعليتها فحسب، بل دلالتها وقيمتها الرمزية أيضًا. وبالفعل شدَّد جيمس جاسبر (١٩٩٧: ٢٣٧) على ما تَنطوي عليه الاحتجاجات من انتشاء وسرور وذلك حين لاحظ أن «أساليب الاحتجاج تُمثِّل ممارساتٍ روتينية مهمة ذات وقعٍ عاطفي وأخلاقيٍّ بارز في حياة هؤلاء الأفراد.»
إن ذخيرة الفعل ليست لا نهائية، بل محدودة في المكان والزمان على السواء؛ إذ تتطوَّر «تكنولوجيا» الاحتجاج ببطء، رازحةً تحت قيود التقاليد المتوارثة من جيل إلى جيلٍ آخر من الناشطين وتتبلوَر في إطار المؤسَّسات. وخير مثال على ذلك المسيرات الجماهيرية، فعلى الرغم من طروء تغيرات في طُقوسها، كما لاحظنا، فإنها لم تزل واحدة من أهم الأنماط الاحتِجاجية التي تتبنَّاها الحملات المناهضة للعولمة الليبرالية الجديدة. فبعدما انبثق هذا الأسلوب من عادة المآدب الانتخابية، أخذ في التبلور والترسُّخ على مهل من خلال وضع مراسم وبِنًى كالحشد الختامي وإدارة المسيرات ورعايتها (فافر ١٩٩٠).
تعدُّ ذخائر الفعل أحد النواتج الثانوية للتجارب اليومية؛ فالمتاريس، مثلًا، مُستمَدَّة من عادة استخدام السلاسل والجنازير لإغلاق الطريق إلى الأحياء ليلًا أو في لحظات الاضطراب. وكما كتَب تراوجوت (١٩٩٥: ٤٧) متحدثًا عن «يوم المتاريس»، ذلك اليوم الذي ثار فيه الشعب على الملك الفرنسي هنري الثالث: «كان أعظم ابتكارات الثاني عشر من مايو عام ١٥٨٨ هو تحصين الخط الفاصل الممثل في السلاسل، واستعمال العوائق لعرقلة تحركات الحرس الملكي التابع للملك هنري الثالث.» وقد أسهم نجاح تلك المتاريس الأولى في إبقاء هذا النمط من الأفعال حيًّا لما يزيد على أربعة قرون.
فالذخائر، إذن، تتوارَثُها الأجيال وتُعيد إنتاجها على امتداد الزمان؛ ذلك لأنها ما يُجيد الأفراد فعله حين يرغبون في الاحتجاج. وما استعان به المحتجُّون في حملةٍ احتجاجيةٍ واحدة من أفعال عادةً ما يعاد تدويرها في الحملات اللاحقة؛ فقد تبنَّت الحركة المناهضة لحرب فيتنام في الولايات المتحدة الأمريكية أساليب سبق استخدامها في حملات الدفاع عن الحقوق المدنية. بالمثل، ورثت الحركة الشبابية التي شهدتها إيطاليا في منتصف عقد السبعينيات الأنماط الاحتجاجية التي اعتنقَتْها الحركة الطلابية أواخر الستينيات (بعد ما ألبستها ثوبًا راديكاليًّا) (ديلا بورتا ١٩٩٥)، أما حركة العدالة العالمية، فقد مزجت أشكالًا من الفعل السلمي المباشر دشَّنتها الحركات الداعية للسلام باستخدام استراتيجيات المسيرات الضخمة والعرائض، المستمدة من ذخيرة القرن التاسع عشر الاحتجاجية: «في الواقع، إن التظاهرات التي تضم فصائلَ سلميةً وغير سلمية، وجَمهرة مِن المُؤيدين، وطائفة من الأنماط الثقافية تجمعهم كلهم معارضةٌ مُشتركة للعولمة إنما تُشكِّل في الحقيقة مزيجًا مُبتكرًا من أساليبَ مستقاةٍ من حركات كانت مُنفصلة فيما مضى» (ويتير ٢٠٠٤: ٥٣٩).
فضلًا عن ذلك، فإن اختيار الأساليب يعبر عن التقارب مع حركات سابقة تَعبيرًا رمزيًّا؛ فتكييف وتعديل أنماط قديمة من الفعل يُصبغ على الاحتجاج شرعية مستمدة من الإشارة إلى أساطير الماضي وأبطاله؛ إذ «إن الاستعانة بأنماطٍ احتجاجيةٍ تقليدية من شأنه أيضًا أن يعيد إلى الأذهان الحركات السياسية السابقة التي مضى أمدٌ طويل مذ ثبتَت عدالة كفاحها ونضالها» (روتشن ١٩٨٨: ١١٠). ومما يُدلِّل على ذلك ارتداء المُحتجين ضد اجتماع البنك الدولي في واشنطن عام ٢٠٠١ للأقنعة الواقية من الغازات، من أجل الإشارة إلى تاريخٍ ممتد من قمع الشرطة للمُحتجين (ويتير ٢٠٠٤: ٥٤٠).
