التنظيم الأمني للاحتجاجات والفرص السياسية السانحة للحركات الاجتماعية
نظرًا لأن اجتماعات القِمَم الدولية على مدار العامين الماضيين كانت تُقابَل أحيانًا باحتجاجاتٍ عنيفة؛ فقد ركزت الاستعدادات الحكومية لقمة الثمانية على إبعاد المتظاهرين عن محيط الاجتماعات، بل وإبعادهم كليًّا عن المدينة ذاتها. فإلى جانب إقامة الحواجز لحماية ما يُسمى «المنطقة المحظورة» المحيطة باجتماعات القمة، أغلقت الدولة المطار، ومحطات السكك الحديدية، ومخارج الطرق السريعة، وأعادت من تحقَّقتْ من كونه ناشطًا ومن اشتبهت فيه إلى حدود المدينة. في معرض شهادته أمام إحدى اللجان البرلمانية المشتركة، تحدث رئيس إدارة الشرطة الإيطالية، دي جينارو، عن إجراء ١٤٠٠٠٠ تحرٍّ وإعادة أكثر من ٢٠٠٠ شخص أدراجهم. فضلًا عن ذلك، استعانت الحكومة بقرارات الإبعاد لمنع بعض المناضلين من دخول جنوة. وفي ظل إغلاق وسط المدينة وفرض رقابة صارمة على الداخلين إليها، بدت جنوة خالية من البشر؛ حتى إن استهلاك الكهرباء ومعدل النفايات الملقاة قد تراجعا بنسبة ٤٠ بالمائة قبل يومين من انطلاق القمة.
على الرغم من هذا الاستعراض المهيب للقوة والتوتر الناتج عن بعض الهجمات قبيل انطلاق القمة، علاوةً على بعض المعلومات التهويلية نوعًا ما الواردة من جهاز الاستخبارات (أثناء انعقاد اللجنة البرلمانية المشتركة (محضر وقائع جلسة ٢٨ أغسطس، ٢٠٠١: ٦٦)، تحدَّث لا باربيرا، الرئيس السابق للبوليس السياسي، الذي يُطلق عليه المكتب المركزي للتحقيقات العامة والعمليات الخاصة، عن «طوفان من المعلومات التي أخفقَ أغلبها في إعطاء أي نتيجة»)، واشترك في المسيرة السلمية التي انطلقت يوم ١٩ يوليو ٥٠٠٠٠ شخص. لكن هذا الوضع انقلب رأسًا على عقب في اليوم التالي؛ نظرًا لما وصفته الصحف بالاستفزازات الصادرة عن مجموعة البلاك بلوك الراديكالية وما تبعها من ردود أفعالٍ أمنيةٍ عشوائية. ضمت تلك التظاهرات، حسب التقديرات الصحفية، ما بين ٤٠٠ و١٠٠٠ من أعضاء جماعة البلاك بلوك، في حين أشارت الشرطة إلى وجود ٥٠٠ إيطالي و٢٠٠٠ أجنبي. انطلق أعضاء هذه الجماعة صباح يوم ٢٠ يوليو يهاجمون البنوك والمحال التجارية والسجون والمنشآت العامة دون رادع، ومضت الوقائع على المنوال ذاته يومًا كاملًا، عقب هجمات البلاك بلوك، ردَّت الشرطة بمهاجمة كل مَن كان جزءًا من الاحتجاجات السلمية أو في محيطها، بمن فيهم الأطباء والممرضات ورجال الإسعاف والمصوِّرون والصحفيون.
وبذلك بدأت الحرب ضد ما أُطلقَ عليه «محتجو العصيان المدني» الذين طوَّقتهم قوات الشرطة ودأبت على مهاجمتهم. عقب هجوم الشرطة، تفاعلت بعض مجموعات المتظاهرين بإلقاء الحجارة، وهو ما استفزَّ الشرطة ودفعها لاستخدام السيارات المصفحة. حدث خلال إحدى تلك الهجمات أن أحاط المتظاهِرون بسيارة جيب تابعة لقوات الدرك الوطني وهاجموا ركابها؛ فقام واحد من قوات الدرك داخلها بإطلاق النار مما أسفر عن مقتَل ناشط من جنوة يبلغ من العمر ٢٣ عامًا يدعى كارلو جولياني. أما داخل المنطقة المحظورة، فقد استخدمت قوات الشرطة مدفعًا مائيًّا محمَّلًا بموادَّ كيميائيةٍ ضد متظاهرين مُنتمين إلى منظمة أتاك المتعدِّدة الجنسيات والنقابات العمالية الإيطالية، ممَّن كانوا لا يكفُّون عن القرع على السياج وإلقاء فصوص من الثوم. إضافةً إلى كل ذلك، شكا عمدة جنوة بيريكو، المُنتمي إلى حزب ديمقراطيي اليسار، والذي حاول التفاوض مع منظِّمي الاحتجاجات، شكا من غياب مفاوضين من مقر الشرطة. وبحلول المساء، حرص المتحدِّثون باسم الحركة على النأي بأنفسهم عن مجموعة البلاك بلوك، لكنهم انتقدوا في الوقت نفسه أفعال الشرطة. حمَّلت الحكومة مُنتدى جنوة الاجتماعي مسئولية الاضطرابات، وسحب حزب ديمقراطيي اليسار، أكبر أحزاب يسار الوسط، تأييده لتظاهرات اليوم التالي، مُصدِرًا أوامره إلى أعضائه بعدم التوجه إلى جنوة.
شهدت تظاهرة يوم ٢١ يوليو احتشاد ما يتراوح بين ٢٠٠٠٠٠ و٣٠٠٠٠٠ مُتظاهر. (زعم منظِّمو التظاهُرة أنهم توقَّعوا اشتراك ١٠٠٠٠٠ شخص، بينما ادَّعى رئيس إدارة الشرطة الإيطالية أن عدد المُتظاهرين لم يتعدَّ ٤٠ ألفًا.) تجدَّدت هجمات البلاك بلوك مرة أخرى وحاول المتظاهرون منعها، واستخدمت قوات الشرطة هذه المرة سياراتٍ مُصفَّحةً ومروحيات تُطلق غازًا مسيلًا للدموع، وحرصَت على البقاء بعيدًا عن المتظاهرين. وقع الهجوم الأول الساعة ٢:٢٥ ظهرًا حين كانت المسيرة على وشك الانطلاق، ووقعت هجماتٌ مُماثلة الساعة ٢:٥٠ ظهرًا و٥:٣٥ عصرًا. أشارت الصحف اليومية — وليست فقط تلك المؤيِّدة للتظاهرات — إلى ما بذلته الحركة (التي شكَّلت قواتها الأمنية البدائية) من محاولاتٍ عدة لصدِّ المحتجِّين غير السلميين وإنقاذ المتظاهرين والمحامين الذين تعرَّضوا للضرب على يد الشرطة. وبلغت حصيلة ذلك اليوم ٢٢٨ مصابًا (منهم ٧٨ من رجال الشرطة) و٦٠ معتقلًا.
مع حلول مساء ذلك اليوم، أقدمت الشرطة على اقتحام مدرسة دياز، حيث يوجد مقر منتدى جنوة الاجتماعي وفريقها للاستشارات القانونية، ومجموعة إنديميديا الصحفية، ووحدات مبيت للمحتجِّين، وذلك بحثًا عن أسلحة. وتناولت الصحف سلوك الشرطة واصفةً إياه بأنه غاية في الوحشية، وهو وصف حظي بتأييد بعضٍ من أعضاء البرلمان الحاضِرين آنذاك. حسبما ورد في تقرير مفتش وزارة الداخلية بيبو ميكاليزيو: «من بين ٩٣ شخصًا احتُجِزوا واعتُقِلوا داخل المبنى، اثنان وستون شخصًا (حوالي ٦٦ بالمائة) أصيبوا وأحيلوا لتلقِّي العلاج مع تفاوت فرص امتثالهم للشفاء؛ فقد احتاج ٢٤ بالمائة منهم إلى فترة تصل إلى ٥ أيام للتعافي، و٣٦ بالمائة احتاجوا إلى فترة تراوَحَت بين ٦ و١٠ أيام؛ واحتاج ١١ بالمائة إلى فترة تراوحت بين ١١ و٢٠ يومًا، واحتاج ١٨ بالمائة إلى فترة تراوحت بين ٢١ و٤٠ يومًا، في حين اجتاز ٦ بالمائة منهم مرحلة الخطر. لكن فرص شفاء النسبة المتبقية من المُعتقلين (٥ بالمائة) لم تكن أكيدة.» كان الهجوم مؤامرة لارتكاب أعمال السلب والنهب؛ لكن سرعان ما أطلق القضاة سراح ٩٢ من بين ٩٣ محتجزًا. وصادرت قوات الشرطة القرص الصلب الخاص بكمبيوتر المحامين، وتعرَّضت أجهزة الكمبيوتر الخاصة بإنديميديا للتدمير.
نُشِرَت في الأيام التالية شهاداتٌ عدة عما تعرَّض له المدنيون من سوء معاملة في ثكنات بولزانيتو؛ حيث أنشئ مركز لتحديد هوية المحتجَزين تديره مجموعة من ضباط السجون التابعين لوحدة العمليات المُتنقِّلة. وصف الشهود، وكثير منهم من الأجانب، في أقوالهم الاعتداءات البدنية والنفسية التي تعرَّض لها المُحتجَزون، كاستعمال الغاز المسيل للدموع والهراوات، وإجبار المحتجَزين على البقاء واقفين لساعات، وإرغامهم على ترديد شعاراتٍ فاشية وعنصرية. أثار أسلوب الشرطة في التعامل مع المظاهَرات احتجاجات في إيطاليا وخارجها. وفي ديسمبر من عام ٢٠٠٤، مَثُل ٢٨ شرطيًّا إيطاليًّا، منهم ضباطٌ كبار من قوات مكافحة الشغب والإرهاب، للمحاكمة على خلفية اتهامات بإساءة استغلال السلطة، والقذف والتشهير، والتورط في إحداث أضرارٍ جسيمة لدورهم في الهجوم على مدرسة دياز. جاء الإعلان عن المحاكمة في ختام جلسات الاستماع التمهيدية التي شهدت ادعاءً بأن قوات الشرطة زرعت قنبلتَي مولوتوف كانت قد زعمت العثور عليهما داخل المدرسة، كما دُحض زعمٌ آخر تقدَّم به ضابط شرطة كبير بشأن شروع ناشط في طعنه، وأُطلِق سراح جميع الناشطين الذين جرى اعتقالهم خلال الهجوم على المدرسة دون توجيه أي تُهم إليهم.
مثلت تظاهرات جنوة خروجًا كبيرًا (وإن كان متوقعًا) على الصورة النمطية التي لازمت الحركات الاجتماعية خلال حقبتي الثمانينيات والتسعينيات، والتي صوَّرتها باعتبارها حركاتٍ موحَّدة و«متحضِّرة»، وتتعامل بأريحية أكبر على مائدة التفاوض مقارنةً بنشاطها الميداني في الشارع. فبعد عقود من أنشطة يغلب عليها الطابع السلمي، تحوَّل التركيز الآن إلى مخاطر ارتداء الصراع السياسي والاجتماعي لعباءة الراديكالية. وقد شهدت اجتماعات القمم المضادة الأخيرة اشتباكاتٍ متكررةً بين الشرطة والمتظاهرين، من بينها تلك الصدامات التي جرت خلال التظاهرات المناهِضة لمنظمة التجارة العالمية في سياتل عام ١٩٩٩، وفي دافوس خلال المنتدى الاقتصادي العالَمي؛ وفي براج وواشنطن خلال اجتماع اللجنة الدولية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي عام ٢٠٠٠، وفي مدينة كيبيك خلال اجتماعات اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية؛ وفي جوتنبرج خلال قمة الاتحاد الأوروبي المُنعقِدة في يونيو عام ٢٠٠١.
ما الذي يُفسِّر هذا التطور في سمات التعبئة وردود الأفعال حياله؟ لا شك أن الاستراتيجيات التي تتبناها الحركات الاجتماعية يُمكن أن يكون لها تأثير على حجم التعبئة وشكلها؛ فكما هو مشار إليه في الفصول السابقة، تُشكِّل الأيديولوجيات والذخائر والبنى مواردَ ماديةً وثقافية للفعل، تختلف باختلاف البلدان، فضلًا عن أن البِنية الاجتماعية، ومقدار الثقافة المدنية، والتنمية الاقتصادية كلها عوامل ساعدَت في تفسير الاحتجاج (مور ١٩٦٦؛ سكوكبول ١٩٧٩؛ انظر أيضًا الفصل الثاني من هذا الكتاب). وسعيًا لانتقاء أشد محدَّدات الفعل الجمعي العديدة تأثيرًا، ركَّز عدد لا بأس به من التحليلات المقارنة للحركات الاجتماعية على المتغيرات السياسية. سبق أن ذكرنا أن أنشطة الحركات الاجتماعية تعبيرية في جزء منها، وأداتية في جزءٍ آخر، وموجَّهة إلى أعضائها إلى حدٍّ ما، وتهدف نوعًا ما إلى تغيير البيئة الخارجية. يغلب الطابع السياسي على الحركات الاجتماعية في أنشطتها السياسية؛ ومن ثم تتأثَّر بالمنظومة السياسية وتؤثِّر فيها في المقام الأول. وحسبما هو موضَّح في الفصل التمهيدي، اكتسب مفهوم بنيَّة الفرص السياسية أهميةً محورية لتفسيرات التفاعل بين الأطراف الفاعلة المؤسَّسية وغير المؤسَّسية.
