ذِكْرَيَاتٌ حَزِينَةٌ
وَكَانَتْ «حَلِيمَةُ» — حِينَئِذٍ — قَدْ أَتَمَّتْ عَمَلَهَا؛ فَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيْهَا، تَمَلَّكَتْهَا الدَّهْشَةُ وَالْحَيْرَةُ. وَسَأَلَتْهَا «حَلِيمَةُ»: مَا بَالُهَا مُسْتَسْلِمَةً لِأَحْزانِهَا وَهَواجِسِهَا، غارِقَةً فِي أَوْهَامِهَا وَوَساوِسِهَا؟
فَعَجَزَتْ «مَاجِدَةُ» عَنِ الْجَوابِ.
وَكَانَ فِي رُفْقَتِهَا أُخْتُهَا، وَهِيَ — عَلَى الْعَكْسِ مِنْهَا — أَمِيرَةٌ كَرِيمَةُ النَّفْسِ.
وَقَدْ أَقْبَلَتْ كِلْتَاهُمَا مُسْتَخْفِيَةً فِي غَيْرِ صُورَتِهَا، فَاتَّخَذَتِ الْأُولَى هَيْئَةَ ضِفْدِعٍ دَمِيمَةٍ، وَتَبَدَّتِ الْأُخْرَى فِي صُورَةِ قُبَّرَةٍ جَمِيلَةٍ وَسِيمَةٍ!»
فَقَالَتْ «حَلِيمَةُ»: «شَدَّ مَا لَقِيتِ مِنَ الْمُفزِّعَاتِ يَا مَوْلاتِي! وَلَكِنْ خَبِّرِينِي: هَلْ عَجَزَتِ الْأُخْتُ الْخَيِّرَةُ الْكَرِيمَةُ عَنْ مَنْعِ إِساءَةِ الْأُخْتِ اللَّئِيمَةِ؟»
فَقَالَتْ «مَاجِدَةُ»: «نَعَمْ، عَجَزَتْ بِرَغْمِ قُوَّتِهَا!
عَجَزَتِ الْأُخْتُ الْوَفِيَّةُ الطَّاهِرَةُ عَنْ أَنْ تَمْحُوَ إِساءَةَ أُخْتِهَا الْغادِرَةِ الْمَاكِرَةِ!
عَلَى أَنَّهَا — وَالْحَقُّ يُقَالُ — لَمْ تُقَصِّرْ فِي بَذْلِ مَعُونَتِهَا، لِتَخْفِيفِ شَرِّ أُخْتِهَا، وَتَهْوِينِ كَيْدِهَا، بَعْدَ أَنْ أَعْجَزَهَا مَنْعُهُ.
وَلا شَكَّ فِي أَنَّ بَعْضَ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ.»
ثُمَّ قَصَّتْ «مَاجِدَةُ» عَلَى «حَلِيمَةَ» كُلَّ مَا حَدَثَ لَهَا … وَكَيْفَ انْدَفَعَتْ أَمِيرَةُ الزَّوَابِعِ فِي غَضَبِهَا وَشَرَاسَتِهَا إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْ مَوْلُودِهَا الْقَادِمِ؛ فَصَبَّتْ عَلَيْهِ نِقْمَتَهَا، وَأَصْدَرَتْ عَلَيْهِ حُكْمَهَا الْقَاسِيَ.
فَقَالَتْ «حَلِيمَةُ»: «أَيَّ حُكْمٍ أَصْدَرَتْ يَا مَوْلاتِي؟»
فَقَالَتْ «مَاجِدَةُ»: «دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتَسِيَ جِسْمُهُ الرَّقِيقُ فَرْوَ دُبٍّ.»
فَصَرَخْتَ «حَلِيمَةُ» مِنْ هَوْلِ مَا سَمِعَتْ، وَتَمَلَّكَهَا الْفَزَعُ فَلَمْ تَسْتَطِعْ لِدُمُوعِهَا حَبْسًا … وَانَخَرَطَتْ مَعَ صَاحِبَتِهَا فِي الْبُكَاءِ.
وَلَمْ تَتَمَالَكْ «حَلِيمَةُ» أَنْ تُخْفِيَ أَلَمَهَا؛ حِينَ تَمَثَّلَتْ مَا اعْتَرَضَ سَيِّدَتَهَا مِنْ سُوءِ حَظٍّ جَلَبَ عَلَيْهَا كَارِثَةً أَلِيمَةً.
وَرَاحَتْ تَسْأَلُهَا، وَهِيَ مُتَفَجِّعَةٌ: «أَيَكُونُ وَلِيُّ الْعَهْدِ فِي صُورَةِ دُبٍّ؟ يَا لَلْهَوْلِ! وَكَيْفَ يَتَلَقَّى زَوْجُكِ الْمَلِكُ هَذَا النَّبَأَ؟ وَبِأَيِّ عَيْنٍ يَرَاكِ؟ وَبِأَيِّ قَلْبٍ يَرْعَاكِ؟»
فَقَالَتْ «مَاجِدَةُ»: «بَلْ كَيْفَ أَتَمَثَّلُ نَفْسِي حِينَ تَحُلُّ بِي هَذِهِ الْمُصِيبَةُ؟
وَمَا أَظُنُّكِ نَاسِيَةً — طُولَ عُمْرِكِ — أَنَّنَا لَمْ نَظْفَرْ بِالنَّجَاةِ مِمَّا كَانَ يَتَهَدَّدُنَا مِنْ هَلاكٍ مُحَقَّقٍ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ واصَلْنَا الْفِرَارَ زَمَنًا طَوِيلًا.
