مُحَاوَرَاتٌ
وَقَدْ حَدَّثَهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» — فِيمَا حَدَّثَهَا بِهِ — عَمَّا لَقِيَهُ فِي الْحَادِثِ الْأَخِيرِ، مِنْ عَجِيبِ الْمَقَادِيرِ، وَقَالَ لَهَا فِيمَا قَالَ: «لَقَدِ اقْتَحَمْتُ اللَّهَبَ دُونَ أَنْ أُصَابَ بِسُوءٍ، وَنَجَوْتُ مِنَ النَّارِ بِسَلامٍ، وَالْحَمْدُ للهِ. وَمَا زِلْتُ أَتَعَثَّرُ فِي الظَّلامِ الْحَالِكِ — بَيْنَ خُطْوَةٍ وَأُخْرَى — لَعَلِّي أَهْتَدِي إِلَى مَوْضِعِ الصِّوَانِ، الَّذِي حَدَّثَتْنِي أُمِّي أَنَّ سَعَادَتَكِ رَهْنٌ بِهِ، وَأَنَّ هَنَاءَتَكِ لَا تَكْمُلُ بِغَيْرِهِ.
•••
وَشَعَرْتُ أَنَّ قُوَّةً عَظِيمَةً قَاهِرَةً تَرْفَعُنِي، ثُمَّ تَهْبِطُ بِي مُتَرَفِّقَةً إِلَى قَاعِ الْبِئْرِ، بَعِيدًا عَنِ الدُّخَانِ الْخَانِقِ وَاللَّهَبِ الْمُحْرِقِ؛ فَأَيْقَنْتُ أَنَّهَا أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ.
وَغَابَتْ عَنِّي لَحْظَةً، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيَّ وَمَعَهَا كُلُّ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَفِرَاشٍ.
وَكَانَ أَخْشَى مَا أَخْشَاهُ — حِينَ حَلَلْتُ الْبِئْرَ — أَنْ يُبَلِّلَنِي مَاؤُهَا، أَوْ تُؤْذِيَنِي رُطُوبَتُهَا. وَلَكِنَّ مَخَاوِفِي لَمْ تَلْبَثْ أَنْ تَبَدَّدَتْ حِينَ رَأَيْتُ قَاعَهَا جَافًّا، لَا أَثَرَ لِلرُّطُوبَةِ فِيهِ، وَرَأَيْتُ جَوَّهَا — كَمَا تَرَيْنَهُ — غَايَةً فِي الِاعْتِدَالِ.
عَلَى أَنَّنِي لَمْ أَمَسَّ الطَّعَامَ مُنْذُ حَلَلْتُ الْبِئْرَ، وَاكْتَفَيْتُ بِبِضْعِ جُرَعٍ مِمَّا أَحْضَرَتْهُ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ مِنْ عَصِيرِ الْفَوَاكِهِ.
وَلَمْ يَكُنْ يُنَغِّصُ عَلَيَّ هَنَائِي وَسَعَادَتِي، إِلَّا مَا كُنْتُ أَتَمَثَّلُهُ مِنْ جَزَعِكُنَّ عَلَيَّ، وَتَأَلُّمِكُنَّ لِفِقْدَانِي.
وَكُنْتُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّكُنَّ قَدْ قَطَعْتُنَّ الْأَمَلَ فِي عَوْدَتِي؛ فَتَمَلَّكَ الْحُزْنُ أَفْئِدَتَكُنَّ.
وَكَانَ هَذَا الْخَاطِرُ يَمْلَأُ قَلْبِي حُزْنًا عَلَيْكُنَّ، وَلَا أَتَمَالَكُ أَنْ أَجْزَعَ لَهُ أَشَدَّ الْجَزَعِ.
وَحَاوَلْتُ أَنْ أَهْتَدِيَ إِلَى وَسِيلَةٍ تُمَكِّنُنِي مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَيْكُنَّ، بِمَا أَنْعَمُ بِهِ مِنْ رَاحَةٍ وَهُدُوءِ بَالٍ؛ فَلَمْ أَجِدْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.