سوف نَستعرض فيما يلي نماذجَ منتزعةً بصورةٍ أساسية من اجتماعات القمم المناهضة للعولمة الليبرالية الجديدة، ساعِين إلى تعيين أهم المتغيرات في المنظومة السياسية، وطارحين بعض الفرضيات المتعلِّقة بكيفية تأثير تلك المتغيرات على سماتٍ محدَّدة للحركات الاجتماعية. من بين المشكلات التي يُواجهها النشاط البحثي المعنيُّ بالفرص السياسية عدم وضوح القضية محلِّ الشرح (وهو ما جرت مناقشته مؤخرًا في ماير ٢٠٠٤). درس الباحثون البُعد السياسي في سبيل تفسير عددٍ متنامٍ من المتغيِّرات التابعة، واستخدموا مصطلح الفرص السياسية لشرح تعبئة الحركات الاجتماعية (آيسنجر ١٩٧٣)، ونشأة الدورات الاحتجاجية (تارو ١٩٨٣)، والعلاقة بين مواقف الحلفاء وسلوك الحركات (ديلا بورتا وروشت ١٩٩٥)، وغلبة أحد نمطَين من الخطط الاحتجاجية: التصادُمية أو الاستيعابية (كيتشيلت ١٩٨٦: ٦٧-٦٨). ويتبيَّن بالفعل في ضوء ما أسلفنا أن طابع المؤسَّسات، والخطط الشائعة، وضروب القمع المتنوعة وبِنَى التحالُفات كلها عوامل مفيدة في تفسير سمة أو أخرى من سمات الحركات الاجتماعية. غير أنه لم يُبذَل حتى الآن إلا القليل من المساعي للإجابة عن السؤال التالي: أيٌّ من المتغيرات القائمة في المجموعة المركَّبة من الفرص السياسية يمكن أن يفسِّر أيًّا من الخصائص (الكثيرة) للحركات الاجتماعية؟ فيما يلي محاولة منا لإبراز التأثيرات المحدَّدة لفرصٍ معينة على نشأة الحركات، ومستويات التعبئة، وذخائر الاحتجاج، واحتمالات النجاح. سوف نستهل معالجتنا لهذا الموضوع بتحليلٍ لمسألة التنظيم الأمني للاحتجاجات (القسم ١)، ثم نُعيِّن بعض خصائص الفرص المؤسسية (القسم ٢)، وكذا الخطط الشائعة (القسم ٣). علاوةً على ذلك، سوف يُناقَش دور الأحزاب السياسية كحلفاء مُحتملين مناقشةً مستفيضة (القسم ٤). بيد أن الفرص السياسية، كما سوف نؤكِّد فيما بعدُ، أبعد ما تكون عن الطابع البِنيوي، بمعنى كونها ثابتة لا تقبل التغيير و«معلومة سلفًا»: فآثارها لا تُنقِّحها تصوُّرات الناشطين فقط، بل تتفاعَل أيضًا مع «الفرص الخطابية» (القسم ٥).
(١) التنظيم الأمني للاحتجاجات
كما يُدلِّل مثال جنوة، فإن من الجوانب المهمة لاستجابة الدولة للاحتجاجات التنظيم الأمني للاحتِجاجات، أو التعامل الأمني مع الفعاليات الاحتجاجية، وهي مُصطلحاتٌ أكثر حيادية لما يُطلَق عليه المُحتجُّون عادةً «القمع» وتطلق عليه الدولة «النظام العام» (ديلا بورتا ١٩٩٥، ١٩٩٦ج؛ إيرل وسول ومكارثي ٢٠٠٣). ويعدُّ التنظيم الأمني قضيةً ذات أهميةٍ خاصة لفهم العلاقة بين الحركات الاجتماعية والدولة. يرى ليبسكي (١٩٧٠: ١) أن:
دراسة أساليب تفاعل قوات الشرطة مع غيرهم من المواطنين أمرٌ ذو أهميةٍ جوهرية بالنسبة إلى أيٍّ من المهتمين بالسياسة العامة والتوصُّل إلى الحل العادل للصراع الحضري المعاصر. ربما يُنظَر إلى أفراد الشرطة باعتبارهم «بيروقراطيي الشارع» الذين «يُمثِّلون» الحكومة بالنسبة إلى الشعب. وفي ذات الوقت الذي تنفذ فيه قوات الشرطة السياسات الحكومية، فإنها تسهم بأفعالها أيضًا في تعريف عناصر الصراع الحضري. يُؤثِّر جهاز الشرطة على المواقف والمستجدَّات السياسية تأثيرًا جوهريًّا؛ نظرًا لما تلعبه الهيئات المكلَّفة بتنفيذ القانون من دورٍ فريد في تطبيق قواعد المنظومة وتعزيزها.
ويسعنا أن نضيف أن الموجات الاحتجاجية، بدورها، كان لها تأثيراتٌ حيوية على المؤسسات الأمنية (انظر مثلًا مورجان ١٩٨٧؛ راينر ١٩٩٨).
في الواقع، لقد حظيتْ شتى أنماط التدخل الأمني ببعض العناية في أدبيات علم الاجتماع؛ فقد تناول جاري تي ماركس (١٩٧٩) تلك المسألة من منظورٍ ظاهراتي، مصنِّفًا أعمال القمع حسب غرضها: تكوين صورة سلبية للخصوم، جمع المعلومات، الحد من تدفُّق الموارد إلى الحركات، تثبيط همم الناشطين، تأجيج الصراعات الداخلية بين القيادات وبين الجماعات، إجهاض أفعال محدَّدة. كذلك صنَّف تشارلز تيلي (١٩٧٨: ١٠٦–١١٥) الأنظمة السياسية حسبما تُبديه من درجات القمع أو «التيسير» حيال مُختلف الأطراف الفاعلة والأفعال الجمعية.
ميَّزَ النشاط البحثي ثلاثة مجالات استراتيجية لضبط الاحتجاجات تبنَّتْها أجهزةُ الشرطة بصورٍ مختلفة في حقبٍ تاريخيةٍ متعدِّدة (ديلا بورتا ورايتر ١٩٩٨أ): الاستراتيجيات القسرية، ونعني بها استعمالَ الأسلحة والعنف الجسدي للسيطرة على التظاهُرات أو تفريقها؛ والاستراتيجيات الإقناعية، وتعني جميعَ المحاولات الساعية إلى السيطرة على الاحتجاجات عبر الاتصالات المُسبقة بالناشطين ومُنظِّمِي الاحتجاج؛ والاستراتيجيات الاستقصائية، متمثِّلة في العمليات الموسعة لجمع المعلومات كسِمَةٍ وقائيةٍ في ضبط الاحتجاجات؛ وجمع المعلومات الموجه، الذي يتضمَّن استعمالَ تكنولوجياتٍ سمعية وبصرية حديثة لتحديد الخارجين عن القانون دون الحاجة إلى التدخُّل المباشِر.
يُمكن أن تتفاوت التدابيرُ الأمنية من ناحية القوة المُستخدَمة (عنيفة أم ناعمة)، ومدى التصرُّفات التي تُعَدُّ غير مشروعة (تتراوح بين القمع والتسامح)، والاستراتيجيات المُستخدَمة للسيطرة على مُختلِف الفاعِلين (عامة أم انتقائية)، واحترام الشرطة للقانون (قانوني أم غير قانوني)، ووقت تدخُّل الشرطة (استباقي أم تفاعلي)، ودرجة التواصُل مع المتظاهِرين (مواجهة أم توافُق)، والقدرة على التكيُّف مع المواقف الطارئة (جامد أم مرن)، ودرجة اصطباغ قواعد اللعبة بالطابع الرسمي (رسمية أم غير رسمية)، ومستوى التدريب (مهني أم مرتجل) (ديلا بورتا ورايتر ١٩٩٨ب: ٤).
وقد لُوحِظ أن تَضافُرَ تلك الأبعاد عادةً ما يُحدِّد نموذجَين مختلفَين ومُتَّسِقين داخليًّا لضبط النظام العام. النموذج الأول هو نموذجُ تصعيدِ استخدام القوة، الذي يُولِي أولويةً دُنْيا لحقِّ التظاهر، ويفتقر إلى التسامُح مع أنماط الاحتجاج المُبتكَرة، ويتقلَّص فيه التواصُل بين الشرطة والمُتظاهرين ليقتصر على حالات الضرورة القصوى، مع كثرة استعمال وسائل الإكراه أو حتى الأساليب غير القانونية (كالعناصر المندسَّة المحرِّضة على العنف). أما النموذجُ الثاني، نموذجُ الضبط المُتفاوَض عليه، فينظر، في المقابل، إلى حقِّ التظاهُر السِّلْمي باعتباره أولويةً، بل يتسامح أيضًا حتى مع الأنماط الاحتجاجية المُخِلَّة بالنظام، ويرى التواصُلَ بين المتظاهرين والشرطة أساسًا للسَّيْر السِّلْمي للاحتِجاجات، مع تجنُّبِ وسائلِ الإكراه قدر الإمكان، والتأكيد على انتقائية العمليات (ماكفيل وشوينجروبر ومكارثي ١٩٩٨، ٥١–٥٤؛ ديلا بورتا وفيليول ٢٠٠٤). يَسعنا أن نُضيف إلى الأبعاد السابق ذِكْرها بُعْدًا آخَر، أَلَا وهو نوع الاستراتيجية الإعلامية التي تُوظِّفها قواتُ الشرطة للسيطرة على الاحتجاجات، مع التفرقة بين الرقابة العامة الشاملة على جميع المتظاهِرين، وتركيز الرقابة على مَن يحتمل اتهامُه بارتكابِ مُخالَفةٍ قانونية.
بوسع المراقِب للديمقراطيات الغربية أن يلحظ تحوُّلًا جذريًّا في الاستراتيجيات المُتَّبَعة لضبط النظام العام وما يتعلَّق بها من ممارساتٍ وأساليبَ تنفيذية، وذلك بالانتقال من نموذجِ تصعيدِ استخدامِ العنف إلى نموذجِ الضبط المُتفاوَض عليه، لا سيما في أعقاب موجة الاحتجاجات الكبرى التي بلغت ذروتَها أواخر الستينيات. ففي الوقت الذي صار فيه الإدراكُ الواسعُ النطاق لحق الفرد في إظهار معارضته أكثرَ شمولًا، بدأت استراتيجياتُ التدخُّل تتغيَّر مُبتعِدةً عن النموذج القسري الذي كان سائدًا حتى ذلك الحين. لعلنا نلاحظ أن حِقْبتَي السبعينيات والثمانينيات قد شهدتا، مع فتراتِ انقطاعٍ وانتكاساتٍ مؤقتة، توجُّهًا نحوَ مزيدٍ من التسامح وقدرًا ضئيلًا من الانتهاكات القانونية. من بين التغيُّرات الواضحة في استراتيجيات ضبط النظام العام تراجُعُ استعمالِ القوة، ومزيدٌ من التأكيد على «الحوار»، واستثمارُ قدرٍ كبير من الموارد في جمع المعلومات (ديلا بورتا ورايتر ١٩٩٨أ). تستند هذه الاستراتيجيات، التي يُطلَق عليها رسميًّا التهدئة (أو الوقاية أيضًا، كما هو الحال في النموذج الإيطالي)، على عددٍ من المسارات والافتراضات المحدَّدة. فيَتعيَّن على مُمثِّلي المتظاهرين والشرطة أن يجتمعوا، قبل الفعاليات الاحتجاجية، للتفاوُض المفصَّل بشأن مسارات التظاهُرات وطريقة سَيْر أحداثها (بما في ذلك المُخالَفاتُ الرمزية نوعًا ما المسموح بها للمُتظاهرين)، والاتفاق على الامتناع التام عن مُهاجَمةِ المجموعات السِّلْمية، أو نقْضِ الاتفاقات المُبرَمة مع قادة التظاهُرات، إضافةً إلى وجوب إبقاء خطوط الاتصال مفتوحةً بين القيادات وقوات الشرطة طوال سَيْر التظاهُرات. يجب في المقام الأول على رجال الشرطة أن يَكفُلوا حقَّ التظاهر السِّلْمي، وفصل المجموعات التي تَنتهِج العنف عن بقية المسيرة وإيقافهم دون المَساسِ بأمن المتظاهرين السِّلْميِّين (فيليول ١٩٩٣أ؛ فيليول وجوبار ١٩٩٨؛ ماكفيل وآخرون ١٩٩٨؛ وادينجتون ١٩٩٤؛ وينتر ١٩٩٨؛ ديلا بورتا ١٩٩٨أ).
إنَّ ما اعتبَرَه الكثيرون قاعِدة «ما بعد ١٩٦٨» الراسخة غير القابلة للجدل قد أثبَتَ هشاشتَه في مُواجَهةِ التحدِّي الجديد المُتمثِّل في الحركة الاحتجاجية المتجاوزة للحدود والقوميات. لقد أشعلَتْ قمةُ الثمانية في جنوة من جديدٍ جدلًا كاد يطويه النسيان بشأن الحقوق الأساسية للمُواطنين وحجم السلطة الممنوحة للدولة في سبيلِ حمايةِ سيادةِ القانون (أندريتا وديلا بورتا وموسكا ورايتر ٢٠٠٣، الفصل الرابع). ما الذي تسبَّبَ في ذلك التصعيد الذي شهدته جنوة، ومِن قَبلها سياتل وواشنطن ومدينة كيبيك وبراج وجوتنبرج، فضلًا عن الاتهامات العديدة للشرطة بالوحشية ضد المتظاهِرين؟ ثمة العديدُ من التفسيرات يمكن طرحها. بدايةً، إن «التنظيم الأمني بالتراضي» (وادينجتون ١٩٩٨) لا ينفكُّ عن كونه خطةً أمنية لضبط الاحتِجاجات، حتى إنْ تحقَّقَ ذلك في ظلِّ احترامِ حقوق المتظاهرين وحرياتهم قدر المُستطاع. كثيرًا ما تقع صِداماتٌ بين المُتظاهرين وأفراد الشرطة؛ قد تتَّسِم المواقف بالتوتُّر الشديد حين يكون للمكان في الاحتجاجات قيمةٌ رمزية واستراتيجية خاصة، كما هو الحال، مثلًا، بالنسبة إلى «المناطق المَحظورة» المغلقة أمام المتظاهرين حول مَقارِّ اجتماعاتِ القمم الدولية. كذلك فإن استعمال الضبط القسري، حتى إنْ كان نادرًا، من السهل أن يُؤدي إلى التصعيد نتيجة الديناميكيات النفسية المرتبطة بالاشتباكات الجسدية في ظل إخفاء الهوية نسبيًّا (المصدر السابق). لقد أسفرَتِ الأحداثُ التي شهدَتْها حِقْبةُ التسعينيات عن عسكرةِ بعضِ وحدات الشرطة المُتخصِّصة في مكافحة الإرهاب أو مكافحة جرائم العنف المنظمة (من حيث نوعية المعدات والتدريبات والانتشار)؛ ثم ما لبثَتْ تلك الأدوات أنْ صارت تُستعمَل بكثرةٍ في التنظيم الأمني اليومي.
