صُنْدُوقُ السَّعَادَةِ
وَمَا كَادَتْ أَقْدَامُهُمْ تَسْتَقِرُّ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى كَانَتِ النَّارُ قَدْ أَتَتْ عَلَى كُلِّ مَا تَحْوِيهِ الدَّارُ، وَالْتَهَمَتِ الْمُسْتَوْدَعَ وَالسُّلَّمَ جَمِيعًا، وَلَمْ تُبْقِ مِنْهُمَا شَيْئًا.
ثُمَّ وَضَعَ الْفَتَى وَالِدَتَهُ وَ«نَرْجِسَ» فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ لِيُؤْمِنَهُمَا مِنْ شَرِّ الْحَرِيقِ.
وَأَقْبَلَتْ «حَلِيمَةُ» عَلَى أَثَرِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَسْرَعَتْ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الثِّيَابِ، فَجَمَعَتْهَا وَحَمَلَتْهَا فِي مُلاءَةٍ كَبِيرَةٍ.
•••
وَلَقَدْ أَحْسَنَتْ «حَلِيمَةُ» فِيمَا فَعَلَتْهُ كُلَّ الْإِحْسَانِ، وَأَثْبَتَتِ الْحَوادِثُ بُعْدَ نَظَرِهَا وَصِدْقَ ظَنِّهَا، حِينَ رَأَتْ «نَرْجِسَ» وَ«مَاجِدَةَ» تَخْرُجَانِ مِنَ الدَّارِ حَافِيَتَيِ الْقَدَمَيْنِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا مِنَ الثِّيَابِ مَا يَحْفَظُهُمَا مِنْ أَلَمِ الْبَرْدِ، فَأَسْعَفَتْهُمَا «حَلِيمَةُ» بِمَا أَحْضَرَتْهُ مَعَهَا مِنَ الثِّيَابِ؛ وَأَنْقَذَتْهُمَا بِذَلِكَ مِنْ خَطَرِ الْبَرْدِ وَأَذَاهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ.
وَلَمْ يَفُتْهَا أَنْ تَحْمَدَ لِلْفَتَى الْجَرِيءِ الشَّهْمِ صَنِيعَهُ، وَتُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ مِنَ الثَّنَاءِ فِي حَرَارَةٍ وَإِخْلاصٍ، شَاكِرَةً لَهُ مَا قَامَ بِهِ مِنْ صَنِيعٍ جَلِيلٍ.
أَمَّا «حَلِيمَةُ» فَقَدْ غَمَرَهَا الْجَمِيعُ بِالشُّكْرِ وَالْمَدِيحِ لِمَا أَظْهَرَتْهُ مِنْ ثَبَاتٍ وَحَزْمٍ وَبُعْدِ نَظَرٍ، أَمَامَ الْخَطْبِ الْفَادِحِ؛ فَلَوْلاهَا لَأَهْلَكَ الْبَرْدُ «مَاجِدَةَ» وَ«نَرْجِسَ».
فَقَالَتْ «حَلِيمَةُ»، وَالْخَجَلُ بَادٍ عَلَى سِيمَاهَا لِمَا سَمِعَتْهُ مِنْ ثَنَاءٍ: «إِنَّنِي لَمْ أَقُمْ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ، وَلَيْسَ لِي فِيمَا فَعَلْتُ فَضْلٌ.
فَإِنَّ ضَبْطَ النَّفْسِ، وَالِاحْتِيَاطَ لِلطَّوَارِئِ عِنْدَ وُقُوعِ الْكَارِثَةِ، وَالثَّبَاتَ أَمَامَ الْمَصَائِبِ، هِيَ أَوَّلُ وَاجِبَاتِ الْعَاقِلِ.
فَلَا عَجَبَ إِذَا اتَّجَهَ تَفْكِيرِي حِينَ دَهَمَنَا الْحَرِيقُ إِلَى جَمْعِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ يَدِي مِنْ ثِيَابٍ؛ لِأَنَّنِي قَدَّرْتُ أَنَّكُمَا سَتَخْرُجَانِ مَنَ الدَّارِ — إِذَا كُتِبَتْ لَكُمَا النَّجَاةُ — وَلَيْسَ عَلَيْكُمَا إِلَّا ثَوْبُ النَّوْمِ.»
