ذِكْرَيَاتٌ حَزِينَةٌ
وَسَادَ صَمْتٌ مُحْزِنٌ بَعْدَ أَنْ تَوَارَى «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»، وَغَابَ عَنْ أَعْيُنِهِنَّ.
وَلَمْ تَتَمَالَكْ «نَرْجِسُ» أَنْ تَرْكَعَ عَلَى رُكْبَتَيْهَا ضَارِعَةً، وَتَمُدَّ ذِرَاعَيْهَا مُلَوِّحَةً بِهِمَا فِي الْفَضَاءِ مُتَحَسِّرَةً، وَظَلَّتْ شَاخِصَةً إِلَى الدَّسْكَرَةِ الْمُحْتَرِقَةِ وَعَيْنَاهَا غَاصَّتَانِ بِالدُّمُوعِ.
وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ لَحَظَاتٌ، خُيِّلَ لِثَلاثَتِهِنَّ — مِنْ هَوْلِهَا — أَنَّهَا أَعْوامٌ. وَهَكَذَا بَقِينَ حَائِرَاتٍ، يَتَنَازَعُهُنَّ الْيَأْسُ وَالْأَمَلُ، وَتَتَرَجَّحُ بِهِنَّ الظُّنُونُ بَيْنَ الشَّكِّ فِي مَوْتِ عَزِيزِهِنَّ وَالْأَمَلِ فِي حَيَاتِهِ، بَعْدَ أَنْ فَارَقَهُنَّ وَاسْتَخْفَى عَنْ أَبْصَارِهِنَّ.
وَمِمَّا ضَاعَفَ الْخَوْفَ فِي قُلُوبِهِنَّ أَنَّهُنَّ سَمِعْنَ فَرْقَعَةً عَقِبَ انْدِفَاعِهِ إِلَى اللَّهَبِ، وَرَأَيْنَ تَكَاثُفَ الدُّخَانِ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الْفَاجِعَاتِ ضَجِيجٌ مُفَاجِئٌ مُزْعِجٌ، انْتَزَعَ مِنْ «مَاجِدَةَ» وَ«نَرْجِسَ» صَرْخَتَيْ فَزَعٍ وَيَأْسٍ.
وَقَدِ انْبَعَثَتْ صَيْحَاتُهُمَا حِينَ فُوجِئَتَا بِسَمَاعِ ضَجِيجٍ صَاخِبٍ أَشْبَهَ بِقَصْفِ الرُّعُودِ. وَأَبْصَرَتَا الْأَسْقُفَ تَهْوِي مُتَدَاعِيَةً فِي أَثَرِهِ، وَتَتَنَاثَرُ أَمَامَهَمَا مُحْتَرِقَةً، سَقْفًا فِي إِثْرِ سَقْفٍ!
كَانَتْ هَذِهِ الْمَخَاطِرُ تَمْلَأُ قُلُوبَهُنَّ، فَلَمْ تَدَعْ شُعَاعًا مِنَ الْأَمَلِ يَنْفُذُ إِلَيْهِنَّ.
وَلَمْ تَلْبَثْ ظُنُونُهُنَّ أَنْ أَصْبَحَتْ يَقِينًا؛ فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُنَّ شَكٌّ فِي أَنَّهُ لَوْ نَجَا مِنَ الِاخْتِنَاقِ، لَمَا نَجَا مِنَ الْأَثْقَالِ الَّتِي هَوَتْ عَلَى جِسْمِهِ فَهَرَسَتْهُ.
•••
وَمَرَّ بِهِمَا وَقْتٌ طَوِيلٌ، لَا تَجِدَانِ لَهُمَا حِيلَةً فِي دَفْعِ الْمَقْدُورِ.
ثُمَّ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَلَاحَ ضَوْءُ النَّهَارِ، دُونَ أَنْ يَنْفُذَ إِلَى قُلُوبِهِنَّ شُعَاعٌ — وَلَوْ ضَئِيلًا — مِنَ الرَّجَاءِ.