يَجدر بنا أن نضيف أن وضْعَ استراتيجيةٍ للتفاوض طالما كان انتقائيًّا؛ فحتى في الديمقراطيات العريقة، بقيَ تصعيدُ استخدام القوة على الهامش، لا سيما في السيطرة على واضِعي اليد من الشباب أو مثيري الشغب. لقد أشارت الأبحاث في الواقع إلى أن إدراك أفراد الشرطة للاحتِجاجات لم يتخلَّص من تفريقٍ بين المتظاهرين «الأخيار» (السِّلْميين والبراجماتيين ذوي المصلحة المباشِرة والأغراض الواضحة في الصراع … إلخ) والمتظاهرين «الأشرار» (وهم في الغالب من الشباب المُضلَّلين، المحترفين في إثارة الشغب، ممَّنْ لهم ميولٌ هدَّامة ولا مصلحة مباشِرة لهم في الصراع … إلخ) (ديلا بورتا ١٩٩٨أ؛ ديلا بورتا ورايتر ١٩٩٨ب). وعادةً ما يُوصَم المشارِكون في الحركات الناشئة، كحركة العدالة العالَمية التي برَزت بوضوحٍ في سياتل وجنوة، بأنهم مُتظاهرون «أشرار»، بل «خَطِرون» أيضًا في كثير من الأحيان.
على صعيد مُستويات التعبئة، يَنبغي على أشد أنماط التنظيم الأمني للاحتجاجات أن يزيد من مَخاطِر الفعل الجمعي ويَحُدَّ من ميل الفاعلَين إلى المشاركة، لكن يَنبغي أن نُضيف أن كثيرًا من أشكال القمع، لا سيما حين تُعَدُّ غيرَ مشروعة، يمكن أن تخلق شعورًا بالظلم من شأنه أن يَزيد من المخاطر المُدرَكة لِلَّافعل (على سبيل المثال خواجة ١٩٩٤). ولذلك لا عجب أن مثل هذَين الاتجاهَيْن الضاغطَين المُتبايِنَين لهما نتائجُ متضارِبة، كما تُشير الأبحاث التجريبية إلى تحوُّل المجموعاتِ الأشدِّ تعرُّضًا لعنف الشرطة إلى الراديكالية في بعض الحالات، وتَخلِّيها عن أنماط الفعل غير التقليدية في البعض الآخَر (ويلسون ١٩٧٦). في الواقع، تبدو العلاقةُ بين درجة عنف الاحتِجاجات وتدخُّل السلطات القسري انحنائيَّةً (نايدهارت ١٩٨٩).
إنَّ لاستراتيجيات الضبط المؤسَّسي تأثيرًا خاصًّا على الاستراتيجيات الاحتجاجية؛ فهي تُؤثِّر أولًا على النماذج التنظيمية المُتبَعة داخل الحركات، وهذا ما حدث عند التحوُّل إلى النظام الجمهوري في فرنسا خلال القرن التاسع عشر؛ إذ «عزَّزَ القمعُ المكثَّف من دور الجمعيات السرية ومراكز التواصُل الاجتماعي غير الرسمية كالمقاهي والحانات والملاهي الليلية» (أمينزيد ١٩٩٥: ٤٢). على الجانب الآخَر، فإن «اتساعَ رقعةِ حق الاقتراع العام للذكور، والحريات المدنية، إضافةً إلى التنظيم الجغرافي الجديد للتمثيل الانتخابي؛ هي عوامل شجَّعت على نشأة تنظيمٍ ذي طابعٍ أكثرَ رسميةً» (١٩٩٥: ٥٩). وفي الآونة الأخيرة أيضًا أدَّى القمع إلى «تقوقُع» تنظيمات الحركات الاجتماعية، حتى بلَغ في بعض الحالات حدَّ ممارسةِ النشاط سرًّا (ديلا بورتا ١٩٩٠ و١٩٩٥؛ نايدهارت ١٩٨١). في نموذج حركة العدالة العالَمية، تتَّجه المجموعات التي قرَّرت انتهاجَ الاستراتيجيات العنيفة، مثل بلاك بلوك، إلى تَبنِّي نمطٍ تنظيميٍّ شديدِ التغيُّر وشبهِ سرِّي يَستعصي على التحريات الأمنية. تزداد احتِمالاتُ نجاحِ القمع الشديد في حالِ لم تبدأ الدورة الاحتجاجية بعدُ؛ ومن ثَمَّ لم تَقْوَ بعدُ علاقاتُ التضامُن المحيطة بهويات الحركة بما فيه الكفاية؛ «من المرجَّح أن تُثير عملياتُ القمع العشوائي مزيدًا من التعبئة الشعبية فقط خلال مرحلة صعود الدورة الاحتجاجية» (بروكيت ١٩٩٥: ١٣١-١٣٢).
كذلك تُؤثِّر الاستراتيجيات القمعية تأثيرًا خاصًّا على ذخائر الفعل؛ فقد أوضحَت، مثلًا، دراسة مقارنة لألمانيا وإيطاليا (ديلا بورتا ١٩٩٥) أن أساليبَ التنظيم الأمني العنيفة عادةً ما تُثبِّط الاحتجاجاتِ الحاشدةَ ذات الطابع السِّلْمي، بينما تُحفِّز في الوقت ذاته العناصرَ المُتطرِّفةَ الأكثرَ راديكاليةً في الاحتجاجات. فقد تزامَنَ تحوُّلُ بعض الحركات الاجتماعية الإيطالية إلى النهج الراديكالي خلال عقد السبعينيات، مع فترةٍ من القمع الشديد الوطأة تسبَّبت خلالها الشرطةُ في مقتل عددٍ من المُتظاهِرين في المَسيرات العامة. فضلًا عن ذلك، فإنَّ الاعتقاد بأن الدولة كانت تُدير «حربًا قَذِرة» قد سمَّمَ العلاقاتِ بين السياسيِّين المُنتخَبِين وناشِطي الحركات. أما في ألمانيا، فقد حدث العكس؛ فالمواقفُ الإصلاحية التي أبدَتْها حكومةُ الحزب الديمقراطي الاجتماعي والحكومةُ الليبرالية، إلى جانبِ اتباعِ نمطٍ انتقائي «ناعم» ومُتسامِح في التنظيم الأمني للاحتجاجات، كل ذلك انعكسَتْ آثارُه في صورةِ انخفاضٍ نِسبي في مُستوى الراديكالية في قطاع الحركات الاجتماعية. من الملاحظ في كلا البلدَين أن ذروةَ القمع قد تزامَنَت مع تقلُّص الجناح المُعتدل في الحركات الاجتماعية تقلُّصًا ساعَدَ بصورة غير مباشِرة على هيمنة العناصر الأشد تطرُّفًا، لا سيما في إيطاليا إبَّان السبعينيات، بينما تصادَفَ انخفاضُ مُستويات العنف الذي شهدَتْه الثمانينيات مع تساهُلٍ متنامٍ حيالَ الاحتجاجات. وعاد التصعيد إلى النمو مجددًا في حركة العدالة العالَمية في خضمِّ الاحتكاكات الجسدية بين أعضائها وقوات الشرطة المُنتشرة لمنع المُتظاهِرين من دخول المناطق من المدن التي عُقِدت فيها اجتماعاتُ المنظمات الحكومية الدولية.
يُؤثِّر التدخُّل الأمني على أهداف المُحتَجِّين ذاتها، الذين يُمكن أن يَتحوَّل تركيزهم من قضايا مُنفردةٍ ومطالِبَ سياساتيةٍ إلى «ما وراء قضايا» الاحتِجاج ذاتها. ذهب إدوارد إسكوبار في دراسته لحركة تشيكانو في لوس أنجلوس، إلى أنَّه في «علاقة جدلية، نجحت جزئيًّا الأساليبُ التي انتهجَتْها دائرةُ شرطة لوس أنجلوس في تقويضِ حركةِ تشيكانو، بينما صار جهازُ الشرطة وأساليبُه قضيةً في حدِّ ذاتها نظَمَ ناشِطو تشيكانو حولَها المجتمعَ المحلي وضاعَفُوا من المشاركة الشعبية في أنشطة الحركة» (إسكوبار ١٩٩٣: ١٤٨٥). يُمكننا أن نَخلُص مما سبَقَ إلى أن أساليبَ التنظيم الأمني الأكثرَ تساهُلًا وانتقائيةً قد سهَّلت إدماجَ الحركات الاجتماعية داخل بنيةٍ معقَّدةٍ من المساوَمات السياسية، وهو ما أضفى طابعَ الشرعية على أشكالٍ احتِجاجيةٍ معينة، وأدَّى إلى وصْمِ العُنْف، مع نظرةٍ مُتناميةٍ إليه باعتباره صورةً من صور الانحراف (ديلا بورتا ورايتر ١٩٩٨ب).
ختامًا، وفيما يتعلَّق بنجاح الحركات الاجتماعية، ألمح تيلي (١٩٧٨) إلى وجودِ علاقةٍ عكسية بين فُرَصِ المشارَكة في المنظومة والقمع. لكن يبدو أن هذه العلاقة لا تتحقَّق على الدوام؛ فالإتاحةُ النسبية لمشاركة القاعدة الجماهيرية في المنظومة لا يُصاحِبها بالضرورة تراجُعٌ في القمع، بل على النقيض، ربما تؤدِّي وفرةُ الأدواتِ اللازمة للديمقراطية المباشرة إلى خَلعِ الشرعية عن الاحتجاج في نظر الحكومة والرأي العام، مما يُفرِز دعواتٍ إلى حفظ النظام العام (وهو ما وقع مثلًا في الجزء الناطق بالألمانية من سويسرا؛ انظر ويسلر وكريسي ١٩٩٨).
(٢) المؤسسات السياسية والحركات الاجتماعية
ليس جهاز الشرطة بالطبع كيانًا مُستقلًّا؛ فهو يَعتمد، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، على مؤسسات سياسية ربما (وغالبًا ما) تَستجيب إلى الاحتجاجات ليس فقط بنشر أفراد الشرطة، بل أيضًا إجراء بعض الإصلاحات السياسياتية؛ فردودُ الأفعال المعنِيَّة بحفظ النظام العام مُرتبطة، إذن، بالاستجابات السياسية التي تتلقَّاها الحركةُ محل النظر. ها نحن ننتقل إلى مستوًى آخَرَ من التحليل، يتناول المؤسسات السياسية.
إن التناقض الشهير الذي أبرزه أليكسي دو توكفيل بين الحكومة الأمريكية «الضعيفة» والحكومة الفرنسية «القوية»، عادةً ما يكون نقطةَ انطلاقٍ صريحةً أو ضمنيةً للتحليلات التي تربط العواملَ المؤسسية بنشأة الحركات الاجتماعية (كريسي ٢٠٠٤: ٧١). فانطلاقًا من افتراض وجود معارَضة بين الدولة والمجتمع المدني، اعتبر توكفيل أن المنظومة التي تَضعُف في إطارها الدولةُ ويَقوى المجتمعُ المدني (كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية) ستُواجِه فيضًا مُنتظمًا من احتجاجات القاعدة الجماهيرية، لكنها ذات طابع سِلْمي. أما في حال قويَت الدولة وضعف المجتمع المدني (كما هو الحال في فرنسا)، فإن المنظومة ستُعاني من ثوراتٍ عنيفةٍ بين الحين والآخر. طرح سيدني تارو (١٩٩٤: ٦٢–٦٥) نقدًا مقنعًا لتلك الفرضية، زاعمًا أن تحليل توكفيل كان قاصرًا حتى فيما يتعلَّق بالظرف التاريخي الذي أشار إليه الأخير؛ فالحرب الأهلية الأمريكية قد أثارَت الشكوكَ بشأن قدرة الدولة «الضعيفة» على إدماج المصالح المُتضاربة، كما أثبتَتْ دراساتٌ حديثة للثورة الفرنسية وجودَ مجتمعٍ مدني قوي وفعَّال في ذلك البلد. في كلا البلدَين، كما يذكر تارو مُعلِّقًا، تبلوَرَتِ الدولة وحقوق مواطنيها تدريجيًّا: عبَّأ التجنيد الإجباري مواطنين كجنود محفِّزًا مَطالِبَ جديدة؛ خلَق النظام المالي الموحَّد هدفًا واحدًا للاحتِجاجات؛ دفَع الصراع الداخلي بين النُّخب شتى الأحزاب المعنِيَّة إلى اللجوء إلى الرأي العام، مما وسَّعَ حقَّ التصويت؛ استخدم المُعارِضون وسائل الاتصال التي أنشأتْها الدولة؛ ظهرت أنماطٌ جديدة من التجمُّع والتعبير اكتسبت شرعيتها من الانتخابات؛ تكونت وحدات إدارية جديدة أدَّت إلى خلق هويات جمعية جديدة.
قد يبدو توكفيل «مُبالِغًا» في سمات فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في سبيل التَّفرقة بين الدولة «الصالحة» والدولة «غير الصالحة»، غير أن فكرة تأثير قوة الدوَل أو ضَعفها على خطط الحركات الاجتماعية لا تزال تَكتسب أهميةً محورية في أدبيات الفعل الجمعي عامةً وأدبيات الثورات خاصة. كثيرًا ما ارتبط منهج توكفيل بتصوُّر تعدُّدي يرى أن كثرة نقاط المشاركة في المنظومة السياسية إنما هي دليل على «انفتاحها».
تتناوَل المجموعة الأولى مِن الفرضيات اللامركزية الإقليمية. يَنصُّ الطرح الأساسي على أنه كلما ازدادت السلطة الموزَّعة على الأطراف الهامشية (حكومة محلية أو إقليمية، أو ولايات ضمن بِنية فيدرالية)، عَظُمت فرص فرادى الحركات في المشاركة في عملية صنع القرارات. وكلَّما كانت الوحدات الإدارية «أقرب» إلى المواطنين العاديِّين (وذلك في مفهوم للديمقراطية يَلقى شيوعًا واسعًا في العلوم الاجتماعية داخل نطاق الدوائر العلمية الأمريكية، بل وداخل الحركات الاجتماعية نفسها)، صارت المشاركة في عملية صنع القرارات أسهل وأيسَر. يُمكن أن نَخلُص مما سبَقَ أنه في حال تَساوي بقية العوامل الأخرى، يرتبط ازدياد مقدار السلطة المُنتقِلة من الحكومة الوطنية إلى الأقاليم ومن الأقاليم إلى المدن ومِن المدن إلى الأحياء المحلية بمَزيد من الانفتاح من قبل المَنظومة السياسية على الضغوط التي تُمارسها القاعدة الجماهيرية. وباتِّباع المنطق ذاته، تعدُّ الولايات الفيدرالية أكثر انفتاحًا من الولايات المركزية (انظر مثلًا كيتشيلت ١٩٨٦؛ كريسي ١٩٩٥؛ جوني ١٩٩٦). في الواقع، غالبًا ما تُسهِم لا مركزية السُّلطة وانتقالها إلى الكيانات الإقليمية والمحلية في زيادة الفُرَص السانحة لنَجاح الحركات الاجتماعية التي تشرع في التعبئة على المستوى المحلِّي. فحسبما تُشير الأبحاث التي أجريَت، مثلًا، على نموذجي إيطاليا وفرنسا (انظر على التوالي ديلا بورتا وأندريتا ٢٠٠٢؛ ديلا بورتا ٢٠٠٤ج)، فإنَّ لجان المواطنين المحتجَّة على إنشاء بِنية تحتية لقطارات فائقة السرعة، أو المحتجَّة على النفايات الخَطِرة من شأنها أن تَزيد من فرص نجاحها في مَساعيها بصورة ملحوظة في حال نجَحَت في التحالُف مع مسئولين ذوي نفوذ في الإدارة المحلية.
