فِي قَاعِ الْبِئْر
وَاتَّجَهَتْ «مَاجِدَةُ» وَ«نَرْجِسُ» وَ«حَلِيمَةُ» إِلَى حِيطَانِ الدَّسْكَرَةِ؛ يَمْشِينَ فِي بُطْءٍ وَحَذَرٍ، وَيَتَحَسَّسْنَ مَوَاطِئَ أَقْدَامِهِنَّ — فِي كُلِّ خُطْوَةٍ مِنْ خُطُوَاتِهِنَّ — حَتَّى لَا يَتَعَثَّرْنَ فِيمَا تَرَكَهُ الْحَرِيقُ مِنْ خَرَائِبَ وَأَنْقَاضٍ.
وَمَضَى عَلَيْهِنَّ يَوْمَانِ كَامِلانِ، لَمْ يُضِعْنَ مِنْهُمَا لَحْظَةً سُدًى.
وَقَدْ وُفِّقْنَ إِلَى رَفْعِ الْكَثِيرِ مِمَّا تَرَاكَمَ مِنَ الْأَنْقَاضِ الْمُحْتَرِقَةِ، وَبَذَلْنَ مِنَ الْجُهْدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَطِعْنَ، وَبَقِيَتْ — بَعْدَ ذَلِكَ — طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنَ الْأَنْقَاضِ مُتَفَرِّقَةً فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ فَوَاصَلْنَ الْعَمَلَ فِي رَفْعِهَا.
وَجَاءَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دُونَ أَنْ يَعْثُرْنَ ﻟ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» عَلَى أَثَرٍ، بِرَغْمِ مَا بَذَلْنَهُ مِنْ جُهُودٍ مُضْنِيَةٍ. وَكُنَّ — عَلَى حَمَاسَتِهِنَّ فِي إِنْجَازِ الْعَمَلِ — مُنْتَبِهَاتٍ حَذِرَاتٍ، يَرْفَعْنَ الْأَنْقَاضَ قِطْعَةً بَعْدَ قِطْعَةٍ، وَحَجَرًا بَعْدَ حَجَرٍ، وَحُفْنَةً بَعْدَ حُفْنَةٍ، خَوْفًا عَلَى جِسْمِ فَقِيدِهِنَّ أَنْ تُمَزَّقَ أَوْصَالُهُ، أَوْ تُسْحَقَ أَعْضَاؤُهُ.
وَمَا زِلْنَ يُوَالِينَ جُهُودَهُنَّ حَتَّى تَمَّ لَهُنَّ كَشْفَ مَا بَقِي عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْأَنْقَاضِ.
وَمَا كِدْنَ يَنْتَهِينَ مِنْ رَفْعِ آخِرِ مَا تَنَاثَرَ مِنَ الْأَلْواحِ الْخَشَبِيَّةِ الَّتِي دَبَّ فِيهَا الِاحْتِرَاقُ، حَتَّى لَاحَتْ ﻟ «نَرْجِسَ» — وَالدَّهْشَةُ مُسْتَوْلِيَةٌ عَلَيْهَا — ثُغْرَةٌ عَلَى مَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهَا.
فَأَسْرَعَتْ إِلَى الثُّغْرَةِ، تُزِيلُ مَا يُغَطِّيهَا وَيَسُدُّ فُوهَتَهَا مِنْ خَشَبٍ.
فَلَمَّا أَتَمَّتْ ذَلِكَ رَأَتْ أَمَامَهَا فُوهَةَ بِئْرٍ وَاسِعَةً، فَخَفَقَ قَلْبُهَا خَفْقًا شَدِيدًا، وَاضْطَرَبَتِ اضْطِرَابًا عَنِيفًا، وَدَبَّ إِلَى قَلْبِهَا أَمَلٌ مُبْهَمٌ غَامِضٌ بَهِيجٌ، لَا تَعْرِفُ لَهُ مَصْدَرًا، وَسَرَى فِي عُرُوقِهَا رُوحٌ مِنَ الرَّجَاءِ.
وَلَمْ تَتَمَالَكْ «نَرْجِسُ» أَنْ تَهْتِفَ — عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ — بِاسْمِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، فِي صَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ مُتَعَثِّرٍ.
•••
وَلَا تَسَلْ عَمَّا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا مِنَ الدَّهْشَةِ وَالْفَرَحِ وَالِارْتِبَاكِ، حِينَ سَمِعَتْ صَوْتَهُ يُجِيبُ نِدَاءَهَا، وَيَدْعُوهَا مُبْتَهِجًا بِسَمَاعِ صَوْتِهَا، وَيَهْتِفُ بِاسْمِهَا مُنَادِيًا: «نَرْجِسُ، عَزِيزَتِي «نَرْجِسُ»! هَا أَنَا ذَا قَدْ كُتِبَتْ لِيَ النَّجَاةُ، وَبَقِيتُ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ!»
