الْحَرِيقُ
وَاجْتَمَعَ رَأْيُ «نَرْجِسَ» وَ«الدُّبِّ الصَّغِيرِ» عَلَى أَنْ يَكْتُمَا عَنْ «مَاجِدَةَ» مَا لَقِيَا مِنْ أَحْدَاثٍ، وَمَا كَابَدَا مِنْ آلامٍ، حَتَّى لَا يَزِيدَا مَتَاعِبَهَا، وَيُضَاعِفَا هُمُومَهَا وَمَصَائِبَهَا، بَعْدَ أَنْ كَبِرَتْ مِنْهَا السِّنُّ، وَتَقَدَّمَ بِهَا الْعُمْرُ.
وَحَسَنًا فَعَلا؛ فَلَمْ تَكُنْ «مَاجِدَةُ» قَادِرَةً عَلَى احْتِمَالِ مُصِيبَتِهَا، فَكَيْفَ لَهَا بِاحْتِمَالِ الْمَزِيدِ مِنَ الْمُفَاجِئَاتِ الْمُزْعِجَةِ الَّتِي تَعَرَّضَ لَهَا أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيْهَا، وَأَبَرُّهُمْ بِهَا؟!
وَكَانَتْ «مَاجِدَةُ» تُحَدِّثُ نَفْسَهَا حِينَئِذٍ، وَقَدْ بَرَّحَ بِهَا الْحَزَنُ، وَاسْتَبَدَّتْ بِهَا الْحَيْرَةُ، فَتَقُولُ: «هَا هُوَ ذَا وَلَدِي قَدْ كَبِرَ، وَأَوْفَتْ سِنُّهُ عَلَى الْعِشْرِينَ، فَهَلْ دَنَتْ سَاعَةُ الْخَلاصِ مِمَّا أَلَمَّ بِهِ مِنَ النَّحْسِ؟
وَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ يَأْبَى أَنْ يُفْضِيَ بِسِرِّهِ إِلَى «نَرْجِسَ» وَيُحَتِّمُ عَلَيَّ أَلَّا أَبُوحَ ﻟ «نَرْجِسَ» بِالْحَقِيقَةِ إِشْفَاقًا عَلَيْهَا، وَإِيثَارًا لِسَعَادَتِهَا عَلَى سَعَادَتِهِ؟!
وَلَوْ أَنَّ «نَرْجِسَ» عَرَفَتْ أَنَّهَا وَحْدَهَا الْقَادِرَةُ عَلَى إِنْقَاذِهِ، مَا تَرَدَّدَتْ فِي ذَلِكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً، كَلَّفَهَا ذَلِكَ مَا كَلَّفَهَا مِنْ جُهْدٍ وَأَلَمٍ.
وَمَا كَانَتْ «نَرْجِسُ» الْوَفِيَّةُ الشَّاكِرَةُ، لِتَتَرَدَّدَ — لَوْ عَلِمَتْ — فِي اسْتِبْدَالِ فَرْوِهِ الْبَشِعِ بِبَشَرَتِهَا الْغَضَّةِ النَّاعِمَةِ.
وَلَيْسَ لِوَلَدِي سَبِيلٌ لِلْخَلاصِ مِنْ سِحْرِهِ، إِلَّا إِذَا بَذَلَتْ لَهُ «نَرْجِسُ» هَذَا الصَّنِيعَ الْجَلِيلَ. وَلَكِنْ كَيْفَ الْوُصُولُ إِلَى ذَلِكِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ شَيْئًا؟»
كَذَلِكَ كَانَتْ «مَاجِدَةُ» تُنَاجِي نَفْسَهَا كُلَّ يَوْمٍ بَيْنَ سَاعَةٍ وَأُخْرَى، ثُمَّ تَنْتَهِي مُنَاجَاتُهَا بِالْبُكَاءِ تَارَةً، وَبِالِاسْتِسْلامِ لِقَضَاءِ اللهِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ تَارَةً أُخْرَى.