إنَّ لسمات الإدارة البيروقراطية العامة تأثيرًا كذلك على الحركات الاجتماعية. فيُشير كريسي وآخرون (١٩٩٥: ٣١) إلى أنه «كلما ازداد كم الموارِد المُتاحة تحت تصرُّف تلك الإدارة البيروقراطية، وارتفع مُستوى تماسُكها وتنسيقها الداخلي وطابعها المِهني، ازدادت قوةً ونفوذًا، بينما تُؤدِّي قلَّة الموارد، والتفكُّك البِنيوي، وانعدام التنسيق الداخلي وغياب المِهنية إلى مضاعَفة نقاط المشاركة ودفع الإدارة إلى الاعتماد على فريقها الخاص مِن الوسطاء في منظومة الوساطة لتحقيق المصالح.» ثمَّة عنصر آخر ذو أهمية في التوزيع الوظيفي للسلطة، ألا وهو استقلالية القضاء وسلطاته؛ فالسلطة القَضائية القوية يُمكن أن تتدخَّل في مهامِّ السُّلطتَين التشريعية والتنفيذية، مثلما يَحدث حين تَنخرِط المحكمة الدستورية أو هيئة القُضاة في منازَعات قانونية بين الحركات الاجتماعية والحركات المضادَّة أو مؤسَّسات الدولة. وهكذا فإن تزايد استقلالية القضاء يكفل للحركات الاجتماعية فرصة أكبر للمُشاركة في المنظومة.
آخر ما نتناوله في تلك المسألة هو المقدار الكُلِّي للسلطة المتاحة للدولة مقارنةً بغيرها من الفاعِلين، كمَجموعات الضغط، والأحزاب السياسية، والإعلام، والمُواطنين العاديِّين. عودةً إلى الإدارة العامة، سنُلاحظ، مثلًا، أن إمكانية التدخُّل الخارجي تتفاوَت تفاوتًا كبيرًا من دولة إلى أخرى. ففي الدول التي تستمدُّ فيها الإدارة العامة أصولها من القانون الروماني، الذي يَرفض العلاقات الخارجية، عادةً ما تُبدي هذه الإدارة مقاومةً أشدَّ حيال الضغوط التي تُمارسها الأطراف الفاعلة غير المؤسسية (والتي لا تَقتصر على الحركات الاجتماعية فقط، بل تشمل الأحزاب السياسية أيضًا). في المقابل نجد أن الإدارات العامة التي تَعتنِق النموذج الأنجلوساكسوني، الذي يُوفِّر قنوات عدة لمشاركة الأطراف الفاعلة غير المؤسَّسية، تتمتَّع بمزيد من الانفتاح. وعلى هذا الصعيد، تتَّسم البِنية المؤسسية للفُرَص السياسية بمزيد من الانفتاح (وتتَّسم الدولة حينها بمزيد من الضعف)، حيث يَحتفظ المواطنون بإمكانية التدخل لدى السلطتَين التشريعية والتنفيذية دون اعتماد على وساطة عبر أحزاب سياسية، أو مجموعات مصالح، أو مسئولين بيروقراطيِّين. فالمنظومة تتَّسم بمزيد من الانفتاح كلما تنامت مشاركة المواطنين في المنظومة عبر الاستفتاءات المتعلِّقة بطرح تدابير معيَّنة أو إلغائها، والإجراءات الرامية إلى الطعن في قرارات الإدارة العامة.
كانت الاتجاهات العامة لتطوُّر المؤسسات السياسية؛ حيث يُمكِن أن يقال إنها قد وجدت، خلال حقبة التسعينيات مُتناقِضة نوعًا ما من ناحية سنوح/ندرة الفرص السياسية. لا شك أن تفويض السلطة على المستويات القومية الفرعية واستقلال السلطة القَضائية المُتنامي قد زاد من نقاط المشاركة في عملية صنع القرار العامة. غير أن انتقال السلطة من الجمعيات التشريعية إلى الإدارات قد قلَّل من شفافية عمليات صنع القرار، كما قلَّل من خضوع صناع القرار للمساءلة أمام جمهور الناخبين، كما أن التحوُّل الليبرالي الجديد الذي شهدته حقبة التسعينيات قد قلَّص من مساحة التدخل السياسي بدرجة كبيرة (انظر الفصل التاسع من هذا الكتاب). فقد أسهمت خصخصة الخدمات العامة وتحرير سوق العمالة من القيود التنظيمية، في الواقع، في الحد من الفرص المُتاحة أمام المواطنين والعمَّال لممارسة أي ضغوط عبر القنوات السياسية.
الأهم من ذلك أن الحركات تُواجِه تحوُّلًا في مركز السلطة من المستوى القومي إلى المستوى فوق الوطني (انظر الفصل الثاني من هذا الكتاب) مع تنامي حجم السلطة التي يُمارسها عدد من المنظَّمات الدولية، لا سيما الاقتصادية منها (كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية)، إلى جانب عدد من المنظمات الإقليمية الكُبرى (أبرزها الاتحاد الأوروبي) (هاس ١٩٦٤؛ شاربف ١٩٩٧). لقد كانت المنظَّمات الحكومية الدولية أدوات لتحقيق العولَمة الاقتصادية، وذلك عن طريق السياسات المُحرِّرة للتجارة وحركة رأس المال، كما كانت في الوقت ذاته نتاجًا لمحاولة إدارة عمليات لم يَعُد من الممكن إدارتها على الصعيد القومي؛ فالعولمة، بهذا المعنى، لم تُضعِف من سلطة السياسة على الاقتصاد فقط، بل أفرزت أيضًا صراعات عابرة للحدود والقوميات بشأن سياسات المؤسسات الدولية، مما أسفر عن نتائج مختلفة باختلاف المنظمة وميدان التدخل محل النظر. فقد برزت، على الأخص، معارضة للسياسات الليبرالية الجديدة التي تتبنَّاها ما يُطلَق عليها المؤسسات المالية الدولية والتي تمارس سلطة قسرية شديدة من خلال التلويح بالعقوبات الاقتصادية وفرض الاشتراطات على الإقراض الدولي. وتزامنًا مع استحواذ تلك الكيانات، المفتقرة في أغلبها إلى التمثيل والشفافية، على السلطة، تركزت الانتقادات بوجه أعمَّ على ما تُظهره بجلاء من «افتقار للديمقراطية».
لكن ما تأثيرات كل تلك الخصائص المؤسسية على سمات الحركات الاجتماعية؟ بادئ ذي بدء، نظرًا لنزوع الأصول المؤسسية إلى الاستقرار على المدى البعيد بينما تتطوَّر الاحتجاجات دوريًّا، فمن المستبعد أن تُسهم إسهامًا مؤثرًا في تفسير نشأة الحركات إذا تجاوزنا حدًّا معينًا من النمو الديمقراطي. بالمثل، لا يبدو للترتيبات المؤسسية ثقل ذي بال فيما يتعلَّق بمُستويات التعبئة أيضًا؛ إذ يبدو ذلك أشد تأثرًا بالظروف الطارئة من المُتغيرات البِنيوية. تُشير استطلاعات الرأي وكذلك الدراسات المقارنة لحركات معينة بين بلدان مُختلفة (كالحركة المناهضة للحرب عام ٢٠٠٣ مثلًا) إلى أن وجود الاحتجاجات لا يسهل تفسيره بالاستعانة بمتغيرات مؤسسية، كمُستوى التوزيع الوظيفي أو الإقليمي للسلطة (والجريف وروشت تحت الطبع؛ ديلا بورتا ٢٠٠٤د و٢٠٠٥أ).
ثانيًا: تتوقَّف التأثيرات المُتباينة لانفتاح المنظومة المؤسسية على احتمالات نجاح الحركات الاجتماعية، فيما يبدو، على ما إذا كانت الحركة تَحظى بحلفاء داخل السلطة التنفيذية المركزية أم لا. بدايةً كان من الأمور التي كَثُرت ملاحظتها قُدرة المعارضين في البلدان اللامركزية من الاعتماد على طائفة شتى من الفاعلين للنفاذ إلى المنظومة. بالحديث مثلًا عن الحركة المضادة للطاقة النووية، ذكَرَ كلٌّ مِن نيلكين وبولاك (١٩٨١: ١٧٩) أن «سياق صنع القرار اللامركزي في ألمانيا قد منَح ناشطي الحركة البيئية فرصًا سياسية أكر؛ إذ بإمكانهم تأليب إدارة على أخرى.» وخلافًا لنُظرائهم في بلدان أخرى، نجح المدافعون عن البيئة في ألمانيا في الاستفادة من المنظومة القضائية؛ ففي حين انحازت المنظومة المركزية في فرنسا، مثلًا، إلى سيطرة الحكومة السياسية، فإن توزيع السلطة على نطاق واسع في ألمانيا «أتاح لبعض المحاكم الاضطلاع بدور غاية في النفوذ والاستقلالية في المنازَعات المتعلِّقة بالطاقة النووية» (نيلكين وبولاك ١٩٨١: ١٥٩).
في منظور أكثر تفاعلًا، يؤثر السياق المؤسسي تأثيرًا يُحدد الاستراتيجيات الأقوى فاعلية، لكنه لا يَتنبَّأ بنجاح الحركة من عدمه ولا يتوقَّع توقيت هذا النجاح: «مع تعقُّد الظروف السياسية، تزداد الحاجة إلى فعل جَمعي أشد حزمًا أو جرأة في سبيل إنتاج مكاسب جمعية» (أمينتا وكارين ٢٠٠٤: ٤٧٣).
في المقابل، ربما يكون للمُتغيرات المؤسسية تأثير أقوى على ما تتبنَّاه الحركات الاجتماعية من استراتيجيات. تنزع الحركات الاجتماعية، في الواقع، إلى استعمال قنوات المشاركة التي تُتيحها لها الدول «الضعيفة»؛ ففي سويسرا حيث تَبرُز الاستفتاءات كتقليدٍ راسخ، نجَحَت الحركات الاجتماعية في تعبئة ١٩٥ من بين كل ١٠٠٠ شخص للمشاركة في أنماط من الفعل تَنطوي على استخدام الديمقراطية المباشرة، مقارنةً بما لا يَتجاوز أربعة من بين كل ١٠٠٠ شخص في ألمانيا، ويتقلَّص هذا العدد إلى صفر في فرنسا وهولندا (كريسي وآخرون ١٩٩٥: ٤٥).
بالحديث عن الاعتدال النسبي في ذخائر الفعل الجمعي، لا بدَّ من امتزاج الانفتاح المؤسَّسي بثقافة سياسية تقليدية (وهي ذاتها تخضع للتقنين بطبيعة الحال، ولو جزئيًّا على الأقل، ضمن التشريعات)، وهو ما سيتَّضح فيما يلي.
(٣) الاستراتيجيات السائدة والحركات الاجتماعية
من الملاحَظ أن الحركات الاجتماعية تتغلغَل في نسيجها الثقافة السياسية للأنظمة التي تَنشأ في كنَفِها. تتأثَّر الاستراتيجيات التي يتبناها الفاعلون الجمعيون بروح العصر المرنة القابلة للتغيُّر والتي تعكس التطورات الحاصلة داخل الدورة الاقتصادية (براند ١٩٨٥)، كما تتأثَّر أيضًا بسمات معينة مُستقرة نسبيًّا تميز الثقافات السياسية القومية (كيتشيلت ١٩٨٥: ٣٠٢-٣٠٣). وكلما قويَ اعتناق الثقافة السياسية لمبادئ المساواة والليبرالية وغلبَت عليها النزعة الفردية والاستيعابية، وجب أن تَصير المعارضة أبعد عن العدائية والمواجَهة. واصل هانزبيتر كريسي تحليل جوانب الثقافة السياسية المتصلة بالتفاعل بين الحركات الاجتماعية والمؤسسات، مؤكدًا على أهمية الاستراتيجيات السائدة وسائرًا على درب شاربف (١٩٨٤: ٢٦٠) في تعريفها بأنها «تفاهم عام بين من يُمارسون سلطة فعلية بشأن مجموعة من الفرضيات المحكمة التي تجمع رُؤًى كونية وأهدافًا ووسائل في كل متكامل.» في إشارة خاصة إلى الإجراءات التي يتخذها أعضاء منظومة معينة للتعامل مع «المعارضين»، ذهب كريسي إلى أن «الاستراتيجيات الوطنية تُحدِّد القواعد الرسمية وغير الرسمية للعبة الصراع بين الحركات الاجتماعية الجديدة وخصومها» (١٩٨٩أ: ٢٩٥). واستنادًا إلى تلك الفرضية، نخلص إلى أن البلدان المتَّبعة لاستراتيجية الإقصاء (أي قمع الصراع) ستميل إلى بناء ائتلاف حاكم مُتجانس أيديولوجيًّا وإلى فرض الطابع الاستقطابي على صراعها مع الخصوم. أما حين تسود استراتيجية الإدماج (استيعاب المطالب الناشئة)، فسوف تتَّسم الحكومة بالتنوع الأيديولوجي والانفتاح نحو الفاعِلين الخارجيِّين.
يبدو أن قمع الدولة لحقوق العمال في التجمُّع والاتحاد داخل سوق العمل قد أفرز ثلاث تبعات مترابطة بالنسبة إلى النقابات. أولى هذه التبعات وأوضحها هي أن القمع قد سيَّس تلك النقابات؛ نظرًا لإرغامه إياها على السعي إلى تغيير قواعد اللعبة … ثاني التبعات المترتبة على القمع أنه، إذا اشتدَّت حدته، فقد يقلص الفوارق بين العمال النابعة من قدراتهم المتباينة على تشكيل نقابات فعالة … وأخيرًا، أدَّى القمع إلى تسييس النقابات بطريقة أخرى خفية، من خلال منح الأحزاب السياسية اليد الطُّولى داخل الحركة العمالية.