تشكل مثل تلك الإشارات إلى الماضي قيدًا على الحركات الاجتماعية بقدر ما تشكل موردًا لها. فمعرفة «ما يَنبغي فعله» للاحتجاج على قرارٍ ما لأصحاب السلطة في أي مرحلةٍ معينة تصير محدودة؛ وهو ما يُحدُّ بدوره من الفعل الجمعي: «إنَّ الذخيرة القائمة بالفعل تُشكِّل قيدًا على الفعل الجمعي؛ فعلى النقيض من تلك الصورة التي نحملها أحيانًا لتلك الحشود الحمقاء الطائشة، ينزع الأفراد إلى التحرُّك ضمن حدودٍ معلومة، والابتكار على هامش الأنماط الموجودة، وتفويت الكثير من الفرص السانحة لهم في الأساس» (تيلي ١٩٨٦: ٣٩٠). تضم الذخائر في جعبتها الخيارات التي تعدُّها عملية، بينما تستبعد الخيارات الأخرى، مُستمِدةً جذورها من نشاط الثقافات الفرعية المشتركة: «تُشكِّل تلك التوليفات المتنوعة من الفعل ذخيرة بالمعنى المسرحي أو الموسيقي للكلمة؛ بيد أن الذخيرة المقصودة هي أشبه بذخيرة الكوميديا المُرتجلة أو موسيقى الجاز منها إلى ذخيرة الفِرَق التقليدية؛ فالأفراد يدركون القواعد العامة للأداء إدراكًا جيدًا إلى حدٍّ ما، ويُعدِّلون أداءهم بما يلبي الغرض المطلوب» (تيلي ١٩٨٦: ٣٩٠).
لا تُمثِّل مثل هذه القيود المفروضة على مجموعة الأنماط الاحتجاجية إلا جزءًا من القصة فحسب؛ ففي حين يُمكن تكييف بعض أنماط الفعل لتلائم أكثر من موقف، لا يسري الأمر ذاته على الكثير من الأنماط الأخرى؛ إذ تنقسم على مستوى المجموعات الاجتماعيات، من بين مستويات أخرى؛ فالسجناء يَعتلون أسطح السجون، والجنود يرفضون حصصهم التموينية، والطلاب يُنظِّمون مقرراتٍ دراسيةً «بديلة»، والعاطلون يَحتلون المصانع ويبدءون العمل. بل إن واحدًا من أكثر أنماط الفعل الجمعي شيوعًا حاليًّا، وهو الإضرابات، كانت تعدُّ حتى وقتٍ قريب من الأساليب التي عُدِّلت لتلائم الطبقة العاملة بصورةٍ شبه حَصرية. في الواقع، تعتمد ذخائر الفعل إلى حدٍّ كبير على الموارد الثقافية والمادية المتاحة لمجموعاتٍ معينة؛ فأشد أشكال الفعل نضالًا وعنفًا ستكون أكثر انتشارًا بين تلك المجموعات التي تواجه صعوبةٍ خاصة في الحصول على مكاسبَ ماديةٍ والتي ترى في الإشباع الرمزي عوضًا عن تلك المكاسب المادية، إضافة إلى أن الثقافات الفرعية التي ترجع إليها الحركات إنما تسهم في خلق ذخائر فعل مميزة. فالتنظيمات الدينية، مثلًا، تُوظِّف طقوسًا خاصة بعقائدها وتكيُّفها، والحركات الداعية إلى السلام تَسلُك مسلكًا سلميًّا؛ لأن استعمال العنف أقرب إلى تذكير للجماهير بالنزعة القتالية التي يأمُلُون في إدانتها، والقراصنة الإلكترونيون يسعون باحثين عن أنماط من الاحتجاج الإلكتروني تُعبِّر عن مخاوفهم الخاصة بشأن حرية الوصول إلى المعلومات (لا سيما البرمجيات الحرة) وحقوق الخصوصية (كاستيلز ٢٠٠١: الفصل الثاني؛ فريسكي ٢٠٠٣؛ تي جوردان ٢٠٠٢). وأخيرًا، تتغير الذخائر من دولة إلى أخرى. على سبيل المثال، يعدُّ إنشاء المتاريس أمرًا أكثر شيوعًا في فرنسا منه في سويسرا، وفي المُقابل كثيرًا ما يُلجأ إلى الديمقراطية المباشرة في سويسرا مقارنةً بفرنسا (كريسي وآخرون ١٩٩٥).
في حين لا يَنبغي أن نغفل عن أهمية التقاليد، لا يخلو النشاط الاحتجاجي من الابتكار أيضًا، شأنه في ذلك شأن بقية أشكال الفعل الأخرى: «دائمًا ما يختبر الخصوم أنماطًا جديدة سعيًا وراء إيجاد ميزة تكتيكية، لكنهم يَختبرونها بأساليبَ محدودةٍ وعلى هامش أفعالٍ أخرى معروفة وراسخة. وقليلة هي الابتكارات التي تصمد فيما بعد سلسلةٍ معينة من الوقائع، وهي تصمد بصورةٍ أساسية حين ترتبط بميزةٍ جديدةٍ ملموسة لواحد من الأطراف الفاعلة أو أكثر» (تيلي ١٩٨٦: ٧). ويُعمَّم استعمال أنماط الفعل التي كانت مقتصرة في بادئ الأمر على أطرافٍ فاعلةٍ معينة (ومدانة من أطرافٍ فاعلةٍ أخرى)، فيلجأ الموظفون الإداريون إلى الإضراب، ويغلق أصحاب المحالِّ التجارية الشوارع. ودائمًا ما تُبتكر أساليبُ جديدةٌ للوفاء بما تتطلَّبه وسائل الإعلام من معايير «الأهمية الإخبارية». علاوة على ذلك، تنتشر أنماطٌ معينة من الفعل من مجموعةٍ اجتماعية إلى أخرى، وفي كثير من الأحيان من بلد إلى آخر، لا سيما في تلك المراحل التي يزدهر فيها الفعل الجمعي وتتصاعد وتيرته، ومثال ذلك الفعل السلمي المباشر الذي انتقل من الهند زمن المهاتما غاندي إلى الولايات المتحدة الأمريكية أيام مارتن لوثر كينج (شابو ٢٠٠٢)، وكذلك الحركة الطلابية التي جلبت الاعتصامات إلى الجانب الآخر من المحيط حيث القارة الأوروبية، كما شهدت إيطاليا في أعقاب الموجة الكاسحة من التعبئة العمالية أواخر الستينيات انتشارًا سريعًا لظاهرة الإضرابات بين الكثير مِن مختلف القطاعات السكانية. هذا إلى جانب ما شهدته الحركة الداعية إلى السلام من بروز عشرات المُعسكرات حول قواعد إطلاق القذاف النَّووية على غرار نموذج جرينهام كومن الذي يعدُّ باكورة تلك النماذج. كذلك تبنَّت حركة العدالة العالمية سلسلة من الأنماط الاحتجاجية التي تَرجِع جذورها إلى تقاليدَ أخرى كالتجمعات الدينية المسائية المستقاة من الجماعات الدينية، والعصيان المدني المُستلهم من الحركة النسائية، وما إلى غير ذلك.