وَكَانَتْ «حَلِيمَةُ» تَنْظُرُ هَذِهِ الْخَرَائِبَ وَالدُّخَانَ، فَلا تَمْلِكُ غَيْرَ الْحُزْنِ عَلَى مَصْرَعِ صَاحِبِهَا، وَالْإِعْجَابِ بِشَجَاعَتِهِ، وَالرَّجَاءِ فِي سَلامَتِهِ. وَلَمْ يَنْقَطِعْ تَفْكِيرُهَا فِي ذَلِكَ الْفَتَى الشُّجَاعِ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ الْوَاجِبِ، وَوَهَبَ حَيَاتَهُ عَنْ طَوَاعِيَةٍ وَاخْتِيَارٍ، وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي أَنْ يُجَابِهَ الْمَوْتِ فِي ثَبَاتٍ وَشَجَاعَةٍ وَإِقْدَامٍ؛ فَكَانَ مِثَالًا كَرِيمًا لِلِاسْتِشْهَادِ فِي سَبِيلِ الْمُرُوءَةِ وَالْوَفَاءِ.
وَرَأَتْ «حَلِيمَةُ» مَا اسْتَوْلَى عَلَى «مَاجِدَةَ» وَ«نَرْجِسَ» مِنَ الْوُجُومِ وَالْحَيْرَةِ، فَخَشِيَتْ أَنْ يَقْتُلَهُمَا الْحُزْنُ؛ فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمَا — تُبْذُلُ قُصَارَى جُهْدِهَا — لَعَلَّهَا تَشْغَلُهُمَا عَمَّا تُكَابِدَانِ مِنْ أَلَمٍ، وَرَاحَتْ تُهَوِّنُ عَلَيْهِمَا، مُتَوَسِّلَةً إِلَيْهِمَا، أَنْ تَصْحَبَاهَا إِلَى الْمَرْجِ الْقَرِيبِ مِنَ الدَّسْكَرَةِ، لِتُرَوِّحَا عَنْ نَفْسِهِمَا قَلِيلًا.
فَصَمَتَتْ «مَاجِدَةُ» وَ«نَرْجِسُ»، وَلَمْ تُجِيبَاهَا بِحَرْفٍ وَاحِدٍ.
فَأَعَادَتْ عَلَيْهِمَا الرَّجَاءَ، فَلَمْ تَسْمَعْ مِنْهُمَا جَوَابًا؛ فَحَاوَلَتْ أَنْ تُغْرِيَ «نَرْجِسَ» تَارَةً، وَ«مَاجِدَةَ» تَارَةً أُخْرَى، وَتُزَيِّنَ لِإِحْدَاهُمَا أَوْ كِلْتَيْهِمَا الِابْتِعَادَ عَنِ الدَّارِ الْمُحْتَرِقَةِ — حَيْثُ تَقْضِيَانِ اللَّيْلَةَ الْقَادِمَةَ فِي مَكَانٍ أَمِينٍ — فَلَمْ تَجِدْ مِنْهُمَا إِلَّا إِصْرَارًا عَلَى الْبَقَاءِ حَيْثُ هُمَا.
وَحَاوَلَتْ «حَلِيمَةُ» أَنْ تَشْغَلَهُمَا بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ؛ فَلَمْ تَجِدْ مِنْهُمَا أُذُنًا سَمِيعَةً.
فَقَالَتْ «حَلِيمَةُ»: «إِذَا بَقِينَا هُنَا — مُسْتَسْلِمَاتٍ لِلْحُزْنِ — هَلَكْنَا أَسًى وَجُوعًا دُونَ أَنْ يَعُودَ عَلَيْنَا ذَلِكَ بِفَائِدَةٍ.»
فَقَالَتْ «نَرْجِسُ» مُتَأَلِّمَةً: «وَمَا فَائِدَةُ الْحَيَاةِ بَعْدَ أَنْ نَفْقِدَ أَعِزَّاءَنَا الْأَوْفِيَاءَ، الَّذِينَ لَا تَطِيبُ الْحَيَاةُ إِلَّا بِهِمْ؟
إِنِّي لَأُوثِرُ أَنْ يَفْتِرَسَنِيَ الْجُوعُ وَالْحُزْنُ، عَلَى أَنْ أَنْسَى وَاجِبَ الْوَفَاءِ لِذِكْرَى مُنْقِذِيَ الْكَرِيمِ، وَسِيرَتِهِ الْعَطِرَةِ.