كان لتلك الاستراتيجيات السائدة (التي تُعيد إنتاج نفسها) تأثيرٌ على مجريات الصراع القائم بين العمالة ورأس المال، مؤديةً إلى الإقصاء في حالات معينة والإدماج في حالات أخرى (كريسي ١٩٨٩أ). جاءت صياغة تلك الاستراتيجيات أصلًا استجابةً للمنظومة النقابية، ثم ما لبثت أن بلورت أساسها المنطقي المستدام بذاته وذلك عن طريق التنشئة السياسية والتفاعل: «ما إن تشكلت العلاقة بين النقابات والأجنحة السياسية الحزبية للحركة العمالية حتى صار من العسير كسر تلك العلاقة» (ماركس ١٩٨٩: ١٧٥). يُمكن تفسير ردة أفعال الأنظمة السياسية حيال الحركات الاجتماعية الجديدة في ضوء نزوع الاستراتيجيات الوطنية إلى البقاء بعد زوال الأوضاع التي أدَّت إلى نشأتها. فالأنظمة السياسية المتَّصفة بالإدماج والاستيعاب أكثر انفتاحًا حيال المُعارضين الجدد، تمامًا كما اعتادَت أن تكون حيال المُعارضين القدامى؛ أما الأنظمة ذات الاستراتيجيات الإقصائية، على النقيض، فتُواصِل عداءها للمطالب الناشئة حديثًا. يبدو، في الحقيقة، أن مواقف النخبة من المعارضين ترتبط بالمفاهيم السائدة عن العلاقات مع مجموعات المصالح، وهو ما صدَّق على الحركة المناهضة للطاقة النووية: «لقد صدرت الاستجابات السريعة والملموسة في الدول القومية التي تعلَّمت نخبها السياسية والبيروقراطية منذ أمد بعيد (كالسويد والنرويج)، أو عقب الحرب العالمية الثانية مباشرةً، إن لم يكن قبلها (كالنمسا وهولندا وألمانيا الغربية) أن تنظر إلى تمثيل مجموعات المصالح وتأثير النقابات العمالية وأرباب الأعمال على صناعة القرار الحكومي باعتبارها ظواهر مشروعة، بل وذات طابع رسمي أيضًا» (فلام ١٩٩٤ب: ٣٠٩). فالنخب في تلك البلدان تنزع إلى الاعتراف بشرعية المصالح القائمة خارج نطاق المنظومة الحزبية، مُدركةً أن حركات اليوم قد تكون مجموعات المصالح غدًا، أما في بلدانٍ أخرى، كفرنسا على سبيل المثال، كانت الهيمنة للتوجُّه الإقصائي.
ما الذي يُمكن أن تفسره، إذن، هذه الطائفة من المُتغيرات؟ بادئ ذي بدء، يجدر بنا أن نؤكد مجددًا على أن العوامل التي عادةً ما تظلُّ ثابتة لا يُمكنها تفسير الظهور (الدوري) للاحتجاجات. أما فيما يتعلق بنجاح الاحتجاجات، فما ذكرناه بشأن الانفتاح المؤسسي يَصدُق على تلك المسألة أيضًا، بصورة جزئية على الأقل. ربما تهيئ استراتيجيات التوفيق والإدماج المجال لمشاركة الحركات الاجتماعية في المنظومة، لكنها تقدم المزية ذاتها إلى خصوم تلك الحركات. فقد تضطر الحكومات المعادية لمطالب الحركات الاجتماعية في الأنظمة الاستيعابية إلى تقديم تنازلات؛ بينما قد تُرغَم أيضًا الحكومات ذات الموقف الودي من الحركات على اتِّباع سياسة أكثر اعتدالًا مما كانت ستختارِها بالفعل.
تبدو العلاقة بين الاستراتيجيات السائدة وذخائر الفعل أوثَقَ وأَقوى؛ إذ تتميَّز الذخائر الاحتجاجية في البلدان ذات التقاليد الاستيعابية الراسخة بطابع تقليدي أوضح. على سبيل المثال، عند المقارنة بين أشكال القمع السياسي في أوروبا أثناء القرن التاسع عشر، تبين أن «تلك البلدان التي دأبت على أن تكون الأشدَّ قمعًا ووحشية وتعنتًا في التعامل مع تبعات التجديد ومعارضة الطبقة العاملة المتنامية لم تجنِ من وراء ذلك إلا خلق معارضة لم تكن أقل منها تشدُّدًا ووحشية وتعنتًا» (جولدستين ١٩٨٣: ٣٤٠). من الملاحَظ بوجه عام أن أشدَّ الأيديولوجيات والاستراتيجيات راديكالية قد نشأت في البلدان التي تتَّسم بحياة برلمانية ضعيفة وتفرض عزلة سياسية على الحركة العمالية (بارتوليني ٢٠٠٠: ٥٦٥-٥٦٦). من ناحية أخرى، أسهم إضفاء الصبغة المؤسَّسية على المساومات الجمعية في إزالة الطابع السياسي عن الصراعات الدائرة بشأن انعدام المساواة الاجتماعية، وذلك بحَصر تلك الصراعات داخل العلاقات الصناعية (جالي ١٩٨٩). في الواقع، «لقد أثار القمع راديكالية الطبقة العاملة؛ بينما تخفيف قبضة الدولة السياسية وتشكيل بِنْية من المساوَمات الجمعية الحرة من شأنهما تشجيع النزعة الإصلاحية» (جيري ١٩٨١: ١٧٩). بالرغم من ذلك، اتَّضح أن المشاركة الفردية في الأنشطة الاحتِجاجية، بما فيها أشدها تطرفًا، أحيانًا ما تكون أعلى نسبيًّا في البلدان التي اعتادَت تبنِّي سياسات استيعابية، والعكس صحيح؛ إذ تَنخفِض في البلدان التي دأبت على اتباع سياسات إقصائية. من الأمثلة الدالة على ذلك ما أثبَتَته مقارنة بين ثماني ديمقراطيات؛ إذ تبيَّن أن المواطنين الهولنديين كانوا الأكثر ميلًا إلى المشاركة في الفعل المباشر، كما أبدوا نزوعًا أكبر من نظرائهم في كثير من البلدان ذات السياسات الإقصائية، كألمانيا، إلى المشاركة في الاحتجاجات الراديكالية؛ إضرابات العمال دون إقرار نقاباتهم العمالية، والكتابة على الجدران، والامتناع عن سداد الإيجارات أو الضرائب، والإضرار بالمُمتلكات، وممارسة العنف ضد الأشخاص.
أينما ضَعُفت البرجوازية الوطنية أو تقيَّدت بدولة سلطوية قائمة، كما كان الحال في روسيا قبل الحرب العالمية الأولى، أو في البلدان التي يَتزايد فيها تخلي الطبقة الوسطى عن القيم الليبرالية وتحوُّلها إلى دعم نظام سياسي شبه استبدادي، كما كان الحال إلى حدٍّ ما في ألمانيا الإمبريالية وإسبانيا ما قبل الحرب، يبدو أن فرص اعتناق الطبقة العاملة للقيم الليبرالية تتوارَى بينما يبرز تحولها إلى الراديكالية السياسية. على النقيض مما سبق، نَلحظ أن التقاليد الجمهورية التي اعتنقَتْها بعض قطاعات البرجوازية الفرنسية على الأقل وازدهار القيم الليبرالية التي تبنَّتْها الطبقة الوسطى البريطانية قد مكَّن نسبةً معقولة من العُمال من البقاء في المعسكر الليبرالي.
غير أنَّ الصورة قد تبدَّلت في النصف الثاني من القرن العشرين؛ فانهيار النازية واحتلال قوات التحالف لألمانيا أدَّى في الحقيقة إلى إعادة التفكير في التقاليد القمعية السابقة في ألمانيا واعتناق استراتيجياتٍ استيعابية حيال الحركة العمالية. أما في فرنسا، فقد أتاح غياب مثل هذا الفصام التاريخي للاستراتيجيات الإقصائية الصمود حتى حلول عقد الستينيات على أقل تقدير. وعلى نسق مُماثل، لوحظ أيضًا أن سلوك النخب في الماضي ليس كافيًا لتفسير لجوئها إلى الاستراتيجيات القمعية فيما يتعلَّق بالحركة المناهضة للطاقة النووية (فلام ١٩٩٤ج: ٣٤٥).
إجمالًا لما سبق، يتَّضح لنا أن الاستراتيجيات القومية لها تأثير معيَّن بالفعل على ذخائر الفعل التي تتبنَّاها الحركات الاجتماعية، بيد أنها لا تَكفي لتفسير الخيارات الاستراتيجية التي تتَّخذها؛ فهي أولًا لا تدوم بقَدرٍ مُتساوٍ في كل البلدان، وثانيًا لا تُخلِّف التأثيرات ذاتها على جميع الحركات، وثالثًا يبدو أنها تترك تأثيرها على بعض استراتيجيات الحركات دون غيرها.
(٤) الحلفاء والخصوم والحركات الاجتماعية
لقد تناوَلْنا حتى الآن فرصًا سياسية ثابتة نسبيًّا؛ كلٌّ من المؤسسات والثقافات السياسية تتغيَّر على مهل، وهي تُعَدُّ بالنسبة إلى ناشطي الحركات الاجتماعية من جملة المُعطيات في المقام الأول. لكن ثمَّة طائفة أخرى من المُتغيِّرات الأكثر ديناميكية — وهي عُرْضة للتغيير على المدى القصير ومحلٌّ لضغطٍ تبذله الحركات الاجتماعية — تُعتبَر أيضًا جزءًا من بنية الفرص السياسية. في الواقع، وكما أشرنا سلفًا، كان من بين أولى تعريفات بِنية الفرص السياسية تلك التعريفات التي تتناول التغيُّرات التي قد تُسبِّب تصدُّعاتٍ مفاجئةً في المنظومة، وهو ما حدا بالباحثين إلى تركيز اهتمامهم على مسائلَ من قبيل عدم الاستقرار الانتخابي أو انقسامات النُّخَب (انظر على سبيل المثال بيفن وكلاورد ١٩٧٧: جينكينز ١٩٨٥؛ تارو ١٩٨٣، ١٩٨٩أ).
(٤-١) الحركات الاجتماعية في سياق مُتعدِّد التنظيمات
تتحرَّك الحركات الاجتماعية في سياقٍ مُتعدَّد التنظيمات، متفاعِلةً مع طائفة من شتى الأطراف الفاعلة الأخرى، ومتخذةً حلفاءَ وخصومًا لها من داخل الإدارة العامة والمنظومة الحزبية ومجموعات المصالح والمجتمع المدني. كثيرًا ما تدخل تنظيماتُ الحركات الاجتماعية، والأحزاب السياسية، ومجموعات المصالح، والجمعيات التطوُّعية إبَّان الدورات الاحتجاجية، في علاقاتِ صراعٍ أو تعاوُن بشأن قضايا محدَّدة، وكذلك بشأن القضية الأعم المتعلِّقة بحق الاحتجاج. يَنخرِط كثيرٌ من الفاعلين، ومن بينهم الفاعلون المؤسَّسيون، في حملات احتجاجية دفاعًا عن مطالِبَ معيَّنةٍ كالسلام أو الإجهاض، لكن هذا لا يَنفي تشكُّلَ ائتلافاتٍ أيضًا شغلها الشاغل هو مسألة «النظام العام» من ناحية، ومسألة «الحقوق المدنية» من ناحية أخرى (ديلا بورتا ١٩٩٨ب).
في واقع الأمر، ثمَّة مجموعتان وسيطتان مِن المُتغيرات تُحفِّزان العوامل المؤسسية: بِنْية التحالف، وبِنْية المُعارَضة. بالنظر إلى سياق الفعل الذي تتحرَّك في إطاره الحركاتُ الاجتماعية، يُمكن تعريفُ بِنْية التحالف بأنها البنيةُ التي يشكَّلها الفاعلون السياسيون المؤيدون لتلك الحركات؛ وتعريفُ بِنْية المعارضة بأنها تلك البِنية التي يُكوِّنها الفاعلون السياسيُّون المُعارضون لها (كريسي ١٩٨٩أ و١٩٩١؛ كلاندرمانس ١٩٨٩ب و١٩٩٠؛ ديلا بورتا وروشت ١٩٩٥). تُسهم التحالُفات في توفير الموارد والفرص السياسية اللازمة للمُحتجِّين، بينما تسهم المعارضة في تقويضها. يُمكن أن يحتلَّ الفاعلون المؤسَّسيُّون (كالأحزاب السياسية ومجموعات المصالح) والحركات الاجتماعية الأخرى مواقعَ على كِلا الجانبَين. إنَّ الشكل العام للسلطة — وهو ما نعني به توزيعَ السلطة بين مختلِف الفاعلين الناشطين داخل المنظومة الحزبية أو منظومة مجموعات المصالح — سوف يكون من شأنه التأثير على نتيجة الصراعات (كريسي ١٩٨٩أ). وفي حين تُعتبَر الانتخابات هي الوسيلة التي تُحدِّد ما إذا كان الحلفاء الحزبيون للحركات الاجتماعية هم مَن سيتقلَّدون زِمامَ السلطة أم ستقع في قبضة خصومها الحزبيِّين، تتأثَّر مواقفُ مختلِفِ الفاعلين المشار إليهم سلفًا بعوامل أخرى.
عند النظر إلى خصوم الحركات الاجتماعية، يُمكن أن نبدأ في ملاحظةِ أنهم قد يكونون إما فاعلين مؤسَّسيِّين أو غير مؤسَّسيِّين. والحق أن مُصطلَح الحركات المضادَّة قد صِيغَ نسبةً إلى النوع الأخير من الفاعلين. تنشأ الحركات المضادَّة كردِّ فعلٍ حيالَ ما حقَّقته الحركاتُ الاجتماعية من نجاحات، ثم ما تلبث الحركات الاجتماعية والحركات المضادة أن تتطوَّر في اعتمادٍ تكافُليٍّ أثناء سَيْر التعبئة. ولقد عُرِّفت العلاقة بين الحركات والحركات المضادة، بوجه عام، بأنها علاقةُ صراعاتٍ ضعيفة الارتباط، نادرًا ما يَجتمع الطرفان خلالها في مُواجَهةٍ مباشِرة وجهًا لوجه (زالد ويوسيم ١٩٨٧؛ انظر أيضًا لو ١٩٨٢ للمقارنة). بالاستعانة بتصنيف رابوبورت النموذجي (١٩٦٠)، يَسعنا تشبيه الصراعات بين الحركات الاجتماعية والحركات المضادة بالمناظرة، من ناحية قيامها على أساسِ محاوَلةِ إقناعِ الخصوم والسلطات، كما يُمكن تشبيهُها في الوقت نفسه باللعبة من حيث استنادها إلى حسابات عقلانية للتكاليف والمكاسب. لكن في بعض الأحيان، يكون تفاعُل الطرفَين أشبهَ كثيرًا بمعركة، هدفُها الأساسي القضاءُ على الأعداء، كما كان الحال في إيطاليا إبَّان حقبة السبعينيات. تؤدِّي التفاعُلات بين الحركات والحركات المضادة إلى طابع تصارُعي قوي وسيادة النظرة المانوية للسياسة (كلاندرمانس ١٩٨٩ب؛ ديلا بورتا ١٩٩٥). أضِفْ إلى ذلك ميلَ كِلٍّ من الطرفين إلى محاكاة الآخَر، فيتبادلان تكييفَ أساليبَ معينةٍ واختيار ميادين نشاطهما (انظر مثلًا روشت ١٩٩١ﺟ؛ ماير وستاجنبورج ١٩٩٦؛ بيرنشتاين ١٩٩٧). إن لوجود حركات مضادَّة غير عنيفة تأثيرًا رئيسيًّا على فُرَصِ نجاحِ الحركات الاجتماعية، وفي المقابل يُسفِر وجودُ حركات مضادة عنيفة عن إضفاءِ طابعٍ راديكالي على ذخائر الفعل الخاصة بها.