وَلَمْ تَلْبَثْ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ أَنْ دَفَعَتْهَا الشَّفَقَةُ عَلَيَّ؛ فَتَمَثَّلَتْ أَمَامِي فِي صُورَتِكِ — يَا عَزِيزَتِي «نَرْجِسُ». وَقَدْ أَتْقَنَتْ تَمْثِيلَهَا؛ فَلَمْ أَشُكَّ فِي أَنَّهَا أَنْتِ.
وَلَمْ أَتَمَالَكْ أَنْ أَنْدَفِعَ إِلَيْهَا فَرْحَانَ بِلِقَائِهَا، شَاكِرًا لَهَا عَطْفَهَا وَحُنُوَّهَا.
وَثَمَّةَ قَالَتْ لِي أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ وَهِيَ تَضْحَكُ: «لَقَدْ تَوَهَّمْتَنِي «نَرْجِسَ» يَا عَزِيزِي «الدُّبَّ الصَّغِيرَ»، وَمَا أَنَا عَلَى الْحَقِيقَةِ ﺑ «نَرْجِسَ»، وَلَكِنَّنِى آثَرْتُ أَنْ أَتَمَثَّلَ لَكَ فِي صُورَتِهَا، وَأَظْهَرَ لَكَ فِي هَيْئَتِهَا؛ لِأُرَفِّهَ عَنْكَ بِلِقَائِهَا، وَأُونِسَكَ بِرُؤْيَتِهَا، فَلا تَحْزَنْ يَا وَلَدِي وَلا تَبْتَئِسْ؛ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهَا غَدًا. أَلَيْسَ الْغَدُ بِقَرِيبٍ؟»
فَسَأَلْتُهَا مُتَلَهِّفًا: «كَيْفَ حَالُ نَرْجِسَ؟»
فَقَالَتْ لِي: «إِنَّ «نَرْجِسَ» شَدِيدَةُ الْحُزْنِ عَلَيْكَ، وَهِيَ لَا تَزَالُ — إِلَى الْآنَ — مُسْتَسْلِمَةً لِلْبُكَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ أَصْبَحْتَ فِي عِدَادِ الْهَالِكِينَ!»
فَسَأَلْتُهَا: «وَمَتَى أَرَاهَا؟»
فَقَالَتْ لِي بَاسِمَةً: «غَدًا تَرَاهَا، وَتَنْعَمُ بِلُقْيَاهَا … وَسَيَتِمُّ لَكَ ذَلِكَ فِي قَاعِ هَذِهِ الْبِئْرِ، حَيْثُ تَصْحَبُكَ فِي خُرُوجِكَ مِنْهَا.
وَسَتَظْفَرُ بِذَلِكَ بِأَسْرَعَ مِمَّا تَظُنُّ؛ فَتَنْعَمُ بِلِقَاءِ أُمِّكَ، كَمَا تَنْعَمُ أُمُّكَ بِلِقَائِكَ بَعْدَ أَنْ حَرَمَهَا حُزْنُهَا عَلَيْكَ كُلَّ مَا فِي الْحَيَاةِ مِنْ بَهْجَةٍ وَنُورٍ، وَعَشِيَتْ عَيْنَاهَا مِنْ طُولِ الْحُزْنِ عَلَيْكَ؛ فَلَمْ تُبْصِرْ جَمَالَ السَّمَاءِ وَمَفَاتِنَ الطَّبِيعَةِ.
وَسَيَنْقَلِبُ يَأْسُهَا — بَعْدَ أَنْ تَرَاكَ — فَرَحًا وَرَجَاءً، وَتَتَبَدَّلُ أَمَامَهَا الدُّنْيَا — بِلُقْيَاكَ — فَتُصْبِحُ جَنَّةً، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ — بِفِقْدَانِكَ — جَحِيمًا.
وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ يَنْقَضِيَ عَلَى خُرُوجِكَ مِنْ هَذِهِ الْبِئْرِ زَمَنٌ قَلِيلٌ حَتَّى تَعُودَ إِلَيْهَا ثانِيَةً؛ وَلَنْ تَلْبَثَ فِي قَاعِهَا غَيْرَ لَحَظَاتٍ قَلِيلَةً، رَيْثَمَا تُخْرِجُ مِنْهَا كَنْزَ سَعَادَتِكَ الْمَخْبُوءَ فِي قَرَارِ الْبِئْرِ.»
فَسَأَلْتُهَا مُتَعَجِّبًا: «تَقُولِينَ: كَنْزَ سَعَادَتِي؟!
وَمَا أَحْسَبُكِ تَجْهَلِينَ أَنَّ سَعَادَتِي لَا تَكُونُ إِلَّا إِذَا اكْتَمَلَتْ لِأُمِّي وَﻟ «نَرْجِسَ» وَﻟ «حَلِيمَةَ» جَمِيعًا!»
وَسَتُرِيكَ الْأَيَّامُ صِدْقَ مَا تَسْمَعُ.»
فَقُلْتُ لَهَا: «إِنَّ سَعَادَةَ «نَرْجِسَ» — يَا مَوْلاتِي — هِيَ أَنْ تَعِيشَ مَعِي وَمَعَ أُمِّي، كَمَا أَنَّ سَعَادَةَ «حَلِيمَةَ» أَنْ تَعِيشَ مَعَنَا».»
•••
وَلَمَّا بَلَغَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» مِنْ حَدِيثِهِ هَذَا الْمَبْلَغَ، قَاطَعَتْهُ «نَرْجِسُ» قَائِلَةً: «صَدَقْتَ أَيُّهَا الْوَفِيُّ الْكَرِيمُ. وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْجَوَابَ! فَكَيْفَ كَانَ جَوَابُ الْجِنِّيَّةِ الْكَرِيمَةِ أَيُّهَا الشَّقِيقُ الْعَزِيزُ؟»
فَقَالَ لَهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»: «لَقَدْ حَدَّثَتْنِي الْجِنِّيَّةُ أَنَّهَا أَعْرَفُ بِمَا أَقُولُ وَأَخْبَرُ، وأَنَّنِي سَأَشْعُرُ بَعْدَ قَلِيلٍ أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا لَا يَزَالُ يَنْقُصُنِي، وَأَنَّ سَعَادَتِي لَنْ تَتِمَّ بِغَيْرِهِ، وَأَنَّنِي لَنْ أَظْفَرَ بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْبِئْرِ.
ثُمَّ وَدَّعَتْنِي أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ، فِي خِتَامِ حَدِيثِهَا قَائِلَةً: «تَحِيَّتِي إِلَيْكَ، وَإِلَى أُمِّكَ، وَإِلَى «نَرْجِسَ» وَ«حَلِيمَةَ» … وَإِلَى لِقَاءٍ قَرِيبٍ.
وَآمُلُ أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُنَا التَّالِي، جَالِبًا لَكَ السَّعَادَةَ وَالْجَمَالَ، كَمَا آمُلُ أَلَّا تَنْزَعِجَ مِنَ الظَّفَرِ بِهَذِهِ السَّعَادَةِ، وَأَلَّا تَنْدَمَ عَلَيْهَا.
وَخَيْرٌ لَكَ أَنْ تَرْضَى بِمَا قَسَمَهُ اللهُ لَكَ؛ فَإِنَّ قَضَاءَ اللهِ لَا بُدَّ وَاقِعٌ، وَلَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ فِي رَدِّهِ أَوْ تَحْوِيلِهِ.
وَلَيْسَ لِلْعَاقِلِ إِلَّا الْخُضُوعُ وَالْإِذْعَانُ لِأَحْكَامِ الْقَدَرِ.
وَالْآنَ، وَدَاعًا»!»