يَجدر بنا أن نضيف في هذا السياق أن التنشئة الاجتماعية في إطار الأساليب الاحتجاجية ليست مجرد مسألة فعلٍ انعكاسي أعمى، وإنما تُمثِّل عملية تعلُّمٍ نقدية؛ ومن ثم فليست جميع أنماط الفعل قابلة للانتقال من حقبة إلى أخرى، ولا من مجموعةٍ اجتماعية إلى أخرى، ولا من بلد إلى آخر. ولعل أسهلها انتقالًا من حركة إلى حركةٍ أخرى هي تلك الأنماط التي تعدُّ ناجحة، في المقام الأول، أو جيدة التكيُّف بوجهٍ خاصٍّ مع سياق الحركات أو ثقافتها (كوبمانس ٢٠٠٤: ٢٦؛ سول ٢٠٠٤: ٣٠٢). ويمكن تفسير الانتشار السريع لأساليب المقاطعة (ميكيليتي ٢٠٠٣: ٨٣) خلال الحملة المناهضة للعولمة الليبرالية الجديدة في ضوء استعمالها سابقًا ضد الشركات الدولية مثل شِل أو نايك. في المقابل، تتضاءل فرصة بقاء الأنماط الاحتجاجية التي أثبتَت فشلها؛ ففي إيطاليا، مثلًا، مثَّلت الحركة المناهضة للقذائف الموجهة تحولًا كبيرًا في الأساليب التي تَتبعها حركات التحرُّر اليساري. وفي حين اتسمت أواخر السبعينيات بتصاعُد موجة العنف، شدَّدت حركة السلام على اللاعنف، ساعيةً إلى تحقيق هدفٍ محدَّد، ألا وهو إبراز انفصالها عن الماضي والمساهمة في قطع ما بين احتجاجات الثمانينيات وذكريات العقد السابق الدموية من صلات في الخيال الجمعي (ديلا بورتا ١٩٩٦أ).
علاوةً على معيار النجاح، قد تنمي الأجيال المختلفة ميولًا مختلفة إلى أنماطٍ محددة من الفعل (جاسبر ١٩٩٧: ٢٥٠). فمن المثير للاهتمام أن طقس المسيرات قد طرأت عليه تغيرات بحيث يُلائم العصر الحديث (أو «ما بعد الحديث»)؛ إذ تحول من تلك المسيرات التي تهدف إلى إظهار الوحدة والتنظيم إلى أشكالٍ ذات طابعٍ مسرحي أقوى يركز على التعبير اللافت النابض بالحياة عن التنوع والذاتية (انظر مثلًا روشت (٢٠٠٣ب) للاطلاع على تحليل لمسيرات عيد العمال في ألمانيا). وفي التظاهُرات الأخيرة لحركات العدالة العالمية، استطاع شباب الناشطين تغيير صورة المسيرات بمنظورهم الأكثر مرحًا وعفوية.
غير أن هذا لا يعني أن الاحتجاج دائمًا ما ينزلق نحو العنف؛ فموجات النزاع قد تسلك مساراتٍ مختلفة (كوبمانس ٢٠٠٤: ٢٩). لقد انخرط كلٌّ من ناشِطي الحركات وقوات الشرطة في عملية تعلُّم أسهمت في نزع فتيل أشكال الصراع التي ميَّزت عقد السبعينيات، وهو ما نرى آثاره في عقد الثمانينيات؛ فرغم ما شهدته تلك الحقبة من لحظات احتقانٍ (شديد في بعض الأحيان)، لا سيما أثناء مواقف الفعل المباشر كإغلاق بوابات القواعد العسكرية، أبدى ناشطو السلام ورجال الشرطة قدرًا من الخبرة كان كافيًّا لتجنُّب تصعيد الموقف إلى حد العنف: «تُنظَّم التظاهرات بعناية مسبقًا. وبالمثل، فإن الناشطين المقرَّر اشتراكهم في أنشطة العصيان المدني، كفرض الحصار مثلًا، عادةً ما يُطالَبون بالخضوع لتدريبات في المقاومة السلبية واللاعنف، كما تدرَّبَ أفراد الشرطة الذين يُواجهونهم على مكافحة الشغب والتعامل مع الاحتجاجات السلمية. إن تلك الصورة التي طالَما تُبثُّ لشرطي يزج بمتظاهر إلى المعتقل تبدو صورة للصراع، وهو أمرٌ حقيقي، لكنها نموذج أيضًا لفريقين من المحترفين يُؤدُّون مهامهم بدقة وإتقان» (روتشن ١٩٨٨: ١٨٦-١٨٧).