بالنسبة إلى الخصوم المؤسسيِّين، لا بد أن نُقرِّر بدايةً أن الدولة لا يُمكن اعتبارُها مجردَ عدوٍّ للحركات الاجتماعية، وإنما هي «هدفٌ للحركات الاجتماعية وراعيةٌ وخصمٌ لها في آنٍ واحد، فضلًا عن أنها تُؤدِّي دورَ المنظِّمِ للمنظومة السياسية والحَكَمِ بين أطرافها» (جينكينز وكلاندرمانس ١٩٩٥: ٣). ربما تتَّخذ أجهزةُ الدولة موقفَ الحلفاء أو الخصوم؛ فقد تدعم الأجهزةُ الحكومية مَطالِبَ الحركات أو تُعارِضها؛ إذ ربما تؤمن بعض تلك الأجهزة بأهداف الحركات بينما تَعتمد الأجهزةُ الأخرى مُعتقَداتٍ مضادة (جيل ١٩٨٦: ٢٠٥)، وكلا الجانبَيْن يُمكن أن يُقدِّم مواردَ حيويةً إلى حلفائهما. لكن هذا لا يَعني أن جميع الأجهزة العامة تَنحاز إلى طرفٍ ما؛ إذ إنَّ كثيرًا منها، كما يوضِّح الفصل التالي، يَصير ميادين لتعاملات وصفقات بين مُختلِف الفاعلين الجمعيِّين، ومن بينهم الحركات الاجتماعية.
كلما ندَرَتِ الفرصُ المؤسسية المتاحة أمام الحركات، عظُمَتْ أهميةُ وجودِ حلفاءَ لها من أجل المشاركة في عمليةِ صنْع القرار. تتنوع أشكالُ ذلك التحالُف؛ بدايةً، كما أشرنا في الفصل السادس، فإن منهج تعبئة الموارد قد أكَّدَ على دور «المهنيين الإصلاحيين» (وهم بيروقراطيون ينتمون إلى طائفةٍ معيَّنة من الأجهزة العامة، والمنظمات الخيرية، والتنظيمات الدينية وغيرها) في تقديمِ يدِ العون إلى بعض الحركات الاجتماعية. من الأمثلة الدالة على ذلك ما أبدَتْه الكنائس ومجموعةٌ معينة من المؤسسات والهيئات المُنخرِطة في البرامج الفيدرالية لمكافحة الفقر من دعمٍ للحركة المُدافِعة عن الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية (موريس ١٩٨٤؛ ماكادم ١٩٨٢)، واشتراك جمعيات دينية ومجموعات منتمية إلى القطاع التطوعي في تنظيم منتدى جنوة الاجتماعي، واجتماع الكثير من المؤسسات العريقة التابعة للكنيسة الكاثوليكية قُبَيْل اجتماع مجموعة الثماني بهدف الصلاة من أجل عولَمة «أكثر عدالةً.»
شاركت نقابات شتى في تظاهُرات سياتل وجنوة، مُطالبةً بحماية معايير العمل والسياسات الاجتماعية. وقد خلقت عمليات التعبئة الحديثة، في الجنوب والشمال، والمتعلِّقة بالقضايا العمالية بالفعل اتجاهًا بحثيًّا معنيًّا ﺑ «نقابات الحركات الاجتماعية» (انظر الفصل الثاني من هذا الكتاب). فحسبما أجملت بيفرلي سيلفر (٢٠٠٣) ببراعة، شدَّدت الأبحاث المَعنية بالنقابات في العقود الأخيرة على ضعفها المتنامي، عازيةً ذلك إما إلى فرط تنقُّل رأس المال وما نجم عنه من تراجع في السيادة الوطنية (انظر مثلًا كاستيلز ١٩٩٧) أو تشتُّت العمال وانقسامهم المتزامن مع الحقبة ما بعد الفوردية (انظر مثلًا جينكينز ولايكت ١٩٩٧: ٣٧٨-٣٧٩). غير أن ثمة بعض التوجُّهات الأكثر تفاؤلًا، والتي تُؤكِّد، في المقابل، على ما تلعبه النقابات من دور مستمر وقدرتها على الاستفادة من العولَمة وتعزيز حقوق العمال في البلدان محل استثمار رأس المال. تُبدي النقابات نشاطًا مُميزًا في البلدان النامية على نحوٍ خاص، وهو ما رصدته سيلفر (٢٠٠٣: ١٦٤) قائلةً: «إنَّ الأزمة العميقة التي وقَعَت فيها الحركات العُمالية الرئيسية خلال عقد الثمانينيات لم تُستَنسخ على الفور في مناطق أخرى. على العكس، فقد شَهدت أواخر الثمانينيات وحقبة التسعينيات موجات كبرى من النِّضال العُمالي ضربت «نماذج» التصنيع السريع في بلدان العالمَين الثاني والثالث.» إن المنظومة ما بعد الفوردية، كما كان الحال مع سابقتها الفوردية التي اعتُبِرت في البداية مصدرًا لهزيمة حتمية مُنيَت بها الطبقة العاملة، قد طرحت أيضًا تحديات وفرصًا للتنظيم العمالي. بل إنَّ احتجاجات سياتل المناهضة لمنظمة التجارة العالمية اعتُبرَت دلالة على إعادة تعبئة العمال.
(٤-٢) الحركات الاجتماعية والأحزاب
لكن عند الحديث عن حلفاء الحركات الاجتماعية، انصرفت الأنظار بالأساس إلى الأحزاب السياسية، لا سيما في أوروبا. خضَعَت علاقة الحركات الاجتماعية بالأحزاب للتطور بمُرور الزمن؛ من صياغة المواقف الحزبية إلى اختراق الأحزاب بُغية محاوَلة التأثير عليها؛ ومن الاستيعاب إلى الاستقلال (هانَجن ١٩٩٨أ). كثيرًا ما أقامت الحركات روابط خاصة مع أحزاب سياسية أو أسْر حزبية؛ فالحركات العمالية تَنبثِق من الأحزاب الاشتراكية أو تكون مصدرًا لنشأتها؛ والحركات العِرقية غالبًا ما تلجأ إلى الأحزاب الإقليمية طلبًا للدعم؛ وناشطو الحركة البيئية عادةً ما يُصوِّتون لصالح أحزاب الخضر؛ والحركة الأمريكية المؤيدة للإجهاض تنزع إلى تأييد الديمقراطيين، بينما تَميل الحركة المناهضة له إلى الجمهوريين. وقد حافظ الطرفان على علاقات تبادلية غاية في الإحكام والقوة حتى «أضحت الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بالفعل أطرافًا فاعلة مُتداخِلة يعتمد كل منها على الآخر في تشكيل المشهد السياسي» (جولدستون ٢٠٠٣: ٤). لقد أولت الأبحاث السابقة عناية خاصة بالحركات الاجتماعية الجديدة التي اتَّخذت أحزاب اليسار حليفًا لها، وإن لم تخلُ العلاقة من توتُّرات. ففي دراسة استقصائية للجماعات البيئية مثلًا، تبين أن ١١ بالمائة فقط ممَّن شملَتْهم الدراسة زعموا احتفاظهم باتصالات مُنتظمة بالأحزاب السياسية، وورد ذكر أحزاب الخضر واليسار القديم والجديد (على لسان ٢١ و٣٨ و٢٩ بالمائة على التوالي ممَّن شملتهم الدراسة) باعتبارها تنزع إلى تمثيل مصالح الحركة (لم يُشِر إلى الأحزاب المحافظة في هذا السياق إلا ٢ بالمائة فقط منهم) (دالتون ١٩٩٥: ٣٠٨). في الواقع، إنَّ تشكيل السلطة لدى مُعسكر اليسار له أهمية بالغة بالنسبة إلى الحركات الاجتماعية (كريسي ١٩٨٩أ: ٢٩٦). فبصورة أخصَّ، تنشأ سلسلة كاملة من التعاملات المحتمَلة بين الحركات الاجتماعية والأحزاب اليسارية؛ فأحزاب اليسار، باعتبارها وسطاء بين المجتمع المدني والدولي، في حاجة إلى تعبئة الرأي العام ودعم الناخبين؛ ومن ثم لا يمكنها مطلقًا التغاضي عن ضغط الحركات الاجتماعية. الحق أن برامج اليسار المؤسسي وعضويته قد طرأت عليهما تحوُّلات إثر تفاعل اليسار مع الحركات الاجتماعية، سواءٌ اتخذ هذا اليسار صورة حزب العمال البريطاني، أم الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، أم الحزب الاشتراكي الفرنسي، أم الحزب الشيوعي الإيطالي (انظر ماجواير ١٩٩٥؛ دايفينداك ١٩٩٥؛ كوبمانس ١٩٩٥؛ كولبل ١٩٩١).
غير أنَّ الاستراتيجية التي اتبعَتْها أحزاب اليسار حيال الحركات الاجتماعية لم تبقَ مُستقرة عبر الزمان وباختلاف المكان؛ فقد سيطر عليها العداء تارةً، والتفاوُض تارةً، والاستيعاب تارة. فقد شهدَت الآونةُ الأَخيرة دعم بعض الأحزاب اليسارية (وأبرزها حزب العمال الجديد في بريطانيا) للحرب على العراق، في حين عارضَتْها بشدة أحزاب أخرى (كالحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا)، وكانت أغلب أطياف اليسار المؤسَّسي، حتى انطلاق مَسيرات جنوة، ترى في عولَمة السوق الحرة الطريق الوحيد والأساسي لمُكافحة البطالة، غير أنَّ بعضَ الشكوكِ قد برَزَت عقب فعاليات جنوة، كتلك التي ثارَت بين الحزب الديمقراطي اليساري في إيطاليا والحزب الاشتراكي في فرنسا (أندريتا وديلا بورتا وموسكا ورايتر ٢٠٠٢: الفصل الخامس). ما الذي يُفسِّر الخيارات الاستراتيجية التي تتَّخذها أحزاب المُعسكر اليساري؟ ثانيًا: ما عَواقب مواقفهم فيما يتعلَّق بنشأة الحركات الاجتماعية، وقدرتها التعبوية، وذخائرها، واحتمالات نجاحها؟
في مسعى للإجابة عن التساؤل الأول، توجَّهت الأنظار صوب الانقسامات السياسية. ذهب البعض إلى أن الفصل الصارم بين اليمين واليسار مِن شأنه إعاقة نشأة الحركات الاجتماعية الجديدة (براند ١٩٨٥: ٣١٩)، بينما أبرز آخَرون ما تُوفِّره الأحزاب الشيوعية القوية من حافز، ومن بين الفريق الأخير كان تارو الذي ذهب إلى أنَّ أحزاب اليسار، وبخاصة الحزب الشيوعي الإيطالي، قد لعبَت دور «المُحفِّز الخفي والخلاق الكامن في أصول الحركات الجديدة وديناميكياتها وتحوُّلها النهائي إلى الطابع المؤسسي» (١٩٩٠: ٢٥٤). يبدو اليسار القديم في العموم أكثر نزوعًا لدعم الحركات الاجتماعية في المناطق التي عرقَلَت فيها الاستراتيجيات الإقصائية مساعي تضييق الفجوة بين اليسار واليمين، كما كان الحال في أوروبا الشرقية، مثلًا، حيث قدَّمت الحكومات اليسارية امتيازات مُتعدِّدة لإحدى الحركات النسوية ذات الميول اليسارية (ديلا بورتا ٢٠٠٣أ؛ فالينتِ ٢٠٠٣).
ثانيًا: يُؤثِّر وجود انقسامات حزبية داخل اليسار التقليدي على المَواقف حيال الحركات الاجتماعية؛ فحيثما انقسم معسكر اليسار بين حزب اجتماعي-ديمقراطي (أو اشتراكي) وبين حزب شيوعي، ازدادت أهمية أصوات الطبقة العاملة، صارفًا الهمم عن تناول القضايا ما بعد المادية (كريسي ١٩٩١: ١٨). في المقابل، يبدو أن حركة العدالة العالَمية التي تُشدِّد على المطالب التقليدية المُتعلِّقة بالحقوق الاجتماعية والعدالة قد ازدادت قدرةً على التأثير في اليسار المؤسَّسي في بلدان كإيطاليا أو فرنسا أو إسبانيا؛ حيث خشيَ اليسار المُعتدِل أن يَلقى منافسة من أحزاب شيوعية أو تروتسكية أشد راديكالية.