وَلَنْ أَبْرَحَ هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي رَأَيْتُ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» فِيهِ آخِرَ مَرَّةٍ حَيْثُ لَقِيَ مَصْرَعَهُ فِي سَبِيلِ حُنُوِّهِ وَوَفَائِهِ وَإِخْلاصِهِ.»
فَهَزَّتْ «حَلِيمَةُ» كَتِفَيْهَا، مُتَظَاهِرَةً بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ، وَقَالَتْ ﻟ «نَرْجِسَ»: «لَوْ كَانَ ذَلِكَ يُجْدِي لَأَوْصَيْتُكِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ عَبَثٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلا خَيْرَ فِيهِ.
وَخَيْرٌ لَكِ أَنْ تَتَّجِهِي إِلَى اللهِ بِالدُّعَاءِ لَهُ؛ فَإِنَّهُ كَرِيمٌ لَا يُخَيِّبُ دُعَاءَ مَنْ قَصَدَهُ. فَلا تَسْتَسْلِمِي لِلْيَأْسِ، وَادْعِي لَهُ بِالسَّلامَةِ.»
•••
وَلَمْ تَلْبَثْ «حَلِيمَةُ» أَنْ ذَكَرَتِ الْبَقَرَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي الزَّرِيبَةِ، فَحَمِدَتِ اللهَ عَلَى سَلامَتِهَا مِنَ الْحَرِيقِ.
وَأَسْرَعَتْ إِلَيْهَا تَجْرَعُ مِنْ لَبَنِهَا الْحَلِيبِ كُوبًا شَهِيًّا سَائِغَ الطَّعْمِ، وَقَدَّمَتْ إِلَى «مَاجِدَةَ» وَ«نَرْجِس» كُوبَيْنِ مِنَ اللَّبَنِ؛ فَلَمْ تَقْبَلاهُمَا.
وَالْتَفَتَتْ «مَاجِدَةُ» إِلَى «نَرْجِسَ» قَائِلَةً: «مَا رَأَيْتُ قَلْبَ إِنْسَانٍ يَخْفِقُ بِأَنْبَلِ الْعَوَاطِفِ مِثْلَ قَلْبِكِ أَيَّتُهَا الْفَتَاةُ!
وَلَقَدْ كَانَتْ مَحَبَّةُ وَلَدِي لَكِ أَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِنَفْسِهِ؛ فَلا عَجَبَ إِذَا لَمْ يَضَنَّ بِبَذْلِ حَيَاتِهِ فِي سَبِيلِ إِسْعَادِكِ.»
ثُمَّ أَقْبَلَتْ «مَاجِدَةُ» عَلَى «نَرْجِسَ» تَقُصُّ عَلَيْهَا مَا حَدَثَ لَهَا قَبْلَ مَوْلِدِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، مَعَ الضِّفْدِعِ الْمَاكِرَةِ أَمِيرَةِ الزَّوَابِعِ.
ثُمَّ خَتَمَتْ قِصَّتَهَا قَائِلَةً: «وَلَعَلَّكِ أَدْرَكْتِ أَيَّتُهَا الْعَزِيزَةُ الْوَفِيَّةُ — مِنْ ثَنَايَا الْقِصَّةِ — أَنَّ حَظَّ وَلَدِي كَانَ مُرْتَبِطًا بِحَظِّكِ، أَنْتِ وَحْدَكِ دُونَ سِوَاكِ، وَأَنْ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا أَحَدٌ غَيْرُكِ — أَنْتِ وَحْدَكِ دُونَ سِواكِ — قَادِرٌ عَلَى إِنْقَاذِهِ مِمَّا حَلَّ بِهِ مِنْ مِحْنَةٍ، وَتَخْلِيصِهِ مِمَّا أَلَمَّ بِهِ مِنْ سِحْرٍ.