فَقَالَ لَهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»: «حَسَنٌ، هَذَا حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ! وِلَكِنْ مَاذَا كَانَتْ تُجْدِي هَذِهِ الْمُلاءَةُ يَا «حَلِيمَةُ»، لَوْ لَمْ يَتَدَارَكْنَا لُطْفُ اللهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُنَّ سَبِيلَ النَّجَاحِ؟»
فَقَالَتْ «حَلِيمَةُ»: «صَدَقْتَ يَا عَزِيزِي.
وَلَقَدْ كُنْتُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَنَا نَحْتَرِقُ مَا دُمْتَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ. وَكَانَ يُخَامِرُنِي شُعُورٌ مُبْهَمٌ غَامِضٌ أَنَّ كَارِثَةً سَتُلِمُّ بِنَا، ثُمَّ يَتَدَارَكُنَا لُطْفُ اللهِ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ.
وَهَذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي تُنْقِذُ فِيهَا حَيَاةَ «نَرْجِسَ»!»
فَقَالَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»: «لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِالنَّجَاةِ مِنْ هَذِهِ الْكَارِثَةِ الْمُفَاجِئَةِ، وَلَوْلا لُطْفُهُ فِي قَضَائِهِ لَضَاعَ كُلُّ أَمَلٍ فِي الْخَلاصِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَتْ «حَلِيمَةُ» فِيمَا صَنَعَتْ، وَأَخَذَتْ بِالْأَحْزَمِ الْأَنْفَعِ؛ فَلَوْ أَنَّنَا تَعَرَّضْنَا لِخَطَرِ الْبَرْدِ جَمِيعًا مَا لامَهَا أَحَدٌ فِيمَا صَنَعَتْ، وَلَكَانَتْ خَسَارَةُ الثِّيَابِ هَيِّنَةً بِالْقِيَاسِ إِلَى فَدَاحَةِ الْكَارِثَةِ.
أَمَّا الْآنَ، وَقَدْ ظَفِرْنَا بِالنَّجَاةِ، فَقَدْ عَرَفْنَا كَيْفَ نَنْتَفِعُ بِهَا، وَالْحَمْدُ للهِ؛ فَهِيَ مَشْكُورَةٌ عَلَى مَا أَدَّتْ مِنْ جَمِيلٍ.»
وَأَسْرَعَتْ «نَرْجِسُ» إِلَى «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، فَأَمْسَكَتْ بِيَدَيْهِ تَهُزُّهُمَا فِي حَرَارَةِ الشَّاكِرَةِ الْمُعْجَبَةِ، تَقْدِيرًا لِصَنِيعِهِ الْجَلِيلِ.
وَأَسْرَعَتْ «مَاجِدَةُ» إِلَى «نَرْجِسَ»، فَقَبَّلَتْ وَجْنَتَيْهَا قَائِلَةً: «مَا أَسْعَدَ وَلَدِي بِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ قَلْبُكِ يَا «نَرْجِسُ» الْكَرِيمَةَ مِنْ رِقَّةٍ وَحَنَانٍ! وَمَا أَجْدَرَكِ أَيَّتُهَا الْوَفِيَّةُ الْعَزِيزَةُ بِمَا أَسْدَاهُ إِلَيْكِ مِنْ صَنِيعٍ، جَزَاءً لَكِ عَلَى مَا أَسْلَفْتِ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيلٍ فِي إِثْرِ جَمِيلٍ!
وَلَقَدْ بَذَلَ كِلاكُمَا لِصَاحِبِهِ أَعْظَمَ مَا يَسْتَطِيعُهُ إِنْسَانٌ مِنْ فَضْلٍ وَإِحْسَانٍ.
وَإِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ أَسْعَدَ أُمْنِيَّةٍ تَتَمَنَّيْنَهَا هِيَ أَنْ يُتِيحَ اللهُ لَكِ فُرْصَةً تُمَكِّنُكِ مِنْ أَنْ تَبْذُلِي لِوَلَدِي مَا تَمْلِكِينَ مِنْ فِدَاءٍ، مَتَى حَانَتْ سَاعَةُ الْوَفَاءِ.»