في الواقع، يُعدُّ التنافُس الانتخابي مُتغيِّرًا ذا أهمية في تفسير رد فعل الحلفاء المحتملين تجاه الحركات الاجتماعية. لقد ارتبَطَ الميل إلى دعم الاحتجاجات بانعدام الاستقرار الانتخابي، وهو ما يجعل الفوز بأصوات جديدة أمرًا ذا أهمية خاصة. بل إنه غالبًا ما تتشكَّل الائتلافات بين الأعضاء والمُعارضين في ظل الأوضاع السياسية شديدة الانقسام والتنافُسية (تيلي ١٩٧٨: ٢١٣-٢١٤). فانعدام الاستقرار السياسي يوفِّر ظروفًا مواتيةً للحركات الاحتجاجية: «يتوقَّف الأثر السياسي للاضطرابات المؤسسية على الأوضاع الانتخابية. فحتى الاضطرابات الخطيرة، كالإضرابات الصناعية، لن تَنتزع للمُحتجِّين امتيازات، اللهمَّ إلا إذا صبَّت حسابات الاضطراب الانتخابي في صالح المُحتجِّين» (بيفن وكلاورد ١٩٧٧: ٣١-٣٢)؛ فنجاح «عمال المزارع المتَّحدين» في الولايات المتحدة الأمريكية، مثلًا، قد فسَّره إعادة الاصطفاف الانتخابي التي جلبَت إلى السلطة الجناح الليبرالي للحزب الديمقراطي ذي الميل القوي نحو الحركات الاجتماعية (جينكينز ١٩٨٥). شهدت بداية الخمسينيات فصاعدًا توجُّهًا لدى الطبقات الوسطى العليا من البروتستانت البيض، وكذا جمهور الناخبين من السود في المدن الكبرى نحو التخلِّي عن تأييد الحزب الجمهوري مع تنامٍ في تقلُّب مواقِفِهم السياسية، وتزامن ذلك أيضًا مع نزوع المؤيدين التقليديين لسياسات الصفقة الجديدة (العمال والعرقيات ذات البشرة البيضاء والجالية اليهودية والجنوبيِّين) للتحوُّل نحو الوسط، وذلك مع فقدان سياسات الرعاية فاعليتها أكثر فأكثر (جينكينز ١٩٨٥: ٢٢٤). لقد كان انعدام اليقين الانتخابي الدافع الرئيسي وراء تعاون الحزب الديمقراطي مع الحركات الاجتماعية، ثم ما لبث اليسار المؤسَّسي في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا أن تبنَّى لاحقًا موقفًا ذا طابع نقدي أقوى حيال قضايا مثل خصخَصَة الخدمات العامة، أو تخفيف القيود والضوابط المفروضة على سوق العمالة، أو إرسال قوات إلى العراق، آملًا أن يُمكنَه ذلك من الفوز بأصوات شريحة كبيرة من جمهور الناخِبين الداعمين لحركات السلام فضلًا عن أصوات البعض من الناشطين الكُثُر الذين شاركوا من قبل في التظاهُرات المدافِعة عن العدالة العالمية.
بعيدًا عن كَونهم في الحكم أم لا، تَرتبِط مَواقف اليسار من الحركات الاجتماعية بمُتغيِّر خامس؛ ألا وهو: انفتاحه على سياسات الإصلاح. فقد أظهر تحليل مقارن للحركات الاجتماعية في إيطاليا وألمانيا أن الحزب الشيوعي الإيطالي والحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني صارا أقلَّ استعدادًا لدمج مطالب الحركات الاجتماعية الجديدة داخل عملية صنع القرار تزامنًا مع مَيلِهم نحو الوسط بين عقدي السبعينيات والتسعينيات (ديلا بورتا وروشت ١٩٩٥). وبالرغم مما أبداه ائتلاف الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني-الحزب الديمقراطي الحر، ذو البرنامج الإصلاحي الموسع، تحت قيادة فيلي براندت أوائل السبعينيات من انفتاح للحوار مع الحركات الاجتماعية، اضطرَّ الائتلاف ذاته لاحقًا تحت قيادة هيلموت شميت إلى خفضِ سقف برامجه الإصلاحية في ضوء الركود الاقتصادي الذي شهدَتْه ألمانيا، متخذًا في الوقت ذاته موقفًا «باردًا» من الفاعلين غير المؤسَّسيين. وبوجه أعم، كان لدى الأحزاب الأوروبية المُنتمية إلى يَسار الوسط، سواءٌ أكانت جزءًا من المعارضة أم من الحكومة، نزعة إلى الوثوق بالسياسات الاقتصادية المدفوعة بقوى السوق والتخلِّي عن التدخُّلات الكينزية التقليدية، وذلك منذ أوائل التسعينيات؛ ولذلك حين برَزَت حركة العدالة العالمية بمطالبها المُتمثِّلة في مزيد من الاستثمارات العامة، لم تلقَ إلا التشكيك والنقد الصريح ممَّن يُفترَض أنهم حلفاؤها.
يَجدر بنا أن نُضيف في هذا الصدد أن تحرُّكات الأحزاب اليسارية عند مشاركتها في الحكومة تتوقَّف على ما تحظى به من ثقل داخل الائتلاف الحاكم؛ فمِن الغنيِّ عن القول إنها تَنعم بحرية أكبر عندما تَنفرِد بالحكم، في حين عندما تُشكِّل ائتلافًا مع أحزاب أكثر اعتدالًا، سوف تُجبَر على اعتناق سياسات أقل دعمًا للحركات الاجتماعية اليسارية. أما لو ائتلفَت مع أحزاب يسارية أخرى، فسوف تَميل إلى تبني مواقف أقرب إلى بعض الفاعِلين الجمعيِّين الجُدُد. من الأمثلة الدالَّة على ذلك موقف الحكومات الأولى في عهد فرانسوا ميتران (وهي حكومات قوامها ائتلافات مع الحزب الشيوعي وتتمتَّع بأغلبية المقاعد في البرلمان)؛ فقد كانت تلك الحكومات أكثر تقبُّلًا للإصلاح من الحكومات اللاحقة المُنخرِطة في «تعايش» مع أغلبية برلمانية يَمينية. كما يُمكن رصد أمثلة كثيرة من الولايات الألمانية؛ حيث أبدت الائتلافات بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي وأحزاب الخضر استعدادًا أكبر لتقبُّل مطالب الحركات الاجتماعية مقارنةً بما أبدته الائتلافات بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي والحزب الديمقراطي الحر، أو، وهي الأسوأ في هذا الصدد، الائتلافات بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي.
شهدت الأحزاب السياسية، خاصة في أوروبا، بعض التغيُّرات الجديدة الكبرى كان من شأنها التأثير على تفاعلاتها مع الحركات الاجتماعية تأثيرًا بالغًا. غالبًا ما كانت المشاركة تَتنامى في الماضي داخل الأحزاب السياسية الجماهيرية، حيث أتاحَت القيَم المشتركة المجال أمام تشكُّل هُويات جمعية، وهو ما أدَّى إلى نشأة الحركات الاجتماعية في ظلِّ ارتباطٍ وثيقٍ بالأحزاب؛ فقد أقامت الحركة العُمالية علاقات تكافلية مع الأحزاب الاشتراكية، وهي نفس العلاقات التي جمَعت الحركات العرقية وأحزاب الأقليات العرقية. غير أنَّ الوضع قد تغيَّر، لا سيما منذ ثمانينيات القرن الماضي؛ فحتى الأحزاب السياسية اليسارية قد تحوَّلت مِن نموذج تنظيمي قائم على عدد كبير من الأعضاء ودور حيوي للناشِطين، ممَّن كان لهم وجود واسع النطاق في مُختلف المَراتِب الحزبية، إلى أحزاب «انتخابية» تُخاطِب الناخِبين عبر وسائل الإعلام، ولا تُوقظ دعم المُتعاطفين إلا أثناء الفترات الانتخابية مع تعديل أيديولوجيتها باتجاهِ تيار الوسط (بيتسورنو ١٩٧٨، ١٩٨١؛ مانين ١٩٩٣؛ ديلا بورتا ٢٠٠١). وهذا التراجُع في أداء الأحزاب السياسية لمَهامِّ بناء الهُوية قوَّى بدَورِه من الدور المستقل الذي لعبَتْه الحركات الاجتماعية كساحات للنقاش العام بشأن القضايا السياسية وبناء الهويات الجمعية (انظر أيضًا الفصل التاسع من هذا الكتاب).
لنَلتَفِت الآن إلى التساؤل الثاني: ما التبعات التي تَحملها مواقف الحلفاء المُحتمَلين للحركات الاجتماعية؟ ثمَّة اعتقاد سائد على نطاقٍ واسع بأن الأحزاب اليسارية تلعب دورًا محوريًّا في تيسير المشاركة في عملية صنعِ القَرار، وزيادة قدرة الحركات الاجتماعية على التعبئة وفُرصِها في النجاح، بينما تتعرَّض الحركات الاجتماعية للتهميش السياسي عندما يُبدي اليسار التقليدي عداءً تجاهها.
كان للتحالُف مع اليسار التقليدي دور رئيسي في تعزيز قُدرة الحركات الاجتماعية على التعبئة؛ فقد لُوحظ أن الانحياز إلى اتجاه اليسار يَرتبط إيجابيًّا في العموم بوجود استعداد لاستخدام سلاح الاحتِجاج، لا سيما العصيان المدني (واليس وجينكينز ١٩٩٥: ١٢٦). فنظرًا لأنَّ «اعتناق الأيديولوجية اليسارية دائمًا ما يَرتبط بدعم الأحزاب اليسارية» (المصدر السابق)، فإن ما تتَّخذه الأحزاب اليسارية من مواقف تميل إلى التأثير على مستويات تعبئة جمهور ناخبيها، والذين يُبدون في العموم استعدادًا أكبر للاستعانة بالاحتجاجات مقارنةً بالناخبين يَمينيِّي التوجُّه، ونرى مصداق ذلك بالفعل في كثرة انخراط الناشطين اليساريين في الحركات الاجتماعية إلى جانب أحزابهم السياسية (انظر مثلًا كريسي وفان براج ١٩٨٧). في المقابل، لو نحَّينا جانبًا مسألة تقبُّلهم للتأثُّر بالحركات الاجتماعية، لبدَت مشاركة الأحزاب اليسارية في الحكومة ذات تأثير سلبي على التعبئة الجَمعية؛ نظرًا لأنها تَثني، فيما يبدو، مَن قد يَحملون ميلًا أكبر إلى الاحتِجاج عن المشاركة الفِعلية في الاحتجاجات. من واقع تحليل كوبمانس وروشت لبيانات مُستقاة عن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا العظمى وهولندا في الفترة من ١٩٧٥ إلى ١٩٨٩، وعن ألمانيا في الفترة من ١٩٥٠ إلى ١٩٩١، لاحَظَ الباحثان أن احتِجاجات التيار اليَميني قد تتزايَد في ظل إدارة الحكومات اليسارية والعكس صحيح، وهي ظاهِرة تُعزى إلى كون اليمين أقل ميلًا في العموم إلى اللجوء إلى الاحتجاجات؛ ولذا تَزداد التعبئة تحت إدارة الحكومات اليمينية مقارنةً بحالها تحت إدارة الحكومات اليسارية (فقد ازداد حجم التعبئة في ظل حكومة المستشار الألماني هلموت كول، المُنتمي إلى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، مرتَين مقارنةً بحَجمها تحت إدارة المستشار هلموت شميت، المُنتمي إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي) (كوبمانس وروشت ١٩٩٥). وإذا كانت أدبيات الحركات الاجتماعية قد عدَّت التعبئة استجابة بالدرجة الأولى لآمال التغيير المُتنامية (انظر مثلًا تارو ١٩٨٩أ)، فإن هذه النتائج تُشير إلى أهمية ما يَنطوي عليه اللافعل من مخاطر مُحتمَلة. فعند مواجهتِها بحكومة ذات توجه مقارِب، تَنزع الحركات الاجتماعية (التي لم تُعَد «عاجزة») إلى الإكثار من استعمال الضغط المباشر والإقلال من اللجوء إلى الاحتِجاج، أما حين تُواجه خطر التعامل مع حكومة معارضة لها سياسيًّا، فإن الحركات الاجتماعية تُدفَع إلى التفكير في التعبئة كوسيلة لا مَناص منها. ولذلك فليس مِن قَبيل المصادَفات أن كبرى مسيرات السلام التي انطلَقَت يوم ١٥ فبراير ٢٠٠٣ قد حدثَت في تلك البلدان (كالمملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا) التي أيَّدت حكوماتها الحرب على العراق، بينما أدَّت مواقِف الحكومتَين الفرنسية والألمانية المناهضة للحرب إلى الحد من عدد المُحتجِّين الذين خرجوا في هذين البلدين.
إذن، إذا كان الدعم الذي تُقدِّمه أحزاب اليسار يُؤثِّر فيما يبدو على مستويات التعبئة والاستراتيجيات المتَّبعة، فإن مسألة فُرَص النجاح لا تزال مفتوحة للنقاش. وبالرغم من صعوبة تقييم النتائج التي تُحرِزها الحركات الاجتماعية (وهو ما سنَتناوله في الفصل التالي)، فإنه مِن المرجَّح، من واقع ما طرَحْناه حتى الآن، أن الحكومات اليسارية ستكون أكثر ميلًا للتجاوب مع كثير من مطالب الحركات الاجتماعية اليسارية من الحكومات اليمينية. فذكريات القَمع الذي ذاقَ مُعسكَر اليسار مرارتَه في الماضي عادةً ما تجعله يتبنَّى توجُّهًا أكثر ليبرالية فيما يخصُّ قضايا النظام العام (ديلا بورتا ١٩٩٨ب). لكنه، في الوقت ذاته، يَميل أثناء وجوده في السلطة إلى دعم المطالب المُعتدلة والمُتعلِّقة بقضايا متَّسقة مع القضايا التي تهمُّ ناخبيه التقليديِّين (كريسي وآخرون ١٩٩٥: ٥٩).
نَخلص من تلك المناقشة إلى أن وجود حلفاء ذوي نفوذ يعدُّ بصورة عامة عاملًا ميسِّرًا لنجاح الحركات الاجتماعية، وأن التحالفات مع اليسار تُؤدِّي في كثير من الحالات إلى تعزيز قوة الاحتجاج التعبوية بصورة ملحوظة. غير أن هذا قد يتحقَّق في مقابل نوع من الوصاية يفرضها اليسار، والتي قد تُؤدِّي إلى انحسار المد الاحتِجاجي، لا سيما عند اعتلائه السلطة.
(٥) الفرص الخطابية والمنظومة الإعلامية
أظهرت الدراسات المشار إليها سلفًا ما يتمتَّع به مفهوم الفرص السياسية من قدرة تفسيرية، لكنها أثارت في المقابل بعض المُشكلات (انظر أيضًا الفصل الأول من هذا الكتاب)، من بينها الدور (غير المُعترَف به) الذي تؤدِّيه المُتغيِّرات الثقافية في إدراك الفرص والعقَبات السياسية، وكذا في اختيار النماذج التنظيمية وذخائر الفعل. بادئ ذي بدء، تُنتَقَد مناهج الفرص السياسية لإخفاقها في إدراك أن «العمليات الثقافية والاستراتيجية تُعيِّن العوامل التي عادةً ما تُطرَح باعتبارها «بِنيوية» وتُوجدها» (جودوين وجاسبر ٢٠٠٤أ: ٢٧). إن العوامل الثقافية تُخضِع الواقع الخارجي للتنقيح والتنقية؛ ولذلك فقد تمرُّ الفرص عَرَضًا دون رَصدِها؛ أو قد يحدث العكس، فيرى الناشِطون الفرص المُتعذِّرة فيُخالونها سانِحة (كرتزمان ٢٠٠٤). بل إنَّ المؤيِّدين السابقين لمفهوم بِنى الفُرَص السياسية قد كتبوا مؤخَّرًا قائلين إن «الفرص والمخاطر ليست تصنيفات موضوعية، بل تَعتمِد على نوع الإسناد الجمعي الذي قصَرَتْه الأجندة التقليدية على تأطير أهداف الحركات» (ماكادم وتارو وتيلي ٢٠٠١: ٤٥).