فَقَدْ كَتَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَلَّا يَخْرُجَ مِنْ شَقَائِهِ إِلَّا إِذَا أَتَاحَ لَهُ الْحَظُّ أَنْ يَظْفَرَ بِفَتَاةٍ مَوْفُورَةِ الْإِخْلاصِ، صَادِقَةِ الْوَفَاءِ، يَدْفَعُهَا إِعْجَابُهَا بِهِ وَمَحَبَّتُهَا لَهُ إِلَى الرِّضَى بِشَقَائِهَا فِي سَبِيلِ إِسْعَادِهِ؛ فَلا تَتَرَدَّدُ فِي أَنْ تُبَادِلَهُ حَظَّهَا بِحَظِّهِ، وَتَقْبَلَ أَنْ يَنْتَقِلَ التَّشْوِيهُ إِلَى جِسْمِهَا، بَعْدَ أَنْ حَتَمَتِ السَّاحِرَةُ أَلَّا يَسْتَرِدَّ جَمَالَهُ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُشَوِّهَ صُورَةَ مَنْ يَتَصَدَّى لِإِنْقَاذِهِ.»
•••
ثُمَّ أَفْضَتْ إِلَى «نَرْجِسَ» بِمَا كَانَ يُظْهِرُهُ وَلَدُهَا مِنَ الْغَضَبِ وَالسُّخْطِ كُلَّمَا حَاوَلَتْ أَنْ تَسْتَأْذِنَهُ فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى «نَرْجِسَ» بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، لَعَلَّهَا تَعْمَلُ عَلَى شِفَائِهِ، وَتَخْلِيصِهِ مِنْ شَقَائِهِ. وَكَيْفَ كَانَ يَتَوَسَّلُ إِلَيْهَا ضَارِعًا أَنْ تَكُفَّ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي ذَلِكَ الِاقْتِرَاحِ، وَيَسْتَحْلِفُهَا — جَاهِدًا — أَلَّا تُفَاتِحَهُ مَرَّةً أُخْرَى.
•••
وَمِنَ السَّهْلِ أَنْ تُدْرِكَ مَا فَاضَ بِهِ قَلْبُ «نَرْجِسَ» مِنَ الْعَطْفِ وَالْإِعْجَابِ وَالْأَسَفِ حِينَ وَقَفَتْ — مِنْ قِصَّةِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» — عَلَى هَذِهِ الدَّقَائِقِ.
وَأَدْرَكَتْ — مِنْ تَفْصِيلِ مَا سَمِعَتْهُ مِنَ الْحَقَائِقِ — مِقْدَارَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ «الْأَمِيرُ الْمَسْحُورُ» مِنَ الْفِدَائِيَّةِ وَالْإِيثَارِ.
وَثَمَّةَ لَمْ تَتَمَالَكِ الْفَتَاةُ أَنْ تَعَضَّ بَنَانَهَا أَسَفًا عَلَى ضَيَاعِ الْفُرْصَةِ، وَتَمَنَّتْ لَوْ أَنَّهَا سَمِعَتْ هَذِهِ الْمَأْسَاةِ قَبْلَ الْآنَ، لِتُخَلِّصَهُ مِنَ السِّحْرِ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ.
وَاسْتَأْنَفَتْ «مَاجِدَةُ» حَدِيثَهَا، قَائِلَةً: «لَمْ يَبْقَ عَلَيْنَا — أَيَّتُهَا الْوَفِيَّةُ الْعَزِيزَةُ — إِلَّا وَاجِبٌ وَاحِدٌ، هُوَ أَنْ نَبْحَثَ عَنْ رُفَاتِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ، وَنُخْرِجَهُ مِنْ بَيْنِ الْأَنْقَاضِ، ثُمَّ …»
وَهُنَا غَلَبَهَا الْحُزْنُ عَلَى أَمْرِهَا، وَخَنَقَتْهَا الدُّمُوعُ؛ فَاحْتَبَسَ الْكَلامُ فِي صَدْرِهَا، وَانْعَقَدَ لِسَانُهَا، وَعَجَزَتْ عَنْ مُوَاصَلَةِ حَدِيثِهَا؛ فَصَمَتَتْ «مَاجِدَةُ»، وَلَمْ تَزِدْ عَلَى مَا قَالَتْهُ شَيْئًا.