عَوْدَةُ الْقُبَّرَةِ
وَلَمْ تَكَدِ الضِّفْدِعُ الْخَبِيثَةُ تُتِمُّ هَذَا الْكَلامَ، حَتَّى انْدَفَعَتْ إِلَى «نَرْجِسَ» فِي سُرْعَةٍ عَجِيبَةٍ، وَأَطْبَقَتْ عَلَى قَدَمِهَا الصَّغِيرَةِ، بِيَدَيْهَا الْبارِدَتَيْنِ اللَّزِجَتَيْنِ، وَرَاحَتْ تَجُرُّهَا إِلَى الْمَاءِ، وَتَجْذِبُهَا إِلَى قَاعِهِ.
وَذَكَرَتْ «نَرْجِسُ» — حِينَئِذٍ — مَا كَانَتْ قَدْ رَأَتْهُ فِي عَالَمِ الْأَحْلامِ، وَتَحَقَّقَ لَهَا صِدْقُ رُؤْيَاهَا؛ فَدَبَّ إِلَى نَفْسِهَا الْيَأْسُ، وَأَيْقَنَتْ بِالْهَلاكِ.
وَلَمْ تَتَمَالَكْ أَنْ تَصْرُخَ بِأَعْلَى صَوْتِهَا، وَهِيَ تَدْفَعُ الضِّفْدِعَ عَنْهَا بِكُلِّ مَا تَمْلِكُهُ مِنْ جُهْدٍ ضَعِيفٍ، وَتُنْشِبُ يَدَيْهَا فِي كُلِّ مَا يُدَانِيهَا مِنْ أَعْشَابٍ، فَلا تَلْبَثُ أَشْواكُهَا أَنْ تُدْمِيَهُمَا.
وَلَمْ تَكُفَّ لَحْظَةً وَاحِدَةً عَنْ دُعَاءِ حَارِسِهَا الشُّجَاعِ، لِيُسْرِعَ إِلَى إِنْقَاذِهَا.
وَارْتَفَعَ صِيَاحُهَا قَائِلَةً: «دَرَاكِ أَيُّهَا الْعَزِيزُ! إِلَيَّ أَيُّهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»، هَلُمَّ … أَنْقِذْ «نَرْجِسَ» قَبْلَ أَنْ تَهْلِكَ … آهٍ … الْغَوْثَ، الْغَوْثَ! النَّجْدَةَ، النَّجْدَةَ!»
ثُمَّ خَفَتَ صَوْتُ «نَرْجِسَ»، بَعْدَ أَنِ انْقَطَعَ آخِرُ نَبْتٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ يَدَاهَا، فَأَسْلَمَتْ أَمْرَهَا للهِ.
وَمَا كَادَتْ تَغُوصُ تَحْتَ سَطْحِ الْمَاءِ، حَتَّى جَلْجَلَ — فِي الْفَضَاءِ — صَوْتٌ مَرْهُوبُ الصَّدَى، رَائِعُ الدَّوِيِّ؛ كَأَنَّمَا هُوَ قَصْفُ الرَّعْدِ.
وَانْدَفَعَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» — صَاحِبُ الصَّوْتِ — إِلَى الْمَاءِ فِي أَثَرِ «نَرْجِسَ» مُسْرِعًا إِلَى إِغَاثَتِهَا.
وَلَمْ يَكَدْ يَصِلُ إِلَى ضِفَّةِ الْغَدِيرِ — وَهُوَ يَلْهَثُ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَالتَّعَبِ — حَتَّى وَجَدَ «نَرْجِسَ» قَدْ غَاصَتْ فِي الْمَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا عَلَى سَطْحِهِ غَيْرُ شَعْرِهَا، فَانْدَفَعَ إِلَيْهَا فِي مِثْلِ لَمْحَةِ الطَّرْفِ، أَوْ وَمْضَةِ الْبَرْقِ.
وَلَمْ يُضِعْ مِنْ وَقْتِهِ لَحْظَةً وَاحِدَةً بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَسَبَحَ فِي الْمَاءِ مُيَمِّمًا «نَرْجِسَ»؛ حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ مِنْهَا عَلَى قَيْدِ ذِرَاعٍ، أَمْسَكَ بِشَعْرِهَا الطَّوِيلِ، مُتَشَبِّثًا بِهِ لِيَرْفَعَهَا إِلَى سَطْحِ الْمَاءِ، وِيُنْقِذَهَا مِنَ الْغَرَقِ.
وَلَكِنَّهُ أَحَسَّ أَنَّ قُوَّةً هَائِلَةً تَجْذِبُهَا وَتَجْذِبُهُ مَعَهَا إِلَى قَاعِ الْمَاءِ، لِتُغْرِقَهُمَا جَمِيعًا.