وَمَا إِنْ سَمِعَ وَلَدُهَا مَا تَقُولُ حَتَّى حَالَ دُونَ إِتْمَامِ حَدِيثِهَا. وَخَشِيَ أَنْ تُدْرِكَ «نَرْجِسُ» مَغْزَى مَا تَقُولُ فَتُجِيبَهَا بِالْقَبُولِ، وَتَكُونَ النَّتِيجَةُ سَعَادَتَهُ وَشَقَاءَهَا؛ فَأَسْرَعَ بِالْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ تَفُوهَ «نَرْجِسُ» بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ قَائِلًا: «عَفْوًا يَا أُمَّاهُ إِذَا رَجَوْتُكِ أَنْ تَكُفِّي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ سَعَادَةَ نَرْجِسَ هِيَ كُلُّ مَا أَحْرِصُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.
وَلا رَيْبَ أَنَّكِ تَعْرِفِينَ مِقْدَارَ مَا يَغْمُرُ نَفْسِي مِنْ أَلَمٍ كُلَّمَا هَمَمْتِ — يَا أُمَّاهُ — بِالْعَوْدَةِ إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ وَإِثَارَتِهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.»
فَلَمْ تُجِبْهُ «مَاجِدَةُ» بِشَيْءٍ، وَشَغَلَهَا عَنْ مُنَاقَشَتِهِ أَمْرٌ آخَرُ كَادَ يُذْهِلُهَا عَمَّا حَوْلَهَا؛ فَكَفَّتْ عَنْ حِوَارِهَا، وَارْتَسَمَتْ أَمَارَاتُ الْحَيِرَةِ عَلَى وَجْهِهَا، وَرَفَعَتْ يَدَهَا إِلَى جَبِينِهَا، وَقَالَتْ ﻟ «حَلِيمَةَ» مُتَفَجِّعَةً وَاجِمَةً: «أَيْنَ الصُّنْدُوقُ الصَّغِيرُ يَا «حَلِيمَةُ»؟
هَلْ أَنْقَذْتِهِ كَمَا أَنْقَذْتِ الثِّيَابَ أَمْ نَسِيتِهِ كَمَا نَسِيتُهُ أَنَا؟»
فَقَالَتْ لَهَا «حَلِيمَةُ»: «وَا حَسْرَتَاهُ! لَقَدْ غَفَلْنَا عَنِ الصُّنْدُوقِ وَنَسِينَاهُ!»
وَمَا أَنْسَ لَا أَنْسَ نُصْحَهَا لِي وَهِيَ تُحَذِّرُنِي قَائِلَةً: «إِنَّ سَعَادَةَ «نَرْجِسَ» رَهْنٌ بِهَذَا الصُّنْدُوقِ!»
وَلَقَدْ عُنِيتُ بِهِ — يَا وَلَدِي — لِنَفَاسَتِهِ وَجَلالِ خَطَرِهِ، وَحَرَصْتُ عَلَيْهِ جُهْدِي، وَاسْتَوْدَعْتُهُ الصِّوَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ سَرِيرِي، وَلَمْ أُقَصِّرْ فِي حِرَاسَتِهِ وَالسَّهَرِ عَلَيْهِ، حَتَّى احْتَرَقَ الْبَيْتُ؛ فَأَذْهَلَنِي هَوْلُ الْكَارِثَةِ عَنْهُ. فَوَا أَسَفَاهُ!
أَيُّ هَوْلٍ أَنْسَانِيهِ، وَشَغَلَنِي عَنِ التَّفْكِيرِ فِيهِ؟!
وَكَيْفَ غَفَلْتُ عَنْهُ وَفِيهِ سَعَادَةُ «نَرْجِسَ»، وَفِي فِقْدَانِهِ شَقَاؤُهَا وَتَعَاسَتُهَا؟!»
وَمَا أَتَمَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَتَّى انْدَفَعَ الْأَمِيرُ الصَّغِيرُ الشَّهْمُ إِلَى الدَّسْكَرَةِ، واقْتَحَمَهَا — وَهِيَ تَلْتَهِبُ — غَيْرَ مُبَالٍ بِمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنْ مَهَالِكَ وَأَخْطَارٍ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ وَهُوَ يَقْتَحِمُ اللَّهَبُ يُوَدِّعُهُنَّ، وَيَقُولُ لَهُنَّ: «لَنْ يَضِيعَ الصُّنْدُوقُ أَيَّتُهَا الْعَزِيزَاتُ؛ فَقَدْ وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى إِحْضارِهِ أَوْ أَهْلِكَ دُونَهُ، وَقَدِ اسْتَمْدَدْتُ الْعَوْنَ مِنَ اللهِ، وَسَيُكْتَبُ لِي — بِتَوْفِيقِهِ — الْفَوْزُ وَالنَّجَاةُ.»