صحيح أن العنف قد تصاعَدَ في سياتل، ثم في براج وجوتنبرج وجنوة، لكن هذا لا ينفي وجود محاولات بذلتها الأغلبية الواسعة من الناشطين السلميين لكبح جماح العنف من خلال الابتكار التكتيكي: فقد انتقلوا من تحديد «المناطق الخالية من العنف» إلى تقسيم المسيرات إلى مجموعات تبعًا للتكتيكات المتبعة، والفصل، بناءً على الأسس ذاتها، بين مختلف قطاعات الحركة الواحدة في مختلف الأحياء. بالمثل تطورت عملية تعلم مشابهة داخل حركة العدالة العالمية وذلك في أعقاب تصاعد العنف في جوتنبرج وجنوة، نتج عنها ابتكار أشكالٍ جديدة من الكيانات المقاتلة («مسلحة» بكاميرات الفيديو فقط) وتطبيقٍ أشدَّ صرامة لأساليب اللاعنف (ديلا بورتا ورايتر ٢٠٠٤أ و٢٠٠٤ب).
ثمة مُتغيرٌ آخر (من المقرَّر تناوله بمزيد من الإسهاب في الفصل التالي) يؤثر على الخيارات الاستراتيجية التي تتَّخذها الحركات الاجتماعية؛ فقد أشار ليبسكي إلى أن الاحتجاج يجب أن يكون في وضعٍ يسمح له بتعبئة الحلفاء المحتملين والتأثير على النخب. من الطبيعي أنه كلما عظمت احتمالية توسيع دائرة التحالفات التي تحظى بها الحركات الاجتماعية، ازداد ما تعيره تلك الحركات من اهتمام إلى تفضيلات المؤيدين المحتمَلين. ففي حالة حركة العدالة العالمية، كان لدعم الكثير من المنظمات غير الحكومية المعروفة والمحترمة إلى جانب عددٍ كبير من الأفراد المرموقين دور في جذب الاهتمام الإعلامي وعرقلة تدخُّل الشرطة القسري (أندريتا وديلا بورتا وموسكا ورايتر٢٠٠٢ و٢٠٠٣).
(٦) انتشار الأنماط الاحتجاجية عبر الحدود والقوميات
لا يعدُّ انتشار النشاط الاحتجاجي عبر الحدود والقوميات ظاهرةً حديثة؛ فالحركة الطلابية في الستينيات، والحركة النسوية في السبعينيات، وحركة السلام والحركة البيئية في الثمانينيات، جميعها أمثلة لما أُطلِق عليه الحركات «العالَمية» والتي نشأت بالتزامن في جميع أنحاء العالم وأظهرت أوجه تشابهٍ مهمة في مختلف البلدان. ولو رجعنا بذاكرتنا إلى ما هو أبعد عهدًا من القرن العشرين، فسنجد أن ثورات عام ١٨٤٨ والحركة المناهضة للرق كانت ظواهرَ جمعيةً تنامت لتشمل أكثر من قارة. غير أنه من الصحيح أيضًا أن عملية الانتشار لا تضمُّ جميع الحركات بالتساوي، وأن التبادل لا يكون متناسقًا على الدوام.
بادئ ذي بدء، من المرجَّح أن الانتشار سيتم بين البلدان المتقاربة جغرافيًّا؛ بل إنه عادةً ما يكون التفاعل في أقوى صوره بين البلدان المتجاورة؛ فحجم الصلات القائمة بين البلدان الإسكندنافية أكثر من تلك التي تربط الدنمارك وإيطاليا مثلًا. بيد أن التقارب الجغرافي لا يشكِّل عاملًا مهمًّا في جميع الحالات؛ إذ ينبغي وضع ماضي تلك البلدان في الحسبان. فالانتشار سيتحقَّق في الغالب بين الحركات المنتمية إلى بلدانٍ لها تاريخ من التفاعل السابق، كالانتشار بين الحركات القائمة في فرنسا وإيطاليا، مثلًا، مقارنةً بالانتشار بين الحركات في إيطاليا وأيرلندا. علاوةً على التفاعُل المباشر نفسه، فإن «الفهم الثقافي لحقيقة أن الكيانات الاجتماعية تنتمي إلى فئةٍ اجتماعيةٍ مشتركة من شأنه (أيضًا) أن يَبني رباطًا بينهم» (ستراند وماير ١٩٩٣: ٤٩٠). يتعيَّن علينا أيضًا أن نضع نصب أعيننا التشابُهات في البِنية الاجتماعية والسياسية بين البلدان التي تَنتمي إليها الحركات؛ ولذلك فإن احتمالية انتشار النشاط الاحتِجاجي بين بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية تَفُوق احتمالية انتشاره بين بريطانيا العظمى والهند، على سبيل المثال، حتى وإن كانت الهند جزءًا من مجموعة الكومنولث البريطانية. وأخيرًا فإن لوضع البلد «الناقل» أهميةٌ معينة. في الحقيقة، ورغم وجود استثناءات لتلك القاعدة، فإن الانتقال من المركز إلى الأطراف، أو مِن بلدان العالم «الأول» إلى بلدان العالم النامي، من شأنه أن يُضعف التأثير وهو ما يصدق على قطاع الحركات الاجتماعية وغيره من القطاعات.
إن جميع ما ذُكر للتوِّ من سمات يؤثر على الانتشار المباشر من خلال التفاعل الشخصي الذي طالما أكدته الأدبيات التقليدية، كما يؤثر على الانتشار غير المباشر عبر وسائل الإعلام الذي أبرزته الدراسات الأحدث عهدًا (ستراند وماير ١٩٩٣). بالنسبة إلى التفاعل المباشر، فإن التقارب الجغرافي، والتفاعل التاريخي، والتشابهات البنيوية جميعها ينزع إلى إنتاج لغة وأعراف تسهل الاتصالات المباشرة بين ناشِطي الحركات المتناظرة، وتزداد احتمالية التبادلات المباشرة في ظل وجود رابطاتٍ متعدِّدة الجنسيات، أو برامج التبادل الثقافي، أو المعرفة اللغوية، أو حتى لغةٍ مشتركة.