وَمَا أَظُنُّكَ — أَيُّهَا الْقَارِئُ الصَّغِيرُ — فِي حَاجَةٍ إِلَى سُؤَالِ أَحَدٍ عَنْ مَصْدَرِ هَذِهِ الْقُوَّةِ الشِّرِّيرَةِ، بَعْدَ أَنْ عَرَفْتَ — مِنْ حَوادِثِ الْقِصَّةِ — خُبْثَ أَمِيرَةِ الزَّوَابِعِ، وَإِصْرَارَهَا عَلَى انْتِقَامِهَا.
وَهَا هِيَ ذِي الْفُرْصَةُ قَدْ سَنَحَتْ لَهَا؛ فَلَمْ تُقَصِّرْ فِي انْتِهَازِهَا.
وَظَلَّ يُنَادِي صَاحِبَتَهُ الْجِنِّيَّةَ الْكَرِيمَةَ — أَمِيرَةَ التَّوَابِعِ — مُسْتَنْجِدًا بِهَا، لِتُعَاوِنَهُ عَلَى إِنْقَاذِ «نَرْجِسَ».
وَهَكَذَا خَلَصَتْ «نَرْجِسُ» مِنْ قَبْضَتِهَا، وَنَجَتْ مِنْ أَسْرِهَا، وَأُتِيحَتِ الْفُرْصَةُ ﻟ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» أَنْ يَصْعَدَ بِهَا إِلَى سَطْحِ الْمَاءِ، ثُمَّ يَنْدَفِعَ — وَهُوَ يُمْسِكُ بِهَا بِإِحْدَى ذِرَاعَيْهِ، وَيَسْبَحُ بِذِرَاعِهِ الْأُخْرَى — حَتَّى يَبْلُغَ الشَّاطِئَ بِمِثْلِهَا — فِي لَحَظاتٍ.
وَلَوْلا مَا وَهَبَهُ اللهُ مِنْ قُوَّةٍ خارِقَةٍ — لَا عَهْدَ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ بِمِثْلِهَا — لَمَا تَمَكَّنَ مِنَ النَّجَاةِ، وَلَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُنْقِذَ «نَرْجِسَ»، بَعْدَ أَنْ كَادَتْ عَوْدَتُهَا إِلَى الْحَيَاةِ تُصْبِحُ فِي عِدَادِ الْمُسْتَحِيلِ.
ثُمَّ حَمَلَ «نَرْجِسَ» إِلَى مَكَانٍ أَمِينٍ، وَأَرْقَدَهَا عَلَى فِرَاشٍ — مِنَ الْخُضْرَةِ — لِيِّنٍ وَثِيرٍ.
•••
وَلا تَسَلْ عَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» مِنَ الْحَيْرَةِ وَالْفَزَعِ حِينَ رَأَى «نَرْجِسَ» رَاقِدَةً أَمَامَهُ، لَيْسَ بِهَا حَرَاكٌ، وَعَيْنَاهَا مُغْمَضَتَانِ، وَقَدْ ضُمَّتْ أَسْنَانُهَا بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، واصْطَبَغَ وَجْهُهَا بِصُفْرَةِ الْمَوْتِ، وَخُيِّلَ إِلَى مَنْ يَرَاهَا أَنَّهَا جُثَّةٌ هَامِدَةٌ، لا أَمَلَ فِي رُجُوعِ الْحَيَاةِ إِلَيْهَا.
هُنَالِكَ أَسْرَعَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»، إِلَيْهَا، جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ إِلَى جَانِبِهَا.
•••
وَكَانَ ذَلِكَ الْجَرِيءُ لَا يَرْهَبُ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُ الْهَوْلَ وَلَا يَهُمُّهُ الْأَلَمُ وَلَا الْحِرْمَانُ، وَلَا يَنَالُ مِنْ نَفْسِهِ الْكَلالُ وَلَا الْهَزِيمَةُ، وَلَا يَعْرِفُ قَلْبُهُ الْيَأْسَ.
أَمَّا فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَكَانَ شَيْئًا آخَرَ.
كَانَ يَبْكِي كَمَا يَبْكِي الطِّفْلُ الصَّغِيرُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَتَهُ الْوَفِيَّةَ الصَّادِقَةَ الْإِخاءِ، وَصَفِيَّتَهُ الْمُخْلِصَةَ الثَّابِتَةَ الْوَفَاءِ، قَدْ غَابَتْ عَنِ الْوُجُودِ، وَأَصْبَحَتْ مَطْرُوحَةً أَمَامَهُ، هَامِدَةً لَا حَرَاكَ بِهَا، لَا يَنْبِضُ فِيهَا عِرْقٌ مِنْ عُرُوقِ الْحَيَاةِ.
فَكَيْفَ يَصْنَعُ، وَهِيَ وَحْدَهَا بَهْجَتُهُ وَعَزَاؤُهُ، وَسَعَادَتُهُ وَهَنَاؤُهُ، وَأُنْسُهُ وَرَجَاؤُهُ؟!