(٥-١) الفرص الخطابية
بَيد أن النِّقاش يَتخطَّى دَور التصوُّرات ليتناول التأثير التقييدي الذي خلَّفه التركيز على الفُرَص السياسية على الدراسات المَعنية بالحركات الاجتماعية (جودوين وجاسبر ٢٠٠٤ب)؛ فالتشديد على الجانب السياسي تحديدًا قد بخَس دَور الفُرَص الخطابية قَدرَه، كقُدرة الموضوعات والأفكار الرئيسية التي تطرحها الحركات على الانسجام مع القِيَم الثقافية. إنَّ بِنية الفُرَص السياسية قد عُرِّفت في الواقع بأنها «المِضمار الذي يقع فيه تأطير السياق» (جامسون ٢٠٠٤: ٢٤٩).
رغمَ كونها بِنيوية أيضًا (من حيث تجاوزها حيِّز التأثير المباشر للحركات)، فإن الفرص الخطابية مُختلفة عن المؤسسات السياسية (كوبمانس ٢٠٠٤؛ بوليتا ٢٠٠٤). تحدد البيئات الثقافية الأصداء التي تَلْقاها مطالب الحركات (ويليامز وكوبال ١٩٩٩)، مع عدم إمكانية حدوث التغييرات إلا في الفترات الانتقالية (شادسون ١٩٨٩). إنَّ المفهوم المتأصل عن المواطَنة باعتبارها استيعابية (أي أنها مُواطَنة قائمة على المعايير الإقليمية: «الأرض»)، أو إقصائية (أي مواطَنة قائمة على مفهوم «العِرْق» أو «الدم») يُفسِّر كثيرًا من المسائل المرتبطة بالأنشطة التعبوية للحركات العنصرية، وكذا الحركات المُناهِضة للعُنصرية (كوبمانس وستاثام ١٩٩٩)؛ فالحركة الداعية إلى إلغاء الرقِّ نجَحَت حين تمكَّنت مِن ربط دعاويها الأخلاقية بالقيم السائدة (دانجو وفان ميل ١٩٩٨)، والكيفية التي نُوقِشَت بها قضية الإجهاض في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية كانت مُتوافِقة مع الموضوعات العامة السائدة في ثقافات البلدَين السياسية الوطنية (فيري وجامسون وجيرهاردز وروشت ٢٠٠٢)، كما أنَّ عودة الرأي العام باتجاه الدعم العام لميدان الحياة العامة (في مقابل ميدان الحياة الخاصة) قد أسهَمَت في نشأة حركة العدالة العالَمية (ديلا بورتا وأندريتا وموسكا ورايتر ٢٠٠٥).
(٥-٢) الإعلام والحركات
تَرتبِط قضية الفُرَص الخطابية بالدَّور الذي تلعبه وسائل الإعلام باعتِبارها أهمَّ ميادين التعبير العام عن الآراء وتشكيلها. سبَقَ أن أشَرنا إلى اعتماد الحركات الاجتماعية على الإعلام في نَشرِ رسائلها (انظر الفصل السابع من هذا الكتاب)، وقد أبدى جامسون (٢٠٠٤: ٢٤٣) ملاحظةً في هذا الشأن قائلًا: «تُعَدُّ ساحةُ الإعلام أهمَّ المواقع التي تُجسِّد أولويةَ السياق على الدلالة؛ نظرًا لأنَّ جميع اللاعبين في عملية السياسة يَفترضُون تأثيرَها الواسع الانتشار، بصرف النظر عما إذا كان لهذا الافتراض ما يُسوِّغه أم لا.» وهو ما يجعل السيطرةَ على الإعلام والإنتاج الرمزي مقدمةً منطقية ضرورية لأيٍّ من محاولات التعبئة السياسية، ومصدرًا مستقلًّا للصراع في الوقت ذاته. فضلًا عن ذلك، يتزايد خطر تحوُّل السيطرة على الموارِد الفكرية، وهي ضرورة لا غنى عنها في نجاح الفعل الجمعي، إلى غايةٍ بعيدةِ المنال إنْ لم تُعزِّزْها القُدرةُ على النفاذ إلى وسائل التواصُل الجَماهيري (جامسون وموديلياني ١٩٨٩؛ واسكو وموسكو ١٩٩٢؛ جامسون وولفسفيلد ١٩٩٣؛ آيرمان ١٩٩٤). وكلما ازدادَت البِنية الإعلامية استقلاليةً وتعدُّديةً، تعاظَمَتْ إمكانيةُ نفاذ المُعارضين إليها.
غير أنَّ الحركات الاجتماعية وُصِفَت بأنها لاعِبون «ضُعفاء» في ميدان الإعلام الجماهيري، وعُدَّت العلاقات بين الناشِطين والصحفيِّين ذاتَ طابعٍ تنافُسي (نوفو ١٩٩٩). قد تُفضِي المَطالِبُ الإعلامية بتقديمِ قياداتٍ لامعة إلى إفسادِ ديمقراطيةِ الحركات (جيتلن ١٩٨٠)، كما أنَّ التوجُّهات العامة للمَنظومة الإعلامية (مثل التفضيل الصحفي للأخبار البارِزة والمُثيرة، أو الاعتماد على المصادر الرسمية في الحصول على المعلومات) وسِماتها الخاصة (تَفاوُت الصحفيِّين في مستوى حيادهم، ومقدار التنافُس بين مُختلف الوسائل الإعلامية) لها تأثيرٌ على الحركات الاجتماعية (انظر مثلًا كيلباويكس وشيرير ١٩٨٦)، فضلًا عما تَشهدُه الساحةُ الصحفية مؤخَّرًا من اتجاهاتٍ نحو تجريد الصحافة من الطابع السياسي وتحويلها إلى نشاط تجاري هادف للربح (نوفو ١٩٩٩)، وهو ما يُقلِّص أكثرَ من قدرةِ الناشطين على النفاذ إليها.
غيرَ أنَّ الإعلام يُقدِّم في الوقت ذاته مساحةً لنَشرِ أفكار الحركات، وهو ما استغلَّته تنظيماتُ الحركات فأضحَتْ أكثرَ مهارةً في التأثير على وسائل الإعلام، وأكثر كياسةً خاصةً في التعامل مع مُختلِف المواقف، فضلًا عن اكتسابها سمعةً كمصادر موثوق فيها للمعلومات (شلزينجر ١٩٩٢). علاوةً على ذلك، يُمثِّل الناشطون أيضًا سوقًا مُستهدفةً لوسائل الإعلام (نوفو ١٩٩٩: ٥٩)؛ فكلما اتَّسع نطاق الدعم الذي تلقاه الحركات، اتَّسعت المساحةُ الإعلامية التي تُوجِدها الاستراتيجيات التسويقية لعرض خطابها، وهو ما يُوسِّع بدوره من قاعدة الدعم المتوافرة للحركات. ونجد مثالًا حيًّا على تلك الحلقة المُفرغة في ألمانيا في سياق الحركة المناهِضة للحرب على العراق. يُمكن لوسائل الإعلام كذلك أن تلعب دورًا كحاشِدة للاحتجاجات، لا سيما عند التعامل مع «القضايا المُفعَمة بالعواطف والرموز التي تخلق مناخًا من التوافُق والانفعال والتآزُر» (والجريف وماسينز ٢٠٠٠: ٢٣٥)، وهو الدور الذي لعبته خلال المسيرة البيضاء عام ١٩٩٦ في بروكسل؛ إذ احتشَدَ ٣٠٠٠٠٠ مواطن بلجيكي احتجاجًا على سوء الإدارة المؤسَّسية للتحقيقات في قضية سفَّاحٍ قتَلَ عدةَ أطفال. يُمكننا أن نُضيف في هذا السياق أنه بالرغم من أن النقاش الدائر بشأن فاعلية التلاعُب الإعلامي لم يَنتهِ بعدُ (كاتس ولازرسفيلد ١٩٥٥؛ نويل-نيومان ١٩٨٤؛ جامسون ١٩٩٢ب؛ لينرت ١٩٩٣)، فقد أشارَتِ الأبحاث مرارًا أن الجمهور ليس مجرَّد مُتلقٍّ سلبي للأخبار: «إنَّ استيعاب الصور المُقدَّمة في وسائل الإعلام هو عمليةٌ نَشِطة يُمكن أن يُؤدِّي فيها السياق، والمَوقع الاجتماعي، والخبرات السابقة إلى تفسيرات مُختلفة تمام الاختلاف» (جامسون وكروتو وهوينز وساسون ١٩٩٢: ٣٧٥). يَعمِد الناشِطون إلى تحدِّي القوة الرمزية التي تتمتَّع بها الآلة الإعلامية، مُتجاوِزِين الحدودَ بين «عالَم الإعلام» و«العالَم العادي» (كولدري ١٩٩٩؛ الفصلان السابع والثامن)، بينما تطوَّرت وسائلُ الإعلام الراديكالية حتى أضحت ميادينَ عامةً بديلة (مضادة) (داوننج ٢٠٠١).
(٦) خلاصة القول
إنَّ التنظيم الأَمني للاحتِجاجات، الذي تغيَّرت أنماطه بمرور الزمان واختلاف المكان، يُؤثِّر على مسارات الحركات الاجتماعية وسِماتها. فطالَما أدَّت الاستراتيجيات القَسرية مثلًا إلى التصعيد. وبينما تتَّجه البلدان الديمقراطية نحو أنماط الضبط التفاوضية، لاقَتِ الاحتِجاجاتُ العالَمية الأخيرة أنماطًا عنيفة من التنظيم الأمني، على الرغم من أن هذه الاحتجاجات كانت في أغلبها سِلْمية. تستمدُّ أنماطُ التنظيم الأمني ملامحَها جزئيًّا من المؤسَّسات والثقافات الأمنية، غيرَ أنها تَتأثَّر أيضًا بالفُرَص السياسية القائمة. وانطلاقًا من هذا المبدأ، أُجرِيَتْ أبحاثٌ تاريخية مقارِنة بين عدة بلدان، تناوَلَت بالمناقشة السماتِ التي تُميِّز أربعَ فئات من المتغيِّرات وتأثيراتها، وهي تتعلَّق بالآتي: (١) المؤسسات السياسية. (٢) الثقافات السياسية. (٣) سلوك خصوم الحركات الاجتماعية. (٤) سلوك حلفائها.
ارتبطَت المُتغيِّرات المؤسسية الأكثر تناولًا بالانفتاح الرسمي لعملية صنع القرار، وجرت مُناقَشةُ أهميةِ توزيع السلطة وإتاحة الديمقراطية المُباشِرة؛ وذلك انطلاقًا من فرضيةِ أنه كلما ازدادت نقاطُ المشاركة عددًا، ازدادَتِ المنظومةُ انفتاحًا. هذا إلى جانب وضع السمات غير الرسمية والاستراتيجيات التقليدية للتفاعُل مع المُعارِضين، بصورة خاصة، قيدَ الاعتبار جنبًا إلى جنب مع السمات البِنيوية. لعب تفويضُ السلطة على المستويات القومية الفرعية وتنامي استقلالية البيروقراطيات العامة في صلاحياتها (ولا سيما البيروقراطية القضائية) دورًا في زيادة نقاط المشاركة خلال العقود الأخيرة، في حين زاد النفوذُ المتنامي للشركات المتعدِّدة الجنسيات والمنظَّمات الحكومية الدولية من صعوبةِ الوصول إلى صنَّاع القرار. غير أن أيًّا من هذَين البُعْدَين (الثابتَين عادةً) ليس مُلائمًا تمامًا لتفسير الوقائع التي تُشكِّل نقاطَ التحوُّل؛ كتصاعُد الاحتجاجات وتراجُعها، أو القدرة التعبوية للحركات الاجتماعية. أما بالنسبة إلى نتائج الفعل الجَمعي، فإن ما تتمتَّع به منظومةُ صنْع القرار من انفتاحٍ رسميٍّ أو غير رسمي لا يَمنح المَطالِبَ الناشئة امتيازًا تلقائيًّا؛ وذلك لأن المؤسسات يُمكن أن تنفتح أيضًا في اتجاه خصوم الحركات الاجتماعية. وعلى الرغم من أن تأثيرات البِنية المستقرَّة للفُرَص السياسية على نجاح الحركات الاجتماعية تبدو غامضة، فإن تأثيراتها على الاستراتيجيات التي تتبنَّاها الحركات الاجتماعية تبدو أقلَّ غموضًا؛ فكلما تعاظَمَت فرص النفاذ إلى منظومة صنع القرار، ازدادَتِ الحركاتُ الاجتماعية ميلًا إلى انتهاج استراتيجيات معتدلة وقنوات مؤسسية.
يبدو أن للسمات المِحوَرية للصراعات والتحالفات تأثيرًا بالغًا على ظهور الاحتجاجات وعلى إمكانية التعبئة؛ إذ تُؤثِّر قوةُ الخصوم المؤسَّسيِّين جنبًا إلى جنب مع تفاعل الحركات/الحركات المضادة على ظهور الاحتجاج وعلى استراتيجيات الحركات. كذلك قدَّمت التحالفاتُ مع أحزاب اليسار والنقابات العمالية للحركات الاجتماعية مواردَ مهمَّةً وضاعفَتْ من فُرَص نجاحها في الماضي، بَيْدَ أن تراجُعَ الأحزاب الجماهيرية، وما صاحَبَه من تراجُع في النشاط الحزبي، يُعَدُّ حجرَ عَثِرةٍ أمام التحالفات المُحتمَلة بين الأحزاب والحركات الاجتماعية.
في حين حظيَ مفهومُ الفُرَص السياسية بدور محوري في الأبحاث المعنية بالحركات الاجتماعية، كان الاهتمامُ بالتصوُّرات الذاتية للحقيقة ضئيلًا. لكن الأبحاث شرَعت في الآونة الأخيرة تَتناول كيفيةَ تَنقيحِ المُتغيِّرات الثقافية للفُرَص السياسية وتأثير الفُرَص الخطابية على استراتيجيات الحركات واحتمالات نجاحها. وأخيرًا تبرز تعدُّديةُ وسائلِ الإعلام وثراءُ الإعلامِ الوسيط كشروطٍ حيوية لضَمان انتشار رسائل الحركات.