إن ما ذكرناه سلفًا من مستويات التقارب المُتنوِّعة من شأنه أيضًا أن يدعم تطور علاقاتٍ أكثر رسمية وقنوات تواصُل أكثر تنظيمًا؛ فتصير العلاقات، بوجهٍ أخصَّ، أكثر رسمية بعدما تَسمح الصلات الشخصية بإجراء تبادلات مبدئية، ومع تزايد التنظيم البِنيوي للحركات، وحينها يُمكن أن تَنتشِر الأفكار من خلال ترجمة وثائق الحركات، وتنظيم مؤتمرات دولية، وإنشاء شبكات بواسطة الكمبيوتر، وما إلى غير ذلك. وهكذا تَكتسِب الأنماط غير المباشرة من الانتشار أهميةً مُتزايدة. لاحظ الباحثون أن عملية الانتشار بين الحركات الطلابية والتي شهدَتْها حقبة الستينيات قد أطلقتها الاتصالات الشخصية ابتداءً، لكن «بمُجرِّد استقرار هذا التماهي، ساعد على تحقيق الانتشار من خلال طائفةٍ متنوعة من القنوات غير المُرتبِطة بالعلاقات، والتي ضمَّت التلفزيون، والصحف، والكتابات ذات الطبيعة العلمية والراديكالية على السواء» (ماكادم وروشت ١٩٩٣: ٧١). وعلى غرار ذلك، حظيَت بالفعل اجتماعات القِمَم المضادة والمنتديات الاجتماعية فوق الوطنية بإشادة الناشِطين، لا سيما كمناسباتٍ مواتية لتبادُل الأفكار والتواصل (بيانتا ٢٠٠٢).
لا شك أن للتقارب الجغرافي والثقافي أهميةً أيضًا في إحداث تكافؤٍ وظيفي؛ إذ يكون التشابه في موقف الحركات «الناقلة» و«المنقول إليها» عاملًا مساعدًا في تسهيل عملية الانتشار. فضلًا عن ذلك، فإن العناصر ذاتها تُسهِّل البناء الاجتماعي لذلك التشابه، بحيث يرى المنقول إليهم تشابهًا بين موقفهم وموقف الناقِلين (ستراند وماير ١٩٩٣). وبصرف النظر عن التشابُهات الفعلية، يُؤدِّي التصور الذاتي للظروف المشتركة إلى اعتبار فكرةٍ ما ذات صلة ويعتنقها المنقول إليهم. فقد تيسَّرَ انتقال الأفكار من الحركة الطلابية الأمريكية (الناقل) إلى نظيرتها الألمانية (المنقول إليه) بسبب وجود تشابُهات في تعريف الهويات الجمعية للحركتين (ماكادم وروشت ١٩٩٣). بالمثل يسهم اللجوء إلى الهويات العالمية في تسهيل الحملات العابرة للحدود والقوميات المناهضة للعولَمة الليبرالية الجديدة (ديلا بورتا وأندريتا وموسكا ورايتر ٢٠٠٥).
كذلك تُسهِم تقاليد الحركات المعينة في تفسير النزوع المتفاوت نحو تبادُل المعلومات و«التناسُخ» على المستوى الدولي؛ فبالرغم من لجوء الحركات العمالية المحلية، على سبيل المثال، إلى مبدأ الدولية أو الأممية، يبدو أن الاعتقاد بأن مصائر تلك الحركات كانت أوثق ارتباطًا بمصائر الرأسماليين في بلدانهم من ارتباطها بالعمال في البلدان الأخرى قد هيمَنَ على تلك الحركات المحلية زمنًا طويلًا. أما المجموعات البيئية، على الجانب الآخر، فلطالما أدركت المصاعب الحائلة دون تقديم حلولٍ محلية للمشكلات البيئية التي انتقلت من بلد إلى آخر عن طريق الماء والهواء الملوثَين. وعلى صعيد حركة العدالة العالمية، فإن ثراء ذخيرة الفعل الخاصة بها وتنوعها إنما هو نتاج تهيئة الظروف المواتية للقاءات المتجاوزة للحدود والقوميات.