وَلَعَلَّكِ لَا تَزالِينَ تَذْكُرِينَ عُنْفَ مَا بَذَلْنَاهُ مِنْ جُهْدٍ فِي مُقَاوَمَةِ الْعَاصِفَةِ الَّتِي اعْتَرَضَتْنَا فِي طَرِيقِنَا، وَكَيْفَ ثَبَتْنَا لَهَا — عَلَى قُوَّتِهَا وَضَعْفِنَا — وَهِيَ تُهَدِّدُنَا بَيْنَ لَحْظَةٍ وَأُخْرَى بِالدَّمَارِ، وَتَكَادُ تُطِيحُ بِنَا فِي كُلِّ حَرَكَةٍ مِنْ حَرَكَاتِنَا، وَتَجْرُفُنَا فِي كُلِّ خُطْوَةٍ مِنْ خُطُواتِنَا؟»
فَقَالَتْ «حَلِيمَةُ»: «ما أَكْثَرَ مَا يُنْسِينَا الزَّمَانُ، غَرَائِبَ مَا نَلْقَاهُ مِنَ الْمَصائِبِ وَالْأَحْزانِ، فِيمَا مَرَّ مِنْ أَيَّامِنَا، وَسَلَفَ مِنْ أَعْمَارِنَا. ذَلِكَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ.
عَلَى أَنَّ فِي الْحَيَاةِ أَحْدَاثًا تَمُرُّ بِالْإِنْسَانِ فَتَثْبُتُ فِي ذاكِرَتِهِ، وَتَرْسَخُ فِي مُخَيِّلَتِهِ طُولَ الْحَيَاةِ، دُونَ أَنْ يَمْحُوَهَا الزَّمَانُ، أَوْ يُعَفِّيَ عَلَيْهَا ذَيْلُ النِّسْيَانِ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْهَا. فَكَيْفَ أَنْسَاهَا وَهِيَ عَالِقَةٌ بِذِهْنِي أَيْنَمَا كُنْتُ، وَحَيْثُمَا حَلَلْتُ! كَيْفَ أَنْسَى مَا لَقِينَاهُ مِنَ الْأَهْوَالِ فِي ذَلِكِ الْيَوْمِ؟
أَلَمْ نُواصِلِ الْجَدْفَ — فِي أَثْنَاءِ الْعَاصِفَةِ — وَالْغَرَقُ يَتَهَدَّدُنَا، وَالْأَمْواجُ مُتَحَفِّزَةٌ لِابْتِلاعِنَا. وَظَلِلْنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً كَامِلَةً؟
وَظَلَّ الْفَزَعُ يُطَارِدُنَا؛ فَلَمْ نَطْمَئِنَّ لِلنَّجَاةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ بَلَغْنَا هَذَا الْمَكَانَ، وَأَصْبَحْنَا مِنْ مَمْلَكَةِ «الْباطِشِ» عَلَى مَسافَةِ عِدَّةِ أَمْيَالٍ؟ أَيَّ جَبَّارٍ كَانَ!
لَقَدْ عَرَفْنَاهُ رَمْزًا لِلْحَمَاقَةِ وَالْفَظاظَةِ، واحْتَمَلْنَاهُ بِرَغْمِ ذَلِكِ.
وَلَكِنَّ جُنُونَهُ وَثَوْرَتَهُ عَلَيْكِ قَدْ بَلَغا أَقْصاهُمَا حِينَ تَصَدَّيْتِ لِمَنْعِهِ عَنِ افْتِرَاسِ أَخِيهِ: فَيْرُوزَ وَزَوْجَتِهِ: سَلْوَى!»
فَقَالَتْ «مَاجِدَةُ»: «أَيُّ أَلَمٍ كَابَدْنَاهُ أَيَّتُهَا الْعَزِيزَةُ، وَأَيُّ هَوْلٍ لَقِينَاهُ!
عَلَى أَنَّنِي — بَعْدَ كُلِّ مَا مَرَّ بِي مِنَ الْأَخْطَارِ وَالْمَكَارِهِ — لا أَشْعُرُ بِالْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ. وَلا أَزالُ أَتَوَقَّعُ أَنْ يَهْتَدِيَ السَّفَّاحُ إِلَى مَكَانِي، فَيَبْطِشَ بِي بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ.
وَلا يَزالُ قَلْبِي يَمْتَلِئُ خَوْفًا وَرُعْبًا، كُلَّمَا مَرَّ بِي هَذَا الْخاطِرُ.