•••
أَتُرَاهَا حَالِمَةً أَمْ يَقْظَانَةً؟ أَيُّ سَعَادَةٍ مُفَاجِئَةٍ فَاضَتْ عَلَى قَلْبِهَا، فَانْهَارَتْ أَمَامَهَا أَعْصَابُهَا، وَأَسْلَمَتْهَا إِلَى الذُّهُولِ؟!
وَلَمْ تَلْبَثْ أَنِ احْتَوَاهَا الْإِغْمَاءُ …
وَكَمْ لِأَمِيرَةِ التَّوَابِعِ مِنْ صَنَائِعَ مَأْثُورَةٍ، وَأَيَادٍ مَشْكُورَةٍ! وَهَذِهِ بَعْضُ صَنَائِعِهَا وَمَسَاعِيهَا، وَإِحْدَى مَآثِرِهَا وَأَيَادِيهَا.
وَهَكَذَا خَفَّتْ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ لِإِنْقَاذِهَا، فَتَلَقَّفَتْهَا وَهِيَ هَابِطَةٌ إِلَى الْبِئْرِ، ثُمَّ حَمَلَتْهَا مُتَرَفِّقَةً مُتَلَطِّفَةً، فَأَجْلَسَتْهَا بِجِوَارِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ».
وَلَمْ يَكُنْ كِلَاهُمَا يَحْلُمُ بِمِثْلِ هَذِهِ السَّعَادَةِ الْمُفَاجِئَةِ؛ فَكَادَ فَرَحُهُمَا بِاللِّقَاءِ يُذْهِلُهُمَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَنَسِيَا كُلَّ مَا أَلَمَّ بِهِمَا مِنْ كَوَارِثَ مُرَوِّعَاتٍ، وَرَاحَا يَتَبادَلانِ التَّهْنِئَاتِ الصَّادِقَاتِ، وَقَدْ غَمَرَتِ الْبَهْجَةُ قَلْبَيْهِمَا، بِاجْتِمَاعِ مَا تَشَتَّتَ مِنْ شَمْلِهِمَا، بَعْدَ أَنْ أَلَحَّ عَلَيْهِمَا الشَّقَاءُ، وَأَيْأَسَهُمَا مِنَ اللِّقَاءِ. وَلَمْ يُقَصِّرَا فِي شُكْرِ اللهِ عَلَى مَا هَيَّأَهُ لَهُمَا مِنْ أَلْطَافٍ خَفِيَّةٍ، تَمَّتْ عَلَى يَدِ الْجِنِّيَّةِ، بَعْدَ أَنْ سَخَّرَهَا اللهُ لِإِنْقَاذِهِمَا، وَالتَّفَانِي فِي الْبِرِّ بِهِمَا، وَالْعَطْفِ عَلَيْهِمَا.
أَمَّا «حَلِيمَةُ» فَكَانَ لَهَا شَأْنٌ آخَرُ يَخْتَلِفُ عَنْ شَأْنَيْهِمَا؛ فَقَدْ هَالَهَا أَنْ تَتَلَفَّتَ فَلا تَرَى «نَرْجِسَ» أَمَامَهَا! فَكَيْفَ اسْتَخْفَتْ «نَرْجِسُ» فَجْأَةً، وَغَابَتْ بَعْدَ لَحْظَةٍ واحِدَةٍ؟
يَا لَلْعَجَبِ الْعَاجِبِ! كَيْفَ تَوَارَتْ «نَرْجِسُ» عَنْ عَيْنَيْهَا فِي مِثْلِ لَمْحَةِ الطَّرْفِ، أَوْ وَمْضَةِ الْبَرْقِ؟
ذَلِكَ مَا حَيَّرَهَا، وَشَتَّتَ خَاطِرَهَا.
وَثَمَّةَ انْدَفَعَتْ «حَلِيمَةُ» مُضْطَرِبَةً مُوَلَّهَةً، تَبْحَثُ عَنْ «نَرْجِسَ» فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَلا تَعْثُرُ لَهَا عَلَى أَثَرٍ.
وَلا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ «حَلِيمَةَ» حِينَ سَمِعَتْ «نَرْجِسَ» تُجِيبُ نِدَاءَهَا وَتُطَمْئِنُهَا، فِي صَوْتٍ جَلِيٍّ وَاضِحِ النَّبَرَاتِ. ثُمَّ لَا تَسَلْ عَنِ ابْتِهَاجِهَا حِينَ سَمِعَتِ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ»، يُنَادِيهَا مِنْ قَاعِ الْبِئْرِ الْعَمِيقَةِ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ وَهُوَ يَقُولُ: «كُفِّي عَنْ صِيَاحِكِ يَا «حَلِيمَةُ»، وَخَفِّضِي مِنْ صَوْتِكِ أَيَّتُهَا الْوَفِيَّةُ الْكَرِيمَةُ، حَتَّى لَا تُزْعِجِي وَالِدَتِيَ الْعَزِيزَةَ.