(٧) دورات الاحتجاج والموجات والحملات الاحتجاجية
تخضع الخيارات الاستراتيجية للحركات الاجتماعية للتطوُّر عبر الزمن، وتُعَدُّ نتاجًا للتفاعل بين عددٍ من الفاعلين المختلفين. وقبل اختتام هذا التحليل لأنماط الفعل الجمعي، يَتعيَّن علينا في الواقع طرْحُ مفهومٍ أخير ذي أهميةٍ خاصة في تحليل ذلك التطور عبر الزمن، أَلَا وهو: دورة الاحتجاج. بالرغم من تفاوت الدورات الاحتجاجية في الأبعاد والمدى الزمني، فإنها تميَّزَتْ في التاريخ الحديث بعددٍ من السمات المشتركة: تتلازم الدورات الاحتجاجية في «مرحلة من الصراع والخلاف المتصاعدَين عبر المنظومة الاجتماعية، وهي مرحلة تضم: انتشارًا سريعًا للفعل الجمعي من القطاعات الأشد تعبئةً إلى القطاعات الأقل تعبئة، وتسارُعًا في وتيرة الابتكار في أنماط النزاع، وبروزَ أُطُرٍ جديدة أو متحوِّلة من الفعل الجمعي، ومزيجًا من المُشارَكة المنظَّمة وغير المنظَّمة، وسلاسلَ متعاقِبةً من التفاعلات المكثَّفة بين المعارضين والسلطات والتي قد تُفضي إلى الإصلاح أو القمع والثورة أحيانًا» (تارو ١٩٩٤: ١٥٣). يَنتقِد بعض الباحثين استعمالَ مفهوم الدورة؛ نظرًا لما يبدو فيه من دلالةٍ على الانتظام، وكونها «سلسلةً متوالية من الظواهر المتكرِّرة بصورةٍ دورية» (كوبمانس ٢٠٠٤: ٢١)، لكنَّهم يُؤكِّدون في المقابل على التوزيع غير المتساوي للنزاع عبر الزمن: «فترات من الهدوء النسبي تتناوب مع موجاتٍ من التعبئة المكثَّفة تشمل قطاعاتٍ كبيرةً من المجتمعات، وغالبًا ما تُخلِّف تأثيراتٍ متزامِنةً على مجتمعاتٍ كثيرة» (المصدر السابق: ٢١). غالبًا ما تتألَّف موجاتُ الاحتجاج من حملاتٍ مترابطة ومتداخلة؛ أيْ سلسلة من التفاعلات يرتبط بعضها ببعض من حيث المنظور الموضوعي، وموجَّهة نحو غرضٍ مشترك (ديلا بورتا وروشت ٢٠٠٢أ و٢٠٠٢ب). من أمثلة تلك الحملات احتجاجاتُ الحركات النسائية بشأن حقوق الإجهاض، أو احتجاجاتُ الحركة الداعية إلى السلام ضد نشر القذائف الموجَّهة وقذائف بيرشنج ٢، أو احتجاجات حركة العدالة العالمية الداعية إلى «إسقاط الديون» التي تُثقِل كاهلَ الدولِ الأقلِّ نموًّا. وقد تبنَّتْ حركةُ العدالة العالَمية الحملاتِ بالفعل كمعادلةٍ ذات فاعليةٍ خاصة في ربط الحركات الاجتماعية وتنظيمات الحركات المتغايرة.
بدءًا بصراعٍ مؤسسي، مرورًا بذروةٍ مفعمة بالحماس، وصولًا إلى انهيارٍ نهائي. وعقِبَ نَيْلِها الاهتمامَ المحلي واستجابةَ الدولة، بلغت الحركات ذُرَى الصراع التي اتَّسمت بوجودِ منظِّمِين للحركات ممَّنْ حاولوا نشر الثورات وحركات التمرد على نطاقٍ أوسعَ من الجماهير. ومع توجيه المشاركة إلى التنظيمات، اعتنقَتِ الحركات، أو جزء منها، منطقًا ذا أساسٍ سياسيٍّ أقوى؛ متمثلًا في الانخراط في مساوماتٍ ضمنية مع السلطات، ومع دنو الدورة من نهايتها، تنتقل المبادرة في كل حالة إلى النخب والأحزاب.
حين تُوظَّف أنماطُ الفعل المخلَّة بالنظام لأول مرة، فإنها تبثُّ الخوفَ في نفوس الخصوم بتكاليفها المحتملة، وتُصِيب متابعي المشهد بالصدمة، وتثير مخاوفَ النُّخَب المَعنِيَّة بالنظام العام. لكن ما تلبث الصحفُ أن تُقلِّصَ تدريجيًّا من مساحةِ تغطيتها للاحتجاجات التي كان يجدر بها أن تَتصدَّرَ العناوينَ الرئيسيةَ لتلك الصحف عند اشتعالِ أُولى جذواتها في الشوارع. إن الإتيان بالشكل ذاتِه من أشكال الفعل الجمعي مرارًا وتكرارًا من شأنه أن يَحدَّ من حالة اللَّايَقِين، ويَلْقى ردودَ أفعال تتراوح بين القبول والملل. بالنسبة إلى المشاركين، فبعدما تزول سَكْرةُ الحماس ونشوتُه لتضامنهم وقدرتهم على تحدِّي السلطات، يُصِيبهم الإنهاك أو خيبة الأمل. أما بالنسبة إلى السلطات، فبدلًا من استدعاء القوات أو السماح لرجال الشرطة بفضِّ الحشود، فإنها تعمد إلى اختراق المجموعات المعارضة وتفريق القيادات عن الأتباع، وسرعان ما يغلب الطابع الروتيني على الأوضاع عقب الاضطرابات.
إن تحليلَ دورات الاحتجاج ذو جدوى خاصة في فهم عملية نمو العنف السياسي، باعتباره واحدًا (لكنه ليس الأوحد ولا الأهم) من النتائج التي كثيرًا ما تتمخَّض عنها الاحتجاجات. في الواقع، عادةً ما تنزع أشكالُ العنف إلى التنوُّع بحسب المرحلة التي تمرُّ بها الدورة الاحتجاجية؛ ففي بداية الاحتجاج، عادةً ما يُسجِّلُ العنفُ حضورًا محدودًا في نطاقٍ ضيقٍ وإطارٍ غير مخطَّطٍ له، ويكون العنف في تلك الأطوار نتيجةً غير متوقَّعة للأفعال المباشِرة كالاعتصامات أو احتلال المواقع المهمة. مع تنامي النشاط الاحتجاجي، تبدأ أنماطُ الفعل العنيفة في الانتشار بوتيرةٍ أبطأ من انتشار الأنماط السِّلْمية، وكثيرًا ما تَتَّخذُ شكلَ اشتباكاتٍ بين المتظاهرين ورجال الشرطة أو المشاركين في التظاهرات المضادة. وعلى الرغم من انطلاقِ مثلِ هذه الوقائع كظاهرةٍ عَرَضية في بادئ الأمر، فإنها تَنزع إلى التَّكرار وتكتسب طابعًا طقسيًّا. تبدأ المجموعات الصغيرة خلال تلك العملية في التخصُّص في أساليبَ متناميةِ التطرف، وتعمد إلى بناء ترسانةٍ خاصة بذلك الفعل، وممارسة أنشطتها خفيةً بين الحين والآخر. إن مجرد وجود مثل هذه المجموعات من شأنه أن يُعجِّلَ برحيل المعتدلين عن الحركة؛ مما يسهم في تحقُّقِ ما تخشاه (ولو بصفةٍ مؤقتة على الأقل) أشدُّ المجموعات عنفًا فقط، أَلَا وهو إنهاء التعبئة؛ ومن ثَمَّ تَشهد المراحلُ الأخيرة من الدورة الاحتجاجية ظاهرتين؛ طغيان الطابع المؤسساتي الروتيني، وتزايُد عددِ أعمال العنف.