وَأَنَا عَلَى ثِقَةٍ أَنَّهُ لَنْ يَكُفَّ عَنْ مُطَارَدَتِي، وَلَنْ يَشْفِيَ غَلِيلَ قَلْبِهِ إِلَّا إِذَا سَلَبَنِي الرُّوحَ، وَحَرَمَنِي الْحَيَاةَ!»
فَقَالَتْ لَهَا «حَلِيمَةُ»: «حَسْبُكِ مَا فَاضَتْ بِهِ نَفْسُكِ مِنَ الْأَحْزانِ.
وَهَيْهَاتَ أَنْ يَمْنَعَ الْحَذَرُ شَيْئًا مِمَّا قَضَى بِهِ الْقَدَرُ، وَلا حِيلَةَ لَنَا فِي ذَلِكِ.
وَلا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ الْمَوْلُودُ لِلْوُجُودِ، وَعَلَيْهِ فَرْوُ دُبٍّ.
وَمَا أَجْدَرَكِ أَنْ تَعْتَصِمِي بِالصَّبْرِ، فَلا تَسْتَسْلِمِي لِمَا لَا يُفِيدُ.
وَمِنَ الْخَيْرِ أَنْ تَشْغَلِي نَفْسَكِ بِمَا يَعُودُ عَلَى مَولُودِكِ الْقَادِمِ بِالنَّفْعِ.
وَفِي هَذَا — وَحْدَهُ — عَزاؤُنَا وَسَلْوَتُنَا.
وَلَيْسَ مِنْ وَسِيلَةٍ لِتَخْفِيفِ هَذَا الْمُصابِ الْجَسِيمِ، إِلَّا أَنْ نُعْنَى بِتَعَهُّدِهِ، وَنُحْسِنَ الْقِيَامَ عَلَى تَرْبِيَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَتَنْشِئَتِهِ عَلَى كَرِيمِ الْفَضائِلِ؛ فَإِنَّهَا كَفِيلَةٌ بِإِسْعَادِهِ، وَتَخْلِيصِهِ مِنْ هَذَا الْبَلاءِ.
فَلْنَعْمَلْ لِهَذِهِ الْغايَةِ النَّبِيلَةِ؛ حَتَّى إِذَا كَبِرَ وَتَرَعْرَعَ، أَصْبَحَ مِثالًا لِطِيبَةِ النَّفْسِ، وَنَمُوذَجًا لِطَهَارَةِ الْخُلُقِ، وَلَنْ تَخْذُلَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ النَّبِيلَةُ.
وَسَتُتَاحُ لَهُ الْفُرْصَةُ — ذاتَ يَوْمٍ — أَنْ يَلْقَى نَفْسًا كَرِيمَةً تَقْدُرُهُ، فَيَدْفَعُهَا إِعْجَابُهَا بِهِ إِلَى الِانْدِفَاعِ فِي سَبِيلِ إِنْقَاذِهِ، وَلا تُحْجِمُ عَنْ تَفْدِيَتِهِ بِنَفْسِهَا.
وَمَتَى رَضِيَتْ بِذَلِكِ، انْقَضَتْ أَيَّامُ الشَّقَاءِ، وَتَقَشَّعَتْ سُحُبُ النَّحْسِ، وَاسْتَرَدَّ وَلَدُكِ بَهَاءَهُ، وَزايَلَهُ الْفَرْوُ الْقَبِيحُ الَّذِي يَكْسُو وَجْهَهُ الرَّقِيقَ.
ذَلِكِ رَأْيِي، أُعْلِنُهُ لَكِ فِي غَيْرِ مُوارَبَةٍ وَلا الْتِواءٍ.
وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِيَدِي، لانْتَقَمْتُ مِنْ أَمِيرَةِ الزَّوَابِعِ أَعْنَفَ انْتِقَامٍ، وَلَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَنْقُلَ فَرْوَ الدُّبِّ إِلَى جِسْمِهَا، فَيَكْسُوَهُ مَدَى حَيَاتِهَا.
وَلَكِنْ «ما كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ»!»
•••
وَهُنَا نَهَضَتْ «مَاجِدَةُ» — وَلَعَلَّكَ قَدْ عَلِمْتَ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا مَلِكَةٌ وَلَيْسَتْ قَرَوِيَّةً، كَمَا فَهِمْتَ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ — وَقَدْ أَخَذَتْ بِنَصِيحَةِ رَفِيقَتِهَا الْوَفِيَّةِ «حَلِيمَةَ»، بَعْدَ أَنِ اقْتَنَعَتْ أَنَّ الْأَمِيرَ الدُّبَّ لَنْ يَبْقَى عَلَى هَيْئَتِهِ الْمُنَفِّرَةِ إِلَّا زَمَنًا مَحُدْوُدًا، تَحُلُّ بَعْدَهُ السَّعَادَةُ مَحَلَّ الشَّقَاءِ.
وَعَادَتِ الْمَلِكَةُ إِلَى مَخْدَعِهَا مَعَ وَصِيفَتِهَا، وَلَمْ تَلْبَثا أَنِ اسْتَسْلَمَتَا لِلرُّقَادِ.