وَهُنَا اسْتَيْقَظَتْ «مَاجِدَةُ» وَقَدْ حَلَّ الرَّجَاءُ مَحَلَّ الْيَأْسِ، وَغَمَرَهَا الْفَرَحُ وَالْإِينَاسُ، وَزَادَ حُبُّهَا ﻟ «نَرْجِسَ» وَحَنَانُهَا بَعْدَ أَنْ تَجَلَّى لِعَيْنِهَا فَضْلُ تِلْكَ الْفَتَاةِ الْمُخْلِصَةِ الْوَفِيَّةِ … وَأَدْرَكَتْ أَنَّهَا مَصْدَرُ إِسْعَادِهَا وَإِسْعَادِ وَلَدِهَا، وَلَوْلَاهَا لَحَالَفَهُمَا الشَّقَاءُ طُولَ عُمْرِهِمَا!
ثُمَّ حَانَ مَوْعِدُ الرُّقَادِ، فَنَامَتْ «نَرْجِسُ» كَمَا نَامَ صَاحِبُهَا، وَقَلْبَاهُمَا يَفِيضَانِ حُزْنًا وَهَمًّا مِنْ خَوْفِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُظْلِمِ، عَلَى حِينِ كَانَتْ «مَاجِدَةُ» قَرِيرَةَ الْعَيْنِ، يَفِيضُ قَلْبُهَا سُرُورًا مِنْ جَرَّاءِ الْمُسْتَقْبَلِ الْبَهِيجِ، الَّذِي تَتَرَقَّبُهُ بِفَارِغِ الصَّبْرِ، كَمَا يَتَرَقَّبُ الْإِنْسَانُ أَحَبَّ الْبُشْرَيَاتِ وَأَسْعَدَ الْأَعْيَادِ.
أَمَّا قَلْبُ «حَلِيمَةَ» فَكَانَ يَغْمُرُهُ شُعُورٌ مُبْهَمٌ غَامِضٌ هُوَ مَزِيجٌ مِنَ الرُّعْبِ وَالْفَرَحِ. وَلَمْ تَكُنْ تَدْرِي لِذَلِكَ الشُّعُورِ سَبَبًا.
ثُمَّ اسْتَسْلَمَ الْجَمِيعُ لِلرُّقَادِ فِي سُبَاتٍ عَمِيقٍ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ سُكَّانِ الدَّسْكَرَةِ أَحَدٌ سَاهِرًا.
وَانْقَضَتْ عَلَى ذَلِكَ سَاعَةٌ كَامِلَةٌ.
ثُمَّ اسْتَيْقَظَتْ «نَرْجِسُ» مَرْعُوبَةً مُفَزَّعَةً، ضَيِّقَةَ الْأَنْفَاسِ، يَكَادُ صَدْرُهَا يَخْتَنِقُ. تُرَى مَاذَا حَدَثَ؟
يَا لَلْهَوْلِ! إِنَّهُ الْحَرِيقُ يَكَادُ يَلْتَهِمُ الْبَيْتَ بِمَا فِيهِ، وَلا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ مِنْ سَاكِنِيهِ. وَقَدِ انْبَعَثَ الدُّخَانُ الْكَثِيفُ مِنْ كُلِّ الْأَرْجَاءِ، فَكَادَ يَخْنُقُهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ.
وَسُرْعَانَ مَا اسْتَيْقَظَتْ «مَاجِدَةُ»، فَانْدَفَعَتْ إِلَيْهَا «نَرْجِسُ» تُسَائِلُهَا مُتَلَهِّفَةً: «أَلا تَشَمِّينَ هَذَا الدُّخَانَ الْخَانِقَ يَا أُمَّاهُ!»