إن نظرةً عابرة على تطوُّر حركة العدالة العالمية كفيلة بأن تؤكد بعضًا من تلك الديناميكيات على الأقل. لقد كان من خصائص مراحل حضانة التعبئة وجود نشاط تَركَّز في أغلبه على الحملات الإعلامية وممارسة الضغط، مصحوبةً بعددٍ محدود فقط من التظاهرات الرمزية تقوم بها شبكاتٌ صغيرة من الناشطين. وخلال هذه المرحلة كان نطاق الحركة يتَّسع ليتعدَّى قاعدتها الأصلية بحيث حشدت مجموعاتٌ منخرطة في حركاتٍ سابقة (الحركة النسائية والحركة البيئية بل والحركة العمالية أيضًا)، أو في أحزابٍ سياسية وجمعياتٍ دينية. أضاف كل طرف من تلك الأطراف الفاعلة أنماطًا معيَّنة من الفعل إلى الذخيرة المشتركة؛ فجلبت المجموعات النسوية معها ممارسات العصيان المدني التي صقَلتها في حملاتها لتشريع الإجهاض، وحملت الجمعيات الدينية في جعبتها الأناجيل؛ وأضاف نشطاء الحركة البيئية ممارسة الاحتلال السلمي للمواقع، والتي استعانوا بها سابقًا ضد مواقع محطات الطاقة النووية، أما الأحزاب اليسارية فقد حشدت جموعًا من الأتباع وقدَّمت قنوات اتصال مع المؤسسات العامة. لا شك أن هذا التباين بين مختلف أطياف المُؤيِّدين المُنخرطين في الحركة قد أدَّى إلى اختلافات بشأن أنماط الفعل الواجب تبنِّيها، بيد أن هذا التنوع لم يَعُقْ قدرة الحركة على التعبئة في طورها التوسعي، بل على النقيض أثرى تلك القدرة وضاعفها. واستَجابت الحكومات، بعد حالة من التردُّد والحيرة في البداية، بإصدار أوامر للشرطة بالتدخل، لا سيما لقمع محاولات إغلاق مواقع اجتماعات القمم الدولية. أما بالنسبة إلى العصيان المدني السلمي، فبالرغم من بقائه سلميًّا بوجهٍ عام، فقد لجأ إلى التصعيد في بعض الحالات، خاصة عند لجوء الشرطة لأسلوب العنف واستعراض العضلات ردًّا على هجمات المجموعات الأناركية المتطرِّفة.
ثمَّة اتجاهان على الأقل ينبغي أن نضيفهما إلى تحليل تطور الدورات الاحتجاجية المذكور حتى الآن. أولًا: تسهم كل دورة في توسيع ذخيرة الفعل الجمعي، وهي حقيقة انسحبت على دول حلف وارسو حوالي عام ١٩٨٩ تمامًا كما سبق أن انسحَبَت على موجات الاحتِجاج التي اكتسَحَت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية خلال عقدَي الثلاثينيات والستينيات. والحق أن المُواطِنين يَعمدون إلى تشكيل أنماطٍ جديدة من الفعل الجمعي خاصة حين تصل موجات التعبئة إلى ذروتها: «إنَّ احتلال المصانع الذي كان سمةً مميزة لإضرابات فرنسا عام ١٩٣٦ كان شبيهًا بالإضرابات في محل العمل في مدينتَي فلينت وآكرون، بينما ساعدت عمليات احتلال الجامعات في برلين وتورينو وباريس عام ١٩٦٨ في ربط الطلاب بنظرائهم الأمريكيِّين. بالنسبة إلى حركة «تضامن» البولندية، فقد ثبت أن أشد سماتها لفتًا للانتباه هو مناقشات المائدة المستديرة التي جرَت بين قيادات الحركة والحكومة، والتي كانت إرهاصًا لأشكال التفاوض التي اكتسحَت أوروبا الشرقية عام ١٩٨٩» (تارو ١٩٩٤: ١٦٧-١٦٨).
أما ثاني الاتجاهين فيتمثَّل فيما شهدته أشد أنماط الفعل راديكالية من تراجع، على الأقل بين الناشطين اليساريِّين؛ فقد شهدت حقبة السبعينيات نزوعًا إلى المحافظة على الاهتمام الإعلامي والبقاء كمَصدر «تهديد محتمَل» وذلك من خلال التركيز على أشكال الفعل المتطرِّفة. ولكن بدءًا من عقد الثمانينيات، انتشرت أنماطٌ احتجاجيةٌ متنوعة إلى أطراف فاعلةٍ مؤسسية وغير مؤسسية، كما أن أغلب أنواع الحركات الاجتماعية الجديدة تُعَدُّ دليلًا على ظهور نزعةٍ اعتداليةٍ متنامية في ذخائر الفعل الجمعي (ديلا بورتا ١٩٩٦أ و١٩٩٦ب و١٩٩٦ج؛ انظر أيضًا راشكِ ١٩٨٨: ٣٢٢–٣٣٢). إن المنطق في تلك المسألة أكثر ديناميكية بالفعل، مع وجود تنامٍ في الأفعال المنطوية على مخاطر أو تكاليفَ شخصيةٍ فادحة، وهو منطق يستند إليه العصيان المدني، وهو شكلٌ احتجاجيٌّ معروف عنه مخالفته لقوانين تُعدُّ مجحفة.
