مُزْعِجَاتٌ
وَلَمْ يَكُنِ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» يُوافِقُ عَلَى ذَهَابِ «نَرْجِسَ» إِلَى الْغَابَةِ وَحْدَهَا، لَوْ تُرِكَ الْأَمْرُ لَهُ. فَلَمَّا تَعَرَّضَتْ لِلْهَلاكِ فِي ذَلِكَ الْحَادِثِ الْهَائِلِ، أَصَرَّ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» عَلَى رَأْيِهِ الْأَوَّلِ، وَتَشَبَّثَ بِبَقَائِهَا فِي الدَّارِ حَتَّى لَا تُعَرِّضَ نَفْسَهَا لِمِثْلِ مَا تَعَرَّضَتْ لَهُ مِنَ الْكَوارِثِ وَالْأَخْطَارِ.
وَقَدْ كَلَّفَهُ ذَلِكَ تَعَبًا جَسِيمًا، وَاضْطَرَّهُ إِلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى الْبَيْتِ كُلَّ يَوْمٍ فِي وَقْتِ الْغَدَاءِ؛ فَإِذَا انْتَهَى مِنْ طَعَامِهِ عَادَ إِلَى الْغَابَةِ مَرَّةً ثانِيَةً، وَمَكَثَ فِيهَا يَحْتَطِبُ إِلَى الْمَساءِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الدَّارِ قُبَيْلَ الْعشَاءِ.
وَكَانَتْ «نَرْجِسُ» مُنْذُ ذَلِكَ الْحَادِثِ لَا تَخْرُجُ مِنَ الدَّسْكَرَةِ إِلَّا إِذَا صَحِبَهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ».
وَانْقَضَى عَلَى ذَلِكَ الْحَادِثُ الْمُزْعِجُ سَنَواتٌ ثَلاثٌ.
وَلَمَّا رَأَتْهُ، جَذَبَتْهُ مَعَهَا إِلَى الْخَارِجِ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: «هَلُمَّ إِلَيَّ أَيُّهَا الْعَزِيزُ، وَأَعِرْنِي سَمْعَكَ، وَأَرْهِفْ لِحَدِيثِي أُذُنَكَ، وَأَنْصِتْ إِلَيَّ بِكُلِّ جَوارِحِكَ؛ فَإِنَّ حَدِيثِي إِلَيْكَ مُزْعِجٌ خَطِيرٌ!»
فَقَالَ لَهَا مُتَعَجِّبًا حَائِرًا: «مَاذَا أَلَمَّ بِكِ يَا عَزِيزَتِي «نَرْجِسُ»؟
شَدَّ مَا أَزْعَجَتْنِي مِنْكِ هَذِهِ اللَّهْفَةُ! فَعَجِّلِي بِحَدِيثِكِ، وَأَعِيدِي الطُّمَأْنِينَةَ إِلَى قَلْبِي! تَكَلَّمِي — يَا «نَرْجِسُ» — فَقَدْ تَفَزَّعْتُ مِنْ أَجْلِكِ، وامْتَلَأَ قَلْبِي خَوْفًا عَلَيْكِ.
خَبِّرِينِي: بِمَاذَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُسَاعِدَكِ أَيَّتُهَا الْوَفِيَّةُ الْكَرِيمَةُ؟»
فَقَالَتْ لَهُ وَهِيَ تَلْهَثُ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ: «لا شَيْءَ، لَا شَيْءَ يَا عَزِيزِي «الدُّبَّ الصَّغِيرَ».
إِنَّكَ لَا تَمْلِكُ لِي نَفْعًا وَلا خَيْرًا، وَلا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفَعَ عَنِّي شَقَاءً وَلا ضُرًّا.
فَاصْغَ إِلَيَّ: أَذَاكِرٌ أَنْتَ تِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي قَصَصْتُهَا عَلَيْكِ فِي طُفُولَتِي؛ تِلْكَ الرُّؤْيَا الْمُزْعِجَةَ بِمَا تَحْوِيهِ مِنْ نَبَأٍ خَطِيرٍ: ضِفْدِعٍ وَغَدِيرٍ، وَهَوْلٍ كَبِيرٍ، وَشَرٍّ مُسْتَطِيرٍ؟!»
فَقَالَ لَهَا: «نَعَمْ، أَذْكُرُ ذَلِكِ وَلا أَنْسَاهُ، وَلا تَغِيبُ عَنِّي ذِكْرَاهُ فَمَاذَا جَدَّ بَعْدُ يَا أُخْتَاهُ؟»
فَقَالَتْ «نَرْجِسُ»: «لَقَدْ تَمَثَّلَتْ لِي — فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ — رُؤْيَا لا تَقِلُّ عَنْ تِلْكَ هَوْلًا وَإِزْعَاجًا.
وَقَدِ امْتَلَأَتْ نَفْسِي رُعْبًا حِينَ تَبَيَّنْتُ مِنْ ذَلِكَ الْحُلْمِ الْمُزْعِجِ أَنَّ حَيَاتَكَ فِي خَطَرٍ. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّنِي إِذَا أَصَابَكَ سُوءٌ، فَإِنَّنِي لَاحِقَةٌ بِكَ عَلَى الْأَثَرِ.»