•••
وَخَتَمَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» حَدِيثَهُ قَائِلًا: «ثُمَّ طَارَتِ الْقُنْبَرَةُ مُبْتَهِجَةً، بَعْدَ أَنْ تَرَكَتْ وَرَاءَهَا رَائِحَةً زَكِيَّةً، وَخَلَّفَتْ فِي قَلْبِي رَجَاءً نَافِعًا، وَبَعَثَتْ الِاطْمِئْنَانَ وَالْهُدُوءَ إِلَى نَفْسِي؛ فَزَالَ عَنِّي مَا كَانَ يَنْتَابُنِي مِنَ الْحَسْرَةِ وَالْأَلَمِ، وَفَارَقَنِي مَا كَانَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيَّ مِنَ الْقَلَقِ وَالْهَمِّ.»
وَهُنَا أَدْرَكَتْ «نَرْجِسُ» لِمَاذَا خَشِيَتْ أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ أَنْ يَشْقَى «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» بِمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْ سَعَادَةٍ وَشِيكَةٍ، حِينَ يَلْقَاهَا فِي الْمَرَّةِ التَّالِيَةِ.
وَلَمْ تَغِبْ عَنْهَا حَقِيقَةُ مَا تَعْنِيهِ «لُؤْلُؤَةُ»، بِهَذَا الْحَدِيثِ؛ فَقَدْ عَقَدَتْ «نَرْجِسُ» عَزْمَهَا عَلَى إِنْجَازِ وَعْدِهَا، مُنْذُ أَفْضَتْ لَهَا «مَاجِدَةُ» بِالْوَسِيلَةِ الْوَحِيدَةِ الَّتِي تُخَلِّصُ «الْأَمِيرَ الْمَسْحُورَ» مِنَ الشَّقَاءِ، وَبَيَّنَتْ لَهَا طَرِيقَ الْفِدَاءِ، وَهُوَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ مَحْتُومُ الْأَدَاءِ، يَدْعُوهَا إِلَى تَحْقِيقِهِ مَا تُضْمِرُهُ لَهُ مِنْ صَادِقِ الْوَفَاءِ وَمَوْفُورِ الْمَحَبَّةِ.
وَقَدِ امْتَلَأَتْ نَفْسُهَا فَرَحًا حِينَ طَافَ بِرَأْسِهَا ذَلِكَ الْأَمَلُ الْحُلْوُ الْمَنْشُودُ، وَضَاعَفَ مِنْ فَرَحِهَا أَنَّهَا رَأَتْ نَفْسَهَا قَادِرَةً عَلَى تَحْقِيقِهِ.
•••
وَلَمَّا أَتَمَّ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» حَدِيثَهُ، سَمِعَا صَوْتَ «حَلِيمَةَ» يَصِيحُ مُدَوِّيًا، وَيُهِيبُ بِهِمَا مُجَلْجِلًا: «هَا هُوَ ذَا السُّلَّمُ — أَيُّهَا الْعَزِيزَانِ الْكَرِيمَانِ — سَأُنْزِلُهُ إِلَيْكُمَا لِتَصْعَدَا عَلَيْهِ؛ فَضَاعِفَا مِنْ يَقَظَتِكُمَا وَانْتِبَاهِكُمَا حَتَّى لَا يَسْقُطَ عَلَى رَأْسِ أَحَدِكُمَا أَوْ كِلَيْكُمَا.»
فَقَالَا لَهَا مَسْرُورَيْنِ: «أَنْزِلِي السُّلَّمَ مَشْكُورَةً مُتَفَضِّلَةً، وَلَا تَخْشَيْ عَلَيْنَا شَيْئًا.»
فَقَالَتْ لَهُمَا «حَلِيمَةُ» ضَاحِكَةً مُسْتَبْشِرَةً: «لَقَدْ فَهِمْتُ مِمَّا سَمِعْتُهُ — مِنْ حِوَارِكُمَا — أَنَّ لَدَيْكُمَا شَيْئًا مِنَ الزَّادِ، فَلا تَنْسَيَا أَنْ تَصْحَبَاهُ مَعَكُمَا؛ فَقَدْ بَرَّحَ بِنَا التَّعَبُ، وَكِدْنَا نَهْلِكُ مِنَ الْجُوعِ.»
فَقَالَ لَهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»: «عَزِيزٌ عَلَيْنَا أَنْ تَجُوعَا أَنْتِ وَأُمِّي، وَنَشْبَعَ نَحْنُ.»