وَكَيْفَ لَا تَتَخَاذَلُ قُوَّتُهُ وَتَخُونُهُ شَجَاعَتُهُ بَعْدَ أَنْ فَقَدَ أَعَزَّ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَأَبَرَّهُمْ بِهِ، وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ؟!
وَأَلَحَّ عَلَيْهِ التَّعَبُ وَالْحُزْنُ، فَسَقَطَ إِلَى جِوَارِهَا مُغْمًى عَلَيْهِ.
وَجَاءَتْ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ قُنْبَرَةٌ صَغِيرَةٌ، كَانَتْ تُسْرِعُ فِي طَيَرَانِهَا، بَاذِلَةً أَقْصَى جُهْدِهَا لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَضِيعَ الْفُرْصَةُ.
ثُمَّ هَبَطَتْ إِلَى جَانِبِ «نَرْجِسَ» وَ«الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، وَنَقَرَتْهُمَا بِمِنْقَارِهَا نَقْرَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ؛ ثُمَّ أَسْلَمَتْ جَنَاحَيْهَا لَلْجَوِّ، فَطَارَتْ مُسْرِعَةً حَتَّى اسْتَخْفَتْ عَنْ أَعْيُنِهِمَا.
وَلَمْ يَكُنِ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي سَمِعَ اسْتِغَاثَةَ «نَرْجِسَ»؛ فَقَدْ بَلَغَ صَوْتُ اسْتِغَاثَتِهَا «حَلِيمَةَ» أَيْضًا، وَسَمِعَتْ صَرَخَاتِهَا — كَمَا سَمِعَتْ صَرَخَاتِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» فِي أَثَرِهَا — فَخَفَّتْ مُسْرِعَةً إِلَى الدَّسْكَرَةِ، مُسْتَنْجِدَةً ﺑ «مَاجِدَةَ» لِتُعَاوِنَهَا عَلَى تَخْلِيصِهِمَا.
ثُمَّ أَسْرَعَتَا إِلَى الْغَدِيرِ حَيْثُ انْبَعَثَ الصُّرَاخُ.
وَلا تَسَلْ عَنْ دَهْشَتِهِمَا وَأَلَمِهِمَا حِينَ اقْتَرَبَتَا مِنْهُمَا، فَرَأَتَا «نَرْجِسَ» وَ«الدُّبَّ الصَّغِيرَ» وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا، وَاسْتَلْقَيَا عَلَى الْخُضْرَةِ بِلا وَعْيٍ.
وَطَلَبَتْ «مَاجِدَةُ» إِلَى «حَلِيمَةَ» أَنْ تَحْمِلَ «نَرْجِسَ» بَيْنَ يَدَيْهَا، ثُمَّ تَنْزِعَ مَلابِسَهَا، وَتُرْقِدَهَا، وَلَا تُقَصِّرَ فِي الْعِنَايَةِ بِأَمْرِهَا.
واتَّجَهَتْ «مَاجِدَةُ» إِلَى وَلَدِهَا تَتَعَهَّدُهُ بِالرِّعَايَةِ، وَتُهَيِّئُ لَهُ مَا تَعَلَّمَتْهُ — مُنْذُ صِغَرِهَا — مِنْ وَسَائِلِ التَّنَفُّسِ الصِّنَاعِي، لِتُعِيدَ إِلَيْهِ الِانْتِبَاهَ، قَبْلَ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى الدَّسْكَرَةِ.
وَكَانَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» ضَخْمَ الْجُثَّةِ ثَقِيلَهَا؛ فَتَعَذَّرَ عَلَى «مَاجِدَةَ» وَ«حَلِيمَةَ» — مَعًا — أَنْ تَحْمِلاهُ.
أَمَّا «نَرْجِسُ» فَكَانَتْ خَفِيفَةَ الْجِسْمِ، فَلَمْ تَلْقَ «حَلِيمَةُ» فِي نَقْلِهَا — إِلَى الدَّارِ — أَقَلَّ عَنَاءٍ.
وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ أَفَاقَتْ مِنْ إِغْمَائِهَا بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ.
وَفِي غُضُونِ هَذَا الْوَقْتِ كَانَتِ الْعِنَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ اللَّطِيفَةُ قَدْ نَبَّهَتِ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ»؛ فَتَعَلَّقَ بِعُنُقِ وَالِدَتِهِ، وَهُوَ يَبْكِي وَيَصِيحُ قَائِلًا: «أُمِّي! أُمِّي الْعَزِيزَةَ …
أَيْنَ «نَرْجِسُ»؟ أَيْنَ شَقِيقَتِي الْمَحْبُوبَةُ «نَرْجِسُ»؟ لَقَدْ هَلَكَتْ أُخْتِي الْعَزِيزَةُ! فَمَا قِيمَةُ الْحَيَاةِ بَعْدَهَا؟»