فَقَالَ لَهَا مُتَعَجِّبًا: «كَيْفَ تَقُولِينَ؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَتَهَدَّدُ حَيَاتِي بِالْخَطَرِ أَيَّتُهَا الْعَزِيزَةُ؟»
فَقَالَتْ «نَرْجِسُ»: «اصْغَ إِلَيَّ. قَدْ كُنْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ نَائِمَةً. يَا للهِ! فَرَأَيْتُ الضِّفْدِعَ مَرَّةً أُخْرَى. قَبَّحَهَا اللهُ! إِنَّهَا دَائِمًا الضِّفْدِعُ، تُخِيفُنِي، وَتُكَدِّرُ صَفْوِي، وَتَقْطَعُ عَلَيَّ سَعَادَتِي … اسْمَعْ يَا عَزِيزِي … لَقَدْ رَأَيْتُ الضِّفْدِعَ مُقْبِلَةً عَلَيَّ فِي مَنَامِي؛ رَأَيْتُهَا يَا عَزِيزِي، وَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ لِي مُتَحَدِّيَةً شَامِتَةً: «لَقَدِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَسْتَرِدَّ فِيهَا عَزِيزُكِ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» بَشَرَتَهُ الطَّبِيعِيَّةَ. وَسَيَكُونُ مَدِينًا لَكِ — بِلا شَكٍّ — بِهَذَا التَّغَيُّرِ. سَيَكُونُ مَدِينًا لَكِ، أَنْتِ وَحْدَكِ لَا سِوَاكِ. إِنِّي أَكْرَهُهُ وَأَكْرَهُكِ، وَلَنْ يَكُونَ كِلاكُمَا سَعِيدًا بِالْآخَرِ أَبَدًا، مَهْمَا تَبْذُلا مِنْ جُهْدٍ.
كُونِي عَلَى ثِقَةٍ مِنْ ذَلِكِ يَا «نَرْجِسُ»؛ فَإِنَّ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» سَيَهْلِكُ بَعْدَ قَلِيلٍ.
أَتَفْهَمِينَ مَا أَقُولُ؟ سَيَهْلِكُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ».
أَمَّا أَنْتِ يَا «نَرْجِسُ»، فَلَنْ تَسْتَطِيعِي أَنْ تُتِمِّي الْجَمِيلَ الَّذِي تُحَاوِلِينَ أَنْ تُسْدِيهِ إِلَيْهِ.
كَلَّا، وَلَنْ تَسْتَطِيعِي ذَلِكِ مَهْمَا تُحَاوِلِي. وَلَنْ تَقْدِرِي عَلَى إِنْقَاذِهِ بِمَا تَبْذُلِينَ لَهُ مِنْ فِدَاءٍ يَدْفَعُكِ إِلَيْهِ مَا رُكِّبَ فِي طَبِيعَتِكِ الْعَوْجَاءِ مِنْ سُخْفٍ وَحَمَاقَةٍ وَغَبَاءٍ.
وَلا تَسَلْ عَنْ جَزَعِي حِينَ رَأَيْتُ الضِّفْدِعَ الشَّرِسَةَ تَقْفِزُ مِنَ النَّافِذَةِ وَثْبًا وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَيَّ بِعَيْنٍ حَانِقَةٍ، وَتَتَهَدَّدُنِي بِنَظَرَاتِهَا. وَحَمِدْتُ اللهَ حِينَ غَابَتِ الضِّفْدِعُ عَنْ نَاظِرِي.
أَيُّ حُلْمٍ هائِلٍ كَابَدْتُهُ فِي لَيْلَتِي أَيُّهَا الْعَزِيزُ الْوَفِيُّ! لَقَدْ تَرَكَتْنِي الضِّفْدِعُ وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَوْتِ مِنِّي إِلَى الْحَيَاةِ!
وَلَمْ تَكَدِ الضِّفْدِعُ تُفَارِقُنِي حَتَّى أَسْرَعْتُ إِلَى ثِيَابِي فَارْتَدَيْتُهَا، وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ بِالْمَجِيءِ لِأُحَذِّرَكَ حَمَاقَةَ «عَاصِفَةَ»: أَمِيرَةِ الزَّوَابِعِ، وَأُنَبِّهَكَ إِلَى شَرَاسَتِهَا؛ لَعَلَّكَ تُسْرِعُ بِالِالْتِجَاءِ إِلَى صَدِيقَتِكَ الْجِنِّيَّةِ الْكَرِيمَةِ الْمُخْلِصَةِ «لُؤْلُؤَةَ» أَمِيرَةِ التَّوَابِعِ.»
وَكَانَ أَخْوَفَ مَا يَخافُهُ، وَأَخْشَى مَا يَخْشَاهُ، أَنْ يَلْحَقَ ﺑ «نَرْجِسَ» مِنْ جَرَّائِهِ أَيُّ مَكْرُوهٍ.