انْظُرِي، أَلا تَرَيْنَ اللَّهَبَ يَشْتَعِلُ فِي أَرْجَاءِ الْبَيْتِ كُلِّهِ؟»
وَنَهَضَتْ «نَرْجِسُ» وَ«مَاجِدَةُ» مِنْ فِرَاشِهِمَا مُفَزَّعَتَيْنِ، وَأَسْرَعَتَا إِلَى قَاعَةِ الْبَيْتِ مَرْعُوبَتَيْنِ، فَوَجَدَتَا النَّارَ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا كَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَى حُجُرَاتِ الدَّارِ كُلِّهَا.
فَصَاحَتْ «نَرْجِسُ»: «شَقِيقِيَ الْعَزِيزَ! أَيْنَ أَنْتَ يَا شَقِيقَاهُ؟»
وَأَسْرَعَتْ «حَلِيمَةُ» إِلَى الْقَاعَةِ وَهِيَ نِصْفُ عَارِيَةٍ، أَوْ نِصْفُ كَاسِيَةٍ، وَانْدَفَعَتْ تَصْرُخُ نَادِبَةً مُوَلْوِلَةً: «لَقَدْ هَلَكْنَا يَا سَيِّدَتِي! هَلَكْنَا وَا حَسْرَتَاهُ! وَلَمْ يَبْقَ لَنَا أَمَلٌ فِي النَّجَاةِ.
لَقَدِ اشْتَعَلَتِ النَّارُ فِي مُحْتَوَيَاتِ الدَّارِ، وَهِيَ عَلَى وَشْكِ أَنْ تَأْتِيَ عَلَى مَا بَقِيَ فِيهَا مِنْ أَبْوابٍ وَنَوَافِذَ وَأَثاثٍ وَآنِيَةٍ.
وَلَقَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا الْخِنَاقَ وَأَحَاطَتْ بِنَا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَعَجَزْنَا — وَا أَسَفَاهُ — عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَنْفَذٍ نَهْرُبُ مِنْهُ؛ فَالْأَبْوابُ — كَمَا تَرَيْنَ — مُوصَدَةٌ، وَالنَّوَافِذُ مُحْكَمَةُ الْإِغْلاقِ، فَأَيْنَ النَّجَاةُ؟!»
وَثَارَتْ «مَاجِدَةُ» صَائِحَةً: «وَلَدِي، وَلَدِي، أَيْنَ أَنْتَ يَا وَلَدَاهُ؟»
وَصَاحَتْ «نَرْجِسُ»: «شَقِيقِي، أَيْنَ أَنْتَ يَا شَقِيقَاهُ؟»
وَانْدَفَعَتْ «نَرْجِسُ» وَ«مَاجِدَةُ» وَ«حَلِيمَةُ» إِلَى الْأَبْوابِ، مُحَاوِلاتٍ أَنْ يَفْتَحْنَهَا أَوْ يُحَطِّمْنَهَا؛ فَعَجَزَتْ قُوَاهُنَّ مُجْتَمِعَاتٍ عَلَى ذَلِكَ.
وَخُيِّلَ إِلَيْهِنَّ أَنَّ الْأَبْوَابَ وَالنَّوَافِذَ قَدْ سُمِّرَتْ تَسْمِيرًا، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحِيطَانِ فَرْقٌ لِصَلابَتِهَا وَإِحْكَامِهَا، وَاسْتِحَالَةِ النَّفَاذِ مِنْهَا. وَجَمْجَمَتْ «نَرْجِسُ» وَاجِمَةً حَيْرَى: «أَوَّاهُ! يَا لَكِ مِنْ رُؤْيَا هَائِلَةٍ! فَوَدَاعًا إِلَى الْأَبَدِ يَا عَزِيزِيَ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ»؛ فَمَا أَظُنُّ الْأَمَلَ فِي اللِّقَاءِ — بَعْدَ الْيَوْمِ — إِلَّا مَفْقُودًا.»
وَكَانَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» قَدْ أَفَاقَ مِنْ نَوْمِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ — كَمَا أَفَاقَتْ «مَاجِدَةُ» وَ«نَرْجِسُ» — وَرَأَى مَا يَكْتَنِفُهُ مِنَ الدُّخَانِ وَاللَّهَبِ. وَكَانَ يَنَامُ — عَلَى عَادَتِهِ — خَارِجَ الدَّسْكَرَةِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْإِصْطَبْلِ.
وَأَسْرَعَ إِلَى بَابِ الْبَيْتِ الْخَارِجِيِّ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَحِمَهُ، كَمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِنَّ — مِنْ قَبْلُ — أَنْ يَفْتَحْنَهُ مُجْتَمِعَاتٍ.
فَتَعَجَّبَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» مِمَّا رَأَى، وَأَيْقَنَ أَنَّ فِي الْأَمْرِ سِرًّا مَطْوِيًّا عَنْهُ؛ فَقَدْ وَهَبَهُ اللهُ — كَمَا عَلِمْتَ — قُوَّةً تَكَادُ تُزَحْزِحُ الْجِبَالَ مِنْ أَمَاكِنِهَا.
فَكَيْفَ يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ فَتْحُ بَابٍ وَاحِدٍ أَوْ كَسْرُهُ؟
إِنَّهَا بِلا شَكٍّ قُوَّةُ الْمَاكِرَةِ الْخَبِيثَةِ «عَاصِفَةَ»، تَحُولُ دُونَ دُخُولِهِ، لِتُهْلِكَ مَنْ فِي الدَّارِ خَنْقًا.
وَقَدْ صَحَّ مَا تَوَقَّعَهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»؛ فَقَدْ أَوْصَدَتْ «عَاصِفَةُ» الْمَاكِرَةُ الْأَبْوابَ وَالنَّوافِذَ كُلَّهَا، وَبَذَلَتْ كُلَّ مَا تَمْلِكُ مِنْ قُوَّةٍ لِتَحُولَ دُونَ فَتْحِهَا أَوْ تَحْطِيمِهَا.
•••
وَرَأَى «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» أَنَّ النَّارَ تَعْظُمُ وَتَشْتَدُّ وَتَنْتَشِرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَلَمْ يَدِبَّ إِلَى قَلْبِهِ الْيَأْسُ.
وَانْدَفَعَ إِلَى سُلَّمِ الْإِصْطَبْلِ، فَقَفَزَ مِنْهُ إِلَى النَّافِذَةِ، ثُمَّ قَفَزَ مِنْهَا إِلَى الدَّارِ، وَأَسْرَعَ إِلَى حُجْرَةِ أُمِّهِ، فَرَآهَا وَ«نَرْجِسَ» مُتَعَانِقَتَيْنِ تَتَرَقَّبَانِ الْمَوْتَ — بَيْنَ لَحْظَةٍ وَأُخْرَى — وَقَدْ بَلَغَ الْيَأْسُ مِنْهُمَا كُلَّ مَبْلَغٍ.
وَلَمْ يَكُنْ أَمَامَهَا فُسْحَةٌ مِنَ الْوَقْتِ لِلْحَدِيثِ؛ فَأَسْرَعَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» إِلَيْهِمَا وَحَمَلَهُمَا بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ صَاحَ ﺑ «حَلِيمَةَ» أَنْ تَتْبَعَهُ، وَظَلَّ يَجْرِي بِهِمَا مُسْرِعًا فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمُسْتَوْدَعِ، حَتَّى بَلَغَ السُّلَّمَ، ثُمَّ هَبَطَ دَرَكَاتِهِ وَهُوَ يَحْمِلُ «مَاجِدَةَ» فِي يُمْنَاهُ، وَ«نَرْجِسَ» فِي يُسْرَاهُ، وَهَبَطَتْ «حَلِيمَةُ» فِي أَثَرِهِ.