عَوْدَةُ الضِّفْدِعِ
وَمَضَتِ الْأَيَّامُ مُتَتَابِعَةً بَعْدَ ذَلِكَ، دُونَ أَنْ يَقَعَ أَمْرٌ ذُو بَالٍ، أَوْ حَادِثٌ غَيْرُ عَادِيٍّ.
وَمَا زَالَتْ «نَرْجِسُ» تَشِبُّ وَتَنْمُو وَتَتَرَعْرَعُ …
وَقَدْ نَسِيَتْ «مَاجِدَةُ» — عَلَى مَرِّ الزَّمَنِ — تِلْكَ الرُّؤْيَا الْمُفَزِّعَةِ، الَّتِي شَهِدَتْهَا «نَرْجِسُ» فِي مَنَامِهَا، فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ حَلَّتْ عِنْدَهَا ضَيْفًا، وَلَمْ يَعُدْ ذَلِكَ الْحُلْمُ الْهَائِلُ يَمُرُّ ﻟ «مَاجِدَةَ» عَلَى بَالٍ.
فَلا عَجَبَ إِذَا كَفَّتْ عَنْ مُرَاقَبَتِهَا، بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّتْ عَلَيْهَا، وَزايَلَهَا الْخَوْفُ مِنْ تَعَرُّضِهَا لِلْكَوارِثِ، فَأَصْبَحَتْ «نَرْجِسُ» تَخْرُجُ مِنَ الدَّارِ لِتَتَنَزَّهَ، تَارَةً وَحْدَهَا، وَتَارَةً فِي صُحْبَةِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ».
وَكَانَ صَاحِبُهَا قَدْ أَدْرَكَ الْخامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ فِي ذَلِكَ الْحِينِ؛ فَنَمَا جِسْمُهُ، وَقَوِيَ بَأْسُهُ، واشْتَدَّ سَاعِدُهُ.
وَكَانَ يَتَمَيَّزُ بِالنَّشَاطِ وَرَشَاقَةِ الْحَرَكَةِ … وَأَصْبَحَ النَّاظِرُ لَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِالدَّمَامَةِ وَلا بِالْجَمَالِ، بَعْدَ أَنْ غَطَّى شَعْرُهُ الْحَرِيرِيُّ الطَّوِيلُ الْأَسْوَدُ وَجْهَهُ.
وَكَانَ لِقَاؤُهُمَا — وَحْدَهُ — يُنْسِيهِ حُزْنَهُ وَأَلَمَهُ.
وَلَمْ يَكُنْ يُضْجِرُهُ نُفُورُ النَّاسِ مِنْهُ وَانْزِعَاجُهُمْ مِنْ رُؤْيَتَهِ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ كَيْفَ يَنْجُو مِنَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِطْ بِهِمْ، واكْتَفَى بِالْبَقَاءِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُسْرَةِ الْمُتَعَاطِفَةِ الْمُتَحَابَّةِ الْمُؤْتَلِفَةِ مِنْ ثَلاثٍ، يُعِزُّهُنَّ وَيُعْزِزْنَهُ، وَلا يُطِقْنَ فِرَاقَهُ، وَلا يُطِيقُ عَنْهُنَّ بُعْدًا.
وَكَانَتْ سَعَادَتُهُ أَنْ يَعِيشَ مَعَ «مَاجِدَةَ» وَ«حَلِيمَةَ» وَ«نَرْجِسَ».
وَكَانَتْ «نَرْجِسُ» قَدْ بَلَغَتِ الْعَاشِرَةَ مِنْ عُمْرِهَا؛ فَزادَتْهَا الْأَيَّامُ وَالسِّنُونَ حُسْنًا عَلَى حُسْنِهَا.
•••
وَقَدْ تَعَلَّمَتْ «نَرْجِسُ» كَثِيرًا مِنَ الْمَعَارِفِ فِي خِلالِ هَذِهِ السَّنَواتِ السَّبْعِ الَّتِي قَضَتْهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ.
وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ؛ فَقَدْ تَعَهَّدَتْهَا «مَاجِدَةُ» بِالتَّهْذِيبِ وَالتَّعْلِيمِ، وَلَمْ تُقَصِّرْ فِي الْعِنَايَةِ بِتَنْشِئَتِهَا عَلَى أَكْمَلِ مِثالٍ.
كَمَا عُنِيَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» بِتَزْوِيدِهَا بِكُلِّ مَا بَرَعَ فِيهِ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ، بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهَا الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ وَالْحِسَابَ.
وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى الْوَقْتِ، دَائِمَ الْعِنَايَةِ بِالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ، فَلَمْ يُضِعْ عَلَيْهَا يَوْمًا بِلا فَائِدَةٍ؛ فَإِذَا انْصَرَفَتْ إِلَى عَمَلِ الْبَيْتِ، رَاحَ يَتْلُو عَلَيْهَا مَا يَقْرَؤُهُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ، لِيَشْرَكَهَا فِي فَوَائِدِ مَا يَجْنِيهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ.
•••
وَقَدْ وَجَدَتْ «نَرْجِسُ» كُلَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ فِي حُجْرَةِ الْمُطَالَعَةِ، دُونَ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ جَاءَتْهَا نَفَائِسُ الْكُتُبِ.
كَمَا وَجَدَتْ كُلَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ؛ لَهَا وَﻟ «مَاجِدَةَ»، وَ«حَلِيمَةَ»، وَ«الدُّبِّ الصَّغِيرِ».
وَهَكَذَا وَجَدَتِ الْأُسْرَةُ كُلَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، دُونَ أَنْ تُضْطَرَّ إِلَى الذَّهَابِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِبَيْعِ شَيْءٍ أَوْ شِرَاءِ شَيْءٍ.
وَقَدِ اسْتَطَاعَتْ «مَاجِدَةُ»، بِفَضْلِ الْخَاتَمِ الَّذِي وَضَعَتْهُ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ فِي خِنْصَرِهَا أَنْ تَجِدَ كُلَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ.
وَكَانَتْ لَا تَكَادُ تُفَكِّرُ فِي شَيْءٍ إِلَّا وَجَدَتْهُ أَمَامَهَا، دُونَ أَنْ تَنْقُلَ إِلَيْهِ قَدَمًا، أَوْ تَبْذُلَ — لِلْحُصُولِ عَلَيْهِ — جُهْدًا.
وَكَانَ عَيْشُهُمْ سَعِيدًا، لَوْ دَامَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ؛ وَلَكِنَّ دَوامَ الْحَالِ مِنَ الْمُحَالِ.
فَقَدْ حَدَثَ — ذَاتَ يَوْمٍ — مَا نَغَّصَ عَلَيْهِمْ صَفْوَ الْحَيَاةِ الْوَادِعَةِ الْهَانِئَةِ.
وَإِلَيْكَ تَفْصِيلَ مَا حَدَثَ:
•••
كَانَتْ «نَرْجِسُ» تَتَنَزَّهُ مَعَ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»؛ فَاصْطَدَمَتْ قَدَمُهَا بِحَجَرٍ، فَأَدْمَاهَا وَسَلَخَهَا، وَاشْتَدَّ انْزِعَاجُ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» حِينَ رَأَى الدَّمَ يَسِيلُ مِنْهَا.
وَرَأَى الْأَلَمَ يَشْتَدُّ بِهَا؛ فَزادَتْ حَيْرَتُهُ، وَآلَمَهُ مَا شَهِدَهُ فِي عَيْنَيْهَا مِنْ دُمُوعٍ.
وَقَدْ بَذَلَتِ الْمِسْكِينَةُ كُلَّ مَا فِي وُسْعِهَا لِتَحْبِسَ دُمُوعَهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ.
وَلَمْ يَرَ وَسِيلَةً يَلْجَأُ إِلَيْهَا غَيْرَ الذَّهَابِ بِهَا إِلَى الْغَدِيرِ، وَهُوَ عَلَى مَسَافَةِ عَشْرِ خُطُوَاتٍ مِنْهَا.
فَقَالَ لَهَا: «خَفِّفِي مِنْ حُزْنِكِ — يَا «نَرْجِسُ» — وَاعْتَمِدِي عَلَيَّ.
وَبَذَلَتْ «نَرْجِسُ» جُهْدَهَا لِتَسِيرَ بِمَعُونَةِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، حَتَّى بَلَغَا ضِفَّةَ الْغَدِيرِ … وَثَمَّ نَزَعَتْ حِذاءَهَا وَجَوْرَبَهَا، وَوَضَعَتْ قَدَمَهَا فِي الْمَاءِ الْجَارِي.
فَقَالَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»: «اصْبِرِي هُنَا قَلِيلًا يَا عَزِيزَتِي، رَيْثَمَا أَذْهَبُ إِلَى الدَّارِ، وَأَعُودُ إِلَيْكِ بِقِطْعَةٍ مِنَ النَّسِيجِ، أَلُفُّ بِهَا رِجْلَكِ.
وَلَنْ أَتَأَخَّرَ عَنْكِ إِلَّا لَحَظَاتٍ يَسِيرَةً.
وَحَذَارِ أَنْ تَتَقَدَّمِي إِلَى الْغَدِيرِ خُطْوَةً واحِدَةً أَكْثَرَ مِمَّا أَنْتِ؛ فَإِنَّهُ — فِيمَا أَعْلَمُ — عَمِيقُ الْغَوْرِ، وَشَاطِئُهُ وَحِلٌ تَنْزَلِقُ فِيهِ الْأَقْدَامُ.
وَأَخْشَى أَنْ تَتَعَرَّضِي لِلْخَطَرِ فِي أَثْنَاءِ غَيْبَتِي، وَأَنَا عَاجِزٌ عَنْ مُسَاعَدَتِكِ.»
وَلَمَّا ابْتَعَدَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»، شَعَرَتْ «نَرْجِسُ» بِوَخْزِ الْجُرْحِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ كِتْمَانَ أَلَمِهَا.
وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ خَطَرَ لَهَا خَاطِرٌ غَرِيبٌ، حَبَّبَ إِلَيْهَا أَنْ تَسْحَبَ قَدَمَهَا مِنَ الْمَاءِ.
وَقَدْ عَجِبَتْ لِهَذَا الْإِلْهَامِ الْمُفَاجِئِ.
وَقَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى رَأْيٍ قَاطِعٍ، رَأَتِ الْمَاءَ يَضْطَرِبُ، ثُمَّ يُطِلُّ مِنْهُ رَأْسٌ مُشَوَّهُ الْخِلْقَةِ، هُوَ رَأْسُ ضِفْدِعٍ سَامَّةٍ كَبِيرَةٍ، طَافِيَةٍ عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ.
وَكَانَتْ «نَرْجِسُ» — مُنْذُ رَأَتْ حُلْمَهَا الْقَدِيمَ — تَفْزَعُ مِنَ الضَّفَادِعِ، وَلَا تُطِيقُ رُؤْيَتَهَا.
وَكَانَ مَنْظَرُ هَذِهِ الضِّفْدِعِ الْحَانِقَةِ كَافِيًا لِتَفْزِيعِهَا؛ فَكَادَ الدُّمُ يَجْمُدُ فِي عُرُوقِهَا، وَعَقَدَ لِسَانَهَا الْخَوْفُ، وَأَلْجَمَ فَاهَا الرُّعْبُ، فَلَمْ تَسْتَطِعِ الْهَرَبَ وَلَا الصِّيَاحَ.
وَهَكَذَا الْتَفَتَتْ إِلَيْهَا الضِّفْدِعُ قَائِلَةً: «هَا أَنْتِ ذِي قَدْ أَصْبَحْتِ — بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ — أَسِيرَةً فِي مَمْلَكَتِي أَيَّتُهَا الصَّغِيرَةُ الْحَمْقَاءُ!
فَأَنَا أَمِيرَةُ الزَّوَابِعِ؛ عَدُوَّةُ أُسْرَتِكِ — مُنْذُ قَدِيمِ الزَّمَانِ — لَوْ تَعْلَمِينَ.
لَقَدْ كُنْتُ أَخْشَى جِلْدَهُ الْمَسْحُورَ الَّذِي طَالَمَا حَفِظَكِ مِنِّي … فَالْآنَ أَنْتَقِمُ، بَعْدَ أَنْ هَيَّأَتِ الْفُرْصَةُ وَسِيلَةَ الِانْتِقَامِ، وَكَفَلَتْ إِبْعَادَهُ عَنْكِ، وَغِيَابَ أُخْتِي وَانْشِغَالَهَا فِي بَعْضِ شُئُونِهَا.
وَهَا أَنْتِ ذِي قَدْ وَقَعْتِ فِي يَدِي، وَلَيْسَ مَعَكِ مَنْ يَحْمِيكِ؛ فَمَا أَسْعَدَنِي بِانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ لِشِفَاءِ غَيْظِي مِنْكِ، وَحِقْدِي عَلَيْكِ! وَلَنْ تُفْلِتِي مِنْ يَدِي، عَلَى أَيِّ حَالٍ.»