وَأَيُّ نَكْبَةٍ أَفْدَحُ مِنْ أَنْ يَرَى الْفَرْوَ الْكَرِيهَ، يَنْتَقِلُ مِنْ وَجْهِهِ إِلَى وَجْهِ صَدِيقَتِهِ «نَرْجِسَ» الْوَفِيَّةِ الْحَسْنَاءِ؟!
يَا لَلْهَوْلِ! إِنَّهُ خَاطِرٌ لَا يَكَادُ يَمُرُّ بِهِ، حَتَّى يَمْلَأَ نَفْسَهُ فَزَعًا وَرُعْبًا. إِنَّهُ لَيَتَمَثَّلُ مَا هِيَ قَادِمَةٌ عَلَيْهِ مِنْ هَوْلٍ يَكَادُ يَصْعَقُهُ وَيُسْلِمُهُ إِلَى الْهَلاكِ.
وَكَانَ أَلَمُهُ يَتَجَلَّى فِي نَظْرَتِهِ، وَيَرْتَسِمُ عَلَى أَسَارِيرِهِ.
وَقَدْ أَحَسَّتْ «نَرْجِسُ» وَهِيَ تُجِيلُ النَّظَرَ فِيهِ، بِمَا يُسَاوِرُهُ مِنْ أَحْزَانٍ، فَلَمْ تَتَمَالَكْ أَنْ أَجْهَشَتْ بِالْبُكَاءِ، لِفَرْطِ مَا فَاضَ بِهِ قَلْبُهَا مِنْ أَلَمٍ، وَقَالَتْ لَهُ وَهِيَ حَانِيَةٌ عَلَيْهِ، مُتَشَبِّثَةٌ بِهِ: «وَا أَسَفَاهُ أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْوَفِيُّ!
إِنَّكَ عَلَى وَشْكِ أَنْ تُفَارِقَنِي عَاجِلًا، وَإِلَى غَيْرِ عَوْدَةٍ.
إِنَّ الضِّفْدِعَ الشِّرِّيرَةَ تُرِيدُ أَنْ تَنْتَزِعَكَ مِنِّي انْتِزَاعًا.
فَقَالَ لَهَا مُتَأَلِّمًا: «كَلَّا، يَا عَزِيزَتِي «نَرْجِسُ»؛ فَمَا بِي مِنْ خَوْفٍ وَلا رَهْبَةٍ كَمَا تَظُنِّينَ، وَلَسْتُ أَرْتَجِفُ مِنْ جُبْنٍ وَلا فَزَعٍ كَمَا تَتَوَهَّمِينَ.
وَلَكِنَّ مَبْعَثَ اضْطِرَابِي وَفَزَعِي حَدِيثٌ كُنْتُ سَمِعْتُهُ مِنْ «لُؤْلُؤَةَ» أَمِيرَةِ التَّوَابِعِ. وَهُوَ حَدِيثٌ مُفَزِّعٌ، أَحْمَدُ اللهَ أَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِيهِ، وَلَمْ تُدْرِكِي مَا أَدْرَكْتُ مِنْ مَرَامِيهِ. إِنَّهُ نَبَأٌ خَطِيرٌ هَائِلٌ، يَنْطَوِي عَلَى تَهْدِيدٍ مُوَجَّهٍ إِلَيْكِ أَنْتِ يَا عَزِيزَتِي «نَرْجِسُ». لَوْلا ذَلِكَ النَّبَأُ مَا دَبَّ إِلَى قَلْبِيَ الْخَوْفُ، وَلا سَرَتْ فِي جِسْمِيَ الرَّعْشَةُ.
فَأَنْتِ تَرَيْنَ أَنَّنِي لَا أَرْتَاعُ خَوْفًا عَلَى نَفْسِي، بَلْ خَوْفًا عَلَيْكِ. وَأَنْتِ — كَمَا تَعْلَمِينَ — أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي.»
وَلَمْ يَكُنْ يُخِيفُهَا إِلَّا أَنْ تَتَمَثَّلَ أَنَّ الْمَوْتَ رُبَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَسْرَعَ مِمَّا يَظُنَّانِ.
وَكَانَ هَذَا الْخَاطِرُ يُزْعِجُهَا، كَمَا يُزْعِجُ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ»؛ وَلَكِنَّ كِلَيْهِمَا كَتَمَ عَنْ صَاحِبِهِ مَا يُسَاوِرُ نَفْسَهُ مِنْ قَلَقٍ عَلَيْهٍ وَانْزِعَاجٍ.
واتَّجَهَ كِلاهُمَا بِقَلْبِهِ إِلَى أَمِيرَةِ التَّوَابِعِ يَسْتَدْعِيهَا، وَيَطْلُبُ مَعُونَتَهَا، لِيُخَلِّصَ صَاحِبَهُ مِنْ وَرْطَتِهِ.
فَلَمَّا أَبْطَأَتْ، لَمْ يَتَمَالَكِ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» أَنْ يَسْتَدْعِيَهَا بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ، فَلَمْ تُجِبْ نِدَاءَهُ أَيْضًا.
وَهَكَذَا مَضَى الْيَوْمُ فِي حُزْنٍ وَأَلَمٍ!