غير أن هذا لا يَعني أن استعمال العنف كوسيلةٍ سياسية قد تراجَع؛ فكما أوجز تشارلز تيلي (٢٠٠٣: ٥٨) آسفًا، فمنذ عام ١٩٤٥ «اتخذ العالم بأجمعِه خطواتٍ حاسمةً ومريعة بعيدًا عما أحرزه سابقًا بشقِّ الأنفس من فصل بين الجيوش والمدنيِّين، بين الحرب والسلام، بين الحرب الدولية والحرب الأهلية، بين الاستعمال القاتل للقوة واستعمالها غير القاتل. لقد اتجه العالم صوب الصراعات المسلحة داخل الدول القائمة وصوب قتل فئاتٍ سكانيةٍ كاملة أو حرمانها أو طردها برعاية من الدول.»
(٨) خلاصة القول
لقد كرسنا هذا الفصل لتحليل أهم أشكال الفعل التي تبنَّتْها الحركات الاجتماعية، بعبارةٍ أخرى، كرسناه لدراسة الأنماط الاحتجاجية. يُعرف الاحتجاج بأنه فعلٌ غير مُعتاد تنفتح فيه قنوات التأثير غير المباشرة من خلال نشاط سلسلة من الفاعلين الجمعيين. وبالرغم من أن الأنماط الاحتجاجية قد بلَغَت من الانتشار بحيث يصعب وصفها بأنها غير تقليدية، لم يزل من المسلَّم به أن الاحتجاج يَتجاوز أنماط المشاركة الروتينية في الديمقراطية التمثيلية. لقد قيل إن الأساليب التي تستخدمها الحركات الاجتماعية تُشكِّل ذخائرَ ذاتَ خصائصَ محددةٍ. ومن الجدير بالذكر بصفةٍ خاصة أن العالم قد شهد منذ القرن التاسع عشر تبلور ذخيرة من أنماط الاحتجاج القومية المتَّسمة بالاستقلال والمرونة، ثم طرأت تحولاتٌ أحدثُ في كلٍّ من توزيع السلطة على الصعيدَين الوطني والدولي وفي بِنية الاتصالات الجماهيرية، وهي التحولات التي انعكَسَت في نشأة أنماطٍ احتجاجيةٍ جديدة، مثل اجتماعات القمم المضادة وحملات المقاطعة المتعدِّدة الجنسيات، وكذا أنشطة الاحتجاج الإلكترونية. في معرض تمييزنا في هذا الفصل بين مختلف أنماط الاحتجاج، شدَّدنا على حقيقة أن الأسس المنطقية المختلفة الداعمة للفعل الاحتجاجي كانت موجودة في كلٍّ من الذخائر المذكورة في الوقت ذاته: منطق الأعداد الرامي إلى إظهار قوة ما تتمتع به الحركة من دعم؛ ومنطق الأضرار المادية القائم على قدرة الحركات على عرقلة روتين المجتمع اليومي؛ ومنطق الاستشهاد الساعي إلى إظهار ما يحمله المحتجُّون من التزامٍ عاطفي حيال قضيتهم.
تُواجِه قيادات الحركات الاجتماعية سلسلة من المعضلات الاستراتيجية عند اختيار أحد أنماط الفعل؛ إذ إن كل نمطٍ يبعث برسائل إلى دوائر جماهيرية مختلفة ذات مَطالب مختلفة: ناشطو الحركات الراغبون في تعزيز تضامنهم الداخلي؛ والإعلام الباحث عن «الأخبار»؛ والحلفاء المحتمَلون الذين يُؤثرون أنماطًا من الفعل أكثر اعتدالًا؛ وأخيرًا صناع القرارات الساعون لإيجاد شركاء محلَّ ثقة. غير أن ذخائر الفعل ليست مجرد أدواتٍ احتجاجية، بل تعكس أيضًا قيم الناشطين. لا شك أن التقاليد التاريخية التي عززتها المؤسسات والتنشئة الاجتماعية من شأنها أن تحدَّ من دائرة الخيارات القابلة للدراسة، لكن أنماط الاحتجاج تَنتقِل من حركة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر مصحوبةً بعمليات ابتكار وتعلُّم دائمة. علاوةً على ذلك، تتولَّد الذخائر من خلال آليات العلاقات أثناء التفاعلات بين طائفةٍ متنوعة من فاعلي الحركات وغيرهم من الفاعلين، كما تخلق سلسلة من الديناميكيات الدورية موجاتٍ متعاقبة من المد والجزر في النشاط الاحتجاجي وتتسبَّب في إضفاء الطابع الراديكالي والمؤسساتي على أنماط الفعل المتبعة. وبالرغم من تلك التقلُّبات الدورية، يبرز جنبًا إلى جنب معها اتجاهان أكثر استقرارًا يَنطبقان فيما يبدو، على الأقل فيما يتعلق بالديمقراطيات الغربية: ميلٌ إلى توسيع ذخيرة الفعل الاحتجاجي يصاحبه في الوقت نفسه رفضٌ متنامٍ للعنف السياسي.