فَقَالَتْ لَهُ ضَاحِكَةً: «أَحْبِبْ إِلَيْنَا أَنْ تَشْبَعَا وَنَجُوعَ، وَنَحْنُ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْكُمَا.
وَقَدْ مَضَى عَلَيَّ يَوْمَانِ لَمْ أَطْعَمْ — فِي خِلالِهِمَا — غَيْرَ اللَّبَنِ مَمْزُوجًا بِالتُّرَابِ وَالشَّقَاءِ؛ أَمَّا أُمُّكَ وَ«نَرْجِسُ» فَلَمْ تَظْفَرَا مِنَ الْقُوتِ بِغَيْرِ الدُّمُوعِ وَالْهَوَاءِ!»
وَكَانَتْ «نَرْجِسُ» وَ«الدُّبُّ الصَّغِيرُ» يَصْعَدَانِ السُّلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ. وَقَدْ أَمْسَكَتْ بِهِ «حَلِيمَةُ»، وَهِيَ تَخْشَى أَنْ يَكْسِرَهُ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» بِجِسْمِهِ الثَّقِيلِ، فَلا تَفْتَأُ تُوصِيهِ — بَيْنَ لَحْظَةٍ وَأُخْرَى — أَنْ يَتَرَفَّقَ فِي صُعُودِهِ، حَتَّى لَا يُحَطِّمَ السُّلَّمَ بِثِقْلِهِ.
وَمَا كَادَتْ «حَلِيمَةُ» تَرَاهُمَا يَقْتَرِبَانِ مِنْ فُوهَةِ الْبِئْرِ حَتَّى صَاحَتْ ﺑ «مَاجِدَةَ» تَسْتَدْعِيهَا مُبْتَهِجَةً فَرْحَانَةً وَهِيَ تَقُولُ: «سَيِّدَتِي، سَيِّدَتِي، هَا هُمَا ذَا نَاجِيَانِ! هَذَا رَأْسُ الْفَتَى، وَهَذَا رَأْسُ الْفَتَاةِ، كِلاهُمَا يُطِلُّ مِنْ فُوهَةِ الْبِئْرِ.
هَلُمَّا فَاصْعَدَا سَالِمَيْنِ أَيُّهَا الْمَاجِدَانِ!
لَقَدْ بَلَغْتُمَا ذِرْوَةَ السُّلَّمِ، فَهَنِيئًا ﻟ «مَاجِدَةَ» وَ«حَلِيمَةَ» مَا ظَفِرْتُمَا بِهِ مِنْ سَلامَةٍ.»
وَكَانَتْ — كَمَا أَسْلَفْتُ لَكَ الْقَوْلَ — أَشْبَهَ شَيْءٍ بِتِمْثَالٍ جَامِدٍ، لَا حَرَاكَ بِهِ.
أَمَّا الْآنَ — وَقَدِ اطْمَأَنَّتْ عَلَى «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» وَصَاحِبَتِهِ «نَرْجِسَ»، وَرَأَتْهُمَا آمِنَيْنِ سَالِمَيْنِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَمَلَأَتْ عَيْنَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا وَهُوَ يَقْفِزُ خَارِجَ الْبِئْرِ، وَيُسْرِعُ إِلَيْهَا لَاثِمًا يَدَيْهَا، مَطْرُوحًا بَيْنَ ذِرَاعَيْهَا — فَقَدْ زَايَلَهَا الضَّعْفُ وَالْمَرَضُ، وَسَرَتْ فِيهَا الْقُوَّةُ وَالصِّحَّةُ سَرَيَانَ الْكَهْرَبَاءِ وَتَبَدَّلَتْ خَلْقًا آخَرَ؛ فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ نَاشِطَةً حَانِيَةً، وَضَمَّتْهُ إِلَى صَدْرِهَا زَمَنًا طَوِيلًا.
وَقَدْ خُيِّلَ لَهَا أَنَّهَا نَائِمَةٌ تَحْلُمُ بِابْنِهَا الْمَفْقُودِ.