فَنَحْنُ — وَالْحَمْدُ للهِ — عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ، وَأَهْنَأِ بَالٍ، وَلَيْسَ يَعُوزُنَا شَيْءٌ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ.»
أَيُّ حُلْمٍ سَعِيدٍ تَحَقَّقَ! لَقَدْ فَاضَ قَلْبُهَا فَرَحًا، فَلَمْ تَتَمَالَكْ أَنْ تَصِيحَ ﺑ «مَاجِدَةَ» فَرْحَانَةً مُهَنِّئَةً: «يَا لَهَا مِنْ سَعَادَةٍ شَامِلَةٍ! هَا إِنَّهُمَا يَا مَوْلاتِي سَالِمَانِ مُعَافَيَانِ. هَلُمِّي إِلَيْهِمَا يَا «مَاجِدَةُ» وَلا تُضَيِّعِي مِنْ وَقْتِكِ لَحْظَةً وَاحِدَةً.
هَلُمِّي، وَلَوِ اسْتَطَعْتِ أَنْ تَطِيرِي لَكَانَ ذَلِكِ أَوْلَى بِكِ وَأَجْدَرَ.
وَا فَرْحَتَاهُ! إِنَّهُمَا هُنَا فِي قَرَارِ الْبِئْرِ، وَهُمَا — بِحَمْدِ اللهِ — سَالِمَانِ هَانِئانِ، تَغْمُرُهُمَا الْبَهْجَةُ وَتُظَلِّلُهُمَا، وَتُحُوطُهُمَا السَّعَادَةُ وَتُرَفْرِفُ عَلَيْهِمَا!»
وَكَانَتْ «مَاجِدَةُ» مُمْتَقَعَةَ الْوَجْهِ، شَارِدَةَ اللُّبِّ، ذَاهِلَةَ الْعَقْلِ، لِشِدَّةِ حُزْنِهَا عَلَى وَلَدِهَا الَّذِي فَقَدَتْهُ وَيَئِسَتْ مِنْ عَوْدَتِهِ؛ فَزَادَتْهَا الصَّرْخَةُ الْأُولَى — الَّتِي انْبَعَثَتْ مِنْ «حَلِيمَةَ» — يَأْسًا عَلَى يَأْسٍ، فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا مُتَرَنِّحَةً مُتَعَثِّرَةَ الْخُطَى مِنْ فَرْطِ مَا كَابَدَتْ مِنْ أَلَمٍ.
فَلَمَّا سَمِعَتْ صَرْخَةَ الْفَرَحِ الثَّانِيَةَ اخْتَلَطَ عَلَيْهَا الْأَمْرُ، وَلَمْ تَتَبَيَّنْ مَا تَحْمِلُهُ أَلْفَاظُهَا مِنْ صَادِقِ الْبُشْرَى؛ فَلَمْ تَتَمَالَكْ أَنْ سَقَطَتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، جَاثِيَةً بِالْقُرْبِ مِنْ «حَلِيمَةَ» بَعْدَ أَنْ خَذَلَتْهَا قُوَاهَا فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ، وَزَايَلَهَا التَّمْيِيزُ، فَأَعْجَزَهَا عَنْ فَهْمِ مَا تَسْمَعُ.
ثُمَّ حَدَثَ مَا لَمْ يَخْطُرْ لَهَا عَلَى بَالٍ حِينَ سَمِعَتْ أُذُنَاهَا صَوْتَ وَلَدِهَا الْحَبِيبِ!
وَلَمْ تَكَدْ «مَاجِدَة» تَتَبَيَّنُ صَوْتَ وَلَدِهَا حَتَّى اسْتَرَدَّتْ قُوَاهَا، وَعَاوَدَهَا نَشَاطُهَا.
وَأَسْرَعَتْ «حَلِيمَةُ» إِلَى السُّلَّمِ لِتُحْضِرَهُ، وَغَابَتْ لَحْظَةً يَسِيرَةً، حَسِبَتْهَا «مَاجِدَةُ» أَيَّامًا طِوَالًا، لِشِدَّةِ مَا كَانَ يُسَاوِرُهَا مِنَ الْقَلَقِ عَلَى حَيَاةِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ».
وَكَانَ الْفَرَحُ قَدْ طَغَى عَلَى «حَلِيمَةَ» أَيْضًا، فَكَادَ يُذْهِلُهَا عَمَّا تَصْنَعُهُ؛ فَعَادَتْ وَلَيْسَ مَعَهَا سُلَّمٌ، بَلْ حَبْلٌ وَمِذْرَاةٌ وَكُرْسِيٌّ.
ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا رَشَادُهَا، فَأَحْضَرَتِ السُّلَّمَ — آخِرَ الْأَمْرِ — وَكَانَ مِنْهَا عَلَى مَدِّ الذِّرَاعِ، وَلَكِنَّ مَا غَمَرَ قَلْبَهَا مِنَ الْفَرَحِ قَدْ أَذْهَلَهَا عَمَّا يُحِيطُ بِهَا.
•••